الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

في العقل؛ محمد الحجيري.




في العقل.
محمد الحجيري


يبدو مفهوم العقل أحياناً شديد الوضوح وبديهياً لا يحتاج إلى أي إيضاح.
ويبدو أحياناً أخرى بالغ الغموض والالتباس.

قرأت مرةً أن كلمة "عقل" في العربية تعود إلى "عَقَلَ". نقول عقَل الناقة، أي ربط إحدى قوائمها، وضبط حركتها. وكذلك فدور العقل ضبط حركة التفكير ومنعه من "الشطح".
في الفرنسية يشترك "العقل" مع السبب في كلمة واحدة. فيكون العقل ضابطاً للتفكير وملزماً له بربط الأحداث بأسبابها. أي تفلّتٍ من هذا الربط سيجعل التفكير لوحةً من العبث السوريالي.

وبهذا المعنى، فإن العقل كان حاضراً على الدوام على الأرجح. فكل ما وصلنا من نصوص الحضارات القديمة كان يعتمد على نوعٍ من ربط الأحداث بأسبابها التي غالباً ما كانت فوطبيعية، كانت الآلهة ونزاعاتها هي سبب الأحداث الأول.
فهل يصح لنا تسمية تلك الآلية في التفكير و"العقلنة" بالعقلنة الميثولوجية، الناجمة عن عمل "العقل الميثولوجي"؟
وصولاً إلى العقلانية الوضعية أو العقل الوضعي الذي يبحث عن أسباب الظاهرة الطبيعية في الطبيعة نفسها كما يقول أوغست كونت.
ودائماً كان دور العقل قائماً في البحث عن أسباب تربط الظاهرة بأسبابها.
فهل يوصل "العقل" إلى "الحقيقة"؟
وأيُّ عقلٍ هو الذي يوصل إلى ذلك؟
هل يحق لنا الادعاء بأن ما توصلنا إليه هو "نهاية تاريخ العقل"؟

ولمّا جاء هيوم ليقول بأن فرضية ربط الأحداث بأسبابها هي فرضيةٌ لا يمكن إثباتها أو البرهان عليها، فهل يكون بذلك قد قضى على طموح الربط بين العقل والحقيقة؟
وهل عمل هيوم هو عمل "عقليّ"؟ وبذلك نضيف إلى مهمة العقل، التي كانت الربط بين الظاهرة وسببها، مهمةً جديدة هي مهمة النقد؟
وما هي مهمة العقل الناقد، وما هي شروطه، وما هي حظوظه من الشرعية؟
بأية آليةٍ يحكم العقل على مدى عقلانية أيِّ نشاطٍ ذهنيّ؟

سؤال آخر: هل حقاً أن للعقل شروطه التارخية، ولا شيء ثابت ومقبول إلا في ظروفه التاريخية؟
هل القول بأن الكل أكبر من الجزء، يمكن أن يثبت خطؤه في يومٍ ما أو في مرحلةٍ تاريخية قادمة؟
وكذلك النظريات الرياضية. فهل يأتي يومٌ لنتبيّن بأن مجموع زوايا المربع لا تساوي 360 درجة؟ داخل النسق الإقليدي وبعيداً عن الهندسات اللاإقليدية.
أم إن هذه "الحقائق" الخالدة، ما هي خالدةٌ إلا لأنها لا تقول شيئاً، أو لأنها لا تقول جديداً، إن هي إلا نوعٌ من التضمين؟
وأقصد بذلك أننا حين نقول بأن الكل أكبر من الجزء فنحن لم نقل إلا تعريفات: فالكل هو الجزء مضافٌ إليه شيءٌ آخر أو جزءٌ آخر.. وبالتالي فنحن لم نقل ما هو جديد.
وكل ما نقوله في الرياضيات يعود إلى نفس النمط من الربط. كل النظريات الرياضية هي توضيح لما كان كامناً ومتضمَّناً منذ البداية.
فزوايا المربع تساوي 360 درجة، لأن المربع عبارة عن مثلثين. وكل البراهين الرياضية ما هي إلا حالاتٌ مشابهة وإن كانت أكثر تعقيداً، لكنها في كل الحالات لا تسعى إلا إلى توضيح ما كان موجوداً بشكلٍ مضمر منذ البداية.

ماذا عن مآلات العقل؟
هل العقل يكون تالياً هذا الميل الفطري إلى الربط وإيجاد العلاقات بين أشياء العالم. وهل مساره هو هذا المسار الذي يحسّن شروط هذا الربط وأشكاله من خلال اكتشاف أخطاء الطرائق القديمة في الربط، لكنه بالتالي هو هذا الإصرار على وجود روابط يفترضها ويخلقها لأنه ابن العادة وآلية ناتجة عن إطراد الظواهر؟
ودائماً يبقى السؤال: ما علاقة العقل بالحقيقة؟

محمد الحجيري
20/11/2018


ليست هناك تعليقات: