الجمعة، 30 نوفمبر 2018

عن القبلية التركيبية عند إيمانويل كانط؛ محمود فهمي زيدان.



كانط: المعرفة بين التصورات القبلية والانطباعات الحسّية


قرر ليبنتز أن وظيفة التصورات [القبليّة] إنما هي تمكيننا من معرفة عالمٍ معقول.
قرر هيوم أن ليس لدينا تصورات قبلية، وأن ليس لدينا سبيل لمعرفة ما إذا كان هناك عالم معقول؛ لدينا انطباعات حسّية وما ينشأ عنها من تصورات تجريبية، وأن هذه الانطباعات والتصورات كافيةٌ لكي نعرف العالم المحسوس.
رأى كانط أنه قد أصاب كلٌّ من ليبنتز وهيوم في جانبٍ من نظريته، لكنه رأى أيضاً أن كلاً منهما قد أخطأ في جانبٍ آخر.
أصاب لايبنتز في أن لدينا تصورات قبلية لكنه أخطأ في أن وظيفتها تمكيننا من معرفة عالمٍ معقول.
أصاب هيوم في أن ليس لدينا معرفةٌ بعالم معقول وفي أن معرفتنا محدودة بالعالم المحسوس، لكنه أخطأ في تقرير أن الانطباعات الحسية والتصورات التجريبية كافيةٌ لتمكيننا من معرفة العالم المحسوس.
رأى كانط أن ليس لدينا معرفةٌ بالعالم المعقول وأن معرفتنا محدودةٌ بعالم الظواهر، ولكن لكي نعرف هذا العالم يلزم أن تتعاون الانطباعات الحسّية والتصورات القبلية وأن المجال الوحيد لهذه التصورات هو عالم الظاهرات.

(محمود فهمي زيدان؛ كانط وفلسفته النقدية؛ ص 53)


هل هنالك من فرقٍ بين القضيّة التحليلية والقضيّة القبليّة؟
ظن بعض الفلاسفة أن كلَّ قضيّةٍ تحليليّة إنما هي قبلية، وكل قضيّة قبلية إنما هي تحليلية. لكن العبارتين ليستا دائماً مترادفتين.
 للقضية التحليليّة معنيان متمايزان:
1ـ لا تعطي معرفةً جديدةً أكثر من تحليل الموضوع.
2ـ لا يمكن إنكارُها دون وقوعٍ في التناقض.
للقضيّة القبليّة معنيان متمايزان:
1ـ ما ليست مستمَدّة من الخبرة الحسّية.
2ـ ما تكون ضروريّة كلّية ومن ثمّ يترتّب على إنكارها صعوباتٌ أبستمولوجية في نظر كانط والفلاسفة العقليين. لكن لا يترتّب على إنارها وقوعٌ في التناقض.
نرى من التعريفات السابقة أن بين القضيّة التحليليّة والقبليّة رابطةً هي عدم الالتجاء إلى الخبرة الحسّية، لكنهما مختلفان من حيثُ أن التحليليّة ضرورتَها منطقيّة، بينما ضرورةُ القبليّة أبستمولوجية.
ينتج عن ذلك أن "كل جسمٍ ممتدٌّ" قضيّةٌ تحليليّة بالمعنى الأول والثاني، وقبليّة بالمعنى الأول، لكنها ليست قبليّة بالمعنى الثاني، ومن ثمّ نقول بيقين أن كل جسمٍ ممتدٌّ قضيةً تحليليّةً لكنا نخطئ إذا قلنا أنها أيضاً قبلية إلا بمعنى أنها مستقلّةٌ عن الخبرة الحسّية.
رأى بعض الفلاسفةِ مثل أرسطو وديكارت أن "لكل حادثةٍ علّةً" قضيةٌ تحليليّة، ولكن يتبيّن مما سبق أنها ليست تحليليّةً بالمعنى الأول أو المعنى الثاني [لا بالمعنى الأول ولا بالمعنى الثاني]: تصوّر المعلول ليس متضمَّناً في تصوّر العلّة، كما أن إنكار العلّية ممكن من الناحية المنطقيّة، ومن ثم ليست هذه القضيّة قبلية بالمعنى الثاني. هل هي قبليّة بالمعنى الأول، أي ليست مستمدّة من الخبرة؟ يجيب بعض الفلاسفة بالإيجاب مثل أرسطو وديكارت وليبنتز ولوك وكانط، ويجيب بعض الفلاسفة بالنفي مثل هيوم. ومن ثم الاضطراب والخلط بين معاني التحليليّة والقبليّة. يتبيّن هذا الاضطراب بصورةٍ واضحةٍ في فلسفة ليبنتز؛ يرى هذا أن براهينه على وجود الله وعلى وجود المونادات وما يعطيها من خصائص تتضمّن قضايا تحليليّة قبليّة. لكنها ليست كذلك، ليست براهينُه تحليليّةً بالمعنى الأول لأنها تضيف جديداً إلى معاني الكلمات وليست تحليلية بالعنى الثاني لأنه يمكن إنكارها دون وقوعٍ في التناقض، ومن ثم قبلية بالمعنى الثاني وهي أيضاً قبلية بالمعنى الأول، لأنها ليست مستمدّة من الخبرة الحسّية. نقول بيقين أن براهين ليبنتز قبليّة لكنها ليست تحليليّة.


الأحكام التركيبيّة القبليّة:
من تمييز الأحكام إلى قبليّة وبعديّة، من جهة الاستقلال عن الخبرة الحسّية، أو الاعتماد عليها؛ ومن تمييز الأحكام إلى تحليليّة وتركيبيّة، من جهة تضمّن المحمول في الموضوع أو خروجه عنه، يصل كانط إلى تقسيم رباعي للأحكام:
أحكام تحليليّة قبليّة، وتحليليّة بعديّة، وتركيبيّة بعديّة، وتركيبيّة قبليّة.
هنالك قضايا تحليليّة قبليّة (قبليّة بالمعنى الأول فقط)، مثل كل جسمٍ ممتدّ، لا توجد أحكام تحليليّة بعديّة، لأن في عبارة تحليلي بعدي تناقضاً، حيث أن ما نصل إليه من مجرد تحليل الموضوع لا يصدر عن خبرةٍ حسّية.
قد توجد أحكامٌ تركيبيّة بعديّة أي تنطوي على كسب معارف جديدة من الخبرة وحدها، لكن لا يرى كانط وجود مثل هذا النوع من الأحكام. الحكم التركيبي القبلي نوعٌ جديد من الأحكام يضيفُه كانط، لم يسبقه إليه أحد، ويُعتبر أساساً لبحثه الميتافيزيقي كلِّه. نقول عن قضيّةٍ أنها تركيبيّة قبليّة إذا كان محمولُها يضيف جديداً إلى تصوّر موضوعِها، لكنها في نفس الوقت مستقلةٌ استقلالاً منطقياً عن الخبرة الحسيّة. الحكم التركيبي القبلي بكلماتٍ أخرى في ضوء نظرية المعرفة الكانطية ـ حكم يضمّ عنصرين: عنصراً تجريبياً هو الحدوس الحسّية، وعنصراً يضيفُه العقل الفعّال وهو التصوّر [الأفهوم بحسب ترجمة موسى وهبه] القبلي.
يعلن كانط أن كل قضايا الرياضيّات وكل المبادئ التي تقوم عليها النظريات الفيزيائية التجريبية إنما هي قضايا تركيبيّة قبليّة. سنفصّل شرح كانط لمبادئ علم الفيزياء في ما بعد، نقول هنا كلمةً عن موقفِه من قضايا الرياضيات.
يخالف كانط جمهور علماء الرياضيات في قوله أن القضايا الرياضية تركيبيّة قبلية وليست تحليليّة قبليّة. لا خلاف على أن القضيّة الرياضيّة قبليّة بمعنى أنها ليست مشتقة من الخبرة، وأنها ضروريّة ضرورةً منطقيّة. لكن ينكر كانط أن القضيّة الرياضيّة تحليليّة بمعنى أن محمولَها متضمَّنٌ في تصوّر موضوعِها أو أن ليس محمولُها سوى تلحيلٍ لتصوّر الموضوع. يرى هو أنها قضيّةٌ تركيبيّة، ويمكن إيجاز رأيِه في العنصر التركيبي في القضيّة الرياضيّة في ما يلي: في القضيّة 7+5=12 نلاحظ أن 7+5 ليس محتوى في 12، وإنما ينطوي فقط على ربط العددين في عدد واحد دون أن نحدد في هذا الربط ما هو حاصل الجمع؛ لكي نحدد هذا العدد يجب أن نخرج من مجال التصوّرات إلى مجال الحدس [الحسّي]، كأن نقول خمسة أصابع أو خمس نقط مضافاً إليها سبع أصابع أو نقط. يلاحظ كانط أيضاً أن الجمع والإضافة عملية تتم في زمن. ففكرة العدّ وفكرة الزمن يؤلفان العنصر التأليفي في قضايا الحساب. ينبغي أن نلاحظ هنا أن حديث كانط بلغة العدّ بالأصابع أو النقط ليس إلا حديثاً تبسيطياً توضيحياً؛ والعنصر التركيبي في القضيّة الحسابيّة عنده هو ما يسمّيه الحدس الخالص. يضرب كانط أمثلة من الهندسة للتدليل على أن قضاياها ليست تحليلية فيقول إن "الخط المستقيم الواصل بين نقطيتين أقصر الخطوط بينهما" قضيةٌ تركيبيّة، ذلك لأن تصوّر المستقيم يتضمّن كيفاً لا كمّاً، وتصوّر المحمول يتضمّن كمّاً لا كيفاً، ومن ثم فالمحمول ليس مجرد تحليل لتصوّر الموضوع وإنما أضاف إليه شيئاً لم يكن به، والفضل في ذلك للحدس الخالص. (الحدس الخالص هنا هو المكان لا الزمن).
يلاحظ كانط أخيراً أن هنالك بعض قضايا أساسيّة يفترضها علم الهندسة، هي تحليليّة حقاً وتعتمد على مبدإ عدم التناقض، مثل "أ = أ"، الكل مساوٍ لنفسه، (أ + ب) أكبر من أ، لكن يضيف كانط أن هذه القضايا ليست مبادئ وإنما روابط منهجية ـ ومن حيث هي روابط، هي تبدو لنا في الحدس.
(محمود فهمي زيدان؛ كانط وفلسفته النظرية؛ ص 67، 68، 69).

ليست هناك تعليقات: