الجمعة، 24 فبراير 2017

ما المجاوز عند كانط؟ دكتور جمال نعيم.




ما المجاوز عند كنط؟

هل بإمكاننا، بالعربي، وبلغة مفهومة، أن نتكلم على المجاوز عند كنط؟
لعل هذا الأفهوم  من أصعب أفاهيم الفلسفة الحديثة، لا بل أفاهيم الفلسفة على الاطلاق. وقد جهد موسى وهبه بالعربي من أجل ايجاد عديل له فاختار عن تبرير لفظ المجاوز.
لنبدأ بالمعالجة رويدا رويدا، فنقول ان فلسفة القرون الوسطى كانت تستعمل لفظين بمعنى واحد تقريباً، هما  le transcendantوle transcendental. اللفظ الاول هو الذي كان شائعا، فيقال مثلا: الله هو علة مفارقة أو حتى متعالية. واللفظ الثاني كان نادر الاستعمال ويستعمل بالمعنى ذاته تقريباً. ميزة كنط أنه استخرج هذا الأفهوم من غياهب النسيان ليرفعه الى مصاف الأفاهيم الكبرى والشائكة والرئيسة في الفلسفة. ولا يمكن لعاشق الفلسفة الحديثة أن لا يقف طويلا عند هذا الأفهوم.
الذهن البشري عند كنط هو ذهن مجاوز وليس ذهناً متعالياً أو مفارقاً، أي هناك شيء ما يمتلكه هذا الذهن يجعل منه قوّاماً على ما هو موضوعي، أي يجعل منه منشئاً للمعرفة، أي يجعل منه بما له من بنية ذاتية مقوِّماً لما هو موضوعي.
من الشائع والمقبول من دون نقاش كبير، أن الفلسفة الحديثة ابتدأت مع ديكارت. هذا الفيلسوف الفرنسي العملاق هو أول فيلسوف حديث لأنه غير طريقة التفكير الفلسفية من أساسها وافتتح حقلاً جديدا في الفلسفة هو حقل الذاتية. لقد ابتدع مشكلة فلسفية جديدة هي علاقة ما هو ذاتي بما هو موضوعي،  أي كيف يمكن للذاتي أن يقوّم ما هو موضوعي؟
ونحن نعرف أن ديكارت أراد أن يصل الى اليقين، الى الموضوعية، انطلاقا من النور الطبيعي الموجود في كل واحد فينا. هو ليس بحاجة الى مرجعية أخرى غير المرجعية الذاتية ليؤسس الموضوعية، وبالتالي المعرفة. من هنا قوله بالأفكار الفطرية. اذاً الذهن ليس صفحة بيضاء عند ديكارت. وهو قادر من حيث المبدأ أن يصل الى اليقين بمفرده ومن دون مساعدة أي مرجعية أخرى. وصحيح أن ديكارت استعان مجدداً بوجود الله من أجل اثبات وجود الاشياء،  فيكون بذلك قد خان المنطلق الذي انطلق منه،  لكن من الصحيح أيضا أن وجود الله بالذات يتأسس على وجود النفس وليس العكس من خلال ما عُرف عنده بالدليل الانطولوجي الذي يثبت وجود اله كامل لا يخدع، لان هذه الفكرة الواضحة والمتميزة موجودة فيّ، وهي في غاية البداهة.
هكذا يكون ديكارت قد أسس لما سيُعرف لاحقا بفلسفة الذات التي ستعرف احدى قممها الكبرى مع كنط. لكن ما قاله ديكارت، سيرفضه هيوم من بعده بما يزيد عن القرن، عندما اعتبر أن الذهن البشري صفحة بيضاء، إنّه خالٍ من أي مكوّن او عنصر ذاتي قادر على انشاء المعرفة التي يمكن تأسيسها على قوانين التداعي، وبالتالي ندخل في نوع من الريبيّة حيث لا نعود نطمح الى يقين مطلق.
يقول كنط: "إن هيوم أيقظني من سباتي"، أي دفعه ليشتغل على مشكلة المعرفة من خلال تأسيسها على الذات العارفة، حتى يطمئن أنه بذلك يصل الى الموضوعية، وبالتالي يحقق نوعاً من اليقين يطمئن له الانسان ويرتاح له العقل البشري.
ولا بد لنا من الاشارة هنا الى أن الذات عند كنط هي مجرد نشاط، أي أنَّنا هنا لا نعود الى مشكلة وجود النفس وخلودها كما هو الحال عند ديكارت الذي اعتبر النفس بمثابة جوهر،  ماهيته الفكر، وهو غير قابل للقسمة أو الانشطار. هذه المشكلة الديكارتية لم تعد مشكلة فلسفية في نظر كنط؛ لأنها تتجاوز قدرات العقل البشري، فالذات عند كنط هي مجرد نشاط وليست جوهراً، ومع ذلك هي قادرة على تأسيس المعرفة بما لها من بنية ذاتية، بما لها من بنية قبلية، أي باختصار بما لها من بنية مجاوزة. وهي ليست بحاجة الى افتراض وجود إله كامل لا يخدع من أجل اثبات موضوعية المعرفة .
أفهوم المجاوز الكنطي ( تابع)
يقوم كنط بنقد للعقل المحض، أي للعقل بما هو كذلك ليرى الى امكاناته وحدوده وقدراته قبل تصديه لمسألة المعرفة، وبالأخص ليعرف ان كانت الميتافيزيقا الكلاسيكية (أي ميتافيزيقا الجواهر الثلاثة: الله والنفس والعالم) ممكنة،  وكيف تكون ممكنة.
هذا النقد لقدرات العقل يتم بمعزل عن موضوعات المعرفة، أي قبل قيام العقل بنشاطه المعرفي. ويهدف كنط من وراء هذا النقد الى معرفة ان كان يوجد في الذهن شيء يساهم في نشوء المعرفة وما هي حدود هذا الشيء، أي معرفة بنية الذهن القبلية. يعترف كنط، بالتوافق مع لوك وهيوم، أن مادة المعرفة كلها تأتي عن طريق الحواس، عن طريق التجربة، لكن هذه المادة غير كافية لانشاء المعرفة، أي لا بد من نشاط ذهني يرافق هذه العملية فيشكل المعرفة وفقا لبنية الذهن القبلية، أي يساهم بصورة المعرفة، أي أن المعرفة بحاجة الى مادة تأتيها عن طريق التجربة وصورة تأتيها عن طريق الذهن. لذا قال كنط بالثورة الكوبرنيقية التي تجعل من الموضوع يدور حول الذات العارفة، حول الذهن، وليس العكس، أي دوران الذهن حول الموضوع. اذاً هناك شيء في الذهن يجعل هذا الدوران ذا قيمة، فيعيد تشكيل الاشياء فلا نعود نراها كما هي في ذاتها، بل كما تبدو لنا، أي كما تظهر لنا، أي كظاهرات، أي كأشياء فيها شيء من عمل الفاهمة، أي فيها شيء من نشاط ملكة الفهم.
اذاً هناك شيء في الذهن يجعل المعرفة ممكنة، هناك بنية ذهنية قبلية تساهم في تشكيل المعرفة،  في انشاء المعرفة، وبذلك لا يكون الذهن صفحة بيضاء كما كان يقول هيوم لأن لديه قوالب ذهنية نشطة تقولب الموضوعات فلا تعود تبدو لنا كما هي في الواقع .

افهوم المجاوز الكنطي (٣)
إمكان المعرفة أو استعمالها قبليا. هذا هو تعريف المجاوز عند كنط. لكن ما القبلي؟ يقع القبلي في مقابل البعدي المتأتي من التجربة. لكن ماذا تعطينا التجرية؟ هي تعطينا الجزئي والعرضي أي غير الضروري،  بمعنى أنه مهما قمنا من تجارب، فهذه التجارب مهما كثرت وتعاظمت فانها لا تنتج سوى ما هو جزئي وعرضي وليس ما هو كلي وضروري. فالتجربة تقول لي هذه القطعة من المعدن تتمدد بالحرارة وتلك القطعة تتمدد بالحرارة والقطعة المليون تتمدد بالحرارة ولكنها لا تفيد بأن كل المعادن تتمدد بالحرارة، كما أنها لا تفيد بوجوب تمدد المعادن بالحرارة بالضرورة. اذاً ما هو قبلي هو ما هو كلي وضروري.
 [لكن هنا القبلي يأتي بمعنى ما لا تقدمه لنا التجربة، أو ما يتجاوز التجربة، وقد يأتي لاحقاً للتجربة. بينما يستخدم كانط القبلي بمعنى ما يجعل التجربة ممكنة، أو شرط إمكان التجربة]
وقد طرح كنط مشكلة النقد بعامة فاعتبر أنها تتلخّص بالسؤال التالي:
كيف يمكن للأحكام التأليفية قبليّا أن تكون؟ اي كيف لي مثلاً أن أقول: المعادن تتمدد بالحرارة؟
ومن المعروف أن الاحكام الكلية والضرورية هي ما يشتغل عليها العلم وهي التي تتمتع بالموضوعية التي يعترف بها كنط للعلوم، فكنط ليس من الشكاكين الريبيين الذين لا يؤمنون بالقيمة الموضوعية لعلوم زمانه.
اذاً كنط يؤمن بعلوم زمانه وهو يتركها تشتغل، لكن به حاجة كفيلسوف لتسويغ إمكانها. وهو ينظر الى هذا الإمكان من زاوية الإمكان القبلي والاستعمال القبلي وحسب. وهذا عمله كفيلسوف،  أما كيف تشتغل العلوم فهذا من شأن العلماء .
المجاوز الكنطي (٤)

ما هو شائع بالعربية عند ترجمة كلمة le transcendantal، هو: إما تعريبها ببساطة، فنقول: الترنسندنتال؛ وإما ترجمتها بـ المتعالي جرياً على التقليد العربي القديم، وربما بسبب قرب المعنى بالاجنبي كما أسلفنا، حيث قلنا إن أفهوميLe transcendental et le transcendant، كانا يستعملان بالمعنى ذاته تقريبا في فلسفة القرون الوسطى. من هنا تصح ترجمة الحكمة المتعالية، الكتاب الاشهر لصدر الدين الشيرازي بـ :La sagesse transcendantale
لكن يبدو ان كلا التعريب والترجمة لم يحلا المشكلة بالعربية،  فقد بقي التعريب يشد الى اللفظ الاجنبي من دون أن يعرف المتفلسف ما معنى ان يكون الذهن ترنسندنتالياً،  كما أن الترجمة بالمتعالي كانت تشد اللفظ الى معنى المفارق البعيد عنه كل البعد. لذا جهد موسى وهبه،  وهو الذي عانى من هذه المعضلة لعقود بعد ترجمته لنقد العقل المحض،  ليجد عديلا عربيا ذا معنى،  فوقع اختياره على لفظ المجاوز الذي أخذه من النحاة العرب ووجده في القرآن الكريم (وجاوزنا ببني اسرائيل البحر). ومن المعروف في اللغة العربية أن هناك نوعين من الفعل: الفعل اللازم حين يتم المعنى من دون الحاجة الى مفعول به،  كما نقول: وقف الاستاذ،  فقد تم معنى الجملة، والفعل المتعدي عندما يطلب، في بنيته،  ليتم معنى الجملة، مفعولا به،  كما نقول: أكل الولد ... فإن فعل أكل، لكونه فعلا متعديا أو مجاوزا كما يقول النحاة،  من حيث بنيته القبلية، أي قبل أن نستعمله في جملة وقبل أن نعرف ماذا أكل الولد، أقول إن فعل أكل يجاوز بنا الى طلب مفعول به،  فهو اذاً فعل متعد أو مجاوز.
استغل وهبه هذا المعنى الموجود في النحو ليترجم الترنسندنتال بالمجاوز، فساعتئذ نقول ان الذات العارفة هي ذات مجاوزة لأنها من حيث طبيعتُها، من حيث بنيتُها، تجاوز بنا الى طلب انشاء المعرفة أو تشكيلها، أي تتدخل في إنشاء المعرفة من حيث عملُ قوالبِها النشطة، فلا تعود تكتفي بمجرد استقبال ما يأتيها عن طريق الحواس من مادة المعرفة مطبقة عليه قوانين التداعي كما يذهب الى ذلك هيوم، بل تمرر ما يأتيها عن طريق الحواس في بنيتها الذاتية، فلا نعود ندرك الاشياء الا بموجب هذا النشاط، أي اننا لا ندرك الاشياء الا كما تظهر لنا وليس كما هي في ذاتها.
اذاً الذهن البشري هو ذهنٌ متعدٍّ أو مجاوز ونشط بحكم بنيته القبلية وليس صفحة بيضاء، ومن دون هذه البنية القبلية او المجاوزة لا يمكن ان تتم المعرفة ولا نصل الى الموضوعية.
وبما أن اللفظين الاجنبيين قريبان من حيث اللفظ على عكس ما كان سائدا بالعربي،  حيث نجد ان لفظي المفارق والمجاوز بعيدان من حيث اللفظ، فقد جهد وهبه مرة جديدة كما قال ذلك في تقديمه للطبعة الجديدة لترجمة نقد العقل المحض المنقحة، فاختار لفظ المتجاوز بدلا من لفظ المفارق، على أساس أن لفظ المجاوز يقع أثره على غيره من حيث طلب الفعل المتعدي لمفعول به، في حين أن لفظ المتجاوز يقع أثره أيضا على الفاعل.
اذاً المجاوز يقع أثره على غيره في حين أن المتجاوز يقع أثره أيضا على الفاعل، وهكذا بدأ وهبه يترجم اللفظين الاجنبيين بالمجاوز والمتجاوز بدلا من المجاوز والمفارق. ولا بد من الاشارة هنا، مع أن أحدا لم يتقدم بترجمة مماثلة ومبررة، الى أن غالبية المترجمين العرب لم يتقبلوا جهد وهبة هذا، فقد بقوا على ترجماتهم السابقة. والان بتنا نعرف بعد الشرح الذي أسلفناه أن الذهن ليس له من علاقة بما هو متعال، كما أنه ليس ذهنا مفارقاً او متعالياً.


افهوم المجاوز الكنطي (٥)
ولكن ممّ تتألف هذه البنية الذهنية المجاوزة؟ هي تتألف، تشريحياً، من قدرات أو ملَكات،  الحساسية والفاهمة والمخيلة والعاقلة.
الحساسية هي مَلَكَة التلقي أو قدرة التلقي أو الحدس الحسي.
الفاهمة هي ملكة الفهم أو القدرة التلقائية، الوحيدة القادرة بما لديها من قوالب فارغة نشطة أن تفكر ما هو معطى.
أما المخيِّلة فهي الملكة أو القدرة المنتِجة للتصورات.
وأما العاقلة أو العقل باختصار،  فهي الملكة العاقلة أو القدرة على التعقل التي لديها ميل أو نزوع نحو السستمة فتقوم بالبحث عن نهايات المعرفة.
في الحساسية نجد أو بالاحرى نفترض وجود صورتين قبليتين أو حدسين قبليين، هما حدسا المكان والزمان. وهما حدسان محضان، ومن دون هذا الفرض لا يمكن لأحكام الرياضة (أي الهندسة والحساب) أن تكون ممكنة.
وهذان الحدسان المحضان هما شرطا تلقي الانطباعات الحسية وهما اللذان يسمحان بتشكل الموضوع كظاهرة، أي أن الموضوع لا يمكنه أن يظهر من دون صورتي الحساسية القبليتين.
وتتضمن الفاهمة بما هي قدرة تلقائية على الافاهيم الفاهمية المحضة أو المقولات (بتعبير أرسطو) أو الافعال التلقائية بما هي قوالب فارغة نشطة تقولب المعطى.
وهذه المقولات هي اثنتا عشرة مقولة، من حيث الكم، ومن حيث الكيف، ومن حيث الاضافة،  وأخيراً من حيث الجهة. وهي تشكل الشروط الذاتية والاولية لكل معرفة ممكنة، أي الشروط القبلية لإمكان التجربة.
قلنا ان لكل معرفة مادة وصورة. مادة المعرفة تأتينا عن طريق التجربة، عن طريق الحواس، فيكون لدينا معطيات مشتتة ومتنوعة تعطى لنا في حدوس حسية (مكانية وزمانية). وهذه المعطيات التي أتلقاها بوساطة الحساسية حيث تجتمع الانطباعات الحسية في ظاهرة بحسب علاقات الزمان والمكان،  بها حاجة الى تدخل المخيلة التي تُعيِّنها الفاهمة لتؤلف ما هو مجتمع في الحس ليصبح موضوعا مفردا قابلا لان يتعين أفهومياً.
ولا بد لأن يكتمل هذا التعين الأفهومي، من فعل أصلي للفاهمة، أي فعل ابصار، أي لا بد من وعيان متمثل في الأنا أفكر، يؤكد ويثبت أن هذه المعرفة هي معرفة لي.
وبغض النظر عن هذه التفصيلات التي لم نذكرها كلها حيث سيكون علينا أن نتكلم أيضا على مبادئ التجربة وعلى أفكار العقل ( مُثله أو أماثيله ) وعلى نقائضه،  أقول بغض النظر عن كل ذلك،  فان همي أن أبين وجهة نظر كنط التي تقول ان هناك شروطاً ذاتية لامكان كل تجربة ممكنة، شروطاً ذاتية لإمكان المعرفة، ومن دون هذه الشروط الذاتية لا يمكن للمعرفة أن تكون.
وهكذا يكون العقل من حيث بنيته القبلية،  من حيث بنيته الذاتية،  قوَّاماً على ما هو موضوعي،  وبذلك يكون نشطاً وبنية مجاوزة. (كل افهوم جديد يخلق فضاء فكريا جديدا كما هو حال المجاوز فلا نعود نفكر بعده بالطريقة ذاتها كما كنا نفكر. ولا نعود نفهم الاشياء او ننظر اليها كما كنا نفعل من قبل).
وهنا لا بأس بأن نقرأ مقاطع أساسية من كتاب دولوز الفرق والتكرار توضح معنى المجاوز. "يختلط الشكل المجاوز لملكة ما مع ممارستها المنفصلة، العليا أو المتجاوزة (المفارقة)". فالمتجاوز لا يعني قط أن الملكة تتوجه الى مواضيع خارج العالم،  بل إنها،  على العكس،  تلقف في العالم ما يخصها حصرياً ويولدها في العالم . واذا كان على الممارسة المتجاوزة أن لا تُكزَّ عن الممارسة الأمبيرية،  فلأنها تتلقف بدقة ما لا يمكن أن يُتَلقف من وجهة نظر حس مشترك، ذاك الذي يقيس الاستعمال الامبيري لكل الملكات وفقاً لما يعود الى كل واحدة تحت شكل تعاونها . لذا يستحق المجاوز أمبيرية عليا لصالحه،  تكون وحدها قادرة على استكشاف ميدانه ومناطقه،  لأنه لا يمكن،  وعلى عكس ما كان يعتقده كنط، أن يُستقرأ من الاشكال الامبيرية العادية كما تظهر تحت تعيين الحس المشترك. إن زوال حظوة الملكات، الآن، مع أنه يشكل قطعة ضرورية كلياً في سستام الفلسفة، يُفسر خصوصاً بجهل هذه الامبيرية المجاوزة التي نستبدلها عبثاً بكز المجاوز عن الامبيري "الفرق والتكرار(ص١٨٦)" يوجد في العالم شيء ما يُجبر على التفكير. هذا ال شيء ما، هو موضوع التقاء أساسي، وليس [موضوع] تعرُّف. ما يُلتقى به، هو ربما سقراط، المعبد أو الشيطان. ويُمكن أن يُلقف وفقاً لأمزجة انفعالية متنوعة، اعجاب، حب، كره، ألم. لكنه، في ميزته الاولى،  وتحت أي مزاج كان، لا يمكن ان يكون سوى مُحس به. ذلك أنه يتعارض بهذا المعنى مع التعرف. لأن المحسوس في التعرف ليس البتة ما لا يمكن أن يكون سوى مُحسٍ به، بل ما ينتسب مباشرة الى الحواس في موضوع يمكن أن يكون متذكراً ومتخيلاً ومتصوراً . فلا يُحال المحسوس فقط الى موضوع يمكنه أن يكون شيئاً آخر غير المحس به، بل يمكن أن يُقصد هو نفسه من ملكات أخرى. هو يفترض، اذاً، ممارسة الحواس، وممارسة ملكات أخرى في حس مشترك. وعلى العكس يُولد موضوع الالتقاء واقعيا الحساسية في الحس [....] فهو ليس كيفية، بل علامة. انه ليس كائناً محسوساً، بل كون [كينونة] المحسوس. انه ليس المعطى،  بل ما به يُعطى المعطى. هو أيضا اللامحسوس من جهة معينة. هو اللامحسوس، بالضبط من وجهة نظر التعرف، أي من وجهة نظر ممارسة أمبيرية حيث لا تلقف الحساسية الا ما يمكن ان يُلقف عبر ملكات أخرى، وينتسب الى موضوع، عليه أن يُتلقف عبر الملكات الاخرى. فالحساسية تجد نفسها، في حضور ما لا يمكن أن يكون سوى محس به، أمام حد خاص-هو العلامة -وترتفع الى ممارسة متجاوزة (مفارقة) ذات أس لا متناه. ولم يعد الحس المشترك هنا، قائماً لحصر المساهمة النوعية للحساسية في شروط عمل مشترك ؛ حيث تدخل هذه الحساسية عندئذ في لعبة متنافرة وتصير أعضاؤها ميتافيزيقية "الفرق والتكرار ص182".
المهم ان نعرف كيف تكون الفلسفة خلقا او إبداعا او ابتكارا لأفاهيم جديدة تساهم في ابتداع طريقة جديدة في التفكير، أي إن الفلسفة ليست كشفا عن الحقيقة بقدر ما هي ابداع لحقيقة جديدة،
وهكذا نكتفي بهذا المقدار لمعنى المجاوِز عند كنط،  علنا نكون قد أضأنا جانبا معتما ولو كان ضئيلا من  هذا الأفهوم  الرئيسي والشائك في الفلسفة الحديثة . والخلاصة الاساسية التي نريد ان ننبه عليها هي تمييز المجاوز من المفارق ( المتجاوز ) والمتعالي وضرورة المكوث طويلا عند هذا الأفهوم  حتى نستطيع أن نفهم ما استجد عليه من تعديلات.
المهم ان نعرف كيف تكون الفلسفة خلقا او ابداعا او ابتكارا لافاهيم جديدة تساهم في ابتداع طريقة جديدة في التفكير، أي ان الفلسفة ليست كشفا عن الحقيقة بقدر ما هي ابداع لحقيقة جديدة،
وهكذا نكتفي بهذا المقدار لمعنى المجاوِزعند كنط، علنا نكون قد أضأنا جانبا معتما ولو كان ضئيلا من هذا الأفهوم الرئيسي والشائك في الفلسفة الحديثة. والخلاصة الاساسية التي نريد ان ننبه عليها هي تمييز المجاوز من المفارق (المتجاوز) والمتعالي وضرورة المكوث طويلا عند هذا الأفهوم حتى نستطيع أن نفهم ما استجد عليه من تعديلات .




ليست هناك تعليقات: