الجمعة، 9 ديسمبر 2016

الحداثة وما بعد الحداثة: ما بين الحقيقة الوحيدة والتأويلات؛ محمد الحجيري.



الحداثة وما بعد الحداثة: ما بين الحقيقة الوحيدة والتأويلات.
أو: العقل وظلُّه.

من المتفق عليه أن الفلسفة الحديثة بدأت مع رينيه ديكارت (1596ـ 1650م).
ومن المعروف أيضاً أن الشك الديكارتي الذي طاول كل معارفه، قد انتهى إلى يقين أول: هو وجود الفكر. "أنا أفكر إذاً أنا موجود".
والأنا التي يثبت ديكارت وجودها هي الفكر ذاته. ثم حين يحاول أن يبرهن وجود الجسد أو المادة بشكل عام، لم يستطع إلا بعد أن ارتقى إلى عالم السماء، فبرهن وجود الله، ثم جعله ضمانة لصحة اعتقاده بوجود المادة.
ومن المعروف أيضاً بأن أول من طاول الحداثة وعقلانيتها كان الفيلسوف الألماني بمطرقته الشهيرة التي كان يمارس التفلسف بواسطتها. وربما كانت أولى ضحايا تلك المطرقة هي الكوجيتو الديكارتي ذاته: أي الأنا أفكر..
أظن أن أهم خصائص الحداثة الديكارتية ثلاثة أمور:
1ـ مركزية الذات ومركزية العقل.
2ـ اليقين الذي يدّعي هذا المنهج الديكارتي الوصول إليه، حتى في المجال الفلسفي. فقد حاول ديكارت ـ كعالم رياضيات ـ أن يجعل الفلسفة تصل إلى يقينيات تشبه اليقينيات الرياضية، انطلاقاً من بديهياتٍ تكونُ غيرَ قابلةٍ للشك، ثم انطلاقاً إلى برهنة ما يترتّب عليها من خلال براهين عقلية، فلا يأتي بعده من يحاول إعادة التأسيس.
 إنه يريد تراكماً في المعارف الفلسفية تشبه التراكم في المعارف العلمية، وتحديداً يشبه التراكم المعرفي في العلوم الرياضيّة.
3ـ يريد ديكارت من خلال هذه المعرفة السيطرةَ على الطبيعة وتسخيرها في خدمة الإنسان، وهو فعلاً ما تحقق على يد العلوم في القرون اللاحقة، وإن كان ذلك، على الأرجح، قد تم على حساب الفلسفة بما هي انهمام بالمعنى والجدوى الإنسانيين. وذلك حين سيطرت التقنية وشعر الإنسان بنوعٍ عميق من الاستلاب.. لم يعد من الواضح مَن في خدمة مَن..
لقد دشّنت المطرقة النيتشوية الحداثة بتوجيه اللكمات إلى مركزية العقل وإلى واحديّة الحقيقة. يقول نيتشه: ليس هناك من حقيقة، ليس هناك إلا تأويلات.
وفي هذا السياق يمكن فهم هذا الاهتمام المتنامي للفلسفة منذ نيتشه وهايدغر بعالم اللغة والتأويل، انطلاقاً من أبحاث عالم اللغة السويسري دي سوسير، إن كان من خلال الاتجاه البنيوي الذي ساد في مرحلة الستينيات من القرن العشرين، أو من خلال الهرمنيوطيقا والتأويل الذي ما زال رائجاً بقوّة حتى اليوم.
لم يعد هم الفلاسفة المعاصرون البحث عن الحقيقة "الوحيدة". ليس ثمة إلا تأويلات وانفتاح على أفق الممكنات.
لقد انفتحت الممارسة الفلسفية على مناخ أكثر ديموقراطية وتعدديّة وتسامحاً واعترافاً بالمختلف.
وربما كان أبرز من يمثل هذا الاتجاه الفلسفي انطلاقاً من نيتشه وهايدغر، هو غادامر وبول ريكور.
ليس ثمّة "حقيقة وحيدة" حتى في العلوم البحتة، وهذا ما أثبته كارل بوبر: فتاريخ العلوم هو تاريخ أخطائها، أو تاريخ تجاوز أخطائها. ومن شروط النظرية العلمية حسب كارل بوبر أن تكون قابلة للتفنيد، (أي لإثبات خطئها)، إضافة إلى شرطٍ آخر: هو ألا تكون قد فُنِّدَت حتى الآن.
هذا في العلوم البحتة، فما بالك بالعلوم الإنسانية والاجتماعية أو بالفلسفة؟ وقد كان لـ بوبر فتوحات مهمة في نقده للتاريخانية، بما فيها الهيغلية والماركسية وغيرها. ومن أشهر كتبه في هذا المجال: كتاب "بؤس الإيديولوجيا"، وكتاب "المجتمع المفتوح وأعداؤه".
حتى في العلوم الرياضية لم يعد هناك "حقيقة وحيدة". وهذا ما دشنته الرياضيات اللاإقليدية في بداية القرن العشرين مع علماء أمثال لوباتشفسكي ورينان.. هناك حقائق، لا حقيقةً واحدة.
يبدو أننا في مرحلة تطبعها تأويلات نيتشه على حساب واحديّة ديكارت. ليس ثمّة إلا تأويلات.

أيها العقل، استمع إلى ظلِّك!



(م.ح)
9/12/2016


ليست هناك تعليقات: