الجمعة، 18 مايو 2018

مسافةٌ للحرية بين الأنا والآخر؟!؛ موسى وهبه.


مسافةٌ للحرية بين الأنا والآخر؟!

موسى وهبه.

(عن صفحة الدكتور جمال نعيم)

نتأملُ في علاقة الأنا والآخر، مرةً باعتبار الواحد منهما فردًا، ومرةً باعتباره جماعةً. فنرى أنها علاقةٌ معقَّدةٌ متنوعةُ الأوجه والاحتمالات. ثم ّنفرض لهذه العلاقة حدودًا في المكان والزمان فنرى أنَّ اجتماعَ الواحدِ إلى الآخر يراوحُ بين حال الحرب وحال السلم، بين حال النّبذ وحال القبول وما يتخللها من أحوال متدرجة يمكن، من دون كبيرِ عسفٍ، توزيعها على النحو التالي:
1- أوانُ الاقتتال والصراع حتى الموت أو الاستتباع. وهو الأوان الطبيعي الأول لأنّه الأقربُ إلى غريزة الحياة والاستمرار فيها. وإن كان البشر لا يمكثون فيها إلا أنهم يعودون إليها في الغالب. ونسمِّي هذه الحال، أوان َالبربرية.
2- أوانُ الاندماج والتمثُّل في وحدة تلغي الفروقاتِ والمسافاتِ وتلغي العلاقة نفسها، إذ تحولها علاقةً للأنا بالأنا حين يصير الآخرُ شبه الآخر. ونسمِّي هذه الحال أوان الجمع والكتْل (من كتل كتلًا أي جمع وألصق). ونسمي ما ينشأ عنها، جماعةً أو كتلةً تعمل على نقل الفرق بين الواحد والآخر إلى فرقٍ بين الجماعات ِوالأقوامِ من جهةٍ والأغيارِ الأعداءِ من جهة أخرى. وعنها ينشأُ، استثناءً، حال الكتْلانية أو حال التوتاليتارية كما تقول الأجانب.
3- أوانُ التكامل في وحدة تعلو على الأفرقاء علوًّا طبيعيًّا أو فوق طبيعي، وحدة تبقي الفروقَ فروقًا نسبيةً بالنظر إلى مطلق أعلى منها. وهو أوان نشوء العمران والأوطان وصناعة التاريخ البشري أو ما قبل البشري.
4- أوانُ المسافة المحفوظة والاتحاد الطوعي بين متساوين توافقوا على البقاء معًا، من دون أن يذوبَ الواحد في الآخر أو يتبعَ له، فسمّي الاجتماع الناشئ عن ذلك عيشًا مشتركًا، وأسميناه، مسافة الحلم والحرية.
ويذهبُ المتفائلُ بالبشر ومسارهم التاريخي إلى حد الاعتقاد بأن البشر سائرون بالضرورة من حال البربرية والضرورة إلى حال الحلم والحرية. لذا، ترى المتفائل عقلانيًّا وعلمانيًّا وتقدميًّا ومناضلًا بالضرورة.
إلا أنك تراه ساذجًا بالضرورة نفسها. يقول المتشائمُ. ولا بدّ من أن يهشّم وجهه بزجاج ِالواقع والحقيقةِ لأنَّ التقدمَ خرافةٌ واقعيّةٌ. والتوزيعَ إلى آونة مدرجة ليس سوى حلم ٍضعيفٍ ومغلوب على أمره؛ لأنَّ العلاقة الوحيدة الممكنة بين الأنا والآخر هي علاقة القهر والغلبة، علاقة التابع بالمتبوع والرديف بالمستردف؛ ولأنه علاقةٌ حيّةٌ تراها تراوح بين الشدة والتراخي فتكون حربًا وسلمًا ويكون السلم مجرد استعدادٍ للحرب وحال تربص للأنا بالآخر وللآخر بالأنا.
فإن لم تكن متفائلًا ولا متشائمًا، وإن كنت متشائلًا، على قول بعضهم، أي متأملًا في الواقع كما يظهر لك فسوف ترى أن هذه الآونة تقوم معًا لا ينسخ بعضها بعضًا نسخًا نهائيًّا، بل يغلب أوانٌ على آخرَ فيدفعه من الواجهة ويضعفُ احتماله من دون أن يلغيه. فأوان البربرية وأوان الكتلانية ماثلان أبداً في أواني العمران والحرية. لم تلغِ الحضارةُ البربريةَ بل احتوتها في حدود ضيقة أو حوّلت عنفها إلى خارج أو إلى جانب. لم تلغ الرغبة في الغلبة بل نقلتها من الغلبة في ساحة المعركة إلى الغلبة في ملعب الرياضة. وقدمت احتمال الألعاب الأولمبية على احتمال الحرب العالمية. إلا أنَّ نقل العنف من مجاله الفعلي إلى مجاله الرمزي يظل نقلًا هشًّا وسريع العطب، بمعنى أنّه لا يمكن النوع على مجد الحضارة لأنه لا يمكن عدّ أي مكسب حضاري بمثابة نهائي. وكل شيء يحتمل المراجعة، ويتطلب إذًا إرادةً متصلةً أو تنبُّهًا ويقظةً كما تقول الساسة.
إلا أنَّ الإنسان يصير إنسانًا بالتنبه واليقظة فينفصل عن الطبيعة ويتميّز من الأعجم بفعل ما يريد وفقًا لما يراه مناسبًا. ينفصل بإرادته المتصلة أو بممارسته للحرية.
وإذا كان الأوانُ الرابعُ أكثر الآونة عطبًا وهشاشةً فلأنّه الأكثرُ صعوبة والأقلُّ طبيعيّةً، بل لأنّ فيه مغالبةً للطّبع العفوي ومجاهدةً للنفس والغريزة الأولى. إلا أنه الأكثرُ إنسانية أي الأكثر تحقيقاً لإنسانية الإنسان بما هو كائنٌ مريدٌ وحرّ بالتالي. ويطرح مجرّدُ احتماله وإمكانه مسألةً فكريةً كبرى بل مسألة المسائل الفكرية الاجتماعية. إذ، كيف يمكن أن يكون العيش مشتركًا؟ كيف يمكن أن يقبل الأنا بنسبيّة ذاته كي يوفّر للآخر مجالًا حيويًّا يمارس فيه نسبيته هو؟. كيف أقبلُ بالآخر المختلف وأريد للاختلاف أن يبقى مستمراً؟ أيّ بعدٍ في الأنا والنحن، غير بعد معارضة الآخر، يضمن للأنا والنحن إشباعَ الرغبة في المطلق؟ هل يمكن تثمير التسامح الديني باستلهام «لا تدينوا كي لا تدانوا» واستلهام «إنا خلقناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا»؟ هل يمكن استلهام دروسِ التاريخ وتجارب الماضي القريب والبعيد؟ وهل يكفي التلويحُ بإنسانية الإنسان وفرادة المطلب والوعظ الأخلاقي؟
هل يمكن كل ذلك وهل يكفي في تدعيم قبول الواحد للآخر والحفاظ على المسافة الفاصلة بينهما باعتبارها مسافة للحرية، حرية ممارسة الوجود والاختلاف؟!
لا شيءَ يمكّن ولا حدَّ يكفي ولا أحد يضمن، لأنَّ كلَّ شيءٍ وكلّ حدٍّ على المستقبل تابع لما يصنع أطراف العلاقة ورهنٌ بإرادة العيش المشترك إرادةً متصلة. فكيف تتصل هذه الإرادة ومن أية مقدمات؟!

د. موسى وهبه


 

ليست هناك تعليقات: