الخميس، 22 نوفمبر 2018

العقل بين القول بالفطرة أو الاكتساب، وبعض ما يترتب على ذلك؛ عديّ الزعبي.



العقل بين القول بالفطرة أو الاكتساب، وبعض ما يترتب على ذلك
(من مقالة لـ عديّ الزعبي)


قاد تشومسكي ما عُرف باسم الثورة الإدراكية في العالم الأنغلو-سكسوني في خمسينات القرن العشرين، وتتلخّص هذه الثورة فيما يلي: لفهم سلوك الكائن البشري، وتحديداً اللغوي، عليك أن تنظر إلى العقل البشري وكيفية عمله، بدلاً من النظر إلى المحيط الاجتماعي والبيئة التي يعيش فيها الفرد.
لماذا شكّلت هذه الفكرة البسيطة ثورة في تاريخ الفلسفة؟
يكمن الجواب في تارخ الفلسفة الغربية. يتمحور تاريخ هذه الفلسفة، منذ القرن السابع عشر، حول صراع التجريبيين والعقلانيين المتعلّق بالإجابة عن السؤال التالي: هل المعرفة البشرية مكتسبة من خلال التجربة أم فطرية؟ قال التجريبيون بأن المعرفة تأتي عن طريق الخبرة والتجربة؛ في حين قال العقلانيون إنها فطرية، غير مكتسبة، وإن جميع الناس يشتركون، بالولادة، بمجموعة معارف ثابتة.
منذ منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، سيطرت التجريبية بشكل شبه كامل. أتت ثورة تشومسكي في اللسانيات لتبعث العقلانية من جديد. لأكثر من خمسين سنة، دافع تشومسكي عن أطروحته البسيطة القائلة بأن قواعد اللغة معطاة بيولوجياً، فطرياً، لجميع البشر، وأن هذه القواعد التوليدية العامة تشترك فيها جميع اللغات البشرية. اليوم، في علم اللغة، يرى الباحثون أن تشومسكي وخلفاءه قد ربحوا المعركة. لم يعد أحد تقريباً يؤمن بأن معرفة اللغة مكتسبة فقط عن طريق التجربة، في العالم الأنغلو-سكسوني على الأقل.
علينا أن نسجّل ملاحظتين لتفادي أي سوء فهم:
أولاً، تستخدم كلمة عقلاني بمعنيَين، معنى فضفاض ومعنى فلسفي تقني. المعنى الفضاض يُستخدم لوصف كل من يتبع العقل ويرفض الخرافات، أما بالمعنى التقني فتعني القول بوجود معرفة فطرية موجودة في العقل. كل التجريبيين كانوا عقلانيين بالمعنى الفضفاض، وحاربوا الخرافات بجسارة منقطعة النظير. يميل البعض اليوم إلى استخدام كلمة «الفطريين» بدلاً من العقلانيين لتفادي سوء الفهم هذا.
ثانياً، يرى العقلانيون بالطبع أن جزءاً كبيراً من المعرفة يُكتسب عن طرق الخبرة والتجربة، ولكنّهم يُصرّون على أن بعض المعرفة يجب أن تكون فطرية. حجم وطبيعة هذه المعرفة الفطرية، وماهيّتها بالضبط، هي السؤال الذي تحاول الفلسفة، وبقية علوم العقل، الإجابة عنه اليوم. في المقابل، يرى التجريبيون الراديكاليون أن لا معرفة فطرية على الإطلاق.
بالنتيجة، نستطيع اختصار أحد أهم أوجه تاريخ الفلسفة، وتاريخ علم اللغة، بهذا الصراع.
لماذا كان لهذا الصراع أهمية فائقة في التاريخ؟
السبب أن الجواب عن أصول المعرفة البشرية يؤثر في كافة أشكال فهم الكائن البشري، وفي كافة فروع العلوم الإنسانية. على سبيل المثال، إن كان للبشر طبيعة مشتركة فطرية، سيؤدي ذلك إلى تغيير جذري لفهمنا لعلاقة الثقافات المختلفة في عصرنا: لو صحّ أن هناك معرفة بشرية مشتركة فطرية، لكانت معظم الاختلافات التي نراها بين الثقافات المختلفة سطحية. في العمق، هناك ثقافة بشرية واحدة، لها تنويعات مختلفة؛ كما أن هناك لغة بشرية واحدة، لها تنويعات مختلفة.

ليست هناك تعليقات: