الجمعة، 18 مايو 2018

محمد وقيدي: تطبيق الإبستيمولوجيا في مجالات جديدة.







محمد وقيدي:تطبيق الإبستيمولوجيا في مجالات جديدة. (العلوم الإنسانية)


قال إن الفلسفة عانت عبر تاريخها من الحجب والمنع وعانى الفلاسفة من محن ربما أكثر مما عانينا نحن
صلاح بوسريفنشر في المساء يوم 04 - 02 - 2015
المواطن الإبستمولوجي، بهذا المعنى سَمَّى محمد وقيدي نفسَه. فالإبستمولوجيا أخذت الكثير من وقته، وكرَّسَ لها جزءاً كبيراً من حياته. فهو حالما يخرج من الدرس الجامعي، الذي كان موضوعه باشلار، والقطيعة الإبستمولوجية، وغيرها مما له علاقة بهذا العلم، يجد نفسَه عاكفاً على نفس العلم، يبحث هُنا، ويقرأ ويكتب هناك، دون كَلل أو رغبةٍ في الاستجمام، فهو كان لا يخرج من باشلار حتَّى يجد نفسَه في ضيافة بياجي، أو في ضيافة العلوم، التي رأى أنها ستكون له بمثابة الضوء الذي سيقوده نحو أسرار ذلك القلق الفلسفي الذي انتابَه ولازَمَهُ، حتَّى وهو يخرج من الفلسفة، ومن الإبستمولوجيا، ليخوض في السياسة، أو في مشكلات التعليم. هذه هي خصال المواطن الإبستمولوجي، الذي حَرِص على أن يكون هو نفسه، لا أن يكون صَدًى لغيره، منتصراً في خصاله العلمية والمعرفية للكوجيطو، أو لهذا ال"أنا أفكر"، الذي لا يقبل أن يكون سارداً لأفكار غيره، دون أن يكون صوتاً لِقَلَقِه الخاص والشخصي، الذي تعلَّمَه من الفلسفة ذاتها، بما هي فكر حُرّ، وجريء، يتَّسِم بالدَّهْشَة والمُباغتة.
- لماذا كُلَّما قرأْتُك، أو فكَّرْتُ في ما تكتبه وتقوله، نظرتُ إليك باعتبارك «مفكر الإبستمولوجيا»؟ ثمَّة من استعملوا الإبستمولوجيا في دراساتهم، أو حاولوا أن يتَّخِذُوها وسيلة في البحث والتدريس، لكن، أنا، وغيري، ممن يهتمون بالفلسفة، وبالعلوم الإنسانية عموماً، لا ننظر إليك إلاَّ بهذه الصفة. أنت، كيف تنظر إلى نفسك؟ وما الأرض التي تراها تليق بك، في هذا السياق؟.
لا أستطيع أن أقول ما هي الظروف والحيثيات التي دفعتني للاشتغال بالإبستمولوجيا، إلاَّ أنني بدأتُ، منذ وقتٍ مبكر، كمدرس للفلسفة، أهتم بما يُسَمَّى «علم المناهج». ولكن الاهتمام بهذا العلم تطوَّر في ما بعد إلى ما يُسَمَّى الإبستمولوجيا، وبالذات، انطلاقاً من دراستي واهتمامي بغاستون باشلار. أو على الأصح، أنا لا أتساءل لماذا اخترتُ الإبستمولوجيا، لأنه من الصعب أن أعود إلى جذوري النفسية والفكرية، لكي أقول ما هي الأسباب. فهذا الاهتمام بالإبستمولوجيا أعطى آفاقاً مختلفةً، فأنا انطلقتُ فيه من اهتمامي الفلسفي، والفلسفة ظلَّت، دائماً، حاضرة، بكل تاريخها، لأنني كنتُ أستاذاً للفلسفة، قبل أن أصير أستاذاً للإبستمولوجيا، وقراءاتي في مجال الفلسفة كثيرة. لكن، أيضاً، يمكن أن أقول إن الإبستمولوجيا دفعتني إلى الاهتمام بالعلوم، ومن التيارات الإبستمولوجية التي تأثرتُ بها، الوضعية، والعقلانية الباشلارية، ثم التكوينية البياجية. كنتُ على علاقة بالعلوم، وتعلَّمْتُ من خلال هؤلاء، جميعاً، أنه لا يمكن الحديث عن علم، دون الحديث عنه من الداخل، ولهذا مارستُ دائماً الإبستمولوجيا الداخلية، وإذا ما أردتُ أن أتحدَّث من هذا الباب عن باقي العلوم، مثل الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والمنطق، أعود لقراءة هذه العلوم، من خلال اهتمامي بالإبستمولوجيا، حيث قرأتُ العلوم، ليس من خلال ما عرفتُه في المدرسة فقط، بل من خلال الكتُب التي ألَّفَها العلماء، الذين أعتبرهم، أيضاً، من خلال كتبهم، إبستمولوجيين من الداخل. ثم في ما بعد وقع تحَوُّل، وإن كانت إبستمولوجيا العلوم دائماً حاضرة، فأنا اهتممتُ بالميدان الذي يمكن أن أقدم فيه شيئاً، وهو ميدان العلوم الإنسانية. لذلك أعتبر اهتمامي بهذه العلوم قليلا جداً، وقد جعلني هذا من القلائل الذين يهتمون بإبستمولوجيا علوم الإنسان، لأنها، كما تعلم، تدخل في تكويني، إذ درستُ علم النفس، وعلم الاجتماع، ودرستُ في ما بعد التاريخ والاقتصاد، بشكل شخصي، وصارت العلوم الإنسانية، في هذا السياق، موضوعاً للتحليل، وفي نفس الوقت، جزءا من تكويني.

- ما هي الآفاق التي فتحَتْها لك الإبستمولوجيا، أو ما هي الطُّرُق التي جَرَّتْك إليها، باعتبارك من أهم وأبرز من اهتموا بهذا العلم، الذي أصبح في ما بعد هو الدرس الذي عكَفْتَ على تدريسه في الجامعة، والذي اسْتَغْرقَكَ في ما كتَبْتَه من أعمال؟.
أولاً، فَتَحتْ لي نفسَها، حيث إنني ضاعفْتُ من قراءتي لهذا العلم، وأصبحت أكثر فأكثر مُحَلِّلاً إبستمولوجياً، ولكن الآفاق التي فَتَحتْها لي الإبستمولوجيا، خارج ذاتِها، أنني عندما التحقتُ بالتعليم الجامعي أُسْنِدَتْ إليَّ، في ذلك الوقت، مادة الفكر اليوناني القديم، وبما أنني كنتُ مهتماً بالإبستمولوجيا، فقد طَبَّقْتُ مجال اشتغالي على ما كنتُ أُدَرِّسُه، حيث بَيَّنْتُ أن القطيعة الإبستمولوجية التي حدثت في الفكر اليوناني هي قطيعة مع الأسطورة، فالأسطورة، كما تعرف، هي ما يسبق الفلسفة، ومنذ ذلك الوقت طبقتُ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، بمعناها الدقيق، أي أنها لا تعني الانفصال، بل تعني أيضاً الحوار.

-
ثمَّة من تَبَنَّى، في دراسات لا تَخُصُّ الفكر والفلسفة وحدهما، بل في مجال النقد والدراسة الأدبِيَيْن، هذا المفهوم، واعْتَبرَ القطيعة هي الانتهاء من مرحلة، ومن «بنية»، والدخول في بنية أخرى، بمعنى القطع الكلي مع ما كان، وثمَّة من يعتبر أن القطيعة بهذا المعنى غير ممكنة، بل هناك استمرار، لكن بنوع من الإضافة والاختلاف. باعتبارك ممن اشتغلوا أكثر بهذا المفهوم، وإشارتك إلى أن القطيعة ليست انفصالاً، كيف تقرأ مثل هذه «المواقف» والقراءات؟.
مفهوم القطيعة، في معناه العلمي، الذي وضَعَه باشلار، واتَّبَعه آخرون، خصوصاً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، مثل ألتوسير وبيير بورديو وغيرهما، لا يعني أبداً الانفصال، بل يعني أننا ننتقل، بفضل هذه القطيعة، من فكر علمي إلى فكر أوسع، كأن الفكر الأوسع يتضمن القديم، ولكن يحتويه في إطار جديد. فالفكر اليوناني الجديد، مثلاً، لم يقطع مع الأسطورة، لأنَّ أفلاطون استخدم الأسطورة في ما بعد، كما استخدمها غيره من اليونانيين، وهذا كان تعبيراً واضحاً عن استمرار الأسطورة في هذا الفكر، باعتبارها مكوناً من مكوناته. القطيعة لا تكون تامة إلا في حالة واحدة، هي القطيعة مع الفكر العام، والانتقال إلى الفكر العلمي. أما القطيعة داخل الفكر العلمي فهي دائماً احتواء اللاحق للسابق، ولكن في إطار جديد. وللعلم، لم يكن كتابي عن باشلار، كما قد يتصور البعض، حاضراً، لأنني بدأتُ هذا التطبيق عام 1975 عندما التحقتُ بالجامعة، بينما كتابي عن باشلار لم يصدر إلا عام 1980. وقد كانت لي قراءات، آنذاك، عن باشلار، قبل أن أنجز البحث الخاص به، وقبل أن أنشره. في ما بعد اهتممت بإبستمولوجيا علوم الإنسان، وخاصةً علم النفس، وعلم الاجتماع، اللذين يدخلان في تكويني. كما أن هناك أفقاً آخر، وجَّهَتّنِي الإبستمولوجيا نحوه، فأنا استخدمتُ مفاهيمها في مجالات أخرى، عندما اهتممتُ بالعلوم الإنسانية، إذ طبَّقْتُ باشلار، ومفهومه القطيعة الإبستمولوجية، ولكنني لم أتكلَّم، كباشلار، بل تكلَّمْتُ كمحمد وقيدي، لأنَّ باشلار لم يتحدث عن العلوم الإنسانية. إذن، هناك توسيع للباشلارية. ما يعود إلى مفهوم القطيعة يعود إلى باشلار، لكن ما يعود إلى تطبيقها على العلوم الإنسانية، والنتائج التي وصلتُ إليها، يعود إلَيَّ شخصياً.

-
أريد أن أعود بك إلى مسألة تتعلق بالخصوصية المحلية، أو استقلال المغرب عن المشرق في طبيعة فكره، وفي طبيعة المناهج والمفاهيم، التي كانت، دائما، موضع نقاش وخلاف. أتذكَّر أنَّ عبد الله ساعف، خلال تقديم ومناقشة الجزء الأول من كتاب الراحل محمد عابد الجابري «تكوين العقل العربي»، أشار إلى حضور فوكو في عمل الجابري، فكان جواب الجابري، بما فيه من سخريته، نوعاً من رفض هذه العلاقة بمعنى التبعية، إذ قال: «أنا لا أشبه فوكو إلاَّ في صلعته». فهل ترى أنَّ الفكر والفلسفة في المغرب إضافة وخروج من هذه التبعية، أم أنَّ هذا «الآخر»، مهما يكن، لا يزال جاثِماً على هذا الفكر، بكل ثقله العلمي والمعرفي؟.
تلك النزعة التي تحدَّثَ عنها الجابري في الاستقلال الذاتي هي التي ساهَمتْ في تأسيس الفكر الفلسفي في المغرب، سواء عند الجابري أو عند غيره من الذين تفلسفوا. وهذه النزعة الاستقلالية هي ما يؤسس للفسفة، لأنَّ الفلسفة، لا تتحقق إلا مع الكوجيطو، مع ال»أنا أفكر»، فعندما ينعدم هذا ال»أنا أفكر»، ويكون مجرد سارد لأفكار الغير لا تكون هناك فلسفة. لكن عندما يصبح الإنسان لا يسرد أفكارَ غيره، فحسب، وإنما يُساهِم في بلورة أفكار جديدة بفضلها، يصبح مُنْدَرِجاً ضمن الفكر الفلسفي. وهذه حالة كثير من المتفلسفين المغاربة.
أما ما يتعلق بهذا التقسيم، فكر مغربي وفكر مشرقي، فأنا لا أدخُل في هذا التقسيم المطلق بين فكر مغربي وفكر مشرقي، لأنَّ عددا من المشارقة بدأوا هم أيضاً هذه القضية. أذكر عندما كتبتُ، مرة، عن محمود أمين العالم، كتبتُ العبارة الأولى، إبستمولوجي، وفيلسوف، وناقد سياسي. لماذا؟ لأنني، كغيري من المتفلسفين المغاربة، قرأت كتاب محمود أمين العالم «فلسفة المصادفة»، وهو كتاب في الإبستمولوجيا، وهو أيضاً سر تعرُّف محمود أمين العالم على بعض المغاربة المهتمين بالفلسفة، من الذين ذكرهم وأشاد بهم. فهذه الإبستمولوجيا موجودة في المشرق، ولكن يمكن أن نقول إن حظَّها في المغرب كان أقوى من حظها في البلدان العربية الأخرى. وهذا نتيجة لتأثُّر المغاربة بالفكر الفرنسي بصفة خاصة، وبالإبستمولوجيين الفرنسيين، وعلى رأسهم، دائماً، باشلار، لأنَّ الفرنسية كانت هي اللغة الثانية التي درسنا بها.

-
يبدو لي، هُنا، أنَّ هذا المشرق الذي تهرب منه، أو تُخْرِج نفسك منه، حاضر في ما تقول. ولعل بعض المشارقة من المتفلسفين كانوا أساتذة للمغاربة في الجامعات المغربية، وغير المغربية. فلماذا هذا النفي أو التَّنَصُّل من هذا التأثير؟.
أنا قلتُ لك: المشارقة كانوا سبَّاقين، ولكن الميزة الخاصة التي تُمَيِّز الاهتمام الفلسفي عندنا هي أنَّ الإبستمولوجيا احتلت مكانةً بارزةً في اهتمامنا. فهذا هو دور المغاربة في التميُّز. لقد كان كتاب محمود أمين العالم سبّاقاً في الظهور فقط. واسمح لي أن أعود إلى سؤالك: أين وجَّهَتْنِي الإبستمولوجيا؟ لأقول لك إنني طبقتها، أيضاً، في مجالات خارج العلم، إذ استفدتُ من مفاهيمها لأطبقها، وأذكر أنني طبقتُها حتى في بعض الكتابات السياسية. يمكن، بهذا المعنى، أن أقول: لم أطبق الإبستمولوجيا في الميدان العلمي، فحسب، ولكني استفدتُ من مفاهيمها التي أصبحت جزءاً من ثقافتي، ومن تكويني، في ميادين أخرى.

-
كيف ترى علاقة الإبستمولوجيا بالحداثة والتراث، خصوصاً أنَّ الجابري عُرِف عنه أنه اشتغل على الإبستمولوجيا في مشروعه الفكري، الذي هو اشتغال في حقل التراث؟ وهنا يطفو على السطح من جديد مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، أو»الانفصال» الذي كثيراً ما يتم استعماله بنوع من التبجُّح، دون وعي بمنزلقاته، وما يحدث في استخدامه من مطبَّات، كانت لها نتائج وخيمة على كثير من القراءات في أكثر من مجال.
سأسأل نفسي: هل أنا مهتم بالحداثة، فأقول نعم. وبشكل خاص خلال مساهمتي في التدريس بكلية الآداب، فأنا دخلتُ مع الإخوان في بعض الوحدات التي كان عنوانها «الحداثة». لكنني لم أستخدم كثيراً لفظ الحداثة في كتاباتي. لماذا؟ لأنني أردتُ أن أصل إلى هذا المعنى بصفة متأنية. أنا، مثلاً، درَّسْتُ سوسيولوجيا العلم، لأبين مدى إسهام المجتمع في تطوير العلوم، ولكن، أيضاً، مدى إسهام العلوم في تطوير المجتمع وتحديثه، دون أن أنطق بكلمة حداثة، لأنني أعتبر كلمة حداثة، كلمة فلسفية عامة، فأنا اهتممتُ بالعلم كأحد العناصر المكونة للحداثة، وتركتُ ذكر كلمة حداثة إلى ما بعد، لأنني دائماً أميل إلى هذا النوع من التأجيل، أو الما بعد، إلى أن تنضُج الكلمة في نفسي قبل أن أقدمها إلى الغير.

-
هل معنى هذا أنك تنتقد الكتابات التي اشتغلت على الحداثة، وتتهمها بعدم النُّضج؟.
النضج تحدَّثْتُ عنه بالنسبة إلى نفسي، لكنني أقرأ بكل احترام ما يكتبه الآخرون، وقد ساهمتُ، مرة، في التعريف بالأستاذ سبيلا كمهتم بالحداثة، وبَيَّنْتُ أوجه نظره الخاصة في هذا الباب، ولكني لم أستخدم الكلمة، وإن كانت موجودة ضمنياً في كتاباتي.

-
أنت واحد من المفكرين والمتفلسفين المغاربة، الذين اشتغلتم في الثمانينيات والتسعينيات على قضايا وأسئلة كبرى، وحاولتم أن تضعوا الفلسفة والفكر في سياق حداثي مغاير، وكانت الجامعة فضاءً لهذه الأسئلة والقضايا الكبرى، وأيضاً كتاباتكم. لكن كل هذا، يبدو لي، ذهب أدراج الريح، خصوصاً مع ما عرفَتْه الفلسفة من منع وتضييق، واستحداث شُعَبة الدراسات الإسلامية كنوع من البديل، فما نراه من انتكاسات في الفكر، وفي الواقع، هو إحدى نتائج هذا المنع. فالماضي بات هو المنتصر والمهيمن، ولم تعد ثقافة السؤال قائمة، بل نعيش على ثقافة الجواب والحَسْم، فهل ترى أنَّ ما فعلتموه كان دون طائل، أو أن ثمَّة خللا حدث في الطريق، لم تنتبهوا إليه، أو لم يكن وارداً في حساباتكم؟.
أولاً، أوَدُّ نسبياً أن أصحح عبارةً قيلت، وذكرتها أنتَ، وهي أن الفلسفة مُنعت. الفلسفة لم تُمْنَع، وإنَّما لِمُبَرِّرات تقدَّمت بها الوزارة في ذلك الوقت أوقِفَ التسجيل في شعبة الفلسفة، وبعد تدخُّلات الأساتذة أُعيدَ التسجيل فيها بكلية الآداب بالرباط وبفاس، وبعد أن تقدمنا، في إطار الجمعية الفلسفية المغربية، بطلب إعادتها، أُعيدَتْ تدريجياً إلى الكليات الأخرى، وهي الآن موجودة في جميع كليات الآداب.

- ولكنْ هناك منع في ما تقوله، رغم أنَّك تُسَمِّيه توقيفا، وحتَّى في التعليم الثانوي تَمَّ إفراغ المادة من محتواها الذي كانت عليه من قبل، وحضرت مكانها مادة الفكر الإسلامي بشكل خاص.
أنا قلتُ لك: لم تُمنع، ولكن، في نفس الوقت الذي مُنِعَتْ فيه سنة 1980 كتبتُ، شخصياً، مقالاً اسمه «الفلسفة والتنمية»، أبين فيه دلائل أهمية الفلسفة، والحاجة الملحة إليها. الفلسفة عانت عبر تاريخها من الحَجْب والمنع، وعانى الفلاسفة من المحن أكثر، ربما، مما عانينا، ولكنها كانت تعود لتفرض نفسها، فالكتابات التي كتبها المتفلسفون المغاربة ساهمت في بقاء الفلسفة، وفي حضورها المستمر. الفلسفة، كمياً، أكثر حضوراً اليوم من غيرها.

-
وبمَ تُبرِّر هذا الانتشار الكبير للفكر الديني الماضوي، وهذه العودة إلى الوراء، في الجامعة، كما في الحياة العامة، وإعادة الفلسفة بالصورة التي عادت بها إلى المدارس، والتي كان نوعاً من تخفيف الضغط «السلفي الأصولي»، بالصورة التي نعرفها اليوم، وليس لأجل الفلسفة ذاتها كفكر، وطريقة في النظر؟.
ما يتعلق بحضور غير الفلسفة، من أفكار، فأنا أقول بتعبير جديد: الفلسفة ليست غائبة، فهي حاضرة، ولكن في إطار صراع فكري. فهي تخوض هذا الصراع الفكري من أجل وجودها، وبين المتفلسفين أنفسهم من هُم متدينون، ومن يدعون إلى جزء من الفكر الديني، ولكن ليس هناك غياب مطلق. فأنا أريد، بدل الحديث، فقط، عن الغياب، الانتباه إلى الحضور، وهذا الحضور ظل متمثلاً في جملة من الأسئلة، وقد تحدَّثْتَ معي عن أناس يتحدثون عن الحداثة، وآخرين يتحدثون عن تيارات فلسفية مثل فوكو وهايدغر، وغيرهما.

-
لكن لا تنس أنَّ الفلسفة اليوم، ربما حاضرة، لكن لا دور لها، أو هي منزوعة السلاح، خصوصاً عند هذه الأجيال الجديدة التي تجد نفسها في فكر آخر، لا علاقة له بالفلسفة. فالفكر الديني، في صورته السلفية الأصولية، كما أشرتُ، هو الذي يستقطب، وهو الذي يؤثر، وهذا يكشف عن لحظة خلل في ما يجري، خصوصاً في العلاقة بالفلسفة من جهة، وبالفكر الحداثي التنويري، من جهة أخرى.
أنا أريد أن أغير تعبير الديني. لماذا نجعل الفلسفة في صراع مع الدين؟ هذه التيارات التي تحدثْتَ عنها ليست دينية بالضرورة، لأنَّ لها رأيا في الدين يختلف معها فيه حتى المؤمنون بذلك الدين. الدين ملك للجميع، أما الاستحواذ على الدين، والاشتغال باسمه وتأويله، فلا علاقة له بالدين. الناس ليسوا مُتَّفِقين على ما يمارسه هؤلاء، فالإطار الديني هو أعم من هذه التيارات ومن فكرها، والفلسفة، رغم كل هذا، مازالت تلعب دوراً في هذا الباب.

- كيف تفسر هذا التغيُّر الكبير الذي جرى في الجامعات، التي كانت في وقتٍ ما قلعة للفكر اليساري، وللسؤال، والنقاش، ثم صار الفكر الماضوي مستوليا عليها، واحتل تنظيماتها، التي شُلَّت وظيفتها، تماماً، قياساً بما كانت عليه في السابق؟.
هذا ليس تغيُّراً معرفياً، بل تغيّرٌ أساسه المجتمع والسياسة، وهو لم يقع في المغرب، وحده، بل وقع في البلدان العربية والإسلامية الأخرى. الذي ينبغي البحث عنه، في إطاره العام، هو لماذا وقع هذا التغيير في هذا الاتجاه بالضبط؟ هنا يمكن أن نقول شيئاً هو أن الفلسفةَ لا توجد في وضعها الطبيعي، أيضاً، لأنه أصبحت هناك مؤثرات في الواقع لا تسمح بوجودها الطبيعي. ولذلك نطالب، نحن كفلاسفة مغاربة، باسترجاع المجتمع ككل لواقعه الطبيعي، حتى يمكن للفلسفة أن تلعب دورها فيه.

- أعود بك إلى دور المثقف اليوم، فأنت تعرف أنَّ هذا المثقف بدوره، لم يعد في وضعه الطبيعي، مثل الفلسفة، تماماً، فثمَّة لاعبون جدد دخلوا على الخط، وأصبحوا يلعبون هذا الدور، أو يتقمصون دور المثقف، ويلبسون قميصه. فالمثقف لم يعد له غطاء سياسي، خصوصاً بعد انهيار اليسار وما يعيشه من نكساتٍ، فهو يعيش، في ظل هذا الوضع، في نوع من الدُّوَارVertige . ألا ترى أنَّ هذا الدور والمفهوم نفسه يحتاجان إلى أن نُعيدَ التفكير فيهما، ومراجعتهما، ونقدهما أيضاً؟.
أشَرْتَ إلى قضية مهمة، لي فيها وجهة نظر سأعبر عنها الآن: عندما أتابع ما يحدث ألاحظ أنَّ هناك عَجَلةً في التفكير. وهذه العجلة تُؤدِّي إلى استعجالٍ في النتائج العامة، وإلى غياب المثقفين كذوات قادرة على التحليل، في إطاره الموضوعي والعلمي. الكثير من المثقفين أصبحوا، على الأقل، تابعين لما هو إعلامي، بدل أن يوجهوا الإعلام. لقد أصبحوا أنفسهم يستخدمون نفس ألفاظ هذا الإعلام، وربما كثير منهم يكتبون بتأثير منه. بما أنني أشتغل في الفلسفة، وأنا متأثر بالعلوم الإنسانية، تعلمتُ من هذه العلوم أنه ينبغي دائماً أن نهتم بالمعطيات، ولا نتعجل الحكم، وقد تحدثت الفلسفة منذ ديكارت عن هذا الأمر، ثم تعلمتُ عن طريق باشلار، وعن طريق بياجي، أن أنتظر المعطيات. فأنا بقيتُ صامتاً، كغيري من المثقفين، أنتظر المعطيات، والتطورات، لأعرف ما الذي يحدث الآن، فالفكر العربي، في كثير من الكتابات، فَكَّرَ في الثورة، ولكنه كان يبشر بها.

- المشكل المطروح هنا، وانطلاقاً مما تقوله، هو أنَّ المثقف أصبح انتظارياً، فهو لم يعد مشاركاً في ما يجري، أو مبادراً إليه، فهو لا يخرج ليتكلم إلاَّ بعد أن تكون الأمور انتهت، أو سارت في طريق آخر، فهو لا يأتي إلا في آخر المطاف ليقول رأيه أو لينتقد، ويتحدث عن العجلة، وغيرها مما قُلْتَه الآن؟.
بعض الزملاء من بلاد عربية، منها مصر، دعوني إلى الكتابة في هذه الموضوعات في حينها، ولكنني قلت لهم إنني أريد أن أستفيد من إجابتكم أنتم الذين تواجهون الواقع مباشرة. هل يمكنني أن أتحدث عن مصر مثلاً؟ لا يمكنني ذلك، فأنا استفدت من كتابات المصريين، في هذا الباب، واعتبرتُ أنهم أحق مني في الجواب. ولذلك اعتذرتُ عن مثل هذه الكتابات، التي قلتُ إنَّ المثقف الموجود في عين المكان هو من يمكنه أن يتحدث في هذا الأمر. لا تنس أنني، كما قلتُ لك، متفلسف، ومتأثر بالعلوم الإنسانية، ولذلك لستُ انتظارياً، ولكني لستُ «تَدَخُّلِياً».

-
إذن، أنت ترى أنَّ المثقف الذي كان ينبغي أن يُوجِّه ويقود أصبح هو من يُقاد؟.
هذا نتيجة لسرعة الإعلام. لو أنَّ الإعلاميين كانوا في مثل هذه الحالة يُشْرِكون معهم المثقفين في إطلاق الأسماء، أو المصطلحات، لوجدنا أنفسنا في وضع آخر. ولكن لم تتح للمثقفين فرصةَ الاستماع إليهم في هذه الحالة. هناك فرق بين الموقف والتنظير. إذ يمكن أن أكون في مظاهرة، تأييداً لما تدعو إليه، فهذا موقف، لكن التنظير أو تحليل الظاهرة شيء آخر. قد ترى بعض المثقفين في المظاهرات، لكنك لا تراهُم في التحليل، بهذا المعنى.

- أنت تعرف أنَّ التعليم في المغرب يعيش حالة احتباس، وأنَّ المدرسة، اليوم، أصبحت شبه مستقيلة عن دورها التربوي التعليمي، وقد اعترف الجميع بهذا الوضع الخانق للتعليم، بما في ذلك بعض الخطابات الملكية. كيف تنظر إلى ما يجري؟ وكيف تحلله أو تقرأه من منظورك الشخصي؟.
كنتُ مُدَرِّساً، واهتممتُ بالعملية التعليمية، وعندما طُرِح الإصلاح كنتُ حاضراً في كثير من المقالات التي كتبتُها عن الإصلاح، نشرتُ بعضها، ولي كتاب في هذا الموضوع. مشكلة التعليم تأتي، في جانب منها، من سرعة التغيُّرات، حيث لم تعد تسمح هذه التغيرات بالتفكير الجاهز والنهائي، لأنَّ العملية التعليمية متأثرة بالتطورات العلمية، والتطورات التربوية، وغيرها. كما أنَّ أزمة التعليم ليست موجودة عندنا نحن فحسب، بل موجودة عند دول أخرى، بما فيها البلدان المتقدمة. وهنا علينا التساؤل: ماذا ينبغي أن نقدم للإنسان المغربي؟ لذلك كانت علاقتي بالطلبة في السنوات الأخيرة من تدريسي في الجامعة علاقة معرفة، وليست علاقة امتحانات. كنتُ أنظر إلى التعليم كمنتج للمواطن المغربي، وكنتُ أريد من المواطن المغربي في المستقبل، عندما يقف إلى جانب غيره من مواطني بلدان أخرى، أن يكون قوياً، لأن ضعف التعليم يمكن أن يؤدي إلى ضعف الشخصية المغربية على العموم. لذلك ينبغي التعجيل بإصلاح التعليم، وإشراك جميع المهتمين بهذا الأمر في التفكير في وضع حلول جديدة، وألا يتم اعتبار هذه الحلول نهائية. الإصلاحات ينبغي أن تبقى دائما مفتوحة، لأنَّ هناك دائما متغيِّرات جديدة، ينبغي مواكبتها.

- لماذا كُلَّما قرأْتُك، أو فكَّرْتُ في ما تكتبه وتقوله، نظرتُ إليك باعتبارك «مفكر الإبستمولوجيا»؟ ثمَّة من استعملوا الإبستمولوجيا في دراساتهم، أو حاولوا أن يتَّخِذُوها وسيلة في البحث والتدريس، لكن، أنا، وغيري، ممن يهتمون بالفلسفة، وبالعلوم الإنسانية عموماً، لا ننظر إليك إلاَّ بهذه الصفة. أنت، كيف تنظر إلى نفسك؟ وما الأرض التي تراها تليق بك، في هذا السياق؟.
لا أستطيع أن أقول ما هي الظروف والحيثيات التي دفعتني للاشتغال بالإبستمولوجيا، إلاَّ أنني بدأتُ، منذ وقتٍ مبكر، كمدرس للفلسفة، أهتم بما يُسَمَّى «علم المناهج». ولكن الاهتمام بهذا العلم تطوَّر في ما بعد إلى ما يُسَمَّى الإبستمولوجيا، وبالذات، انطلاقاً من دراستي واهتمامي بغاستون باشلار. أو على الأصح، أنا لا أتساءل لماذا اخترتُ الإبستمولوجيا، لأنه من الصعب أن أعود إلى جذوري النفسية والفكرية، لكي أقول ما هي الأسباب. فهذا الاهتمام بالإبستمولوجيا أعطى آفاقاً مختلفةً، فأنا انطلقتُ فيه من اهتمامي الفلسفي، والفلسفة ظلَّت، دائماً، حاضرة، بكل تاريخها، لأنني كنتُ أستاذاً للفلسفة، قبل أن أصير أستاذاً للإبستمولوجيا، وقراءاتي في مجال الفلسفة كثيرة. لكن، أيضاً، يمكن أن أقول إن الإبستمولوجيا دفعتني إلى الاهتمام بالعلوم، ومن التيارات الإبستمولوجية التي تأثرتُ بها، الوضعية، والعقلانية الباشلارية، ثم التكوينية البياجية. كنتُ على علاقة بالعلوم، وتعلَّمْتُ من خلال هؤلاء، جميعاً، أنه لا يمكن الحديث عن علم، دون الحديث عنه من الداخل، ولهذا مارستُ دائماً الإبستمولوجيا الداخلية، وإذا ما أردتُ أن أتحدَّث من هذا الباب عن باقي العلوم، مثل الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والمنطق، أعود لقراءة هذه العلوم، من خلال اهتمامي بالإبستمولوجيا، حيث قرأتُ العلوم، ليس من خلال ما عرفتُه في المدرسة فقط، بل من خلال الكتُب التي ألَّفَها العلماء، الذين أعتبرهم، أيضاً، من خلال كتبهم، إبستمولوجيين من الداخل. ثم في ما بعد وقع تحَوُّل، وإن كانت إبستمولوجيا العلوم دائماً حاضرة، فأنا اهتممتُ بالميدان الذي يمكن أن أقدم فيه شيئاً، وهو ميدان العلوم الإنسانية. لذلك أعتبر اهتمامي بهذه العلوم قليلا جداً، وقد جعلني هذا من القلائل الذين يهتمون بإبستمولوجيا علوم الإنسان، لأنها، كما تعلم، تدخل في تكويني، إذ درستُ علم النفس، وعلم الاجتماع، ودرستُ في ما بعد التاريخ والاقتصاد، بشكل شخصي، وصارت العلوم الإنسانية، في هذا السياق، موضوعاً للتحليل، وفي نفس الوقت، جزءا من تكويني.
- ما هي الآفاق التي فتحَتْها لك الإبستمولوجيا، أو ما هي الطُّرُق التي جَرَّتْك إليها، باعتبارك من أهم وأبرز من اهتموا بهذا العلم، الذي أصبح في ما بعد هو الدرس الذي عكَفْتَ على تدريسه في الجامعة، والذي اسْتَغْرقَكَ في ما كتَبْتَه من أعمال؟.
أولاً، فَتَحتْ لي نفسَها، حيث إنني ضاعفْتُ من قراءتي لهذا العلم، وأصبحت أكثر فأكثر مُحَلِّلاً إبستمولوجياً، ولكن الآفاق التي فَتَحتْها لي الإبستمولوجيا، خارج ذاتِها، أنني عندما التحقتُ بالتعليم الجامعي أُسْنِدَتْ إليَّ، في ذلك الوقت، مادة الفكر اليوناني القديم، وبما أنني كنتُ مهتماً بالإبستمولوجيا، فقد طَبَّقْتُ مجال اشتغالي على ما كنتُ أُدَرِّسُه، حيث بَيَّنْتُ أن القطيعة الإبستمولوجية التي حدثت في الفكر اليوناني هي قطيعة مع الأسطورة، فالأسطورة، كما تعرف، هي ما يسبق الفلسفة، ومنذ ذلك الوقت طبقتُ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، بمعناها الدقيق، أي أنها لا تعني الانفصال، بل تعني أيضاً الحوار.
- ثمَّة من تَبَنَّى، في دراسات لا تَخُصُّ الفكر والفلسفة وحدهما، بل في مجال النقد والدراسة الأدبِيَيْن، هذا المفهوم، واعْتَبرَ القطيعة هي الانتهاء من مرحلة، ومن «بنية»، والدخول في بنية أخرى، بمعنى القطع الكلي مع ما كان، وثمَّة من يعتبر أن القطيعة بهذا المعنى غير ممكنة، بل هناك استمرار، لكن بنوع من الإضافة والاختلاف. باعتبارك ممن اشتغلوا أكثر بهذا المفهوم، وإشارتك إلى أن القطيعة ليست انفصالاً، كيف تقرأ مثل هذه «المواقف» والقراءات؟.
مفهوم القطيعة، في معناه العلمي، الذي وضَعَه باشلار، واتَّبَعه آخرون، خصوصاً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، مثل ألتوسير وبيير بورديو وغيرهما، لا يعني أبداً الانفصال، بل يعني أننا ننتقل، بفضل هذه القطيعة، من فكر علمي إلى فكر أوسع، كأن الفكر الأوسع يتضمن القديم، ولكن يحتويه في إطار جديد. فالفكر اليوناني الجديد، مثلاً، لم يقطع مع الأسطورة، لأنَّ أفلاطون استخدم الأسطورة في ما بعد، كما استخدمها غيره من اليونانيين، وهذا كان تعبيراً واضحاً عن استمرار الأسطورة في هذا الفكر، باعتبارها مكوناً من مكوناته. القطيعة لا تكون تامة إلا في حالة واحدة، هي القطيعة مع الفكر العام، والانتقال إلى الفكر العلمي. أما القطيعة داخل الفكر العلمي فهي دائماً احتواء اللاحق للسابق، ولكن في إطار جديد. وللعلم، لم يكن كتابي عن باشلار، كما قد يتصور البعض، حاضراً، لأنني بدأتُ هذا التطبيق عام 1975 عندما التحقتُ بالجامعة، بينما كتابي عن باشلار لم يصدر إلا عام 1980. وقد كانت لي قراءات، آنذاك، عن باشلار، قبل أن أنجز البحث الخاص به، وقبل أن أنشره. في ما بعد اهتممت بإبستمولوجيا علوم الإنسان، وخاصةً علم النفس، وعلم الاجتماع، اللذين يدخلان في تكويني. كما أن هناك أفقاً آخر، وجَّهَتّنِي الإبستمولوجيا نحوه، فأنا استخدمتُ مفاهيمها في مجالات أخرى، عندما اهتممتُ بالعلوم الإنسانية، إذ طبَّقْتُ باشلار، ومفهومه القطيعة الإبستمولوجية، ولكنني لم أتكلَّم، كباشلار، بل تكلَّمْتُ كمحمد وقيدي، لأنَّ باشلار لم يتحدث عن العلوم الإنسانية. إذن، هناك توسيع للباشلارية. ما يعود إلى مفهوم القطيعة يعود إلى باشلار، لكن ما يعود إلى تطبيقها على العلوم الإنسانية، والنتائج التي وصلتُ إليها، يعود إلَيَّ شخصياً.
- أريد أن أعود بك إلى مسألة تتعلق بالخصوصية المحلية، أو استقلال المغرب عن المشرق في طبيعة فكره، وفي طبيعة المناهج والمفاهيم، التي كانت، دائما، موضع نقاش وخلاف. أتذكَّر أنَّ عبد الله ساعف، خلال تقديم ومناقشة الجزء الأول من كتاب الراحل محمد عابد الجابري «تكوين العقل العربي»، أشار إلى حضور فوكو في عمل الجابري، فكان جواب الجابري، بما فيه من سخريته، نوعاً من رفض هذه العلاقة بمعنى التبعية، إذ قال: «أنا لا أشبه فوكو إلاَّ في صلعته». فهل ترى أنَّ الفكر والفلسفة في المغرب إضافة وخروج من هذه التبعية، أم أنَّ هذا «الآخر»، مهما يكن، لا يزال جاثِماً على هذا الفكر، بكل ثقله العلمي والمعرفي؟.
تلك النزعة التي تحدَّثَ عنها الجابري في الاستقلال الذاتي هي التي ساهَمتْ في تأسيس الفكر الفلسفي في المغرب، سواء عند الجابري أو عند غيره من الذين تفلسفوا. وهذه النزعة الاستقلالية هي ما يؤسس للفسفة، لأنَّ الفلسفة، لا تتحقق إلا مع الكوجيطو، مع ال»أنا أفكر»، فعندما ينعدم هذا ال»أنا أفكر»، ويكون مجرد سارد لأفكار الغير لا تكون هناك فلسفة. لكن عندما يصبح الإنسان لا يسرد أفكارَ غيره، فحسب، وإنما يُساهِم في بلورة أفكار جديدة بفضلها، يصبح مُنْدَرِجاً ضمن الفكر الفلسفي. وهذه حالة كثير من المتفلسفين المغاربة.
أما ما يتعلق بهذا التقسيم، فكر مغربي وفكر مشرقي، فأنا لا أدخُل في هذا التقسيم المطلق بين فكر مغربي وفكر مشرقي، لأنَّ عددا من المشارقة بدؤوا هم أيضاً هذه القضية. أذكر عندما كتبتُ، مرة، عن محمود أمين العالم، كتبتُ العبارة الأولى، إبستمولوجي، وفيلسوف، وناقد سياسي. لماذا؟ لأنني، كغيري من المتفلسفين المغاربة، قرأت كتاب محمود أمين العالم «فلسفة المصادفة»، وهو كتاب في الإبستمولوجيا، وهو أيضاً سر تعرُّف محمود أمين العالم على بعض المغاربة المهتمين بالفلسفة، من الذين ذكرهم وأشاد بهم. فهذه الإبستمولوجيا موجودة في المشرق، ولكن يمكن أن نقول إن حظَّها في المغرب كان أقوى من حظها في البلدان العربية الأخرى. وهذا نتيجة لتأثُّر المغاربة بالفكر الفرنسي بصفة خاصة، وبالإبستمولوجيين الفرنسيين، وعلى رأسهم، دائماً، باشلار، لأنَّ الفرنسية كانت هي اللغة الثانية التي درسنا بها.
- يبدو لي، هُنا، أنَّ هذا المشرق الذي تهرب منه، أو تُخْرِج نفسك منه، حاضر في ما تقول. ولعل بعض المشارقة من المتفلسفين كانوا أساتذة للمغاربة في الجامعات المغربية، وغير المغربية. فلماذا هذا النفي أو التَّنَصُّل من هذا التأثير؟.
أنا قلتُ لك: المشارقة كانوا سبَّاقين، ولكن الميزة الخاصة التي تُمَيِّز الاهتمام الفلسفي عندنا هي أنَّ الإبستمولوجيا احتلت مكانةً بارزةً في اهتمامنا. فهذا هو دور المغاربة في التميُّز. لقد كان كتاب محمود أمين العالم سبّاقاً في الظهور فقط. واسمح لي أن أعود إلى سؤالك: أين وجَّهَتْنِي الإبستمولوجيا؟ لأقول لك إنني طبقتها، أيضاً، في مجالات خارج العلم، إذ استفدتُ من مفاهيمها لأطبقها، وأذكر أنني طبقتُها حتى في بعض الكتابات السياسية. يمكن، بهذا المعنى، أن أقول: لم أطبق الإبستمولوجيا في الميدان العلمي، فحسب، ولكني استفدتُ من مفاهيمها التي أصبحت جزءاً من ثقافتي، ومن تكويني، في ميادين أخرى.
- كيف ترى علاقة الإبستمولوجيا بالحداثة والتراث، خصوصاً أنَّ الجابري عُرِف عنه أنه اشتغل على الإبستمولوجيا في مشروعه الفكري، الذي هو اشتغال في حقل التراث؟ وهنا يطفو على السطح من جديد مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، أو»الانفصال» الذي كثيراً ما يتم استعماله بنوع من التبجُّح، دون وعي بمنزلقاته، وما يحدث في استخدامه من مطبَّات، كانت لها نتائج وخيمة على كثير من القراءات في أكثر من مجال.
سأسأل نفسي: هل أنا مهتم بالحداثة، فأقول نعم. وبشكل خاص خلال مساهمتي في التدريس بكلية الآداب، فأنا دخلتُ مع الإخوان في بعض الوحدات التي كان عنوانها «الحداثة». لكنني لم أستخدم كثيراً لفظ الحداثة في كتاباتي. لماذا؟ لأنني أردتُ أن أصل إلى هذا المعنى بصفة متأنية. أنا، مثلاً، درَّسْتُ سوسيولوجيا العلم، لأبين مدى إسهام المجتمع في تطوير العلوم، ولكن، أيضاً، مدى إسهام العلوم في تطوير المجتمع وتحديثه، دون أن أنطق بكلمة حداثة، لأنني أعتبر كلمة حداثة، كلمة فلسفية عامة، فأنا اهتممتُ بالعلم كأحد العناصر المكونة للحداثة، وتركتُ ذكر كلمة حداثة إلى ما بعد، لأنني دائماً أميل إلى هذا النوع من التأجيل، أو الما بعد، إلى أن تنضُج الكلمة في نفسي قبل أن أقدمها إلى الغير.
- هل معنى هذا أنك تنتقد الكتابات التي اشتغلت على الحداثة، وتتهمها بعدم النُّضج؟.
النضج تحدَّثْتُ عنه بالنسبة إلى نفسي، لكنني أقرأ بكل احترام ما يكتبه الآخرون، وقد ساهمتُ، مرة، في التعريف بالأستاذ سبيلا كمهتم بالحداثة، وبَيَّنْتُ أوجه نظره الخاصة في هذا الباب، ولكني لم أستخدم الكلمة، وإن كانت موجودة ضمنياً في كتاباتي.
- أنت واحد من المفكرين والمتفلسفين المغاربة، الذين اشتغلتم في الثمانينيات والتسعينيات على قضايا وأسئلة كبرى، وحاولتم أن تضعوا الفلسفة والفكر في سياق حداثي مغاير، وكانت الجامعة فضاءً لهذه الأسئلة والقضايا الكبرى، وأيضاً كتاباتكم. لكن كل هذا، يبدو لي، ذهب أدراج الريح، خصوصاً مع ما عرفَتْه الفلسفة من منع وتضييق، واستحداث شُعَبة الدراسات الإسلامية كنوع من البديل، فما نراه من انتكاسات في الفكر، وفي الواقع، هو إحدى نتائج هذا المنع. فالماضي بات هو المنتصر والمهيمن، ولم تعد ثقافة السؤال قائمة، بل نعيش على ثقافة الجواب والحَسْم، فهل ترى أنَّ ما فعلتموه كان دون طائل، أو أن ثمَّة خللا حدث في الطريق، لم تنتبهوا إليه، أو لم يكن وارداً في حساباتكم؟.
أولاً، أوَدُّ نسبياً أن أصحح عبارةً قيلت، وذكرتها أنتَ، وهي أن الفلسفة مُنعت. الفلسفة لم تُمْنَع، وإنَّما لِمُبَرِّرات تقدَّمت بها الوزارة في ذلك الوقت أوقِفَ التسجيل في شعبة الفلسفة، وبعد تدخُّلات الأساتذة أُعيدَ التسجيل فيها بكلية الآداب بالرباط وبفاس، وبعد أن تقدمنا، في إطار الجمعية الفلسفية المغربية، بطلب إعادتها، أُعيدَتْ تدريجياً إلى الكليات الأخرى، وهي الآن موجودة في جميع كليات الآداب.
- ولكنْ هناك منع في ما تقوله، رغم أنَّك تُسَمِّيه توقيفا، وحتَّى في التعليم الثانوي تَمَّ إفراغ المادة من محتواها الذي كانت عليه من قبل، وحضرت مكانها مادة الفكر الإسلامي بشكل خاص.
أنا قلتُ لك: لم تُمنع، ولكن، في نفس الوقت الذي مُنِعَتْ فيه سنة 1980 كتبتُ، شخصياً، مقالاً اسمه «الفلسفة والتنمية»، أبين فيه دلائل أهمية الفلسفة، والحاجة الملحة إليها. الفلسفة عانت عبر تاريخها من الحَجْب والمنع، وعانى الفلاسفة من المحن أكثر، ربما، مما عانينا، ولكنها كانت تعود لتفرض نفسها، فالكتابات التي كتبها المتفلسفون المغاربة ساهمت في بقاء الفلسفة، وفي حضورها المستمر. الفلسفة، كمياً، أكثر حضوراً اليوم من غيرها.
- وبمَِ تُبرِّر هذا الانتشار الكبير للفكر الديني الماضوي، وهذه العودة إلى الوراء، في الجامعة، كما في الحياة العامة، وإعادة الفلسفة بالصورة التي عادت بها إلى المدارس، والتي كان نوعاً من تخفيف الضغط «السلفي الأصولي»، بالصورة التي نعرفها اليوم، وليس لأجل الفلسفة ذاتها كفكر، وطريقة في النظر؟.
ما يتعلق بحضور غير الفلسفة، من أفكار، فأنا أقول بتعبير جديد: الفلسفة ليست غائبة، فهي حاضرة، ولكن في إطار صراع فكري. فهي تخوض هذا الصراع الفكري من أجل وجودها، وبين المتفلسفين أنفسهم من هُم متدينون، ومن يدعون إلى جزء من الفكر الديني، ولكن ليس هناك غياب مطلق. فأنا أريد، بدل الحديث، فقط، عن الغياب، الانتباه إلى الحضور، وهذا الحضور ظل متمثلاً في جملة من الأسئلة، وقد تحدَّثْتَ معي عن أناس يتحدثون عن الحداثة، وآخرين يتحدثون عن تيارات فلسفية مثل فوكو وهايدغر، وغيرهما.
- لكن لا تنس أنَّ الفلسفة اليوم، ربما حاضرة، لكن لا دور لها، أو هي منزوعة السلاح، خصوصاً عند هذه الأجيال الجديدة التي تجد نفسها في فكر آخر، لا علاقة له بالفلسفة. فالفكر الديني، في صورته السلفية الأصولية، كما أشرتُ، هو الذي يستقطب، وهو الذي يؤثر، وهذا يكشف عن لحظة خلل في ما يجري، خصوصاً في العلاقة بالفلسفة من جهة، وبالفكر الحداثي التنويري، من جهة أخرى.
أنا أريد أن أغير تعبير الديني. لماذا نجعل الفلسفة في صراع مع الدين؟ هذه التيارات التي تحدثْتَ عنها ليست دينية بالضرورة، لأنَّ لها رأيا في الدين يختلف معها فيه حتى المؤمنون بذلك الدين. الدين ملك للجميع، أما الاستحواذ على الدين، والاشتغال باسمه وتأويله، فلا علاقة له بالدين. الناس ليسوا مُتَّفِقين على ما يمارسه هؤلاء، فالإطار الديني هو أعم من هذه التيارات ومن فكرها، والفلسفة، رغم كل هذا، مازالت تلعب دوراً في هذا الباب.
- كيف تفسر هذا التغيُّر الكبير الذي جرى في الجامعات، التي كانت في وقتٍ ما قلعة للفكر اليساري، وللسؤال، والنقاش، ثم صار الفكر الماضوي مستوليا عليها، واحتل تنظيماتها، التي شُلَّت وظيفتها، تماماً، قياساً بما كانت عليه في السابق؟.
هذا ليس تغيُّراً معرفياً، بل تغيّرا أساسه المجتمع والسياسة، وهو لم يقع في المغرب، وحده، بل وقع في البلدان العربية والإسلامية الأخرى. الذي ينبغي البحث عنه، في إطاره العام، هو لماذا وقع هذا التغيير في هذا الاتجاه بالضبط؟ هنا يمكن أن نقول شيئاً هو أن الفلسفةَ لا توجد في وضعها الطبيعي، أيضاً، لأنه أصبحت هناك مؤثرات في الواقع لا تسمح بوجودها الطبيعي. ولذلك نطالب، نحن كفلاسفة مغاربة، باسترجاع المجتمع ككل لواقعه الطبيعي، حتى يمكن للفلسفة أن تلعب دورها فيه.
- أعود بك إلى دور المثقف اليوم، فأنت تعرف أنَّ هذا المثقف بدوره، لم يعد في وضعه الطبيعي، مثل الفلسفة، تماماً، فثمَّة لاعبون جدد دخلوا على الخط، وأصبحوا يلعبون هذا الدور، أو يتقمصون دور المثقف، ويلبسون قميصه. فالمثقف لم يعد له غطاء سياسي، خصوصاً بعد انهيار اليسار وما يعيشه من نكساتٍ، فهو يعيش، في ظل هذا الوضع، في نوع من الدُّوَار
Vertige . ألا ترى أنَّ هذا الدور والمفهوم نفسه يحتاجان إلى أن نُعيدَ التفكير فيهما، ومراجعتهما، ونقدهما أيضاً؟.
أشَرْتَ إلى قضية مهمة، لي فيها وجهة نظر سأعبر عنها الآن: عندما أتابع ما يحدث ألاحظ أنَّ هناك عَجَلةً في التفكير. وهذه العجلة تُؤدِّي إلى استعجالٍ في النتائج العامة، وإلى غياب المثقفين كذوات قادرة على التحليل، في إطاره الموضوعي والعلمي. الكثير من المثقفين أصبحوا، على الأقل، تابعين لما هو إعلامي، بدل أن يوجهوا الإعلام. لقد أصبحوا أنفسهم يستخدمون نفس ألفاظ هذا الإعلام، وربما كثير منهم يكتبون بتأثير منه. بما أنني أشتغل في الفلسفة، وأنا متأثر بالعلوم الإنسانية، تعلمتُ من هذه العلوم أنه ينبغي دائماً أن نهتم بالمعطيات، ولا نتعجل الحكم، وقد تحدثت الفلسفة منذ ديكارت عن هذا الأمر، ثم تعلمتُ عن طريق باشلار، وعن طريق بياجي، أن أنتظر المعطيات. فأنا بقيتُ صامتاً، كغيري من المثقفين، أنتظر المعطيات، والتطورات، لأعرف ما الذي يحدث الآن، فالفكر العربي، في كثير من الكتابات، فَكَّرَ في الثورة، ولكنه كان يبشر بها.
- المشكل المطروح هنا، وانطلاقاً مما تقوله، هو أنَّ المثقف أصبح انتظارياً، فهو لم يعد مشاركاً في ما يجري، أو مبادراً إليه، فهو لا يخرج ليتكلم إلاَّ بعد أن تكون الأمور انتهت، أو سارت في طريق آخر، فهو لا يأتي إلا في آخر المطاف ليقول رأيه أو لينتقد، ويتحدث عن العجلة، وغيرها مما قُلْتَه الآن؟.
بعض الزملاء من بلاد عربية، منها مصر، دعوني إلى الكتابة في هذه الموضوعات في حينها، ولكنني قلت لهم إنني أريد أن أستفيد من إجابتكم أنتم الذين تواجهون الواقع مباشرة. هل يمكنني أن أتحدث عن مصر مثلاً؟ لا يمكنني ذلك، فأنا استفدت من كتابات المصريين، في هذا الباب، واعتبرتُ أنهم أحق مني في الجواب. ولذلك اعتذرتُ عن مثل هذه الكتابات، التي قلتُ إنَّ المثقف الموجود في عين المكان هو من يمكنه أن يتحدث في هذا الأمر. لا تنس أنني، كما قلتُ لك، متفلسف، ومتأثر بالعلوم الإنسانية، ولذلك لستُ انتظارياً، ولكني لستُ «تَدَخُّلِياً».
- إذن، أنت ترى أنَّ المثقف الذي كان ينبغي أن يُوجِّه ويقود أصبح هو من يُقاد؟.
هذا نتيجة لسرعة الإعلام. لو أنَّ الإعلاميين كانوا في مثل هذه الحالة يُشْرِكون معهم المثقفين في إطلاق الأسماء، أو المصطلحات، لوجدنا أنفسنا في وضع آخر. ولكن لم تتح للمثقفين فرصةَ الاستماع إليهم في هذه الحالة. هناك فرق بين الموقف والتنظير. إذ يمكن أن أكون في مظاهرة، تأييداً لما تدعو إليه، فهذا موقف، لكن التنظير أو تحليل الظاهرة شيء آخر. قد ترى بعض المثقفين في المظاهرات، لكنك لا تراهُم في التحليل، بهذا المعنى.
- أنت تعرف أنَّ التعليم في المغرب يعيش حالة احتباس، وأنَّ المدرسة، اليوم، أصبحت شبه مستقيلة عن دورها التربوي التعليمي، وقد اعترف الجميع بهذا الوضع الخانق للتعليم، بما في ذلك بعض الخطابات الملكية. كيف تنظر إلى ما يجري؟ وكيف تحلله أو تقرؤه من منظورك الشخصي؟.
كنتُ مُدَرِّساً، واهتممتُ بالعملية التعليمية، وعندما طُرِح الإصلاح كنتُ حاضراً في كثير من المقالات التي كتبتُها عن الإصلاح، نشرتُ بعضها، ولي كتاب في هذا الموضوع. مشكلة التعليم تأتي، في جانب منها، من سرعة التغيُّرات، حيث لم تعد تسمح هذه التغيرات بالتفكير الجاهز والنهائي، لأنَّ العملية التعليمية متأثرة بالتطورات العلمية، والتطورات التربوية، وغيرها. كما أنَّ أزمة التعليم ليست موجودة عندنا نحن فحسب، بل موجودة عند دول أخرى، بما فيها البلدان المتقدمة. وهنا علينا التساؤل: ماذا ينبغي أن نقدم للإنسان المغربي؟ لذلك كانت علاقتي بالطلبة في السنوات الأخيرة من تدريسي في الجامعة علاقة معرفة، وليست علاقة امتحانات. كنتُ أنظر إلى التعليم كمنتج للمواطن المغربي، وكنتُ أريد من المواطن المغربي في المستقبل، عندما يقف إلى جانب غيره من مواطني بلدان أخرى، أن يكون قوياً، لأن ضعف التعليم يمكن أن يؤدي إلى ضعف الشخصية المغربية على العموم. لذلك ينبغي التعجيل بإصلاح التعليم، وإشراك جميع المهتمين بهذا الأمر في التفكير في وضع حلول جديدة، وألا يتم اعتبار هذه الحلول نهائية. الإصلاحات ينبغي أن تبقى دائما مفتوحة، لأنَّ هناك دائما متغيِّرات جديدة، ينبغي مواكبتها.

- لماذا كُلَّما قرأْتُك، أو فكَّرْتُ في ما تكتبه وتقوله، نظرتُ إليك باعتبارك «مفكر الإبستمولوجيا»؟ ثمَّة من استعملوا الإبستمولوجيا في دراساتهم، أو حاولوا أن يتَّخِذُوها وسيلة في البحث والتدريس، لكن، أنا، وغيري، ممن يهتمون بالفلسفة، وبالعلوم الإنسانية عموماً، لا ننظر إليك إلاَّ بهذه الصفة. أنت، كيف تنظر إلى نفسك؟ وما الأرض التي تراها تليق بك، في هذا السياق؟.
لا أستطيع أن أقول ما هي الظروف والحيثيات التي دفعتني للاشتغال بالإبستمولوجيا، إلاَّ أنني بدأتُ، منذ وقتٍ مبكر، كمدرس للفلسفة، أهتم بما يُسَمَّى «علم المناهج». ولكن الاهتمام بهذا العلم تطوَّر في ما بعد إلى ما يُسَمَّى الإبستمولوجيا، وبالذات، انطلاقاً من دراستي واهتمامي بغاستون باشلار. أو على الأصح، أنا لا أتساءل لماذا اخترتُ الإبستمولوجيا، لأنه من الصعب أن أعود إلى جذوري النفسية والفكرية، لكي أقول ما هي الأسباب. فهذا الاهتمام بالإبستمولوجيا أعطى آفاقاً مختلفةً، فأنا انطلقتُ فيه من اهتمامي الفلسفي، والفلسفة ظلَّت، دائماً، حاضرة، بكل تاريخها، لأنني كنتُ أستاذاً للفلسفة، قبل أن أصير أستاذاً للإبستمولوجيا، وقراءاتي في مجال الفلسفة كثيرة. لكن، أيضاً، يمكن أن أقول إن الإبستمولوجيا دفعتني إلى الاهتمام بالعلوم، ومن التيارات الإبستمولوجية التي تأثرتُ بها، الوضعية، والعقلانية الباشلارية، ثم التكوينية البياجية. كنتُ على علاقة بالعلوم، وتعلَّمْتُ من خلال هؤلاء، جميعاً، أنه لا يمكن الحديث عن علم، دون الحديث عنه من الداخل، ولهذا مارستُ دائماً الإبستمولوجيا الداخلية، وإذا ما أردتُ أن أتحدَّث من هذا الباب عن باقي العلوم، مثل الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والمنطق، أعود لقراءة هذه العلوم، من خلال اهتمامي بالإبستمولوجيا، حيث قرأتُ العلوم، ليس من خلال ما عرفتُه في المدرسة فقط، بل من خلال الكتُب التي ألَّفَها العلماء، الذين أعتبرهم، أيضاً، من خلال كتبهم، إبستمولوجيين من الداخل. ثم في ما بعد وقع تحَوُّل، وإن كانت إبستمولوجيا العلوم دائماً حاضرة، فأنا اهتممتُ بالميدان الذي يمكن أن أقدم فيه شيئاً، وهو ميدان العلوم الإنسانية. لذلك أعتبر اهتمامي بهذه العلوم قليلا جداً، وقد جعلني هذا من القلائل الذين يهتمون بإبستمولوجيا علوم الإنسان، لأنها، كما تعلم، تدخل في تكويني، إذ درستُ علم النفس، وعلم الاجتماع، ودرستُ في ما بعد التاريخ والاقتصاد، بشكل شخصي، وصارت العلوم الإنسانية، في هذا السياق، موضوعاً للتحليل، وفي نفس الوقت، جزءا من تكويني.
- ما هي الآفاق التي فتحَتْها لك الإبستمولوجيا، أو ما هي الطُّرُق التي جَرَّتْك إليها، باعتبارك من أهم وأبرز من اهتموا بهذا العلم، الذي أصبح في ما بعد هو الدرس الذي عكَفْتَ على تدريسه في الجامعة، والذي اسْتَغْرقَكَ في ما كتَبْتَه من أعمال؟.
أولاً، فَتَحتْ لي نفسَها، حيث إنني ضاعفْتُ من قراءتي لهذا العلم، وأصبحت أكثر فأكثر مُحَلِّلاً إبستمولوجياً، ولكن الآفاق التي فَتَحتْها لي الإبستمولوجيا، خارج ذاتِها، أنني عندما التحقتُ بالتعليم الجامعي أُسْنِدَتْ إليَّ، في ذلك الوقت، مادة الفكر اليوناني القديم، وبما أنني كنتُ مهتماً بالإبستمولوجيا، فقد طَبَّقْتُ مجال اشتغالي على ما كنتُ أُدَرِّسُه، حيث بَيَّنْتُ أن القطيعة الإبستمولوجية التي حدثت في الفكر اليوناني هي قطيعة مع الأسطورة، فالأسطورة، كما تعرف، هي ما يسبق الفلسفة، ومنذ ذلك الوقت طبقتُ مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، بمعناها الدقيق، أي أنها لا تعني الانفصال، بل تعني أيضاً الحوار.
- ثمَّة من تَبَنَّى، في دراسات لا تَخُصُّ الفكر والفلسفة وحدهما، بل في مجال النقد والدراسة الأدبِيَيْن، هذا المفهوم، واعْتَبرَ القطيعة هي الانتهاء من مرحلة، ومن «بنية»، والدخول في بنية أخرى، بمعنى القطع الكلي مع ما كان، وثمَّة من يعتبر أن القطيعة بهذا المعنى غير ممكنة، بل هناك استمرار، لكن بنوع من الإضافة والاختلاف. باعتبارك ممن اشتغلوا أكثر بهذا المفهوم، وإشارتك إلى أن القطيعة ليست انفصالاً، كيف تقرأ مثل هذه «المواقف» والقراءات؟.
مفهوم القطيعة، في معناه العلمي، الذي وضَعَه باشلار، واتَّبَعه آخرون، خصوصاً في الفلسفة والعلوم الإنسانية، مثل ألتوسير وبيير بورديو وغيرهما، لا يعني أبداً الانفصال، بل يعني أننا ننتقل، بفضل هذه القطيعة، من فكر علمي إلى فكر أوسع، كأن الفكر الأوسع يتضمن القديم، ولكن يحتويه في إطار جديد. فالفكر اليوناني الجديد، مثلاً، لم يقطع مع الأسطورة، لأنَّ أفلاطون استخدم الأسطورة في ما بعد، كما استخدمها غيره من اليونانيين، وهذا كان تعبيراً واضحاً عن استمرار الأسطورة في هذا الفكر، باعتبارها مكوناً من مكوناته. القطيعة لا تكون تامة إلا في حالة واحدة، هي القطيعة مع الفكر العام، والانتقال إلى الفكر العلمي. أما القطيعة داخل الفكر العلمي فهي دائماً احتواء اللاحق للسابق، ولكن في إطار جديد. وللعلم، لم يكن كتابي عن باشلار، كما قد يتصور البعض، حاضراً، لأنني بدأتُ هذا التطبيق عام 1975 عندما التحقتُ بالجامعة، بينما كتابي عن باشلار لم يصدر إلا عام 1980. وقد كانت لي قراءات، آنذاك، عن باشلار، قبل أن أنجز البحث الخاص به، وقبل أن أنشره. في ما بعد اهتممت بإبستمولوجيا علوم الإنسان، وخاصةً علم النفس، وعلم الاجتماع، اللذين يدخلان في تكويني. كما أن هناك أفقاً آخر، وجَّهَتّنِي الإبستمولوجيا نحوه، فأنا استخدمتُ مفاهيمها في مجالات أخرى، عندما اهتممتُ بالعلوم الإنسانية، إذ طبَّقْتُ باشلار، ومفهومه القطيعة الإبستمولوجية، ولكنني لم أتكلَّم، كباشلار، بل تكلَّمْتُ كمحمد وقيدي، لأنَّ باشلار لم يتحدث عن العلوم الإنسانية. إذن، هناك توسيع للباشلارية. ما يعود إلى مفهوم القطيعة يعود إلى باشلار، لكن ما يعود إلى تطبيقها على العلوم الإنسانية، والنتائج التي وصلتُ إليها، يعود إلَيَّ شخصياً.
- أريد أن أعود بك إلى مسألة تتعلق بالخصوصية المحلية، أو استقلال المغرب عن المشرق في طبيعة فكره، وفي طبيعة المناهج والمفاهيم، التي كانت، دائما، موضع نقاش وخلاف. أتذكَّر أنَّ عبد الله ساعف، خلال تقديم ومناقشة الجزء الأول من كتاب الراحل محمد عابد الجابري «تكوين العقل العربي»، أشار إلى حضور فوكو في عمل الجابري، فكان جواب الجابري، بما فيه من سخريته، نوعاً من رفض هذه العلاقة بمعنى التبعية، إذ قال: «أنا لا أشبه فوكو إلاَّ في صلعته». فهل ترى أنَّ الفكر والفلسفة في المغرب إضافة وخروج من هذه التبعية، أم أنَّ هذا «الآخر»، مهما يكن، لا يزال جاثِماً على هذا الفكر، بكل ثقله العلمي والمعرفي؟.
تلك النزعة التي تحدَّثَ عنها الجابري في الاستقلال الذاتي هي التي ساهَمتْ في تأسيس الفكر الفلسفي في المغرب، سواء عند الجابري أو عند غيره من الذين تفلسفوا. وهذه النزعة الاستقلالية هي ما يؤسس للفسفة، لأنَّ الفلسفة، لا تتحقق إلا مع الكوجيطو، مع ال»أنا أفكر»، فعندما ينعدم هذا ال»أنا أفكر»، ويكون مجرد سارد لأفكار الغير لا تكون هناك فلسفة. لكن عندما يصبح الإنسان لا يسرد أفكارَ غيره، فحسب، وإنما يُساهِم في بلورة أفكار جديدة بفضلها، يصبح مُنْدَرِجاً ضمن الفكر الفلسفي. وهذه حالة كثير من المتفلسفين المغاربة.
أما ما يتعلق بهذا التقسيم، فكر مغربي وفكر مشرقي، فأنا لا أدخُل في هذا التقسيم المطلق بين فكر مغربي وفكر مشرقي، لأنَّ عددا من المشارقة بدؤوا هم أيضاً هذه القضية. أذكر عندما كتبتُ، مرة، عن محمود أمين العالم، كتبتُ العبارة الأولى، إبستمولوجي، وفيلسوف، وناقد سياسي. لماذا؟ لأنني، كغيري من المتفلسفين المغاربة، قرأت كتاب محمود أمين العالم «فلسفة المصادفة»، وهو كتاب في الإبستمولوجيا، وهو أيضاً سر تعرُّف محمود أمين العالم على بعض المغاربة المهتمين بالفلسفة، من الذين ذكرهم وأشاد بهم. فهذه الإبستمولوجيا موجودة في المشرق، ولكن يمكن أن نقول إن حظَّها في المغرب كان أقوى من حظها في البلدان العربية الأخرى. وهذا نتيجة لتأثُّر المغاربة بالفكر الفرنسي بصفة خاصة، وبالإبستمولوجيين الفرنسيين، وعلى رأسهم، دائماً، باشلار، لأنَّ الفرنسية كانت هي اللغة الثانية التي درسنا بها.
- يبدو لي، هُنا، أنَّ هذا المشرق الذي تهرب منه، أو تُخْرِج نفسك منه، حاضر في ما تقول. ولعل بعض المشارقة من المتفلسفين كانوا أساتذة للمغاربة في الجامعات المغربية، وغير المغربية. فلماذا هذا النفي أو التَّنَصُّل من هذا التأثير؟.
أنا قلتُ لك: المشارقة كانوا سبَّاقين، ولكن الميزة الخاصة التي تُمَيِّز الاهتمام الفلسفي عندنا هي أنَّ الإبستمولوجيا احتلت مكانةً بارزةً في اهتمامنا. فهذا هو دور المغاربة في التميُّز. لقد كان كتاب محمود أمين العالم سبّاقاً في الظهور فقط. واسمح لي أن أعود إلى سؤالك: أين وجَّهَتْنِي الإبستمولوجيا؟ لأقول لك إنني طبقتها، أيضاً، في مجالات خارج العلم، إذ استفدتُ من مفاهيمها لأطبقها، وأذكر أنني طبقتُها حتى في بعض الكتابات السياسية. يمكن، بهذا المعنى، أن أقول: لم أطبق الإبستمولوجيا في الميدان العلمي، فحسب، ولكني استفدتُ من مفاهيمها التي أصبحت جزءاً من ثقافتي، ومن تكويني، في ميادين أخرى.
- كيف ترى علاقة الإبستمولوجيا بالحداثة والتراث، خصوصاً أنَّ الجابري عُرِف عنه أنه اشتغل على الإبستمولوجيا في مشروعه الفكري، الذي هو اشتغال في حقل التراث؟ وهنا يطفو على السطح من جديد مفهوم القطيعة الإبستمولوجية، أو»الانفصال» الذي كثيراً ما يتم استعماله بنوع من التبجُّح، دون وعي بمنزلقاته، وما يحدث في استخدامه من مطبَّات، كانت لها نتائج وخيمة على كثير من القراءات في أكثر من مجال.
سأسأل نفسي: هل أنا مهتم بالحداثة، فأقول نعم. وبشكل خاص خلال مساهمتي في التدريس بكلية الآداب، فأنا دخلتُ مع الإخوان في بعض الوحدات التي كان عنوانها «الحداثة». لكنني لم أستخدم كثيراً لفظ الحداثة في كتاباتي. لماذا؟ لأنني أردتُ أن أصل إلى هذا المعنى بصفة متأنية. أنا، مثلاً، درَّسْتُ سوسيولوجيا العلم، لأبين مدى إسهام المجتمع في تطوير العلوم، ولكن، أيضاً، مدى إسهام العلوم في تطوير المجتمع وتحديثه، دون أن أنطق بكلمة حداثة، لأنني أعتبر كلمة حداثة، كلمة فلسفية عامة، فأنا اهتممتُ بالعلم كأحد العناصر المكونة للحداثة، وتركتُ ذكر كلمة حداثة إلى ما بعد، لأنني دائماً أميل إلى هذا النوع من التأجيل، أو الما بعد، إلى أن تنضُج الكلمة في نفسي قبل أن أقدمها إلى الغير.
- هل معنى هذا أنك تنتقد الكتابات التي اشتغلت على الحداثة، وتتهمها بعدم النُّضج؟.
النضج تحدَّثْتُ عنه بالنسبة إلى نفسي، لكنني أقرأ بكل احترام ما يكتبه الآخرون، وقد ساهمتُ، مرة، في التعريف بالأستاذ سبيلا كمهتم بالحداثة، وبَيَّنْتُ أوجه نظره الخاصة في هذا الباب، ولكني لم أستخدم الكلمة، وإن كانت موجودة ضمنياً في كتاباتي.
- أنت واحد من المفكرين والمتفلسفين المغاربة، الذين اشتغلتم في الثمانينيات والتسعينيات على قضايا وأسئلة كبرى، وحاولتم أن تضعوا الفلسفة والفكر في سياق حداثي مغاير، وكانت الجامعة فضاءً لهذه الأسئلة والقضايا الكبرى، وأيضاً كتاباتكم. لكن كل هذا، يبدو لي، ذهب أدراج الريح، خصوصاً مع ما عرفَتْه الفلسفة من منع وتضييق، واستحداث شُعَبة الدراسات الإسلامية كنوع من البديل، فما نراه من انتكاسات في الفكر، وفي الواقع، هو إحدى نتائج هذا المنع. فالماضي بات هو المنتصر والمهيمن، ولم تعد ثقافة السؤال قائمة، بل نعيش على ثقافة الجواب والحَسْم، فهل ترى أنَّ ما فعلتموه كان دون طائل، أو أن ثمَّة خللا حدث في الطريق، لم تنتبهوا إليه، أو لم يكن وارداً في حساباتكم؟.
أولاً، أوَدُّ نسبياً أن أصحح عبارةً قيلت، وذكرتها أنتَ، وهي أن الفلسفة مُنعت. الفلسفة لم تُمْنَع، وإنَّما لِمُبَرِّرات تقدَّمت بها الوزارة في ذلك الوقت أوقِفَ التسجيل في شعبة الفلسفة، وبعد تدخُّلات الأساتذة أُعيدَ التسجيل فيها بكلية الآداب بالرباط وبفاس، وبعد أن تقدمنا، في إطار الجمعية الفلسفية المغربية، بطلب إعادتها، أُعيدَتْ تدريجياً إلى الكليات الأخرى، وهي الآن موجودة في جميع كليات الآداب.
- ولكنْ هناك منع في ما تقوله، رغم أنَّك تُسَمِّيه توقيفا، وحتَّى في التعليم الثانوي تَمَّ إفراغ المادة من محتواها الذي كانت عليه من قبل، وحضرت مكانها مادة الفكر الإسلامي بشكل خاص.
أنا قلتُ لك: لم تُمنع، ولكن، في نفس الوقت الذي مُنِعَتْ فيه سنة 1980 كتبتُ، شخصياً، مقالاً اسمه «الفلسفة والتنمية»، أبين فيه دلائل أهمية الفلسفة، والحاجة الملحة إليها. الفلسفة عانت عبر تاريخها من الحَجْب والمنع، وعانى الفلاسفة من المحن أكثر، ربما، مما عانينا، ولكنها كانت تعود لتفرض نفسها، فالكتابات التي كتبها المتفلسفون المغاربة ساهمت في بقاء الفلسفة، وفي حضورها المستمر. الفلسفة، كمياً، أكثر حضوراً اليوم من غيرها.
- وبمَِ تُبرِّر هذا الانتشار الكبير للفكر الديني الماضوي، وهذه العودة إلى الوراء، في الجامعة، كما في الحياة العامة، وإعادة الفلسفة بالصورة التي عادت بها إلى المدارس، والتي كان نوعاً من تخفيف الضغط «السلفي الأصولي»، بالصورة التي نعرفها اليوم، وليس لأجل الفلسفة ذاتها كفكر، وطريقة في النظر؟.
ما يتعلق بحضور غير الفلسفة، من أفكار، فأنا أقول بتعبير جديد: الفلسفة ليست غائبة، فهي حاضرة، ولكن في إطار صراع فكري. فهي تخوض هذا الصراع الفكري من أجل وجودها، وبين المتفلسفين أنفسهم من هُم متدينون، ومن يدعون إلى جزء من الفكر الديني، ولكن ليس هناك غياب مطلق. فأنا أريد، بدل الحديث، فقط، عن الغياب، الانتباه إلى الحضور، وهذا الحضور ظل متمثلاً في جملة من الأسئلة، وقد تحدَّثْتَ معي عن أناس يتحدثون عن الحداثة، وآخرين يتحدثون عن تيارات فلسفية مثل فوكو وهايدغر، وغيرهما.
- لكن لا تنس أنَّ الفلسفة اليوم، ربما حاضرة، لكن لا دور لها، أو هي منزوعة السلاح، خصوصاً عند هذه الأجيال الجديدة التي تجد نفسها في فكر آخر، لا علاقة له بالفلسفة. فالفكر الديني، في صورته السلفية الأصولية، كما أشرتُ، هو الذي يستقطب، وهو الذي يؤثر، وهذا يكشف عن لحظة خلل في ما يجري، خصوصاً في العلاقة بالفلسفة من جهة، وبالفكر الحداثي التنويري، من جهة أخرى.
أنا أريد أن أغير تعبير الديني. لماذا نجعل الفلسفة في صراع مع الدين؟ هذه التيارات التي تحدثْتَ عنها ليست دينية بالضرورة، لأنَّ لها رأيا في الدين يختلف معها فيه حتى المؤمنون بذلك الدين. الدين ملك للجميع، أما الاستحواذ على الدين، والاشتغال باسمه وتأويله، فلا علاقة له بالدين. الناس ليسوا مُتَّفِقين على ما يمارسه هؤلاء، فالإطار الديني هو أعم من هذه التيارات ومن فكرها، والفلسفة، رغم كل هذا، مازالت تلعب دوراً في هذا الباب.
- كيف تفسر هذا التغيُّر الكبير الذي جرى في الجامعات، التي كانت في وقتٍ ما قلعة للفكر اليساري، وللسؤال، والنقاش، ثم صار الفكر الماضوي مستوليا عليها، واحتل تنظيماتها، التي شُلَّت وظيفتها، تماماً، قياساً بما كانت عليه في السابق؟.
هذا ليس تغيُّراً معرفياً، بل تغيّرا أساسه المجتمع والسياسة، وهو لم يقع في المغرب، وحده، بل وقع في البلدان العربية والإسلامية الأخرى. الذي ينبغي البحث عنه، في إطاره العام، هو لماذا وقع هذا التغيير في هذا الاتجاه بالضبط؟ هنا يمكن أن نقول شيئاً هو أن الفلسفةَ لا توجد في وضعها الطبيعي، أيضاً، لأنه أصبحت هناك مؤثرات في الواقع لا تسمح بوجودها الطبيعي. ولذلك نطالب، نحن كفلاسفة مغاربة، باسترجاع المجتمع ككل لواقعه الطبيعي، حتى يمكن للفلسفة أن تلعب دورها فيه.
- أعود بك إلى دور المثقف اليوم، فأنت تعرف أنَّ هذا المثقف بدوره، لم يعد في وضعه الطبيعي، مثل الفلسفة، تماماً، فثمَّة لاعبون جدد دخلوا على الخط، وأصبحوا يلعبون هذا الدور، أو يتقمصون دور المثقف، ويلبسون قميصه. فالمثقف لم يعد له غطاء سياسي، خصوصاً بعد انهيار اليسار وما يعيشه من نكساتٍ، فهو يعيش، في ظل هذا الوضع، في نوع من الدُّوَار
Vertige . ألا ترى أنَّ هذا الدور والمفهوم نفسه يحتاجان إلى أن نُعيدَ التفكير فيهما، ومراجعتهما، ونقدهما أيضاً؟.
أشَرْتَ إلى قضية مهمة، لي فيها وجهة نظر سأعبر عنها الآن: عندما أتابع ما يحدث ألاحظ أنَّ هناك عَجَلةً في التفكير. وهذه العجلة تُؤدِّي إلى استعجالٍ في النتائج العامة، وإلى غياب المثقفين كذوات قادرة على التحليل، في إطاره الموضوعي والعلمي. الكثير من المثقفين أصبحوا، على الأقل، تابعين لما هو إعلامي، بدل أن يوجهوا الإعلام. لقد أصبحوا أنفسهم يستخدمون نفس ألفاظ هذا الإعلام، وربما كثير منهم يكتبون بتأثير منه. بما أنني أشتغل في الفلسفة، وأنا متأثر بالعلوم الإنسانية، تعلمتُ من هذه العلوم أنه ينبغي دائماً أن نهتم بالمعطيات، ولا نتعجل الحكم، وقد تحدثت الفلسفة منذ ديكارت عن هذا الأمر، ثم تعلمتُ عن طريق باشلار، وعن طريق بياجي، أن أنتظر المعطيات. فأنا بقيتُ صامتاً، كغيري من المثقفين، أنتظر المعطيات، والتطورات، لأعرف ما الذي يحدث الآن، فالفكر العربي، في كثير من الكتابات، فَكَّرَ في الثورة، ولكنه كان يبشر بها.
- المشكل المطروح هنا، وانطلاقاً مما تقوله، هو أنَّ المثقف أصبح انتظارياً، فهو لم يعد مشاركاً في ما يجري، أو مبادراً إليه، فهو لا يخرج ليتكلم إلاَّ بعد أن تكون الأمور انتهت، أو سارت في طريق آخر، فهو لا يأتي إلا في آخر المطاف ليقول رأيه أو لينتقد، ويتحدث عن العجلة، وغيرها مما قُلْتَه الآن؟.
بعض الزملاء من بلاد عربية، منها مصر، دعوني إلى الكتابة في هذه الموضوعات في حينها، ولكنني قلت لهم إنني أريد أن أستفيد من إجابتكم أنتم الذين تواجهون الواقع مباشرة. هل يمكنني أن أتحدث عن مصر مثلاً؟ لا يمكنني ذلك، فأنا استفدت من كتابات المصريين، في هذا الباب، واعتبرتُ أنهم أحق مني في الجواب. ولذلك اعتذرتُ عن مثل هذه الكتابات، التي قلتُ إنَّ المثقف الموجود في عين المكان هو من يمكنه أن يتحدث في هذا الأمر. لا تنس أنني، كما قلتُ لك، متفلسف، ومتأثر بالعلوم الإنسانية، ولذلك لستُ انتظارياً، ولكني لستُ «تَدَخُّلِياً».
- إذن، أنت ترى أنَّ المثقف الذي كان ينبغي أن يُوجِّه ويقود أصبح هو من يُقاد؟.
هذا نتيجة لسرعة الإعلام. لو أنَّ الإعلاميين كانوا في مثل هذه الحالة يُشْرِكون معهم المثقفين في إطلاق الأسماء، أو المصطلحات، لوجدنا أنفسنا في وضع آخر. ولكن لم تتح للمثقفين فرصةَ الاستماع إليهم في هذه الحالة. هناك فرق بين الموقف والتنظير. إذ يمكن أن أكون في مظاهرة، تأييداً لما تدعو إليه، فهذا موقف، لكن التنظير أو تحليل الظاهرة شيء آخر. قد ترى بعض المثقفين في المظاهرات، لكنك لا تراهُم في التحليل، بهذا المعنى.
- أنت تعرف أنَّ التعليم في المغرب يعيش حالة احتباس، وأنَّ المدرسة، اليوم، أصبحت شبه مستقيلة عن دورها التربوي التعليمي، وقد اعترف الجميع بهذا الوضع الخانق للتعليم، بما في ذلك بعض الخطابات الملكية. كيف تنظر إلى ما يجري؟ وكيف تحلله أو تقرؤه من منظورك الشخصي؟.
كنتُ مُدَرِّساً، واهتممتُ بالعملية التعليمية، وعندما طُرِح الإصلاح كنتُ حاضراً في كثير من المقالات التي كتبتُها عن الإصلاح، نشرتُ بعضها، ولي كتاب في هذا الموضوع. مشكلة التعليم تأتي، في جانب منها، من سرعة التغيُّرات، حيث لم تعد تسمح هذه التغيرات بالتفكير الجاهز والنهائي، لأنَّ العملية التعليمية متأثرة بالتطورات العلمية، والتطورات التربوية، وغيرها. كما أنَّ أزمة التعليم ليست موجودة عندنا نحن فحسب، بل موجودة عند دول أخرى، بما فيها البلدان المتقدمة. وهنا علينا التساؤل: ماذا ينبغي أن نقدم للإنسان المغربي؟ لذلك كانت علاقتي بالطلبة في السنوات الأخيرة من تدريسي في الجامعة علاقة معرفة، وليست علاقة امتحانات. كنتُ أنظر إلى التعليم كمنتج للمواطن المغربي، وكنتُ أريد من المواطن المغربي في المستقبل، عندما يقف إلى جانب غيره من مواطني بلدان أخرى، أن يكون قوياً، لأن ضعف التعليم يمكن أن يؤدي إلى ضعف الشخصية المغربية على العموم. لذلك ينبغي التعجيل بإصلاح التعليم، وإشراك جميع المهتمين بهذا الأمر في التفكير في وضع حلول جديدة، وألا يتم اعتبار هذه الحلول نهائية. الإصلاحات ينبغي أن تبقى دائما مفتوحة، لأنَّ هناك دائما متغيِّرات جديدة، ينبغي مواكبتها.

ليست هناك تعليقات: