الأحد، 12 فبراير 2017

حوار مع جورج لابيكا أجرى الحوار وقدَّم له حسان خالد شاتيلا. (عن ماركس وألتوسير وسارتر)




في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
حوار مع جورج لابيكا
أجرى الحوار وقدَّم له حسان خالد شاتيلا


          ‏
         ‏ الفصــل الـرابـــع: ‏ فـي تـاريـخ المـاركســية

   ‏                                      أولاً:‏‎ ‎ماركســية ألتوســير أكـاديمــية

‏1/  لقد انتقلنا من الحتمية إلى أهم ما جاء به ألتوسير. وهو الأمر الذي يضعنا في صميم ‏الماركسية في ‏فرنسا. وما دام الحديث قادنا إلى ألتوسير، فإني أسألك أن توضِّح لنا أيُ حيز من ‏الأهمية كان ألتوسير ‏يشغله؟
‏***  إن الطبيعة التاريخية لما أتى به ألتوسير من إسهام في الماركسية تبدأ مع أول عمل له، ‏وهو "من ‏أجل ماركس". إن ما يسترعي الانتباه في السياق التاريخي للسبعينات أن القاسم ‏المشترك بين عناوين ‏مؤلَّفاته هو التحريض البيداغوجي. تحريض كان يُراد منه أن يَحمِل ‏الشيوعيين الفرنسيين على العودة إلى ‏قراءة ماركس، وقراءة "رأس المال"، وتشديد القول ‏على ضرورة العودة إلى ماركس، وأن يُهْمِلوا كل ‏ما علق به من انحراف وتشويه، والعودة إلى ‏قلب أعماله، وبوجه خاص "رأس المال". ويُفهم من هذا ‏التحريض أن الشيوعيين لم يقرأوا ‏‏"رأس المال"، أو أن النسيان أتى على ما كانوا قد قرأوه. إن  "رأس  ‏المال" عمل ذو أهمية ‏قصوى من حيث علاقته بغيره من أعمال ماركس. ‏
‏ويَظهر تأثير ألتوسير في ضوء الظروف الفرنسية. فإسهامه الماركسي يتَّخذ موقعا لنفسه في ‏سياق ‏سياسي هو المسار الإصلاحي المستجد للحزب الشيوعي، في ما كان مثقفو الحزب ‏موالين بصورة عمياء ‏للحزب وقيادته. وكانت جهودهم موجَّهة كلها لتبرير الخط السياسي ‏للحزب، دون أن يكون لهم أي إسهام ‏في رسمه. وكانوا في هذه الأثناء يفتقدون لرؤية نقدية ‏يتسلّحون بها ضد الإصلاحية والانحرافات بشتى ‏أنواعها، النظرية والسياسية على حد سواء. ‏وكان الخط السياسي للحزب كثير الاعوجاج والانعطاف، ولم ‏توفِّر قيادات الحزب جهدا من أجل تبرير ‏مختلف المنعطفات الحاسمة للحزب، ومنها بوجه خاص، وهو ‏مُخجِل بكل ما في هذه الكلمة من ‏معنى، تخلِّي الحزب الشيوعي الفرنسي عن ديكتاتورية البروليتاريا في ‏مؤتمره الثاني ‏والعشرين المنعقد في العام 1976. لقد انبروا في حينه، بما كانوا يسطَّرونه من ‏كتب ‏ومقالات، في بيان أن ديكتاتورية البروليتاريا مفهوم عفا عليه الزمان، وهو ذو أثر سلبي لدى ‏الرأي ‏العام الذي يَنفر من كل ما يمت إلى الاستبداد بصلة. وعلاوة على ذلك – وهذا هو المهم – ‏فإنهم قالوا إن ‏هذ المفهوم يَفتقد للأهمية في أعمال ماركس. فرانسوا هينكر ‏
François Hincker‏، و لوسيان ‏سيف ‏Lucien Sève – ‏ على سبيل المثال -  ألَّفا كتبا للتدليل بأن ‏ديكتاتورية البروليتاريا في أعمال ‏ماركس  ليست  ذات  أهمية. وكانا على هذا النحو يبرِّران ‏المسار السياسي والفكري لقياد الحزب.‏
‏ وكان روجيه غارودي ‏
Roger Garaudy يعبِّر بامتياز عن المسار الإصلاحي للحزب. فقد ‏كان ‏يمارس دور الإيديولوجي الرسمي للحزب، من حيث هو عضو في المكتب السياسي، ويتمتع ‏بثقة القادة، ‏ويمارس تأثيرا عليهم. وكان غارودي صاغ مفهوما للماركسية ما هو إلا التأويل ‏اللاحق بتقرير ‏خروتشيف الذي يُعلن عن تصفية الستالينية. وكان غارودي يرى في دحض ‏الستالينية انفتاحا واسعا ‏للماركسية نحو جميع الجهات. وهو الأمر الذي حَمَلَه على كتابة ‏مؤلَّفه الذي يَحمل عنوانا يُعبرعلى خير ‏وجه عن هذا  الانفتاح،  ألا  وهو  "واقعية  بلا  ‏ضفاف"‏ Rivages ‏‏Un Réalisme sans‏. وهو ‏يقول هنا إن قسّا ًمسيحيا  يمكن  ‏له أن  يكون  أمينا  عاما  للحزب  الشيوعي.‏
‏-/  في هذا السياق من شيوع نمط من المثقفين الذين كانوا كفُّوا عن ممارسة النقد، وانصرفوا إلى ‏تبرير ‏الخط السياسي والفكري للحزب، وذلك في ما سارت الأيديولوجيا الرسمية للحزب على ‏مسار من الانفتاح ‏نحو كل الجهات مستفيدة من دحض الحزب وأجهزته للستالينية، في ما ظهر ‏ألتوسير ليُمَثِّل مقابل ذلك كله ‏ردا احتجاجيا قويا للغاية. وهذا هو المعنى المقصود من مؤلَّفه ‏‏"قراءة رأس المال". إنه يدعو إلى ‏العودة إلى ماركس. لذا فإن ألتوسير كان يظهر بأعين ‏البورجوازيين وعدد من قادة الحزب بمثابة المدعي ‏العام الذي يَحكم عليهم بالعودة إلى ‏الدوغمائية. وها هنا تظهر مفارقة. فالحركة التي انطلقت مع ألتوسير ‏دَفَعَت بجيل كامل، وبوجه ‏خاص الشبان الشيوعيين، إلى قراءة ماركس مجدَّدا، وماركس "رأس المال" ‏على وجه ‏التحديد. لكن أعمال ماركس عَرِفت بالمقابل، وتحت تأثير ألتوسير، قراءات متباينة في ما ‏بينها، ‏ومتناقضة بعضها مع البعض الآخر، وهي وإن أثارت مناقشات، إلا أن هذه المناقشات ‏بقيت شكلية.‏
‏إن تأثير ألتوسير في الستينات والسبعينات من القرن الماضي يعود بنا إلى ما بعد الحرب ‏العالمية ‏الثانية، وذلك عندما اكتُشِفَت أعمال ماركس الشاب التي لم تكن معروفة بصورة ‏كافية حتى هذا التاريخ. ‏وقد استحوذ عليها مثقَّفون بورجوازيون وماركسيون على حد سواء، ‏حيث ميّزوا بين ماركس من حيث ‏هو شاب متعارض مع ماركس الراشد. إنهم يزعمون أن ماركس الشاب ‏كان إنسانيا متفتِّحا، وينادى ‏باشتراكية كريمة ومضيافة، في ما أصبح ماركس الراشد ‏دوغمائيا. وجاء بعد ذلك ماركس الاقتصادي، ‏حيث أٌزيحت جانبا أعمال ماركس الشاب، ليَظهَر ‏ماركس آخر هو استكمال لما لم ينته ماركس نفسه من ‏كتابته متن مؤلَّفه "رأس المال" على ‏سبيل المثال. إن إنجلز هو الذي كَتَب الجزء الثاني والثالث والرابع ‏من "رأس المال". ‏
‏إلى ذلك فإن قراءات أعمال ماركس كانت تتلاحق الواحدة تلوى الأخرى، كالقاطرة التي تشد ‏عربات ‏مترابطة. إلى أن جاء ألتوسير بجواب واضح وصريح، ألا وهو "إقرأوا رأس المال". إذ ‏ها هنا، في هذا ‏العمل، يكمن ماركس الحقيقي. صحيح أن ماركس الشاب مثير للاهتمام، إلا ‏أن الشاب ماركس كان ما يزال ‏في مرحلة التطور، ولم يكن ليدرك بعد "المادية التاريخية"، كما ‏يقول ألتوسير في استرجاعه لمرحلة ‏ماركس الشاب. المادية التاريخية أو المادية العلمية كما ‏يقول إنجلز. وها هنا يوجِّه ألتوسير ضربة قوية ‏عندما يتحدَّث عن القطيعة الإبستمولوجية. فما ‏هي العلاقة ما بين مختلف هذه القراءات لماركس الشاب ‏وماركس الراشد وماركس رأس ‏المال؟ يَظهر لألتوسير أن ما بين الاثنين "قطيعة إبستمولوجية"، فأعمال ‏ماركس الشاب ‏أيديولوجية، وأعمال ماركس الراشد علمية، وهي تؤسِّس للعلمية الماركسية. ‏
‏ -/ كيف عبَّرت أَعمال ألتوسير عن نفسها لدى الجيل الشاب الذي قرأُها بنهم في ما كانت ‏الدراسات ‏والمنشورات الماركسية تَشهَد تحت تأثره انطلاقةً واسعة؟ لقد عبَّرت عن نفسها ‏بالفكرة القائلة إن ‏الماركسية تقف على ساحة صلبة هي العلم، وقد آن الأوان للإطاحة بكل ما ‏هو ديماغوجي وانتهازي ‏وحِرَفي في السياسة. الأمر الذي قاد إلى ظهور انقسام في اتحاد ‏الطلاب الشيوعيين. وأَّدِّى في الوقت ‏نفسه إلى الإقبال بصورة أوسع على الماوية التي تُعْتَبَر، ‏من حيث سياقها التاريخي في فرنسا، ردا ‏احتجاجيا من بعض أوساط المثقفين  على الماركسية ‏في حالتها الفرنسية آنذاك. بتعبير آخر إن الماوية في ‏فرنسا لا تمت بأي صلة إلى الصين. ‏
‏ لقد قَلَبَ الإسهام الماركسي لألتوسير، رأسا على عقب، مقاربةَ ماركس حسب ما كانت شائعة ‏في ‏الستينات والسبعينات في فرنسا. وهي قَلَبَت بالتالي أو بالنتيجة رأسا على عقب المواقف ‏السياسية. ففي ‏مواجهة الانتهازية التي كانت تسيطر على الحزب الشيوعي أصبح التشدُّد ‏ضروريا برأي كثرٍ من ‏الشيوعيين. لكن تيار ألتوسير يقف هنا عند حدوده فلا يقوى على ‏تجاوزها. إذ أن هذا الاحتجاج بقي ‏أكاديميا أو أدبيا. وكان الوسط المحيط بألتوسير يتصرَّف ‏وكأنه حائز على الحقيقة. حائزٌ على العلم. وهو ‏الممارٍس الوحيد له. ‏
‏-/  هذه الحدود الأكاديمية هي نفسها التي حالت دون أن يرى تيار ألتوسير ما الذي يجري على ‏صعيد ‏صراع الطبقات. فإذا كان الحزب انغمس بالانتهازية، إلا أن علاقته بالأوساط العمالية ‏كانت تَمنحه ما يَفتقِد ‏إليه المثقفون في فرنسا، ألا وهو صلتهم بالبروليتاريا. وإن أقوى دليل ‏على ذلك أن ألتوسير قال –حسب ‏ما أسلفنا سابقا – وذلك بعدما كان قَطَع شوطا طويلا في ‏الإنتاج، متحدِّثا باسمه وبالنيابة عن تياره: إننا ‏نسينا الصراع الطبقي. ‏
‏ هذا هو الجانب الأول من حدود ألتوسير وتياره. أما الجانب الثاني منها، فإن ألتوسير في مقدِّمة ‏كتابه ‏‏"من أجل ماركس" يحاكم الماركسية الفرنسية. إنه يَعتقد أنها كانت ما قبل ظهوره ‏بمثابة صحراء خلوٌ ‏من أي حدث. نعم إن هذا صحيح إذا كان المقصود من وراء هذه المقدِّمة ‏الحديث عن إيدولوجي الحزب، ‏من أمثال جان كانابا ‏
Jean Kanapa، ولوسيان سيف، ‏وروجيه غارودي. إلا أن ألتوسير كان من ‏وجهة نظري يَقَعَ على هذا النحو بما يُشبه النسيان، ‏أو بالأحرى بالظلم الشديد بحق هنري لوفيفر Henri Lefebvre‏ . ففي مقدِّمته ل"من أجل ‏ماركس" لا يأتي على ذكرٍ هنري لوفيفر. فما معنى نسيان كهذا؟!! ‏لوفيفر هو الذي عَرَّفَ ‏بالماركسية ونشرها في فرنسا. ولم تكن ماركسية لوفيفر مبتذلة. زد على ذلك أن ‏لوفيفر لم يُعرِّف ‏بماركس فقط، وإنما كان أول من نَشَرَ نصوصا مختارة لهيجل. وكان أيضا أول من عُني ‏بهيدغر. ‏لذا فإني قارنت أكثر من ‏مرة ما بين لوفيفر وألتوسير لأُبيِّن أنهما وجهان للماركسية الفرنسية. ‏
‏وبالرغم من ذلك فإن ألتوسير مارس دورا بيداغوجيا ضروريا. فبفضله تَعَرَّف كثرٌ من ‏البورجوازيين ‏على الماركسية التي كانت مجهولة لديهم. وهو الذي روَّج كما أسلفنا لأعمال ‏ماركس. وإن إسهامه ‏الماركسي، بالإضافة إلى انفجار صراع الطبقات حسب ما تجلَّى عبر ‏أيار/مايو 1968، كان سببا وراء ‏الأرقام القياسية للمبيعات من الكتب الماركسية. حتى أن دور ‏النشر البورجوازية أَعادت في تلك الفترة من ‏الستينات والسبعينات طباعة رأس المال ‏وغرامشي وبوخارين.‏

‏2/ كَتَبَ ألتوسير "قراءة رأس المال". لو أنت قرَّرت أن تكتب كتابا لحث الماركسيين أو الشيوعيين ‏على ‏العودة إلى مصدر باعتباره هو الذي يستجيب أكثر من غيره لوضع النضال الشيوعي وأفكاره ‏في ‏الظروف الثقافية الراهنة للنضال والصراعات، كما فعل لينين عندما كتب "المادية والنقدية ‏التجريبية"، ‏أياً من الأعمال الماركسية كنت لتختار، وأي كتاب منها يستدعي برأيك أن يحمل العنوان: ‏‏"قراءة ...". ‏أنا، يبدو لي من خلال معرفتي المتواضعة بأعمالك ونضالك، أُرَجِّح أنك ستكتب "قراءة ‏البيان الشيوعي"، ‏أو أي نص آخر وثيق الصلة بصراع الطبقات أو الأممية البروليتارية. ولربما يكون ‏أيضا كتابا عن لينين. ‏مثلا:"قراءة...". فهل توافق على ملء هذا الفراغ. وإذا وافقت، فما هي الأسباب ‏التي حَمَلَتك على اختيار ‏هذا العمل وليس غيره؟ ‏
‏***  نعم، "اقرءوا  البيان الشيوعي". لسببين اثنين: أولها أن مضمون البيان يقع في موقع ‏وسط من ‏أعمال ماركس وإنجلز، وذلك عند مفترق لما سبقه من أعمال وما سيلحق به. ويرقى ‏‏"البيان" إلى ‏مستوى المثال الأعلى طالما أنه حافظ، بالرغم من بعض التطورات التي ‏تجاوزته، وبالاستقلال عنها، قد ‏حافظ على قيمته بوصفه بيانا لحزب شيوعي ملتزم بصراع ‏الطبقات في عصره، ويُعبِّر عن هوية مجتمع ‏على قطيعة مع نظام الاستغلال الرأسمالي. أضف ‏إلى ذلك: إن "البيان" ذو قيمة تربوية (بيداغوجية) ‏ليست في متناول "رأس المال"، فضلا عن ‏أن البيان يُعْتَبَر بمثابة مدخل ل/"رأس المال". ‏

‏3-  أنت تعتقد إذن أن"البيان الشيوعي" عمل وتاريخ راهن؟
‏*** إن  مقدمة "البيان" تتصدى لشبح الرأسمالية الذي يخيم على العالم، إلا أنها بالمقابل ‏تشير إلى ما ‏تمثِّله الشيوعية من قوة. هذه القوة مؤهلة اليوم وغدا لإعادة بناء نفسها إلى أن ‏يأتي اليوم الذي تمَّحي ‏فيه الطبقتين المتصارعتين، العمال من جهة، وأرباب العمل من جهة ‏ثانية، المستَغَلَّين والمستغلِّين، تحت ‏تأثير التحويل الثوري للمجتمع.‏
و"البيان الشيوعي" يعلِّمنا، في القسم الأول منه، ما هي حقيقة الرأسمالية في وقفتين اثنتين ‏أو ‏ملاحظتين اثنتين. الأولى تتعلق بطبيعة نمط الإنتاج الرأسمالي. وإن العولمة الراهنة تؤكد ما ‏كان البيان ‏أعلن عن نشوئه بصورة صريحة. وما علينا اليوم إلا أن نتابع ما كان لينين ومَن يليه ‏أضافه من تحليل ‏عندما تحدَّث عن نظرية الإمبريالية. والملاحظة الثانية تتعلق بتاريخ نمط ‏الإنتاج الرأسمالي. فلقد مضى ‏الزمان الذي كان يَعْتَبِر أن البورجوازية تمارس "دورا ثوريا"، ‏لأنها تقلب علاقات الإنتاج بما يقود إلى ‏خضوع الريف للمدينة خضوعا كان يُعْتَبَر تقدميا، ‏وخضوع الطبيعة للصناعة، والشعوب الهمجية للشعوب ‏المتحضِّرَة، والفلاحين للبورجوازية، ‏والشرق للغرب. هذه الأفكار فات زمانها، لأن الرأسمالية في أيامنا ‏مدَمِّرة ومخرِّبَة، للخدمات ‏والثروات الطبيعية والناس والشعوب التي تبدو بأنظار هذه الرأسمالية زائدة ‏عن اللزوم.‏
ومن جهة أخرى، إذا كان "وباء ما فوق الإنتاج" يَحمل معه مجازفة العودة إلى الهمجية، فإن ‏‏"الأزمات ‏التجارية" لم تقض على وجود البورجوازية التي نجحت في تخطي هذه الأزمات ‏وتحويلها إلى مكاسب ‏لصالحها. ‏
أما مكانة البروليتاريا في التاريخ والتي تُعْتَبَر برأي اليسار واليمين على حد سواء لاغٍ، ولم ‏يعد لها أي ‏مكان، فإنها لم تَفقَد شيئا من سماتها المستمدَّة من نمط الإنتاج الرأسمالي. فالعامل ‏ليس أكثر من بضاعة، ‏وهو أداة مكمِّلَة للآلة، ولا علاقة له بإنتاجه، ويقع تحت رقابة الثكنة،  وما ينفك أجره المالي ينخفض ‏عندما يرتفع إنتاجه. ومن ينكر اليوم أن الطبقات الوسطى ‏مرشَّحة في الحاضر لتوسيع صفوف ‏البروليتاريا؟! وذلك في ما لا يزال الصراع الطبقي صراعا ‏سياسيا. وهذا الصراع أصبح منذ سيطرة ‏الرأسمالية على عمل ملايين العمال الروس ‏والصينيين، وأكثر من أي وقت مضى، صراعا أمميا. نعم، إن ‏البرامج السياسية للبروليتاريا ‏هي التي تأخرَّت، بعدما انهارت البلدان التي كانت تَزعم أنها اشتراكية، ‏وتحت تأثير الأضرار ‏المترامية الأبعاد للعولمة. وإن البروليتاريا، وبرفقتها اليوم البروليتاريا الرثة (لومبين ‏بروليتاريا) التي كانت ‏موضع احتقار لدى ماركس وإنجلز، تجد نفسها اليوم مرغمة على تنظيم نفسها في ‏إطار ‏طبقي. وما تزال الطبقة الثورية تحمل مهمتها، وهي لقضاء على البورجوازية  "غير  ‏المتعايشة  ‏من  حيث  وجودها  نفسه  مع المجتمع". ‏
ويعلِّمنا أيضا "البيان الشيوعي"، في القسم الثاني منه، أن مهمة الطبقة العاملة هي تمثيل ‏مصالح ‏الحركة في كليِّتها.‏
  مهمة قوامها انتقاد الملكية البورجوازية أو الخاصة، والتي أصبحت ‏في الآونة ‏الأخيرة بمنأى كامل وآمن عن أي نقد أو تشكيك بها، وذلك فيما يتعمَّق انعدام ‏المساواة وتتَّسع المسافة ما ‏بين الأغنياء والفقراء، وما بين العمال أنفسهم، حيث أصحاب ‏الحظ والمنبوذين، ما يجعل غياب أي نقد ‏للملكية الفردية اليوم وفي مثل هذه الظروف أمرا غير ‏مقبول. وهو الأمر الذي يجعل من الضروري تفكيك ‏المكوِّنات الإيديولوجية التي تَبني الثقافة البورجوازية، ‏من أدب، وحقوق، وقوانين اقتصادية يقولون إنها ‏أبدية، والأسرة، ومصير النساء والأطفال، ‏والتربية والتعليم، وفكرة "الوطن"،إلخ.‏
ونحن بحاجة يوميا كي نفهم الرأسمالية على حقيقتها إلى قواعد مادية تقول إن الإنتاج المادي ‏يخضع ‏لشرط الإنتاج المادي، وأن الأفكار المسيطِرَة هي أفكار الطبقة السائدة. وهنا أيضا تظهر ‏بعناد ضرورة ‏الاستيلاء على السلطة السياسية، وإن كانت ما بعد المعاصرة قد استقالت من هذه ‏المهمة. الاستيلاء على ‏السلطة في شكلها القمعي، ومن أجل بلوغ غايتين: "أن تكون ‏البروليتاريا هي الطبقة السائدة، والاستيلاء ‏على الديمقراطية". وهاتان الغايتان تعرفان ‏الشيوعية بوصفها "جمعية تَكُون فيها حرية تطور كل أحد ‏شرطاً لتطور الجميع بحرية".‏
ويبدو القسم الثالث من "البيان الشيوعي" وقد شاخ أكثر من غيره. إلا أن بعض المعاينات فيه ‏ما تزال ‏غنية بالمعاني. حيث أن البيان يشير في هذا الموضع إلى "اشتراكية البورجوازية ‏الصغيرة"، وهي ‏إصلاحية، وتستند إلى "قاعدة من العلاقات البورجوازية"، وهي "مصدر ‏لتقزُّز الطبقة العاملة من كل ‏حركة ثورية". كما يشير إلى الأفكار الطوباوية، ودورها الإيجابي ‏في ظهور الشيوعية.‏
والقسم الرابع من "البيان الشيوعي" عبارة عن نتيجة موجزة للغاية، ما تزال تحتفظ ‏إرشاداتها بقوتها، ‏وهي راهنة حتى اليوم. فالشيوعيون مدعوون إلى العمل من أجل المصالح ‏الفورية المباشرة، كما مصالح ‏مستقبل الحركة. وهم من أجل إنجاز هذه المهمة لا يخشون من ‏عقد التحالفات حتى لو كانت مع ‏البورجوازية "عندما تتبنى البورجوازية مسلكا ثوريا". وهم ‏‏"يَدعمون في كل البلدان كل حركة ثورية ‏مناهضة للنظام المجتمعي والسياسي القائم". ‏ويَعمَلون في كل مكان "من أجل وحدة الأحزاب الديمقراطية ‏في كل البلدان والتفاهم في ما ‏بينها". ويَحتَفظ قلب النظام المجتمعي السائد رأسا على عقب وبصورة ‏عنيفة، كرد على ضراوة ‏المسلك الإجرامي للمسيطِرين، بحقيقته. والأجدى بالمنظَّمات السياسية والنقابية ‏ل"اليسار" ‏أن تتخلَّص من العقائد السلمية المشلولة التي تشكل عقدتها. إن الأممية التي اسْتُرخِصَت ‏قيمتها ‏بأعين هذه المنظَّمات تشكِّل اليوم ضرورة لا بد منها للبقاء على قيد الحياة. ‏
فللخروج اليوم من الانقياد، الطوعي أو غير الطوعي، ليس بأيدينا من سلاح ما بعد 160 سنة ‏سوى ‏قراءة "البيان الشيوعي".‏
‏4/   ما هو وجه المقارنة والخلاف إن وجد ما بين ألتوسير وهنري لوفيفر؟ ‏
‏*** في سياق الماركسية في فرنسا
‎ ‎يأخذ كل من الاثنين مسارا خاصا به ومتعارضاً مع الآخر. ‏مقارنة ‏بألتوسير يُعتبر لوفيفر خصباً للغاية من حيث الإنتاج الثقافي والبحث، وهو شغوف ‏ثقافيا، في ما يبدو ‏ألتوسير ضيق الأفق من حيث الإنتاج والشغف الثقافي. وقد لعب لوفيفر دورا ‏هاما في نشوء الماركسية ‏وانتشارها في فرنسا، وقد أَهَّل تربويا أجيالا من الماركسيين. ولنذكر ‏أنه عَرَّف ليس بماركس وحده، ‏وإنما أيضا بهيجل وهيدغر. وكان أسهم لفترة ما في مجلة ‏‏"فلسفات" التي لاقت انتشاراً واسعا في ‏العشرينات وما بعد. وكان يشارك في هذه المجلة ‏شبان ماركسيين من أمثال نيزان وجورج بوليتزر. ‏وحَمَلَت "فلسفات" منذ وقت مبكر من ‏العشرينات مقاربات لما سيُعرَف في ما بعد من نشاط فكري وثقافي ‏في مجالات ‏الفينومينولوجيا، والأنطولوجيا، والتحليل النفساني، والماركسية التحليلية، وغير ذلك. ‏كان ‏ألتوسير رجلَ مكتب، ينظر إلى العالم عبر ثقب المفتاح في باب مكتبه؛ أما لوفيفر، فإنه جاب ‏العالم ‏بثقافته الواسعة. لقد اهتم بقضايا الزراعة، وتخطيط المدن، والجبال، والدولة. ‏
عندما كَتَبَ ألتوسير مؤلَّفة الأول "من أجل ماركس"، كان يعتقد – حسب ما جاء بقلمه – أن ‏الماركسية ‏في فرنسا تَفتَقِد إلى الإنتاج، وأنها لم تُنتج شيئا. وألتوسير على هذا النحو يَمسَح ‏لوفيفر من النتاج ‏الماركسي في فرنسا. وهو بذلك مخطئ، ولم يعط لوفيفر حقه. صحيح أن ‏لوفيفر يَفتَقر بالمقابل إلى ‏الصرامة التي كانت إحدى مزايا ألتوسير. ‏
هذا، إن الأول كالثاني يمثِّل اتجاها مخالفاً للآخر على امتداد الأجيال. وقد نَشَب بين الاثنين جدل.‏
فقد انتقد لوفيفر ألتوسير وأَخَذ عليه إغراقه بالنظرية المادية، في ما كان هو يُعنى في أعماله ‏بالدياليكتيك. ‏والماركسية الفرنسية أشبه ما تكون بالميزان الذي يَختَل، فتميل كفَّته أحيانا لجهة ألتوسير، ‏وأحيانا أخرى ‏لجهة لوفيفر. وأنا أَعتقد اليوم أن نظرة إلى الثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ ‏الماركسية في فرنسا تُبَيِّن أن ‏الكفَّة التي كانت راجحة إلى جانب ألتوسير تعود لترجح إلى ‏جانب لوفيفر، وذلك بسبب رئيس مؤداه أن ‏انهيار البلدان الاشتراكية، وما تبع ذلك من تجديد ‏في الفكر الطوباوي بالمعنى الماركسي، أو من صلته ‏بتغيير العالم، قد عاد بلوفيفر إلى الظهور ‏مجدَّدا إلى مقدمة الساحة الماركسية لأنه يُمثِّل انفتاحا فكريا ‏وعقلانيا ما كان بحوزة ‏ألتوسيرا لذي كان دوغمائيا ومُغلقا.‏

‏5/   يَنتَقِد هنري لوفيفر لدى ألتوسير تمسُّكه بالنظرية المادية، فيما يُعنى لوفيفر نفسه ‏بالدياليكتيك. هل لك ‏أن توضح هذه الإشكالية ما بين المادية والدياليكتيكية، وما بين لوفيفر ‏وألتوسير؟
‏***  لننظر إلى المسألة في سياقها الفرنسي. فلوفيفر عُني بوجه خاص بالدياليكتيك الذي كان ‏بحاجة إلى ‏دراسة معمَّقة في فرنسا، حسب ما كان إنجلز يقوله. أما ألتوسير فقد وَجّه اهتمامه ‏إلى المادية التي كانت ‏بحاجة هي الأخرى إلى التخلُّص من مفهوم ميكانيكي ضيِّق. الأمر الذي ‏قاد أحيانا إلى اتهام لوفيفر ‏بالمثالية، فيما نَسي ألتوسير باعترافه شخصيا صراع الطبقات. فإذا ‏ما تَركنا جانبا ما يمارسه التبسيط ‏الإيديولوجي من دور في ظهور مثل هذه الأحكام، لنا أن ‏نلاحظ بأن تاريخ الماركسية يَعرف حالة من ‏التأرجح تارة إلى الدياليكتيكية كمرجع، وتارة إلى ‏المادية كمرجع، وذلك حسب الظروف السياسية ‏والثقافية، أو بتعبير آخر، تارة إلى جانب ‏هيجل، وتارة أخرى إلى جانب فويرباخ. ‏

‏6/   لماذا طُرِد لوفيفر من الحزب الشيوعي؟‏                 
‏***  هو لم يُطرد. ‏           
كان أسهم في مجلة "فلسفات". وكانت المجلة حرَّة مستقلة. كان ذلك في العشرينات من القرن ‏الماضي. ‏ولم تكن الماركسية الرسمية ظَهَرَت بعد. وجاء الطلاق ما بين لوفيفر والحزب بصورة ‏تدريجية. فبقدر ما ‏كان الحزب يتحوَّل إلى جهاز رسمي، بقدر ما كان الخلاف يَظهر واضحا. وفي ‏أعقاب أحداث المجر في ‏العام 1958، عُلِّقَت عضويته في الحزب. حينئذ قرَّر أن ينسحب. وكان ‏الحزب منقادا لمبادئ مسلكية ‏وخُلُقية صارمة، وكانت خُلُق لوفيفر غير مقبولة في الحزب في ‏ذلك الوقت. كان يحب النساء، مزواجا ‏مطلاقا، وحياته الخاصة مضطربة. وكان الحزب في حينه ‏يطرد أحيانا أعضاءه لمجرِّد أنهم طَلَّقوا. ‏
‏7/ إذن ألتوسير قاد الماركسية في فرنسا على مسار أكاديمي طالما هو نفسه يَعترف بأنه نسي ‏صراع ‏الطبقات. فهل يُستخلَص من ذلك أن تعليم الماركسية أو البيداغوجيا الماركسية في عمله ‏هي التي تَحتَل ‏الأولوية في مجال العامل المقرر أو المحدّد للحتمية، كما كانت الفلسفة في ‏روسيا هي التي تمارس دور ‏المُخرِج عندما كَتَبَ لينين "المادية والتجريبية النقدية". ‏
‏*** بفارق هام، وهو أن البيداغوجيا في روسيا السوفياتية كانت تأتي من الحزب عبر ‏مدارسه ‏ومنشوراته. وفي فرنسا أيضا كان لدى الحزب الشيوعي مدارسه ومنشوراته. وأنا درَّست ‏أيضا ‏خلال سنوات في المدرسة المركزية التي كانت تُؤَهِّل القادة الحزبيين والنقابيين. وقد نَجَحث ‏في ‏تضمين المناهج الدراسية "مساهمة في مقدمة نقد الاقتصاد السياسي" لماركس، ‏ونصوصا ‏لألتوسير. ومع مضي الوقت اكتشفت أن عددا من المسؤولين القياديين في الحزب ‏ممن ‏يَسهرون على القضايا الأيديولوجية كانوا يَتَرَدَّدون إلى الفصول الدراسية بعد انتهائي من ‏التدريس ‏لمراجعة ما كنت أنقله للمناضلين من أفكار. الأمر الذي يُفسِّر الموقف المُلتَبِس للحزب ‏حيال ألتوسير. نعم، ‏إن الحزب لم يَضطَهِده. إن الحزب لم يعطه بالمقابل أبداً فرصة للتحدُّث إلا ‏في حالات نادرة، وعلى سبيل ‏المجاملة فقط. ‏

‏8/ هل يحتل "من أجل ماركس" لدى ألتوسير موقعا مماثلا لما كان مؤلف لينين "المادية ‏والتجريبية ‏النقدية" يحتله، من حيث أن هذين العملين يؤكِّدان على ضرورة العودة إلى المادية ‏للخروج من البحر ‏الفلسفي الذي كان الماركسيون يَسبَحون فيه؟ إن الأول كالثاني يُذَكِّر بضرورة ‏العودة إلى المادية لدحض ‏الفلسفة وانحرافات الحزب في منحى من المادية المثالية والانتهازية ‏والإصلاحية. ‏
‏*** مما لا شك فيه أن ألتوسير كان لينينيا. وثمة موازاة من حيث التذكير بالمادية والعلم ‏للخروج من ‏الفلسفة. ‏
‏   ‏
‏                             ثانيا: جان بول ســارتر والماركســية
‏                                        "كل معـادٍ للشـيوعية كـلب" ‏ 
‏                                        و"المـاركـســـية هـي أفــق عـصــرنـا"‏

‏1/  ما هي إسهامات سارتر في الماركسية، وبوجه خاص ما قيمة عمله "نقد العقل الجدلي"؟ ‏ألم يترك ‏سارتر أثرا في الماركسية في فرنسا؟
‏***  سارتر مسألة أكثر دقَّة من ألتوسير. انظر إلى ما تحتله البطاقة الحزبية في فرنسا من ‏أهمية تصل ‏إلى حد عبادة الأصنام والحجارة. أنت مثقَّف، إذن أَنتَ تَحمِل بطاقة الحزب. وبوسع ‏المثقَّف أن يَنتَقد ‏الحزب ويُعارضه. إلا أن الطرد من الحزب لا يكون إلا عندما تتجاوز المعارضة ‏والانتقاد حدَّا مقبولا، وذلك ‏على غرار ما حدث لهنري لوفيفر. أما إذا كنت لا تَحمِل البطاقة ‏الحزبية فإنهم لن يَعترفوا لك بأنك ‏ماركسي، وإن كنتَ ستحظى منهم بترحيب ما. إذن فإن حالة ‏المثقَّف في فرنسا مُلتَبَسة. إنه مُلْزَم بالالتزام ‏بالحزب، أي أن يتخلى عن وظيفته العضوية ‏كمثقّف نقدي، أو بتعبير آخر أن يُنَحِّي جانبا الوظيفة العضوية ‏للمثقَّف من أجل إعلاء مصالح ‏الحزب وتوجُّهاته، مع التسليم بأن تحديد مصالح الحزب محدَّدة بقرار ‏سياسي لا يَترك أي مكان ‏له للمشاركة في صنعه. إن موقع المثقف في الحزب الشيوعي الفرنسي هو ‏نفسه الموقع الذي ‏كان جورج بوليتزر ‏
Georges  Politzer  يَشْغله. وكان بوليتزر يَجمَع بين صفتين ‏أو ‏مزيّتين اثنتين؛ إنه المثقَّف المرموق والمناضل الصلب. إضافة إلى ذلك كان ذا مهارة ‏بيداغوجية تَشهَد ‏له بها مطوَّلاته في الماركسية. لكن بوليتزر لم يُعهَد إليه يوما بمهمَّة أو ‏مسؤولية سياسية ما. ولولا ‏النصائح والإرشادات المستديمة التي كان بوليتزر يُسديها على ‏الدوام لسكرتير عام الحزب موريس ‏توريز ‏Maurice Torez‏ لما حظي هذا الأخير ‏بالمكانة التي كان يحظى بها. لقد كان بوليتزر العقل ‏المفكِّر لموريس توريز. وما يصح على ‏ببوليتزر يصح أيضا على بول نيزانPaul Nizan‏.‏
-/  هذا يشير إلى أن موقع المثقَّف الفرنسي فريد من نوعه وأصيل. فبالمقارنة مع ألمانيا وإيطاليا ‏على سيبل ‏المثال يظهر أن وضع المثقَّف في فرنسا مختلف هنا عنه في تلك البلدان. في ما ‏يتعلَّق بإيطاليا على سبيل ‏المثال، فإني أُردِّد دوما: لو كان سارتر إيطاليا لانتسب إلى الحزب ‏الشيوعي الإيطالي. أما في فرنسا فإن ‏سارتر ما كان له أن يكون عضوا في الحزب الشيوعي. إن ‏سارتر حالة مُلْتَبَسة، فمن جهة يدافع عن ‏الشيوعيين، ومن جهة ثانية يهاجمهم .  ‏
لنلاحظ أن مقدمة مؤلَّف ألتوسير "من أجل ماركس"، ومؤلَّف سارتر "نقد العقل الجدلي"، ‏وهي تحت ‏عنوان "مسألة المنهج"، تتخذ مساراً واحداً في العملين، أو أن الأول والثاني يعين ‏‏"الواقعة" نفسها، ألا ‏وهي أن الماركسية الفرنسية لا قيمة لها. إن الاثنين يقولان الأمر نفسه، ‏ولكن بطريقتين مختلفتين. فعندما ‏يَنتهي سارتر إلى مثل هذه النتيجة، يفكر بإيديولوجيين ‏عقيمين لم يبتكروا أي مفهوم جديد، من أمثال ‏غارودي، وكانابا، وسيف. وكان سارتر مفرط ‏الحساسية حيال هذا المظهر العقيم لأيديولوجيي الحزب. إلا ‏أن ما قاله سارتر بالمقابل في ‏الماركسية لم يقله أي شيوعي في أي يوم من الأيام: إن الماركسية أفق ‏عصرنا.‏
إن القدرة الثقافية على النفوذ إلى باطن العصر بلغت لدى سارتر حداً بحيث أنه كان يدرك أن ‏المثقَّفين في ‏فترته التاريخية التي تلت الحرب العالمية الثانية يُعَرِّفون أنفسهم بالنسبة إلى ‏الماركسية. أنا ماركسي. أنا ‏لست ماركسيا. ما هي علاقتي بالماركسية. أين اتَّفق وأين أختلف ‏معها. إن تاريخ المثقَّفين في فرنسا هو ‏تاريخ علاقتهم بالماركسية. والسؤال هنا في ما يتعلق ‏بسارتر يسعى إلى معرفة أيُّ ماركسية تلك التي ‏تحدَّث عنها. الماركسية التي ينشرونها، ‏والماركسية كما هو يَفهَمها. هما حالتان من الماركسية مختلفتان. ‏ولما كان سارتر يدرك ما ‏يعتري الماركسية من ضعف في فرنسا، ويدرك في الوقت نفسه أن الماركسية ‏هي أفق عصرنا، ‏فإنه ينتهي إلى نتيجة واضحة للغاية، ألا وهي أنه سيَحمِل إلى الماركسية ما تفتقر إليه. ‏لذا، ‏فإنه يكتب "نقد العقل الجدلي".‏
استناداً إلى ذلك، شنَّ الحزب الشيوعي حربا ضد سارتر. فقد رَفَع حَمَلة بطاقة الحزب من ‏المثقَّفين صوتهم ‏عاليا مندِّدين بسارتر باعتباره فضيحة، وردَّدوا قائلين إنه يعتقد أنه يستطيع ‏بمفرده أن يُنجز عملا كان ‏أُنجز من قبل، وذلك في إشارة منهم إلى "رأس المال" لماركس. ‏إن "نقد العقل الجدلي" لسارتر هو ‏قراءة جديدة لرأس المال. وقد استقبله المثقَّفون ‏الماركسيون، بما في ذلك ألتوسير نفسه، بصمت قاتل.  ‏وهم حَكَموا عليه بعنف لا يضاهَى. حتى ‏أن التوسير، شأنه شأن إيديولوج الحزب لوسيان سيف، لم ‏يتحدث بكلمة واحدة عن "نقد العقل ‏الجدلي". فكأن العمل غير موجود. وكان بوسع الشيوعيين أن يجدوا ‏فيه أفكارأ مفيدة. إذ أن ‏سارتر يتحدث في هذا العمل عن مجموعة الدمج ‏
groupe de fusion‏ وعلاقتها ‏بديكتاتورية ‏البروليتاريا. وللتصدي لسارتر نشر الحزب كراسا يُسجِّل لجدل دار ما بين سارتر ‏وكانابا، ‏وهو خلوٌ من أية أهمية. ‏إن سارتر يعرِّف فلسفته الوجودية بأنها عمل إنساني، وأنها تعيش على ‏هامش هيجل.‏
‏ ‏
‏2/   سارتر أكاديمي تحليلي، أم مناضل؟‏
‏***  سارتر درس ماركس دراسة فلسفية. إلا أن سارتر – ويجب أن لا ننسى ذلك أبدا – كان ‏واحداً من ‏المثقَّفين الفرنسيين الذين لم يخشوا الذهاب إلى المصنع للنضال مع العمال . ‏كما انخرط في النضال ضد ‏الاستعمار، حيث ساند فرانس فانون في ما كان الجميع، بما في ذلك ‏الشيوعيين، يُطلقون عليه النار. وكان ‏الشيوعيون فنَّدوا الأُطروحات عن العنف، والتي ‏كان يقول بها سارتر للدفاع عن نظرية فانون في العنف. ‏كما ندّد بسياسة إسرائيل. ‏والحال إن نضال سارتر كان أكبر وأهم من أن يستطيع الحزب الشيوعي أن ‏يوظِّفه لنفسه. ‏
إن إسهام سارتر ينطوي على أهمية لا يتسلل إليها شك. وكان السياق التاريخي في فرنسا قاد، ‏من جهة، ‏إلى ظهور سارتر، إلا أنه حمل، من جهة ثانية وبالمقابل، على ظهور مجموعة ‏معارضة له كانت تُصنِّف ‏سارتر بين المفكِّرين من أتباع المذهب الإنساني، وذلك في إشارة إلى ‏مؤلَّف سارتر "الوجودية مذهب ‏إنساني". وقد عبَّرت هذه الإنسانوية عن نفسها عبر ‏المسرح، والرواية، والنضال السياسي والمجتمعي. ‏وكانت هذه المجموعة صنَّفت عددا من ‏المفكِّرين في ملف البنيوية دون أن توجد علاقة ما بين هذا وذاك. ‏وهم اعتبروا ليفي ستراوس ‏وألتوسير مناهضين للإنسانوية، مقابل سارتر الإنسانوي. حتى أن حالة ‏الانشطار الكامل ما بين ‏الملتزمين الثوريين من جهة، وبين غير الملتزمين الثوريين، مُسِحَت مسحا تاما ‏ليتحوَّل هذا ‏الانشطار إلى شرخ فلسفي ما بين إنسانويين ومناهضين للإنسانوية. واُلقي على ‏البنيويين ‏تسمية "النقباء الخمسة" ‏
les cinq capitaines‏ (النقيب بالمعنى العسكري للمصطلح). ‏    / ‎‎ ‎كنتُ كَتَبت وألقيت محاضرات من أجل رد الاعتبار لسارتر. وبيَّنت أن سارتر، فردي النزعة، ‏والمعزول، ‏يُعْتَبُر معطاء بالنسبة لنا نحن الماركسيون من الناحيتين النظرية والنضالية. وأودُّ ‏هنا أن أُنوِّه إلى التقارب ‏الوثيق ما بين سارتر وهنري لوفيفر. وكان سارتر اعترف بأن منهج ‏عمله هو نفسه  منهج لوفيفر‎ ‎‏. ‏الأمر الذي كان يضاعف من الاتهامات المُوجَّهة لسارتر ‏بوصفه معادياً للشيوعية، والتي كانت تَصدر عن ‏المثقَّفين الموالين بصورة عمياء لقيادة ‏الحزب طالما كان سارتر يؤيِّد على هذا النحو لوفيفر المرتد عن ‏الحزب والمطرود منه.  ما ‏إن طُرِد لوفيفر من الحزب حتى أصبحت أعماله تافهة ولا قيمة لها برأي ‏الحزبيين. ‏

3 ‏/   ماذا أضافت قراءة سارتر الجديدة لرأس المال على سابقاتها؟
‏***  سارتر كان قريبا في تفكيره وعمله من لوفيفر. إن نظرية الوعي عند سارتر وثيقة ‏الصلة ‏بالأنطولوجيا والفينومينولوجيا حسب ما يتبيَّن من "الوجود والعدم" لسارتر. وعندما ‏عُني ‏بالماركسية، كان يَعتقد أن الماركسية في فرنسا غير مُنتِجَة، وهو يقول ذلك قبل ألتوسير في ‏مؤلَّفة ‏‏"مسالة منهج" ‏
Question de méthode‏ . وهنا يقول إن الماركسية هي أفق ‏عصرنا. إلا أن هذه ‏الفلسفة تفتقر في رأيه إلى بعض الأُسس. الأمر الذي حَمَلَه على كتابة "نقد ‏العقل الجدلي". ويَعتمد هذا ‏العمل على قراءة لـ"رأس المال" لماركس، يحدوها شاغل رئيس ‏هو فينيومينولوجيا الحياة اليومية. ‏ولدى سارتر هنا مفاهيم من أمثال "الجماعة الاجتماعية" ‏le groupe social، و"الجماعة المندمجة"‏‎ ‎groupe de fusion، و"نظرية الندرة"  ‏la rareté‏ . وفي هذا المؤلف وقفات هامة عند ديكتاتورية ‏البروليتاريا والثورة الفرنسية. ‏والجماعة الاجتماعية والجماعة المندمجة هي قراءة فينومينولوجية ‏وأنطولوجية لصراع ‏الطبقات وديكتاتورية البروليتاريا. وكان الشغل الشاغل لسارتر أن يُفكِّر بالماركسية ‏فلسفيا، ‏بالإضافة إلى نظرية الالتزام. وكان سارتر ملتزما بشجاعة. وهو نفسه يَعْتَرِف بالدَيْن المدين ‏به ‏للوفيفر، وبوجه خاص في ما يتعلق بالدياليكتيك حسب مفهوم لوفيفر له. ‏
جاء سارتر في سياق أصبح فيه الحزب الشيوعي جهازا رسميا وبحوزته مثقَّفين يدافعون عن ‏عقيدة ‏الحزب ويمارسون دور محاكم التفتيش. وقد نَبذوا سارتر أو رفضوه. حتى أن "نقد العقل ‏الجدلي" لم ‏يكن له أي تأثير لدى المثقَّفين الشيوعيين. وكان كل من روجيه غارودي وجويل ‏كانابا انبرى لمحاكمة ‏سارتر. ‏

‏4/ هل ثمة حياة تَستَحق أن تعاش بدون أنطولوجيا إلى جانب الماركسية؟ أو بتعبير آخر: هل ‏تُلغي ‏الماركسية أن يُفكِّر الإنسان في فلسفته الخاصة والشخصية كما أنت تقول أن يفكِّر ‏بالوجود من حيث هو ‏موجود (الأنطولوجيا)؟ وبالوجود والعدم.‏
‏***  هذا سؤال عظيم، وهو يَستحِق منا اهتماما خاصا. ‏
‏5/  لتوخِّي التبسيط، هل ثمة مكان للوجودية الملحدة على هامش الماركسية؟ هل يستطيع ‏الإنسان أن ‏يعيش دون أن يتساءل من أنا؟ وهذا سؤال مادي ووجودي؟ أو هل يستطيع الإنسان ‏الاستغناء عن ‏الأنطولوجيا بمعناها الوجودي المُلْحِد؟
‏*** هذا سؤال حقيقي، وهو موضع للبحث بصورة مستديمة. ولفهم السؤال بصورة كافية لا بد ‏من ‏الالتفات نحو جورج لوكاش الذي كَتَب مؤلَّفا  كبيرا تحت عنوان "الأنطولوجيا في أعمال ‏ماركس"‏
‎ ‎‏. هذا ‏المؤَلَّف في غاية الأهمية، إلا أنه مع ذلك مرَّ مرور الكرام دون أي يَحظى ‏بالاهتمام. وهو لم يُترجم إلى ‏اللغة الفرنسية. وكانت دور النشر الفرنسية رَفَضَت نشره لأسباب تجارية. إن الأنطولوجيا في الفلسفة ‏الحديثة ذات معنى ميتافيزيقي فلسفي بالمعنى ‏الضيِّق للكلمة. وقد ترك هيدغر بصماته عليها. فالكائن عند ‏هيدغر مجرَّد من الحياة اليومية. إنه ‏الكائن من حيث هو كائن. إنه النازي. كان يريد أن يتعامى عن رؤية ‏الواقع. لكن الشغل الشاغل ‏للأنطولوجيا من حيث هي القصد، وما يقابله في الواقع، أو المادة، لا تلقاه عند ‏هيدغر، كما ‏تجده لدى جورج لوكاش من حيث هو القصد في واقع ملموس. وكان آخر أعمال لوكاش ‏بعنوان ‏‏"أنطولوجيا الكائن المجتمعي". وتجد فيه مقاربة للأيديولوجيا انطلاقا من التجربة ‏الملموسة ‏المعاشة مجتمعيا، مقاربة عبر الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، واستطلاعات الرأي، إذا ‏ما ‏أردنا أن نتحدَّث بلغتنا السائدة اليوم. مقاربة للكشف عن نجاح الأيديولوجيا في فرض نفسها ‏كإحاطة ‏شمولية بكل شيء. ومقاربة لوكاش تًعتمِد على مفهوم مركزي، ألا وهو العمل. ‏فانطلاقا من العمل تراه ‏يقارب فينومينولوجيا الدولة وبناء الأيديولوجيات. والهدف هنا هو ‏البحث عن البعد التحرُّري في ‏الماركسية، وتجاوز الحياة اليومية للوصول إلى المفهوم. ولولا ‏هذا التجاوز لبقينا في الجزئي العارض، ‏أو الرأي الشخصي؛ تجاوز الحياة إلى الحرية، وحيازة ‏الحرية بصورة شخصية.‏
‏6/  هذه الحيازة للحرية جوهرية لدى سارتر طالما هو يَكشِف عن استلاب الحرية من أجل ‏حيازة حرية ‏حقيقية وواقعية. إن هذه الإشكالية لدى سارتر هي إشكالية ماركسية من حيث هي ‏وهم أو استلاب ‏الإنسان الحر، أليس كذلك؟
‏***  سوى أن الحرية لدى سارتر أنطولوجية، أو من حيث هي قيمة تبرِّر نفسها بنفسها. ‏فالإنسان الحر ‏بالمعنى السارتري يعني أن الإنسان ليس موضوع استلاب أو حتمية. والإنسان ‏المُستَلَب إنسان اختار ‏استلابه بالمعنى السارتري للاختيار. وكان مؤلَّفه "الوجود والعدم" لعب ‏دورا أثناء حرب التحرير ‏الجزائرية كتبرير للفرار من الجيش. ذلك إن سارتر يَكتُب بالقلم ‏العريض "أنا حر". وهذا هو شاغله ‏الرئيس. بمعنى أنك مسؤول بصورة مستديمة. وهذا هو ‏معنى دراسته لـ"فلوبير"، وجان جينيه. ‏والحرية مُلْزِمَة للمسؤولية التي لا مناص منها ولا ‏متَّسعٌ للتهرب منها. وما الحتمية في مثل هذه الحالة إلا ‏وسيلة للتهرُّب من المسؤولية بطرق ‏ملتوية. ‏
لكن الحرية عندما تصبح معيارا أخلاقيا، فإنها تبتعد عن الماركسية من حيث هي تُغْفِل الوضع ‏الملموس. ‏وفي مثل هذه الحالة، فإن المجال يتَّسع دوما للأعذار.‏

‏                                             ثالثاً: فـي تاريـخ الماركســية

‏1/  من هو أول من ميَّز ما بين ماركس الشاب وماركس الراشد في فرنسا ؟ هل هو جان إيف ‏كالفيز   ‏
Jean-Yves Calvez‏  أم غيره؟
‏***  كلا، أظن أن ريمون آرون
‎ ‎‎ ‎Raymond Aron‏ هو أول من ميَّز في فرنسا بين ‏ماركس الشاب ‏والراشد. وكان هذا التمييز أثار ردودا سريعة. فقد بادرت في حينه المجلة ‏الدولية للأحزاب الشيوعية التي ‏كانت تَصدر من براغ إلى نشر عدد خاص تحت عنوان ‏‏"ماركس الشاب"، وذلك في الستينات. ‏
‏2/   من أين تتأتى أهمية كالفيز؟
‏***  تتأتى أهميته من أنه أول كاهن مسيحي على مستوى عال من الثقافة يؤلِّف كتابا عن ‏ماركس. وقد ‏حاز هذا المؤَلَّف على التقدير
‎ ‎لعمقه وجدِّيَّته. وبفضل كالفيز أَولت الكنسية في ‏فرنسا أهمية للماركسية. ‏وجاء كتابه عن ماركس في فترة تسبق بقليل السياسة الجديدة ‏للحزب الشيوعي الفرنسي، والتي عُرِفَت ‏في ما بعد بـ"سياسة اليد الممدودة للمسيحيين   ‏ politique de la main tendue aux chrétiens‏. وكانت قيادة الحزب بادرت إليها ‏في أعقاب تقرير خروتشيف وتصفية الستالينية في الاتحاد ‏السوفياتي. وكان الحزب عَهد إلى ‏أحد قيادية بمتابعة الاتصالات مع المسيحيين. وكان أول من عُهِدَ إليه ‏بهذه المهمِّة الحزبية ‏مكسيم غريمتزMaxime Gremetz، وذلك في ما كان غارودي يمارس دور ‏فيلسوف ‏سياسة الانفتاح. فالأول مارس دور رجل الجهاز (الأباراتشيك)، والثاني دور المثقَّف. وفي ‏ما ‏كان كالفيز من حيث هو كاهن يتعاطف مع الماركسية في فرنسا، فإن أمريكا اللاتينية كانت ‏تَشهَد ظهور ‏لاهوتية التحرر.‏‎ ‎وكان كالفيز كاهنا ‏يسوعيا، وكان لليسوعيين صلة وثيقة بلاهوتية التحرر من خلف ظهر ‏بابا الفاتيكان حنا ‏بولص الثاني الذي كان يريد الإطاحة بالرئيس العام لليسوعيين لأنه كان يعتقد أن هذا ‏الأخير ‏مستقل أكثر من اللازم عن سياسة الفاتياكان. وكان حنا بولص الثاني يريد أن يُسمِّي ‏رئيسهم ‏بنفسه. ‏

‏3- هل يمكن الجمع ما بين الإيمان الديني والماركسية في وقت واحد؟ ما رأيك كفيلسوف؟
‏*** كلا. أنا دوما أقول إن الإيمان الديني والماركسية غير متعايشتين بصورة كاملة طالما ‏تشكِّل ‏الماركسية قطيعة مع كل ما يمت بصلة إلى المثالية والروحانية. ولاسيما أن كل إيمان ينطوي ‏على ‏شكل من أشكال اللاعقلانية التي هي نقيضٌ للماركسية. ‏
لكن الماركسية بالمقابل ليست معادية للدين بالرغم من أنها ملحدة. وهي لا تمت بصلة إلى ‏الدين. فالدين ‏إيمان، على النقيض من العقلانية والعلم. ‏
وفي ما يتعلق بلاهوتية التحرر فإنها تَجمَع في أمريكا اللاتينية ما بين الإيمان والماركسية. إن
‎ ‎‏ ‏ليوناردو ‏بوف‏ ‏Leonardo Boff‏ يقول: إن الماركسية هي الطريق الوحيد الممكن ‏للفقراء والمضطَهَدين، إلى ‏التحرر، وبوجه خاص في أمريكا اللاتينية. وهو يؤكِّد أنه كاهن ‏يحترم رسالة المسيح لأنها موجَّهة إلى ‏الفقراء. وأنا قلما قرأت انتقادا عنيفا للكنسية والفاتيكان ‏مثل ما قرأته لليونارد بوف في هذا الصدد.  نعم ‏إن لاهوتية التحرر نجحت في أمريكا اللاتينية ‏في كسب جماهير واسعة إلى النضال، وذلك حيثما فَشِلَت ‏الأحزاب الشيوعية جراء تزمتها ‏وضيق تفكيرها. ولا بد لي من الإشارة هنا إلى أن أنصار لاهوتية التحرر ‏الذين يحظون مني ‏باحترام شديد يذهبون طواعية وكرماً إلى الموت من أجل التحرر ويدهم على ‏السلاح.‏‎ ‎وقد ‏تطرَّقت إلى هذا الموضوع في "نظرية العنف".‏
المهم هو السياق التاريخي والظروف الموضوعية التي تحيط بهؤلاء الكتاب الماركسيين، ‏وليس إجلاس ‏الماركسيين حول طاولة حيث يتكلم كل منهم عن نفسه وهو يتحدث للآخرين. كأن ‏نقول على سبيل المثال ‏إن الإسهام الهام والقوي لغرامشي في الماركسية يتجلّى من حيث تبيانه ‏أهمية المثقَّف العضوي والوعي ‏في التاريخ، وإن غرامشي بذلك يضيف جديدا مقارنة بأنداده، ‏سابقيه ولاحقيه، بما في ذلك ماركس نفسه، ‏فإننا أشبه ما نكون حينئذ بمن يقف في مخزن ‏للورود ويؤلِّف ما بينها باقة هي محصِّلة ما أختاره من ‏ورود أكثر انسجاما في ما بينها. ‏
‏                                                    ‏
‏4- كيف تميِّز بين هذا الحشد من الماركسيين، من هنري لوفيفر، إلى أنطونيو نيغري وبوليتزر ‏ولابريولا ‏وغرامشي، إلخ ..؟
‏***  الحديث عن هؤلاء كلهم يطول. من جهة أولى أود أن أُسَجِّلَ ملاحظة حيال هذا النمط من ‏الأسئلة. ‏ما هي الفائدة المرجوَّة من وراء السؤال عن أهمية كل من هؤلاء؟ إني أتساءل ما هي ‏الفائدة من وراء ‏ذلك، إلا أنني أؤكد في الوقت نفسه بأنه من المفيد والمهم معرفة ما مدى ‏إسهام كل منهم في الماركسية، ‏سواء كان السؤال متعلقا بألتوسير أم سارتر أم هنري لوفيفر أم ‏غرامشي. إن ما أخشاه من الدراسات ‏التي تُؤَرِّخ للماركسية أنها تتحوَّل إلى رواق أكاديمي أو ‏معرض تُعلَّق فيه صور وأفكار ووجوه متجاورة، ‏بحيث يتحوَّل على هذا النحو تاريخ الماركسية ‏إلى معرضٍ للصور تَعْرُضُ وجوهاً ماركسية، أو مَعرض ‏للأفكار، طالما أن مثل هذا التأريخ ‏يتجاهل السياق في أغلب الأحيان. إن تاريخ الماركسية ليس رواقا ‏يَعرِض وجوه الماركسيين ‏وأفكارهم، وليس باقة ورود. فإذا كان تاريخ الماركسية مُلْزَم بالتسجيل لوجوه ‏المثقَّفين ‏الماركسيين الذين أثّروا فيه، إلا أن مثل هذا التأريخ ملزم أيضا بإدراج هؤلاء، ليس فقط ‏في ‏السياق والظروف التاريخية لكل منهم، وإنما أيضا في المسار السياسي للسياسة الماركسية، ‏أو ‏لسياسة الأحزاب الشيوعية. ولا يستقيم تاريخ للماركسية بدون إدراجه في السياق السياسي ‏للشيوعية ‏المحلية. إذ أن تاريخ الماركسية ليس ملكا للأخصائيين الجامعيين من أساتذة ‏وطلاب، وإنما هو تاريخ ‏يُسَجِّل لحركات الجماهير والشعوب، أو لسياسة التحالفات والجبهات ‏والبرامج، إلخ.. . ‏
-/  عندما نختار واحدا من بين الكتَّاب الماركسيين، فإن الأفكار المُسبَقَة هي التي يتم اختيارها ‏وتَفعَل فعلها، ‏فتأخذ هذا وتهمل ذاك. فإذا كان أنطونيو نيغري على سبيل المثال يحظى اليوم في ‏فرنسا باهتمام أكثر من ‏غيره، فلأن سيرته الذاتية غنية بالأفكار والنضال. بيد أن أهميته هذه ‏من حيث درجتها العالية لا تقل عن ‏أهمية هوشي منه. ومن الطبيعي أن تَهتَم فرنسا اليوم ‏بنيغري أكثر من اهتمامها بماركسي من أمريكا ‏اللاتينية يَفسَح المجال أمام الاستيعاب الفكري ‏لما يجري في أمريكا اللاتينية. ولماذا كان المثقَّفون في ‏تشيلي اهتمُّوا خلال فترة بعينها ‏ببرودون وشارل فوريِّه؟ الدافع وراء هذا الاهتمام ليس أكاديميا، وإنما ‏يعود إلى أن ‏قراءتهم لهذين الأخيرين كانت تعينهم على إدراك أفضل لموازين القوى الواقعية في ‏التشيلي ‏نفسها، وللتقليد الفوضوي بوجه خاص. ‏
أخيرا، عندما نتحدَّث عن تاريخ الماركسية فإن الأمر لا يقتصر على دراسة الإسهام الفكري لهذا ‏أو ذاك ‏من المثقَّفين الماركسيين، وإنما يَنْصَبُّ إلى حد عظيم على معرفة السياق التاريخي ‏والسياسي للماركسيات ‏الوطنية في بلد بعينه، وفي ضوء خصوصيته الوطنية، أي التقاليد ‏القومية للماركسية. كالماركسية ‏الإيطالية التي تأخذ بالمسار العلمي لماركس في ضوء السياق ‏التاريخي لإيطاليا، وحسب رأي الإيطاليين ‏أنفسهم. ‏
‏               ‏

‏                               رابعا: الماركســـية في إيطــالـيا وفرنســـا ‏
‏                                           هــيجل مقبول هنا ومرفوض هناك، ‏
‏                                             والنزاع بين المثقف والعامل خصوصية فرنسية

‏1 /   كيف تتميَّز الماركسية الإيطالية عن غيرها؟
‏*** لنقارن ما بين الماركسية في إيطاليا وفرنسا. ولنقل على سبيل الإيجاز والسرعة إن ‏الماركسية ‏الفرنسية علمية، لأنها تعود إلى تقليد يرجع بدوره إلى عصر الأنوار، حيث اكتُشِفَ ‏العلم وفروعه، من ‏طب وفيزياء وكيمياء، إلخ.. . هذا المذهب العلمي أَثَّر بدوره على القراءة ‏الفرنسية لماركس. والعلمية ‏موجودة من ماركس حتى ألتوسير. أما في إيطاليا فإن التقليد ‏الماركسي تاريخي. ففي ما ظهر التقليد ‏العلمي في فرنسا مع رينيه ديكارت ، فإن جان ‏باتيست فيكو‏
jean baptiste vico  ‏ هو الذي يميِّز ‏بالمقابل إيطاليا. وهذا الأخير مؤَرِّخ ‏ونَحَوي، وإنه كما يقول الإيطاليون صاحب نظرية في الثقافة.  ويلي  ‏ذلك  سلسلة  طويلة  تذهب  ‏من  فيكو إلى بالميرو  تولياتي ‏ Toliatti‏ ‏Palmiro‏،  والماركسية ‏الإيطالية في الوقت ‏الراهن مرورا بلابريولا, كروتشه وغرامشي وغيرهما. ‏
إن نقطة الاستهلال هنا هي هيجل، أو إنها تبدأ من هيجل. فقد تَلَقَى السياقان الفرنسي والإيطالي هيجل كل ‏على حدة، وبصورة مختلفة. ‏ففي إيطاليا حظي هيجل بالمكانة التي تليق به.  وهو دَخَل إلى السياق ‏الإيطالي مع فيكو، حيث ‏عثر الإيطاليون لديه على النظرية التاريخية، والأنطولوجيا، ونقاط تلاقٍ غيرها مع ‏فيكو. ثم ‏أضيفت الماركسية في إيطاليا إلى هيجل لاسيما مع كروتشيه ‏
Benedetto Croce‏ ولابريولا ‏ومن ثم غرامشي، إلخ.. . أما في فرنسا فإن وصول هيجل قد أثار حالة من الارتباك ‏العظيم. لم يَعرف ‏الفرنسيون كيف يستقبلونه. وللتدليل على ذلك نقول إن أُولئك الفرنسيين الذين ‏كانوا أول من قرأوا هيجل ‏قد قروؤه مترجما عن الإيطالية بقلم مترجم من صقلية. وكان التقليد ‏العلمي في فرنسا بلغ ذروته، حتى أن ‏هيجل لم يجد مكانا له. وكان هيجل وصل إلى فرنسا في ‏وقت متأخر. ولنذكر هنا دروس الكسندر ‏كوجيف ‏Alexandre Kojèveفي جامعة ‏الصوربون، وجان توسان ديزانتي  ‏Jean Toussaint-Desanti(‏ وغيرهما. وكان جان ‏هيبوليت  ‏Jean Hypolitte‏ هو الذي منح هيجل مكانته في الجامعة ‏الفرنسية، وجعل ‏منه أساسا لدى الماركسيين، وذلك على غرار ما كان عليه هيجل في أعمال ماركس. بيد ‏أن ‏فرنسا لم تتمثَّل هيجل بالرغم من هذه الجهود. انظر مثلا إلى حالة الحيرة التي تعتري ألتوسير ‏حيال ‏هيجل. إن ماركس حسب ما يذهب هو إليه يُسجِّل حالة قطيعة إبستمولوجية مع هيجل ولا ‏علاقة له ‏بالهيجيلية. وذلك على نقيض ما يرى الإيطاليون. إن مثل هذه القطيعة مع هيجل لا ‏تتبادر إلى ذهنهم أبدا. ‏ولنذكر هنا مأخذ كل من ماركس وإنجلز على الفرنسيين. فقد كان ‏ماركس يقول إن الفرنسيين مُغرقون في ‏الفكر التحليلي. وخير لهم أن يقرؤوا "رأس المال" ‏مترجما إلى الفرنسية من أن يقرأوه بالألمانية لأنهم ‏لن يفهموه إذا ما قرأوه بالألمانية. وكان ‏إنجلز يقول في ختام حياته إن عقل الفرنسيين يَفتقد إلى ‏الدياليكتيك افتقادا كاملا. وهذا ما كان ‏يقوله ماركس عن برودون الذي ينتمي إلى التقليد العلمي. ومما ‏لاشك فيه أن هذا التردُّد قاد إلى ‏أفكار وأحكام مُسبَقة حيال هيجل، وبالنتيجة حيال التاريخ من حيث علاقته ‏بمبدأ العلية ‏والحتمية، والخصوصيات التاريخية، وذلك بالمقارنة مع علوم الطبيعة. ‏

‏2/  ألا يوجد أيضا في فرنسا تقليد عمالي مقابل للتقليد العلمي؟ ‏
‏*** هذا النزاع مع هيجل مثله مثل النزاع ما بين تقليدين أحدهما علمي والآخر عمالي وثيق ‏الصلة ‏بالتقليد الفرنسي. إذ أن الحركة العمالية في فرنسا وليدة عمال نسج الحرير ‏بمدينة ليون، ثم عمال ‏الطباعة، قبل أن تصل إلى العمال الصناعيين. وكان ممثلو الحركة ‏العمالية الفرنسية الأوائل عمالا ‏عصاميين، فهم لم يأتوا إلى الحركة العمالية والماركسية من ‏الأوساط الثقافية. ومن هؤلاء على سبيل ‏المثال برودون الذي مارس، أكثر من غيره، أعظم ‏التأثير على الحركة العمالية الفرنسية. وعندما تأَسَّست ‏الأممية الأولى كان المبعوثون الأوائل، ‏الذين يمثِّلون الحركة العمالية الفرنسية لديها، أتباعاً لبرودون. كان ‏عدد هؤلاء البرودونيين ‏يتراوح ما بين خمسة إلى ستة عمال. وعندما طُرحت أمام الأممية الأولى ‏عضوية ماركس فيها ‏عارض الوفد الفرنسي بصورة قاطعة عضويته بحجة أن ماركس مثقَّف وليس ‏عاملا.  ‏وهذه الواقعة  هي  أفضل  مثال  على  التقليد  العمالي في  فرنسا. ‏
هذا التقليد مستمر عبر الزمان. وهو الأمر الذي يجعل من التقليد الفرنسي تقليدا عماليا، نقابيا ‏وفوضويا ‏في آن واحد. إنها خصوصية فرنسية. فالماركسية حيثما نشأت كانت تتكوَّن في بدايتها ‏ضمن أوساط ‏تتَّسع للمثقفين. أما في فرنسا، فإن العداء للمثقف، أو بالأحرى المكان أو المَوْقِع ‏الذي يلازمه بموجب حكم ‏صدر عليه، هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الحزب الشيوعي، منذ ‏تأسيسه وحتى يومنا هذا. إن المثقف ‏محظور عليه أن يمارس دورا هاما، وذلك على غرار ما ‏حَدَث لجورج بوليتزر وبول نيزان وغيرهما كثرٌ. ‏إضافة إلى ذلك، فإن هذا الحظر المفروض على ‏المثقف يرافقه حذر حياله طالما أنه يُعْتَبر في فرنسا ‏منضما إلى الطبقة العاملة أو منضويا ‏تحت سقفها. والمعروف أن من كان منضويا تحت سقف آخر غيره ‏فإنه – كما يردِّدون - ‏سياسوي لحقت به السياسة وهي ليست من طبيعته. لذا فإنه سيبقى مراقبا تحت ‏الأنظار، ‏وموضعا للشكوك والوساوس باعتباره مثقَّفا، وبورجوازيا، إذ أنه مرشَّح – حسب ما يزعمون ‏‏– ‏للعودة إلى طبقته في أي وقت. وقد عانى كل المثقَّفين من هذا التقليد.
 ‏
‏3/  الماركسية الفرنسية مشبعة إذن بالتقاليد العلمية أكثر منها الفلسفية، والعمالية أكثر منها ‏الثقافية.‏
‏*** نعم، الماركسية الفرنسية مشبعة بالتقليد العلمي. فالغالب في المرحلة الأولى من نشوء ‏الفكر ‏الماركسي في فرنسا هو رجحان النظرية على السياسة. أما المرحلة الثانية فإنها تتميَّز ‏باحتكار الحزب ‏الشيوعي للفكر الماركسي. فقد دخل هذا الفكر، إذا ما استثنينا كلا من هنري ‏لوفيفر ولويس ألتوسير، في ‏حالة ما من التطهير على حد قول أحد قادة الحزب الشيوعي رولان ‏لوروا
Roland Loroy ‏. ‏
‏-/  وكان عدد كبير من المثقفين انضموا إلى الحزب الشيوعي الفرنسي خلال الفترة الأولى يحدوهم ‏شعور ‏أخلاقي أكثر منه فلسفي ونظري. وفي المرحلة الثانية فإن تأثير المفهوم العمالي كان هو ‏الذي يحدِّد طبيعة ‏الصلة بالحزب الشيوعي الفرنسي، وهو متأت من تيار اشتراكي فرنسي يعود ‏إلى جول غيد
Jules Guesde ، ويُعرف باسمه الغيدية Guesdisme‏. وفي المرحلة الأولى ‏من تاريخ الماركسية في فرنسا ‏لم يحظ دور الأفكار باهتمام يُذكّر سوى في أعمال جان جوريس ‏Jean Jaurès‏ وجورج ‏سوريلGeorges Sorel‏. فقد أكد جوريس  على دور الأخلاق الذي لا ‏يقل أهمية برأيه عن دور الأفكار ‏الاقتصادية لماركس، وثمَّن سوريل إسهام الماركسيين ‏الإيطاليين ، أنطونيو لابريولا Antonio Labriola ‏ وبينيديتو كروشي ‏Benedetto Croce‏. ‏
يرث إذن الحزب الشيوعي الفرنسي تقليدا علميا ممركسا (فهم يخلط ما بين العلوم الصرفة ‏والماركسية). ‏وما تزال أثار هذا الميراث مرئية حتى يومنا هذا. وكان صهر ماركس، بول ‏لافارغ ‏
Paul Lafargue‏ ، ‏هو أول من بيَّن التعارض الكامل ما بين العلم والطوباوية. ثم جاء ‏تأسيس مدارس تأهيل قياديي الحزب ‏لتدلِّل على أولوية السياسة. وفي سياق التقليد العلمي ‏للماركسية دعا الفيلسوف جورج ‏كونيو   ‏Georges Cogniot‏ العلماء إلى أن يبيِّنوا أن ‏مكتشفاتهم مطابقة لقوانين الدياليكتيك! وكان ‏بول نيزان Paul Nizan ‏ تناسى معرفته الوثيقة ‏بفكر مارتين هيدغر. كما تناسى أيضا جورج ‏بوليتزر ‏Georges Politzer‏ دراساته عن ‏فرويد. ‏
وعلى إثر تبني الحزب الشيوعي الفرنسي لمحاضرات ستالين "الفلسفية" عن اللينينية والتي ‏كَوَتْ ‏المثقفين وندَّدَت بهم، من أمثال جورج باتاي ‏
Georges Bataille‏ أو ريمون كينو‎ ‎Raymond Queneau، اللذين كانا يتعاونان مع مجلة كريتيك سوسيال ‏Critique sociale‏ (النقد الاجتماعي)، ‏استبطنت الماركسية الرسمية مفردات وضعية، والتزمت موقفا ‏حذرا من المثقفين ذي الأصول ‏البورجوازية دوما وفي كل مكان. وهذا الحذر من المثقفين ما ‏تزال أثاره تعمل عملها حتى اليوم. ‏
                 
‏4/  اعترف سارتر بهذا النزاع عندما قال أنا مثقف يقف إلى جانب البروليتاريا.‏
‏***  كان سارتر يَعرف هذه الأزمة. انظر: إن سارتر في إيطاليا ما كان ليجد صعوبة أمام ‏انتمائه إلى ‏الحزب الشيوعي الإيطالي. أما في فرنسا فإن مثل هذا الانتماء ضرب من المستحيل. ‏

‏5/  هذا النزاع بين المثقَّفين وبين العمال غير موجود في إيطاليا؟
‏*** وغير موجود أيضا في ألمانيا وبريطانيا وروسيا وأمريكا اللاتينية. كلا، إن هذا النزاع ‏خصوصية ‏بين خصوصيات التقليد الماركسي الفرنسي. حتى أن قادة الحزب الشيوعي الفرنسي ‏كانوا ينتمون في ‏أغلب الأحيان من حيث أصولهم العائلية، ومن حيث مولدهم، إلى الوسط ‏العمالي. وفي أغلب الأحيان ‏مارسوا مهنة العامل لمدة وجيزة قبل أن يصبحوا متفرِّغين نقابيين ‏أو حزبيين في المكاتب الحزبية أو ‏النقابية بانتظار أن يرتقوا إلى مراكز القيادة.  فجورج ‏مارشيه مارس على سبيل المثال مهنة العامل لمدة ‏سنة أو سنتين، ثم أصبح متفرِّغا في ‏الحزب. وهذا أيضا هو حال غاستون بليسونيِيِّه ‏
‎ ‎Plissonnier‏  ‏Gaston‏ ، ورولان ‏لوروا ‏Roland Leroy  وغيرهما. والأسوأ من ذلك كله أنهم ‏خداعُّون. إذ أنك تملأ ‏قسيمة عندما يَعقد الحزب مؤتمره للمشاركة في أعماله، وتتضمَّن هذه القسيمة ‏حقلا للمهنة. ‏إنهم يَضعون في هذا الحقل مهنة فلاح، فأي فلاح هو! وعامل في السكك الحديدية أو ‏الكهرباء ‏أو الغاز. أي عامل هو! إنهم أمضوا حياتهم في مكاتب الحزب لا يمارسون مهنة العامل ‏والفلاح ‏إلا بصورة عابرة. إنهم باختصار رجال أجهزة، بيرواقراطيين وأباراتشيك. وياله من أمر ‏مثير ‏للخجل! إني أُذَكِّر هنا أن لينين عندما كان يملآ قسيمة عضويته إلى مؤتمر الحزب، فإنه كان ‏يَكتب في ‏حقل المهنة: كاتب. ‏

‏6/  هل هذا الحذر حيال المثقَّف هي خصوصية فرنسية فقط؟ ‏
‏***  بوسعنا أن نَفهم أمورا كثيرة في ضوء هذا النزاع. إنظر مثلا إلى عبارة "المثقَّفين الكبار" ‏التي ‏كان يشيع استخدامها من قِبَل الحزب. من هم هؤلاء المثقَّفين الكبار؟ على سبيل المثال: ‏آراغون، بيكاسو، ‏جوليو كوري ‏. الحقيقة هي أن مكانتهم في الحزب لم ‏تعدو كونها واجهة تزيين للحزب، أو ميدالية لتزيين ‏صدر الحزب. وقد ستثمرهم الحزب على ‏هذا النحو كي يَظهَر بمظهر حزب المثقَّفين والثقافة والذكاء ‏والعلوم والإبداع. إنه حزب أندريه ‏جيد َ   
André Gide(40) وأناتول فرانس‏ Anatole France‎ ‎فهؤلاء مجتمعين ‏ومتفرِّقين لم يمارسوا أية مسؤولية في الحزب. وهم لم يحظوا بأي أهمية سياسية. ‏وكان ‏الحزب يرمي بهم جانبا في أول فرصة تتاح له، لتركهم على الناصية بجانب الطريق. لذا، فإن ‏سارتر ‏كان محقاَ عندما قال إن الماركسية أفق عصرنا. ذلك أن أجيال المثقَّفين حتى غاية ‏الثمانينات من القرن ‏العشرين مرَّت باستثناء قلة نادرة منهم عبر الحزب الشيوعي الفرنسي. ‏وكانت هذه الأجيال تلازمه لمدة ‏تتراوح ما بين خمس عشرة سنة، وستة أشهر، بما في ذلك من ‏هم اليوم الأكثر رجعية في فرنسا، فإنهم ‏مرّوا كلهم عبر الحزب الشيوعي الفرنسي. واليوم، فإن ‏الحزب عندما يرى كل المرتدِّين الذين أصبحوا في ‏ما بعد قادة للرجعيين، فإن التقليد العمالي ‏يتعزَّز لديه لأنه لا يرى سوى الجانب الأسود من المثقَّفين. ‏

‏7/  أنتَ كلما عدت للحديث عن التقليد العلمي في الثقافة الماركسية، فإنك تشير إلى ديكارت ‏وسبينوزا، ‏ولكنك تُهمل رينيه باسكال ‏
René Pascal ‏  بصورة تامة بالرغم من أنه ‏صاحب أفكار مجتمعية، فلماذا ‏هذا الإهمال منك له؟
‏***  لأن باسكال في ما يتعلق بالماركسية لا صلة له بالتقليد العلمي لا من قريب ولا من بعيد. ‏وأنتَ ‏عندما تتحدَّث عن الماركسية، فإنك لن تلتقي على هذا الدرب بباسكال.‏

‏8/  ألا يوجد في فكر باسكال اتجاه مجتمعي؟
‏*** نعم، وهو ما يُطلق عليه تسمية الاشتراكية المسيحية. ففي نهاية النصف الثاني من القرن ‏التاسع ‏عشر عاد اسم باسكال إلى الظهور.‏
‎ ‎فباسكال فيلسوف مؤمن يتساءل ضمن علم اللاهوت، ‏ويظهر برأي ‏الماركسيين باعتباره الفيلسوف الذي يقول: "أنا مؤمن بالله لأن  الإيمان عبث". ‏هذا كلام يفتقد إلى ‏العقلانية بصورة كاملة. فهو عندما يقول أنا مؤمن، فإن إيمانه يخلو من أي ‏برهان على وجود الله، بل إنه ‏مؤمن لأن الإيمان غير عقلاني. هذه تفاهة لا يضاهيها تفاهة. ‏

‏9/  لماذا اخترتَ مكسيميليان  روبسبيير موضوعا لعمل يحمل هذا العنوان؟
‏***  روبسبيير  رمز
‎ ‎‏ بين الشخصيات التي صنعت الثورة الفرنسية. وما استوقفني في ‏شخصية ‏روبسبيير هو أنه لم يأت إلى الثورة حاملا معه زادا من الأفكار السياسية، وإنما التقى ‏هذه الأفكار بفضل ‏مشاركته شخصيا في الأحداث. أي أن الثورة هي التي فَرَضَت عليه نظرية ‏ثورية. كان لينين في مساره ‏يُحَرِّض على الثورة وهو مسلَّح بالماركسية من أجل إنجاز الثورة. ‏أما روبسبيير، فكان على نقيض ذلك ‏بصورة كاملة. كان روبسبيير، ولويس أنطوان دو سان ‏جوست  ‏Louis Antoine de Saint-Juste‏ ‏شبانا تقل أعمارهم عن الثلاثين سنة. ‏والوحيد الذي كان متقدِّما في السن وناضجا هو جان بول ‏مارا ‏Jean Paul Marat‏ ‏الذي كتب عددا من المؤلَّفات تحمل أفكارا تدعو إلى الاضطرابات. أما ‏روبسبيير، فإنه سليل ‏أسرة بورجوازية متوسطة، تلقى دراسته في كبرى ثانويات باريس (لويس غران). ‏وقد حَدَث ‏أن الملك لويس السادس عشر وماري أنطوانيت قاما بزيارة هذه الثانوية، ووقَعَ خيار ‏الهيئة ‏التعليمية على روبسبيير لإلقاء كلمة الترحيب بالملك والملكة. وروبسبيير لم يتسلَّل إليه ‏الشك ‏بالسلطات إلا عندما بدأ يمارس مهنة المحاماة. وعَبْرَ ممارسته المهنة بدأ يحتك ‏بالصعوبات ‏المجتمعية للمواطنين. ثم انتُخِبَ نائبا إلى البرلمان في باريس. ووصل إلى باريس ‏خاوي ‏الوفاض من أي حمل نظري. وللتدليل على ذلك أشير إلى أنه لم يكن إبان العهد الأول لنيابته ‏يتدخَّل ‏في المناقشات. إلا أنه كان أثناء ذلك يتابع حركات الجماهير ما قبل الثورة. ما ساعده ‏على تكوين بعض ‏المبادىء التي أخذ ينقلها إلى حيِّز الواقع بقدر ما كان قريبا من السلطة. ثم ‏سعى إلى السلطة من أجل ‏نصرة هذه المبادئ. لذا، فإني عنونت كتابي "من السياسة إلى ‏الفلسفة" طالما أنه انتقل من الأولى إلى ‏الثانية، ولم يأخذ بالطريق المعاكس. وها هنا تكمن ‏الأهمية الماركسية لروبسبيير. فالممارسة، كما هو ‏واضح من هذا المثال، تأخذ بعدا خاصا. لقد ‏كان روبسبيير زاهدا من أجل الثورة، وفي الثورة، إنه ‏متقشِّف، ولم يعرف الجنس في حياته، ‏وقد كرَّس حياته للثورة. ‏

‏           سادساً: الماركســية في أعــمال فوكــو، ولـيفـيانس، ‏بورديـو          ‏
‏                   وآخــرين

‏1/  في أي سياق يَندرج المفكِّرون الفرنسيون الذي تلوا سارتر؟ فوكو، ليفيانس، دولوز، ‏بورديو، إلخ.؟
‏***  ما أراه مثيرا هنا للاهتمام هو القوة الثقافية للماركسية من حيث هي نظرية. فلولا ‏الماركسية لما ‏فعل هؤلاء مجتمعين ومتفرِّقين شيئا. بل إن فوكو نفسه يَعترف بقوة الثقافة ‏الماركسية في بداية أعماله. ‏فهو لا يقول إني ماركسي، وقد كان في شبابه ماركسيا، إلا أنه ‏مدين في عمله "أركيولوجيا المعرفة" ‏للماركسية من هي حيث مسار علمي.  ويقول بيير ‏بورديو في مقال له يعلِّق فيه على "معجم الماركسية ‏النقدي": لقد اكتشفت في هذا ‏القاموس أنني استخدمت في أعمالي مفاهيم ماركسية دون أن أُدرك ذلك. ‏ويجب أن أَعترف ‏اليوم بأنها أعانتني في عملي. إن الماركسية لقَّحَت بصورة مثمرة للغاية العلوم الإنسانية ‏التي ‏ما كان لها أن تكون ما هي عليه لولا الماركسية. لقد شرب بورديو من الماركسية وترعرع ‏معها. ‏والمؤسف أن الحزب الشيوعي لم يستفد من أمثال بورديو وجيل دولوز اللذين كانا ‏يحملان ثروة ثقافية ‏زاخرة. وبورديو لم يكن في متناول يد الحزب، لأنه على غرار غيره أصعب ‏بكثير من أن يصبح رجل ‏جهاز، آبارتشيك. وإن إسهام بورديو، ولاسيما في  نهاية حياته،  ‏يَظهر في عمله "بؤس العالم" الذي ‏يَكشف عن السعة الثقافية لأعماله ومدى إسهامه على ‏الصعيدين الثقافي والسياسي. إنه المثقَّف الفرنسي ‏الوحيد الذي كان لديه من الشجاعة ما يكفي ‏ليقول إن هيدغر نازي، وذلك فيما كان الآخرون صامتين ‏كالنُوّم. وهذه مسألة مثيرة ‏للانفعال. انظر إلى حنا أردنت. إنها عشقت هيدغر. أما بورديو، فإنه انفرد في ‏فرنسا عن غيره ‏من المثقَّفين، في حين كان الإيطاليون والتشيليون ويورغِن هابرماس في ألمانيا يعلنون ‏عن ‏ذلك دونما تردُّد وخوف. وفي ما يتعلق بجاك دريدا، كما لدى ميشيل هنري، وهما ‏مفكِّران ‏بورجوازيان، فإنهما عُنيا بماركس، واكتشفا الثروة العلمية للماركسية. ويَستَنتج دريدا منها ‏لزوم ‏مناهضة الإمبريالية. وهو يشير إلى ذلك بصريح العبارة. بيد أن دريدا لم يجرؤ على ‏وصف هيدغر ‏بالنازي. إنهم في فرنسا تغذُّوا من هيدغر. صحيح أن أعمال هيدغر الفلسفية لا ‏تمت – ربما – بصلة إلى ‏النازية – وأنا أقول ربما – إلا أن مراسلاته في هذا الشأن صريحة. ‏أما إيمانويل ليفيناس فإنه لاهوتي ‏ويهودي متدين. كان يَطلب مني، عندما كنت مديرا لقسم ‏الفلسفة في كلية الآداب بجامعة نانتير – باريس ‏العاشرة، أن تعقد الاجتماعات الدورية لمجلس ‏الأساتذة في أي يوم كان من أيام الأسبوع، باستثناء يوم ‏السبت. ‏
‏2-  إن إسهام هؤلاء إذن كان بوجه الإجمال إيجابيا؟
*** إيجابي للغاية. وكان ألتوسير كَشَف تأثير الماركسية في التحليل النفساني في مَعرِض ‏التأثير الثقافي ‏القوي للماركسية في العلوم الإنسانية. فإذا كان فرويد مناهضا للماركسية لأن ‏المادية الفرويديةميكانيكية، ‏إلا أن تاريخ الماركسية أتى بمفكِّرين من أمثال جورج  بوليتزر ‏، سلَّطوا الأضواء على أهمية التحليل ‏النفساني، وذلك في ما كان الشيوعيون الأرثودكس ‏في الاتحاد السوفياتي كما في فرنسا يَحكمون على ‏التحليل النفساني بأنه علم بورجوازي. وكان ‏ظهر في ألمانيا فيلمان رايش ‏
Villemin Reichالذي يَجمَع ‏في تيار بين الماركسية ‏والتحليل النفساني، وظَهَر أيضا إريخ فروم  ‏Erich Fromm ‏ الذي يُوَفِّق ‏مابين ‏الماركسية والتحليل النفساني في ما يتعلق بدراسات هذا التيار حول علم النفس الجماعي ‏والنازية.‏  ‏أي أن هؤلاء بدل أن يقتصروا على العلاقة ما بين البنى العليا والبنى السفلى بحثوا في ‏العلاقات المتداخلة ‏ضمن البنى العليا، وما بينها، في الأنظمة الثقافية والعلوم الإنسانية. ‏وهم فعلوا ذلك على أسس مادية. ‏فوكو وبورديو ماديان. ف"أركيولوجيا المعرفة" لفوكو ‏تسبح في المادية. وعندما يَكتب فوكو عن ‏السجون فإنه يسلِّط الأَضواء على واقع الصراع ‏الطبقي والطبقات والأزمات المجتمعية. وهو يعترف بذلك ‏بصورة صريحة. إن نظرية "العدالة ‏المفقودة" في أعمال فوكو، كما "بؤس العالم" في أعمال بورديو، ‏بالإضافة إلى دولوز، وهو ‏ماركسي، أعمال في غاية الأهمية، وهي اليوم في متناول يد الشيوعيين إذا هم ‏أرادوا الاستفادة ‏منها بصورة غنية في نضالهم الطبقي. ‏

                                         ‏           سابعا: المـاركســـية النمســـاويـة ‏
‏                                                 ومدرسة فرانكفورت 
‏1- كيف نشأت الماركسية النمساوية؟
‏***  أعود لأقول مجدَّدا إن تاريخ الماركسية ليس استعراضا لوجوه ماركسية معروفه ومعلَّقة ‏في ‏أروقة، وإنما هي دراسة لها في سياقها وظروفها التاريخية، وحسب الفترات، وحوادث ‏التاريخ، والقرائن ‏المعاصرة لها. هذا هو المعنى الحقيقي للماركسية من حيث تاريخها. وثمة ‏في هذا السياق أسئلة كثيرة. ‏فلماذا تخلو أسبانيا من وجوه للنظرية الماركسية؟ وذلك بالرغم ‏من أن الماركسية  في أسبانيا عبر ‏تاريخها، وبوجه خاص أثناء فترة الحرب الأهلية 1936- ‏‏1939 لا تخلو من وجوه تاريخية. وأسبانيا ‏تعاني من فقر شديد في مجال الفلسفة والفلاسفة. ‏أما أمريكا اللاتينية فإن حظَّها من الوجوه الماركسية ‏أفضل مما هي عليه أسبانيا.  فقد عَرِفَت ‏أمريكا اللاتينية منظِّرين من أمثال سيمون بوليفار  ‏
Simon Bolivar، وخوزيه كارلوس ‏ماريا تيغيغي ‏ Jose Carlos Tiguegui، وفاراباندو ‏مارتي  ‏Farabando Marti‏.‏
وفي عودة إلى سؤالك أقول إن الماركسية النمساوية ‏
l’Austro- marxisme ، في ‏غاية الأهمية. إنها ‏تَجمع مجموعة من المنظِّرين الألمان والنمساويين الذين أَحيُّوا ما نسميه ‏الماركسية النمساوية. وهي ‏حركة وليست مدرسة. ومن الناحية التاريخية، فإن هذه الحركة ‏تأتي امتداداً لماكس فيبر‏Max Weber‏.‏‎ ‎وتعود أولى أعمال هذا التيار إلى فترة الحرب ‏العالمية الأولى. كما تأتي بعد ثورات ومحاولات ‏ثورية في كل من روسيا وألمانية والنمسا ‏وإيطاليا. وقوامها تفكير نقدي في ما يتعلق بالبلشفية على ‏أُسس من الخصوصية التاريخية.‏
‏ إن إنجاز ثورة ستالينية في سياق الإمبراطورية البروسية، وفي سياق ألمانيا والنمسا، ‏مشابهة لتلك التي ‏أُُنجزت في روسيا بقيادة البلاشفة، ضرب من المستحيل. ذلك أن ثورة ‏أكتوبر حَدَثَت في إطار بلد متخلِّف ‏ومعدوم التقاليد الديمقراطية. من حيث النتيجة كان تشكيل ‏حزبٍ ذي نمط عسكري واضح ومؤهَّل للنجاح، ‏وقادر على فرض نفسه، أمرا غير ممكن في ‏السياق النمساوي والألماني. إن الأمور تختلف في البلدان ‏الأكثر تقدَّما. وكانت روزا ‏لوكسمبورغ واعية لمثل هذه الخصوصيات المتباينة من حيث تكوينها ‏وتشكيلها. فهي كانت ‏تنادي بالحرية والديمقراطية لجميع الشعوب، وترى أن تعليق هذه وتلك بين قوسين ‏أمر غير ‏مقبول، حتى لو كان ذلك لمدة مؤقَّتة. وجاء إسهام الماركسية النمساوية في إطار من آفاق ‏المستقبل أمام ‏الثورات في بلدان أوروبا المتطورة.‏
عُني هذا التيار بعدد من المحاور: الأول، وهو الذي يَكشف عن الماركسية النمساوية أكثر من ‏غيره من ‏المميزات، إنه القومية.  ففي الإمبراطورية النمساوية، وبصورة أَعم في أوروبا ‏الوسطى كلها، بما في ‏ذلك ألمانيا والنمسا، لا يمكن الالتفاف على المسألة القومية. وتَلحق بها ‏مسألة الصدام بين القوميات: ‏ألمانيا/هنغاريا، ألمانيا/النمسا، ويوغسلافيا. من وجهة نظري أن ‏مشكلة القوميات قادت الماركسية ‏النمساوية إلى التفكير في الوقت نفسه بفكرة المجتمع ‏المدني، وفكرة الجماعة ‏
comunauté‏ . وتَبِع ذلك ‏اهتمام بالماركسية في مجال العلوم ‏الإنسانية، وبوجه خاص في التاريخ والاجتماع. وظَهرت في ‏الماركسية، من جراء هذا الاهتمام ‏بالتاريخ والاجتماع، نظرية الثقافة التي تُعنى بالتأثير الذي يشكِّله وزن ‏الكتل الثقافية الضخمة، ‏مثل الدين والتقاليد الكتابية والأيديولوجيات. وتعود أهمية هذا التيار لسببين اثنين:‏
آ/  لأنه يشكِّل قطيعة مع التقليد الشائع في الماركسية، وبوجه خاص البلشفية، وإن كان ‏يحاول بالمقابل ‏وفي الوقت نفسه تطوير البلشفية وإنجاز ما لم تنجزه، لأن هذا التيار ممثَّلا ‏ب/أوتو باور  ‏
Otto Bauer، وكارل‎ ‎رينير  ‏r Karl Renne‏ لم يكن مناهضا ‏للبلشفية. وكان ثوريا، ويسعى إلى تصحيح ‏البلشفية واستكمالها. والتصحيح هنا بمعنى أنه ‏كان يعارض التيار الماركسي السائد الذي يمثِّله كاوتسكي، ‏وبليخانوف، وبوخارين، أو الرؤية ‏الميكانيكية للتطور، والحتمية الاقتصادية التي تأخذ بمبدأ العلِّية شديد ‏الجمود. حتى أن هذه ‏العلِّية، إذا ما طُبِّقَت في العلوم الإنسانية، فإنها تُلَخِّص هذه العلوم كلها، من المجتمع ‏إلى الآداب ‏والفنون وعلم النفس، إلى أشكال اقتصادية من صراع الطبقات. الأمر الذي يَحرُم هذه ‏المجالات ‏من أي استقلال ذاتي. وكانت الستالينية نَظَرَت باستخفاف شديد إلى العلوم الإنسانية، ‏واعتبرتها ‏علوما بورجوازية لا طائل منها. بل إن هذه التأويلية الميكانيكية تظهر حتى لدى ‏لينين الذي يُخَفِّف من ‏أهمية العوامل غير المرتبطة بصورة مباشرة بالأشكال الاقتصادية ‏لصراع الطبقات. لذا فإن لينين في ‏مؤلَّفه "المادية والتجريبية النقدية" يَكشف عن رؤية ضيِّقة ‏للغاية في ما يتعلَّق بالعلوم الإنسانية. وذلك ‏في ما كان كارل رينير من تيار الماركسية ‏النمساوية يُبَيِّن أن العلوم الإنسانية أكثر تعقيدا بكثير من ‏الحتمية الاقتصادية ويفلت منها.‏
ب/  لأنه كان يختلف عن الماركسية الشائعة في ذلك الوقت حيال مسألة الحزب. فقد كان النمط ‏العسكري ‏للحزب، وإن كان يَفرض نفسه في السياق الروسي لثورة أكتوبر، فإن ما آل إليه هذا ‏النمط اعتبارا من ‏العشرينات، ومع الانتقال إلى الستالينية، جعل من ديكتاتورية البروليتاريا ‏التي كانت من حيث الأصل ‏مشروعا ثوريا يُعطي الثورة للثوار المعنيين بالثورة، أو ‏البروليتاريا، جعل منها حكراَ على جهاز الحزب ‏الذي صادرها. ‏
وكانت هذه المعطيات كلها تُشَكِّل الرصيد أو المحصِّلة النقدية للماركسية النمساوية. وقد أدرك ‏لينين في ‏ختام حياته هذا التطور، إلا أنه، بالرغم من ذلك، وعلى غرار سواه، اعتَبَر الماركسية ‏النمساوية تحريفية، ‏مصدرها البورجوازية الصغيرة، ولا علاقة لها بالماركسية الصحيحة ‏حسب ما كان يَعتقد الأرثوذكسيون.‏
هذا الخلاف لا يَقتصر على مسألة الأمة. فقد اَيَّد لينين مؤَلَّف ستالين حول مسألة الأمة. وكان ‏يَعتَبِر ‏مؤَلَّفه "الماركسية والمسألة القومية" أفضل ما كتبه ستالين من وجهة النظر ‏الماركسية. والخلاف ما ‏بين تيار الماركسية النمساوية والبلاشفة كان يتجاوز مسألة ‏الأمة إلى ما يرافق تكوين الأمة من مسائل ‏كالنمو الاقتصادي، وصراع الطبقات، والعوامل ‏الثقافية. وقد نَبَّهت الماركسية النمساوية، ومن بعدها ‏مدرسة فرانكفورت، إلى هذه المسائل. ‏وأسهمت الأولى كالثانية، بصورة في غاية الأهمية، في الكشف ‏عن القوى المؤثرة في النمو ‏والتطور، والتي لها وزنها بالتالي في إنجاز الثورة، كالعقليات، ‏والأيديولوجيات، والدين، ‏والتقاليد، وكل ما يشكِّل روح الأمة أو فكرها. لكن السياسة البلشفية كانت تمحو ‏كل هذه ‏المكونات والقوى. وكانت تنادي بنمط واحد من التطور والنمو. ثم رسمت مع الأممية الثالثة ‏في ‏مرحلتها الستالينية مخطَّطا نظريا وسياسيا واحدا لكل الشعوب، أو أممية ستالين. ‏
في هذا السياق من التطور أصبح كل ما هو ثقافي برأي الأحزاب الشيوعية ثانويا، ويَحظى ‏منها، من حيث ‏المقاربة والمعالجة، بمرتبة ثانوية. وكانت برامج الأحزاب الشيوعية تقتصر ‏حسب هذا المنطق على ‏تعريف وتحديد الشروط الاقتصادية التي ترافق استلام السلطة في ‏إحدى مراحل التطور الاقتصادي. وعلى ‏سبيل المثال تمَّ تفسير النظرية الفاشية التي كانت حينئذ ‏تتقدَّم في مسار صاعد من قبل جورج ديمتروف ‏باعتبارها تبدلاً في الرأس المال المالي، ‏وهو يسند ذلك إلى رودولف هيلفيردينك ‏
Rudolf Hilferding‏. ‏وكان هذا الأخير من ‏تيار الماركسية النمساوية، وقد أشار في النصف الأول من كتابه "الرأسمالية ‏المالية" إلى أن ‏هذه الرأسمالية تمارس دور الحتمية. ولكن بوصفه أحد أفراد هذا التيار يقول أيضا إن ‏من ‏الممكن تفسير الفاشية من حيث هي جزء من أزمة البورجوازية الصغيرة في هذه البقعة من ‏العالم. ‏فلقد أسهمت أزمتها، من حيث ما تعانيه من تناقضات قومية وثقافية هامة، في صعود ‏الفاشية في ألمانيا. ‏لذا فإن تفسير الفاشية لا يقتصر على العوامل الاقتصادية وحدها دون ‏غيرها. ‏
ويترتب على ذلك أن الميدان الواسع للعلوم الإنسانية التي شهدت في النصف الأول من القرن ‏الماضي ‏تطورا في غاية الأهمية مندمجة بالنظرية الماركسية. ولا مناص من القول إن المادية ‏والعلم الماركسي ‏للتاريخ هو الذي سَمَحَ للعلوم الإنسانية أن تتطور، وقد شُيِّدَت العلوم ‏الإنسانية على قاعدة من علمية ‏التاريخ. حتى بعض علماء الاجتماع، من دوركايم ومارسيل ‏موس وصولاً إلى المؤرِّخين في أيامنا هذه، ‏إضافة إلى كال من بيير بورديو ‏
Pierre Bourdieu، وميشيل فوكو ‏Michel Foucault، وفيرناند ‏بروديل  ‏Fernand Braudel، كانوا روَّاداً في مجالات علم النفس والتاريخ وعلم النفس. وهم مدينون ‏بالكثير ‏للماركسية التي كانت بمثابة القاعدة لأعمالهم. وقد اعترف بهذه الحقيقة كل من فوكو ‏وبورديو ‏وبروديل. وهذا كله يُمَثِّل في الوقت نفسه الجوهر الفكري لمدرسة فرانكفورت.‏
-/ لا بد لي هنا من إضافة أمرين للتوضيح. فقد وُلِدَت – من جهة – مدرسة فرانكفورت في وسط ‏تاريخي ‏محدَّد بصورة في غاية الدقة. بل إن اسم فرانفكورت الذي هو نفسه تسمية للمدرسة ‏المعروفة بهذا ‏الاسم، مدرسة فرانكفورت، بليغاً إلى حد كبير. وكانت فرانكفورت لٌقِّبَت باسم ‏‏"فيينا الحمراء" ‏
Vienne la rouge‏. وفي ما كانت مدرسة فرانكفورت تتكون، كانت فيينا ‏تشهد انفجارا هائلا في مجالات الثقافة ‏والبحث العلمي والموسيقى، (غوستاف ماهلر، ‏وآلبانبيرغAlban Maria Johannes Berg  ‎ ‎والفنون التشكيلية  غوستاف كليمت، ‏وأُوسكار كوكوشكا ‏Oskar Kokoschka‏. ‏‎ ‎وكان مرِّ بهذه ‏المدينة كل من لينين، وتروتسكي، ‏وغرامشي. وغرامشي قريب للغاية في أفكاره من الماركسية ‏النمساوية، سواء من حيث نقد ‏الاقتصادوية البلشفية التي كانت سائدة في حينه، أم من حيث ما يوليه ‏للثقافة من أهمية. ‏فغرامشي يلح على مسائل اللغة، وخصوصيات إيطاليا، ووزن الدين.‏
والملاحظة الثانية تتعلق ب/ حاييم غرينبيرغ ‏
Greenberg‏ ‏Hayim، وهو أحد منظِّري ‏الماركسية ‏النمساوية. وكان مديرا لمدرسة العلوم السياسية في فيينا، وأحد المشرفين على ‏مجلة اجتماعية كانت ‏تُعنى بقضايا الحركة العمالية، وأول مدير لمعهد العلوم الاجتماعية في ‏فيينا، والتي منها تخرِّج أوائل رواد ‏مدرسة فرانكفورت، هوركهايمر، وآدورنو وآخرون. ‏
تكشف هذه الصلات عن مضمون مثير للاهتمام. فلقد كان مفكرو الماركسية وسياسيُّوها – من ‏وجهة ‏التاريخ النقدي للماركسية – مُسَيَّرين بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. وقد مارسوا ‏ذاتيا رقابة القلم ‏بأنفسهم وعلى أنفسهم باسم الخط النظري والسياسي الرسمي. ولم يعيروا ‏أهمية إلا للأُرثوذكسية التي ‏كانت تَنبُذ كل ما عداها. الأمر الذي يحملني على التمييز ما بين ‏ماركسية سائدة، وماركسية كامنة تحت ‏الأرض، ومنها ظهرت مدرسة فرانكفورت وتيار ‏الماركسية النمساوية. هذا، وقد تحوِّل بعد ذلك أتباع ‏مدرسة فرانكفورت إلى رجعيين، ومعبِّرين ‏عن البورجوازية الصغيرة. نعم إن مثل هذه المقاربة ليست ‏نقدا ماركسيا كافيا لمدرسة ‏فرانكفورت. لكن المسار من حيث الأصل كان ماركسيا مناهضا للأحادية. ثم ‏انحرف به بعض ‏مفكريها وأعطوا أهمية قصوى للتواصل والثقافة وأهملوا الشروط المادية لصراع ‏الطبقات. ‏

‏2-  لقد شكَّلت الماركسية النمساوية قطيعة مع البلشفية على صعيد القومية والوضع الذي ‏تحتله الثقافة ‏في النظرية والممارسة. وكانت بمثابة المهد الذي شَهِد ولادة مدرسة فرانكفورت. ‏ويُشكِّل غرينبيرغ صلة ‏الوصل ما بين المدرستين.  والسؤال هو لماذا ظَهَرهذا التيار مع الحرب ‏العالمية الأولى؟ ‏
‏***  إن قوة الماركسية النمساوية متأتية من كونها تشكِّل بداية للتساؤلات حول الثورة ‏البلشفية، إن لم ‏نقل الانتقادات الموجّهة إلى هذه الثورة، وذلك من أجل تبيان أن نقل الثورة من ‏روسيا كما هي إلى ألمانيا ‏والنمسا متعذر، ولاسيما أن الحرب العالمية الأولى كانت أثارت ‏مسألة الأمة والقومية على أثر الخلافات ‏ضمن الحركة العمالية العالمية الناجمة عن الانتماءات ‏القومية للعمال في كل بلد على حدة، وضد البلد ‏الآخر المعادي لوطنه. ‏
‏                                                      تاسعاً: ماركسية واحدة أم ماركسيات؟
1/  هل تجوز برأيك صيغة الجمع بالماركسية، فيقال ماركسيات؟
‏***  هذا السؤال يستدرج جوابا عليه أطروحات كثيرة. منها تلك التي تقول إن هذا المصطلح ‏يشير إلى ‏أن جدول البحوث في مجال الماركسية واسع، بدءاً من ماركسية ماركس، إلى ‏ماركسية إنجلز برأي كل ‏الذين يرون أوجه خلاف ما بين إنجلز وماركس، ثم ماركسية روزا ‏لوكسبمورغ، فتروتسكي، وكاوتسكي، ‏وألتوسير، وماو تسي تونغ. فإذا ما أردنا أن نضع جدولا ‏لأبحاث هؤلاء جميعاً، كل على حدة، فإن صيغة ‏الجمع تظهر بصورة مؤقتة وعارضة. ‏
لكن مثل هذه الإجابة غير مرضية برأيي. وأنا اُفضِّل الحديث عن النظرية الماركسية التي تشبه ‏رحماً ‏يحمل في أحشائه أطفالا بتلقيح من عدد من الماركسيين. إنها البيت المشترك. ومن غير ‏المجدي أن تبحث ‏عن تناقضات ما بين هذه الماركسيات. وأنا كنتُ فنَّدت الآراء التي تبحث عن ‏تناقضات ما بين ماركس ‏وإنجلز لأن كل ما قدَّمه هذا الاثنان مكمِّل أحدهما للآخر. إنها متكاملان. ‏وكان كل منهما، وما يزال، ‏موضعا للانتقادات. فإنجلز على سبيل المثال، كان يعرف جيدا أنه ‏حتى على المستوى الثقافي لم يكن يحوز ‏على المستوى المدرسي الفلسفي لماركس. وكان ‏إنجلز يرفض بغضب أن يُلَقَّب بالدكتور، لأنه بخلاف ‏ماركس لم يحز يوما على هذا اللقب ‏المدرسي. ‏
والمهم هنا هو السياق التاريخي الذي يقود إلى ظهور هذه المفاهيم والعبارات بعينها وليس ‏غيرها. إن ‏السياق الذي ظهرت فيه عبارة الماركسيات بصيغة الجمع هو سياق الصعوبات التي ‏تواجهنا في مجال ‏الصراع الطبقي. فالماركسية بصيغة الجمع هي بمثابة ضمان يَكفَل، من جهة، ‏الموضوعية، ويُعين، من ‏جهة ثانية، على تجنُّب كل ما من شأنه إلحاق الأذى بهذا الماركسي أو ‏ذاك. إذ أن صفة الجمع هذه تَفتَح ‏المجال أمام التهرُّب من مواجهة الحقيقة. كأن تَفلَت أَنتَ دوما ‏من القبض عليك أو الإمساك بك. إن ‏الماركسيات هي صيغة للتهرب من تحمُّل المسؤولية. ‏
كلا، إن صيغة الجمع هذه مرفوضة. وإذا كان الكاثوليكي يَقبَل بالسيدة العذراء وبمحاكم ‏التفتيش على حد ‏سواء، فأنا اَقبل بالستالينية. بمعنى أني كماركسي أتحمَّل مسؤولية الستالينية ‏دون أن يتهرَّب تحت غطاء ‏صيغة الجمع، كما يتحمَّل الكاثوليكي مسؤولية محاكم التفتيش. هذا ‏وإن الكاثوليكية بصيغة الجمع ‏معدومة.
                    ‏
‏ 2/ ماهي أقوى أعمال الماركسية وأفكارها في عالمنا الراهن، البيان، رأس المال، فويرباخ، ‏انتي ‏دوهرنيك، إلخ.؟  وهل أنت تَعْتَبِر أن نمط الإنتاج الرأسمالي والإمبريالية ما بين  ‏الأمس   واليوم والغد هو ‏المقاربة الوحيدة الممكنة لفهم الرأسمالية وتغيير العالم. في الماركسية نقاط استدلال قوية، أو مفاهيم هي ‏أقرب إلى أدوات الإشارة منها إلى المقولات العقلانية، منها على سبيل المثال أُطروحات فويرباخ، وقيمة ‏العمل، ‏وصراع الطبقات، والمادية التاريخية، والدياليكتيك، وفائض القيمة، أَيٌ من هذه الدلالات التاريخية ‏ما تزال ‏حالة راهنة أكثر من غيرها؟ أو ما هي المحصِّلة إن صح التعبير من تاريخ الماركسية؟
‏***  تحليل نمط الإنتاج الرأسمالي هو اليوم الحالة الراهنة والملحة أكثر من غيرها إن صح ‏التعبير. إذ ‏أن هذا التحليل ينطوي على مقاربة مادية وجدلية للظروف السائدة في يومنا هذا، ‏وهي تَحمِل معها ‏مقاربة للتناقضات وموازين القوى. ففهمنا اليوم للعولمة، وإدراكنا لحقيقة ‏عالمنا الراهن، ممتنع ما لم يكن ‏على أُسس ماركسية. وإن الشغل الشاغل للاقتصاديين ‏البورجوازيين في الوقت الراهن هو تأويل ‏أُطروحات الليبراليين ليس غير. فالأُطروحات ‏الليبرالية لا تقدِّم حلولا نهائية لنمط الإنتاج الرأسمالي وتبقى، ‏غير مفهومة طالما هي تعالِج ‏الاقتصاد بصورة مستمرة من أجل إيجاد حلول يومية للنظام الرأسمالي الذي ‏يلهث دوما، وهو ‏بحاجة يوميا إلى تصحيح أو تعديل أو ملاءمة وضبط. والليبرالية التي ليس لها من ‏النظرية ‏سوى الاسم عاجزة عن تغيير طبيعة النظام الرأسمالي الذي يجتاز حالة من الأزمة ‏المستمرة ‏واليومية. ‏
إن دراسة عمل التناقضات في وقتنا الراهن تُفيد بأن ما هو مشترك بيننا وبين ماركس هو أن ‏قاعدة ‏علاقات الإنتاج الرأسمالية، وإن كانت خَضَعَت للتغيير، إلا أنها واحدة لم تتغير، وإن كانت ‏أصبحت ‏اليوم أكثر خطورة مما كانت عليه في نهاية القرن التاسع عشر. ذلك أن الرأسمالية ‏خلال مائة وخمسين ‏عاما من التاريخ قد عزَّزَت من سيطرتها على السوق، وكافة أشكال وأنماط ‏الحياة في المجتمع، حتى أن ‏الحيز الضيق للحريات السياسية والثقافية التي كانت متوفرة إلى ‏حد ما لدى البورجوازية في ماضيها لم ‏يبق منه أي أثر. إن السياسة والثقافة أصبحت خيوطا ‏وحبالا في شبكات الرأسمالية التي حوَّلت ‏موضوعات الثقافة وموادها إلى بضاعة. ‏لقد ولَّى زمان الالتزام، وحل محله ثقافة المنشآت أو ثقافة ‏الإشتابليتمن. ‏
‏-/  أما من حيث الدياليكتيك، فإن موازين القوى هي التي تَقفز إلى مقدِّمة الفكر عندما نتحدَّث عن ‏فلسطين ‏والإمبريالية. إن سمير أمين يُعلِّق أهمية قصوى في أغلب الأحيان على التمايز ما بين ‏الأميرياليات. وأنا ‏أختلف معه حول هذه النقطة. فما بين الإمبرياليتين اليابانية والبريطانية ‏تعارض ما، وإن الإمبريالية ‏الفرنسية تعارض الإمبريالية الأمريكية، إلا أن إمبريالية واحدة هي ‏المسيطرة في سياقنا التاريخي الراهن، ‏وهي الأمريكية، أما غيرها من الإمبرياليات فليست ‏سوى إمبرياليات تابعة ومأمورة. إنها تابعة للإمبريالية ‏الأمريكية التي تملي على سواها ‏إرادتها، وترغمها على تنفيذ ما تأمرها به. فالتلاقي ما بين الإمبرياليات ‏الثلاث يفوق خلافاتها، ‏ولا سيما عندما تندلع أزمة عالمية، اقتصادية أو غيرها. هي هنا تتِّحِد لمواجهة ‏المشكلة سوية. ‏وإن التعارض ما بينها لا يُخفي وحدتها. فالأمبريالة في نهاية التحليل واحدة. وأنا أعتقد ‏أن ما ‏يميِّز العولمة هو أن الإمبريالية الأمريكية مسيطِرَة، والإمبريالتين الأخريين مُسَيْطَر عليهما. أي ‏أنها ‏نقاط استناد ودعم. فهي تَفتَقر إلى قوة الإمبريالية الأمريكية. والتعارض ما بينها موجود. ‏إلا أن الإمبريالية ‏الأمريكية هي التي تفرض قانونها على الأخريين عندما يَظهَر تهديد. ‏
‏-/ نعم، إن هذه التناقضات قابلة أيضا للتغيير خلال السنوات المقبلة، كأن نواجه على سبيل المثال ‏في ‏المستقبل إمبريالية صينية. ‏
وانطلاقا من هذا التحليل المادي لنمط الإنتاج الرأسمالي تنبثق المادية التاريخية، وما ‏الدياليكتيك سوى ‏أشكالٍ من صراع الطبقات. وهذا التحليل المادي لنمط الإنتاج الرأسمالي هو ‏الأساس في يومنا هذا.‏

‏3/ هل هذا يعود بنا إلى  "قراءة رأس المال"؟
‏***  نعم. علما أن لرأس المال حدوده طالما تحوَّلت الرأسمالية تحوُّلا كاملا حتى أصبحت ‏عولمة. بيد أن ‏ما تحوَّل هو الرأسمالية، وليس قاعدتها، أي أن نمط الإنتاج، من حيث مكوِّناته ‏وقواه وعلاقاته وأدواته، ‏ما يزال المقاربة الوحيدة الممكنة لفهم الرأسمالية ودحضها، إذ أن ‏علاقات الإنتاج ما تزال هي نفسها لم ‏تتغيَّر، وعلاقات الاستغلال ما تزال هي نفسها لم تتغيَّر. ‏وعندما نتحدّث عن التراكم البدائي لرأس المال، ‏فإن مثال الصين والهند هو أفضل مثال أمامنا. ‏إن هذا التراكم ماثل اليوم في استغلال رأس المال لأفريقيا.  ‏وإن السيطرة من النمط الكولونيالي ‏على أمريكا اللاتينية والعالم العربي في عصرنا، هي نفسها ‏الكولونيالية كما عرَّف بها ماركس. ‏
إن الاقتصاديين البورجوازيين عندما يزعمون أن ماركس قد مضى عليه الزمان وتهافت، فإنهم ‏يَجهلون ‏أن الاقتصاديين في النظام الرأسمالي يبنون نظريات في منتهى الدقة والكمال في ‏دفاترهم وأوراقهم، إلا ‏أن هذه النظريات لا تمت بأية صلة للواقع، وذلك على غرار علماء ‏الرياضيات الذين يبتكرون معادلات لا ‏يفيد منها العلم في شيء. ‏

‏4/   ألا تعتقد أن العولمة ستذوِّب الإمبرياليات التابعة في إمبريالية واحدة؟ ‏
‏*** نعم، سمير أمين محقٌّ عندما يتحدث عن الثالوث، أي الحتمية التي تَجمع ما بين الولايات ‏المتحدة ‏الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان. هؤلاء هم الذين يحكمون العالم حاليا، وعلى ‏رأسهم الولايات ‏المتحدة. إنهم موحَّدون كلما واجهوا خطرا مشتركا. أما المنازعات في ما ‏بينهم، فإنها تَظهر في الحياة ‏اليومية. وهي سوف تزول رويداً رويداً تحت تأثير عروض الشراء ‏التي اخترقت الحدود الوطنية ‏ووضعت كل المجموعات الاقتصادية عرضة للشراء والبيع في ما ‏بينها. إن 60 بالمائة من شركات سوق ‏الأسهم في باريس، حسب تأشيرة سوق الأسهم، ‏أَجنبية، ورأس مال غير فرنسي. ويملك رأس المال ‏الفرنسي والألماني حصة كبيرة في بعض ‏كبريات المجموعات الأمريكية. وتشير الشركات المتعدِّدة ‏الجنسيات إلى أن الاتجاه العام لرأس ‏المال في العالم يتَّجه نحو التمركز في مجالات الاقتصاد والصناعة ‏والزراعة. وعلى سبيل المثال ‏فإن مجموعة بينيتون ‏
Benetton‏ اشترت حوالي مليون هكتار مربع في ‏الأرجنتين، وتملك ‏قطيعا من المواشي لا يُحصى، وَوَضَعت يدها على صناعة الصوف. ‏

‏5/  ألا يُسجِّل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي انتُخِب في أيار/مايو من العام 2007 ‏حالة قطيعة ‏مع الرأسمالية الفرنسية التقليدية ممثّلة بالرئيس السابق  جاك شيراك. ألا يُمَثِّل ‏الرئيس نيقولا ساركوزي ‏الليبرالية الفرنسية وهي آيلة إلى الذوبان في العولمة؟ ألم يصفّي ‏حساباته مع رأسمالية الرئيس جاك ‏شيراك والجنرال شارل ديغول؟
‏***  لا شك أبداً في ذلك في ما يتعلق بالسياسة الدولية، أما على الصعيد الاقتصادي فإن المسألة ‏أكثر ‏تعقيدا لأن الاقتصاد الفرنسي قومي إلى حد ما. فنقابة أرباب العمل مُؤَلَّفَة من قيادات ‏اقتصادية تدافع عن ‏المصالح الفرنسية عندما تشارك مع مجموعات أجنبية. وسواء أكان الأمر ‏يتعلق بالبيع أو الشراء، فإن ‏المعيار الفرنسي له وزنه. وللتدليل على أن الدولة ما تزال تقف ‏في وجه اجتياح الليبرالية الجديدة لفرنسا ‏في عهد ساركوزي، فإن أرباب العمل يُعَوِّلون على ‏الدولة كي تمارس دورها في تحديد الأجور، وتجميد ‏أسعار العمل. وإن كانت السياسة ‏الاقتصادية للرئيس ساركوزي تريد التخلُّص من الدولة الراعية وإطلاق ‏الحرية أمام الرأسمالية ‏بدون قيود. ‏
‏6/   النيوليبرالية الفرنسية بقيادة الرئيس ساركوزي تريد تحرير الأجور من قيود الدولة. وقد ‏تَرَكَت ‏تحديد الأجور للمفاوضات ما بين العمال وأرباب العمل. ‏
‏***  صحيح أن النيوليبرالية الفرنسية تَقطَع اليوم خطوة نحو تحرير الأجور من قيود الدولة. ‏إلا أن ‏الأهم هو تخاذل الكونفدرالية العامة للعمال ‏
CGT‏ التي كانت قدَّمت تنازلات حتى قبل أن ‏تبدأ حركة ‏الإضراب في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي من العام 2007. الأمر الذي يَحمِل على ‏الاعتقاد بأن ‏حالة من التواطؤ بين نقابة العمال وأرباب العمل قد فّعَلَت فعلها. وكان كُشف النقاب ‏في نهاية العام الماضي ‏‏2007 عبر تسرُّب المعلومات السرية عن اختفاء عشرات ملايين ‏اليورو من الصندوق المالي الأسود ‏لأرباب عمل الصناعات المعدنية، والتي وُزِّعَت على نواب ‏البرلمان ونقابات العمال. وكان الرئيس ‏ساركوزي أكِّد في أعقاب اكتشاف هذه الفضيحة أنه لا ‏يخشى نقابات العمال. الأمر الذي يُدلِّل بأنه يمسك ‏ببعض النقابيين القيادييين. ولنذكر بالتشديد ‏أن العمال في جمعياتهم العامة خلال حركة الإضراب في ‏تشرين الثاني/ نوفمبر، كانوا استقبلوا ‏رئيس الكونفدرالية العامة للعمال سي. جي. تي. بيرنارد تيبو ‏بالصفير لأنه كان من أنصار وقف ‏الإضراب.  وهذا الأخير، على نقيض اليسار الجذري المعادي ‏للنيوليرالية، أيَّد مشروع الدستور ‏الأوروبي. إن النقابات والأحزاب أصبحت كما كان يقول ألتوسير جزءاً ‏لا يتجزأ من أجهزة ‏الدولة وأدواتها. ‏
 

 رابط مقالة ثانية بعنوان:
  في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم
                                حوار مع جورج لابيكا
                         أجرى الحوار ومهد له حسان خالد شاتيلا

                                     الفصل الثاني 
                            الماركسـية هـي الـرد الوحـيد
                               لتغــيير عـالمـنا الـيوم



ليست هناك تعليقات: