الخميس، 22 نوفمبر 2018

العلم والفلسفة: أيُّ علاقة؟؛ إدغار موران.




العلم و الفلسفة: أيُّ علاقة؟
– إدغار موران / ترجمة: محمد نجيب فرطميسي



اهتزت فكرة الحقيقة أمام وقائع أثبتها العلماء. فهل بإمكان الفلسفة مساعدة العلم على حل هذه التناقضات؟
في الوقت الذي شيد فيه قرننا هذا ( القرن العشرون) صرحا رهيبا من المعارف، يغوص وبشكل مذهل في أزمة أسس المعرفة. لقد بدأت الأزمة في الفلسفة. إذ بقدر ما ظلت الفلسفة الحديثة تعددية في موضوعاتها ومشكلاتها، بقدر ما انتعشت بفضل جدل بين البحث عن أساس يقيني للمعرفة، والعودة المستمرة لشبح اللايقين. كانت أزمة الأسس بمثابة الحدث المفتاح للقرن العشرين. فبعد أن سحب النقد الكانطي من ملكة الفهم إمكانية إدراك الأشياء في ذاتها. أعلن نيتشه، بكيفية مغايرة تماما، حتمية النزعة العدمية، ووضع هيدجر، مسألة أساس الأسس، أي طبيعة الكائن، موضع تساؤل. نذرت الفلسفة المعاصرة نفسها، من الآن فصاعدا، لتقويض معمم، ولتجذير تساؤل يضفي النسبية على كل المعارف، بدل تشييد أنساق على أسس متينة.
لم يكُف العلم، على العكس من ذلك، طيلة القرن التاسع عشر، ومع مطلع القرن العشرين، عن البرهنة على أنه عثر على الأساس التجريبي ـ المنطقي لكل حقيقة. يبدو أن نظريات العلم  هذه تجيء من الواقع ذاته، عن طريق الاستقراء الذي يقر بالتحققات / الإثباتات التجريبية بوصفها أدلة منطقية، ويرفعها الى مرتبة القوانين العامة.  يبدو في نفس الآن، أن الدعامة  المنطقية ـ الرياضية الضامنة للتماسك الداخلي للنظريات المتحقق منها، إنما تعكس بنيات الواقع ذاته. في هذه الشروط بالضبط، تعهد فريق من الفلاسفة والعلماء الراغبين في الخلاص نهائيا من الثرثرة المتكلفة والاعتباطية للميتافيزيقا، من أجل تحويل الفلسفة الى علم، و ذلك بتأسيس كل قضاياها على منطوقات متماسكة، وقابلة للتحقق. هكذا إذن ادعت جماعة فيينا أنها أسست اليقين الفكري على الوضعية المنطقية، كما تزامن العمل الذي باشره فتجنشتاين  Wittgenstein على مستوى اللغة، ودافيد هيلبرت على مستوى الصياغة الأكسيومية للنظريات العلمية، مع ما قامت جماعة فيينا.
لقد بدا، والحالة هذه، أن تنقية الفكر من كافة الشوائب، وضروب البداءة، هو محض وهم. فعلا لقد  برهن كارل بوبرK. Popper    أن التحقق  verification  laلا يكفي للتأكد من حقيقة نظرية علمية. وكشف، عندما قام بقلب فكرة الوضوح الظاهري الذي تكتسي بموجبه النظرية العلمية طابع اليقين، أن علمية نظرية ما تكمن في قابليتها للدحضla refutabilité .
ونبقى في سياق منظور كارل بوبر لنقول  إن ذلك الأمر يصح أيضا بالنسبة لفكرة كون المنطق الاستنباطي يمتلك قيمة حاسمة في البرهان وأساسا للحقيقة غير قابل للدحض. والحال أن هذا الصرح المنطقي ذاته بدا أنه غير كاف. هناك من جهة إنجازات الميكروفيزياء التي لامست نموذجا من الواقع ينهار أمامه مبدأ عدم التناقض؛ ومن جهة ثانية، أقامت مبرهنة   Gödel غوديل اللايقين المنطقي داخل الأنظمة الصورية المركبة. آنذاك، لم يعد التحقق التجريبي، ولا التحقق المنطقي كافيين لتشييد أساس يقيني للمعرفة.
انحل، في نفس الوقت، الجوهر المحدّد والمميز للواقع في معادلات الفيزياء الكوانطية، وأخلى النظام الكوني المكان لنظام غامض وملتبس. فبدا الكون أخيراً كما لو أنه ثمرة انشطار خارق ومثير، وكأنما خضعت صيرورته لتبديد وحيد الاتجاه. هذا بالرغم من أن كل انجازات المعرفة تقربنا من ذلك المجهول الذي يتحدى مفاهيمنا ومنطقنا وذكاءنا. فتنضاف بذلك أزمة أسس المعرفة العلمية الى أزمة المعرفة الفلسفية، حيث يلتقيان معا حول الأزمة الأنطولوجية للواقع، مما يجعلنا نواجه ” مشكلة المشاكل…أي أزمة أسس الفكر” ( بيير كورنير P. Cornaire).
في الواقع، مهما تجددت وتنوعت البحوث المتعلقة بالمعرفة العلمية، فإنها تجد نفسها أمام المشكل كما طرحه إيمانويل كانط، ومن خلاله، المشكل الفلسفي الكلاسيكي حول علاقة الجسد والنفس. هكذا نجد أنفسنا على أرضية علمية من دون التخلي عن التساؤل الفلسفي. لا يتعلق الأمر بتقاسم لتلك الأرضية العلمية، أو بالمحافظة على منطقة منيعة تخص الفلسفة وحدها. إذ لا وجود لحدود طبيعية بينهما. فضلا عن ذلك فإن العصر الذهبي لازدهار الفلسفة  وميلاد العلم، كان، بحق، هو عصر الفلاسفة العلماء أمثال جاليلي وديكارت وباسكال وليبتنز. ومهما بدا اليوم أن العلم والفلسفة منفصلان، فإنهما يصدران عن نفس التقليد النقدي، الذي لا غنى عن استمراريته و دوامه لحياة كل منهما. زيادة على ذلك، وحتى بعد انفصالهما، فقد عبّر الفلاسفة دائما عن تلك الرغبة في أن تغدو الفلسفة ” معرفة المعرفة العلمية، وعيها بذاتها ” .(كارل بوبر)
إن مشكلة العلم، كموضوع للتفكير الفلسفي، تُطرح أكثر من أي وقت مضى، ذلك أن العلم بما هو كذلك، إشكالي. إن شئت قلت، إن العلم سلطة معقدة، شكل متميز وراق من العقلانية، لكنه لا يدمج الذات المفكرة، إنه يجعل الملاحظ  هو المشيد للمفاهيم. حاول إيدموند هوسرل  E. Husserl جاداً تبيان كيف أن ” أزمة العلوم الاوربية ” تعبر بعمق  عن أزمة احتجاب الذات المنتجة للعلم. وحدها العودة التأملية الى وضعية العلم، تتيح، في نظره، تبيان الأزمة التي تتمظهر كذلك في المجال السياسي. تتمثل الفكرة الأساسية عند هوسرل، في عدم اكتراث العلماء أثناء مسعاهم العلمي بذاتيتهم الخاصة وتأثيرها على عملهم. بعبارة أخرى، إن من ننعتهم بالعلماء يفرغون العلم من فاعليه الحقيقيين، ومن سياقه الانساني.
إن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه باستمرار، على موضوع الحقيقة العلمية، هو: هل تنفلت القوانين والاكتشافات والموضوعية التي يضمنها العلم، من الشروط التارخية والاجتماعية والسيكولوجية الحاضرة وقت ظهورها، أم إنها تظل سجينة تلك الشروط؟ لقد بيّن  مفكرون أمثال كارل بوبر وتوماس كوهن  Th. Kuhn وجيرار هولتون، وإسمير لاكاتوس، أن ثمة مسلمات غير معللة موجودة طي النظريات العلمية، بل الأدهى من ذلك، أن هناك ” تيمات” بمثابة أفكار استحواذية قبلية، تحرك ذهن العلماء، شأن الحتمية عند إنشتاين، واللاحتمية عند نيلز بور Niels Bohrs . لقد كشف توماس كوهن عن وجود براديغمات paradigmes، أو مبادىء خفية تتحكم في المعرفة و تسمح بتنظيمها.
إن العلم يمشي على أربعة قوائم: التجريبية، والعقلانية، والتخيل، والتحقق. هكذا يغدو بعض العلماء عقلانيين أكثر، وآخرين تجريبيين، ومن هم سواهم تخيليين أو مسكونين بقابلة التحقق. إن هذه القوائم الأربعة متكاملة، بالرغم من كونها عرضيا متصارعة، وهو صراع تتغذى منه حيوية العلم. إن العلم ينتج نفسه بنفسه. وهو لا يفعل ذلك في مجال مغلق، بل ضمن شروط تاريخية مضبوطة ودقيقة؛ إن استقلالية العلم لا تنفصل عن عملية التجديد المستمرة التي يقوم بها، في الآن نفسه، في مواجهة النزعات الدوغمائية، والتخصصية المفرطة. أكيد أن العلم يفرز، في نفس الآن، العماء و الوضوح. لكن علينا أن نعرف كيفية مقاومة الاصلاح المضاد، في كل قضية شبيهة بقضية سوكال Sokal ، والهادفة الى إقامة مرتبة رفيعة للعلم، متعلقة قطعاً بالمؤسسة الانضباطية التقليدية، جاعلة من العلم حصنا منيعا عن الجهل بأصوله.
لكل مواطن الحق في المعرفة، وبالتالي فإن المشكلات الأساسية للنظريات العلمية الكبرى، والأفكار الثاوية طيّها، قابلة للتداول، ولا يجب أن تبقى ـ بأي حال ـ وقفا على العلماء وحدهم. إن علماء أمثال إيليا بريجوجين I. Prigogine وريفز  H. Reevesودي إسبانيا  وفرانسوا جاكوب … يبذلون جهذا لإشراكنا معارفهم، وهم بعملهم هذا يشخصون دور مفكري النزعة الانسانية  إبان عصر النهضةles humanistes .
هناك إذن في الحالة الراهنة، قصورالفلسفة وحدها، وعدم كفاية العلم وحده لإقامة المعرفة. ونظرا لتعقد المشكلات التي تثيرها هذه المعرفة، فلن نعمل على صياغة ميتا ـ علم، أو ميتا ـ فلسفة، بل سنناضل بالأحرى ضد كل فلسفة مصابة بفقر الدم، وضد كل علم بدون ضمير1. إن كان النشاط الفلسفي يمد العلم بالتفكير الضروري الذي يحتاجه، فإن النشاط العلمي يغذي الفلسفة بالمعرفة. عندئذ يكون بوسع العلم والفلسفة الدخول في حوار كوجهين مختلفين، ومتكاملين لعُملة واحدة هي: الفكر



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ يحيل إدغار موران على كتابه « Science sans conscience »
المصدر:Les grandes questions de la philosophie.
Le Nouvel Observateur. Hors série. Mars 1998


ليست هناك تعليقات: