الخميس، 17 مايو 2018

تقاسيمُ على نيتشه. يكون كأنْ لم يكنْ؛ موسى وهبه.





العودُ الأبدي

عن صفحة الدكتور جمال نعيم

نصٌّ قصيرٌ لموسى وهبه يشرح فيه فكرة العود الأبديّ النّيتشوي بطريقة أدبيّة جميلة تعتمد الحوار بين متحاوريْن.

تقاسيمُ على نيتشه
يكونُ كأنْ لم يكنْ

قال، أرفعك إلى اللغة واللسان وتهبط أبدًا إلى مقبرة الأحياء هذه.
قلت، لكنّ "مقبرة الأحياء هذه" لغةٌ أيضًا.
فتلعثم قليلًا، وتلفّت حوله، ثم استدرك وقال، ألمْ أعلِّمك أنّ الكونَ رتبٌ والطريقَ مدارج؟
قلت، أيّة رُتَبٍ تريد أن أُحصي بين كون لا يكون أو يكاد، والعدم؟ وأيّة مدارج تريد أن أرتقي بين الالتصاق بالأرض وشفير الهاوية!؟ [وتابعت بسرعةٍ نسبيةٍ (لا أذكر نسبةً إلى ماذا) قلت: كان يا ما كان، كان فيه ملكٌ وكان عنده ولدٌ وكان الصبي أزعر...] ثم بدّلت في لهجتي وأضفت: فمنذ وضعتَني أنت في أسر هذه اللغة صار الكون مجرَّد ماضٍ مضى. أو صار حكايةً تُحكى. ولا قدرة لي على أن أكون في الحاضر إلاّ على سبيل التعرّي والمباهاة. وها أنا ملزمٌ بإضمار كوني في التعبير عن حالي التي ليَ الآن فأقول أنا مشتاقٌ ومنتبهٌ وراغبٌ كأنَّ لي أحوالًا فقط ولا كوْنَ لي حاضرًا الآن، ولا مستقبل لي إلا بالوساطة، أي بالسيف وسوف والتقدير وما إلى ذلك...
فقاطعني بشبه حدةٍ وقال، تخوض في ما لم تُعدَّ له بعد. فأنت ما زلت تبهجك الأفكار، وما زالت تثير حميّتك الآراءُ. سأبعث لك إذًا، واحداً من أبناء جيلك. قال هذا، وأخرج زارا من تحت إبطه، ومضى لا يأبه لندائي.
قال زارا، اسمع يا رجل، لا تكن مُلْحِفًا.

قلت، ما هذا أيضًا؟ وكيف دسَسْتَ أنفك بيني وبينه؟ قال زارا، أراك وحيدًا من دونه. وأنا آتٍ أنتشلُك من عقيم السؤال، وأخطفك من أشداق العدمية.
قلت، أخبرني إذًا كيف أكون ومتى يُفكّ أسري؟
قال، الكونُ أسرُك الأبديّ. لكنّك توجد لحظة وتفنى، ثم تعود.
قلت، لم أفهم بعد. أراك تميّز بين كوني ووجودي. وأنا كنت آخذ الواحد بمثابة الآخر.
قال، لا تكون شيئًا ما إلاّ في ما مضى. أي لا تكون. ولا توجد إلاّ في لحظةٍ حاضرةٍ، والحاضر زوّال. فالكون المتكوِّنُ ليسٌ. أو عدم من الكون هو.
قلت، وما الذي يسند في كل ما مضى وما يحضر وما سيأتي؟ وكل هذا الذي تقول؟
قال، الكونُ الزمانُ الأصلُ الحاضِنُ. وحده الباقي والماكثُ والمتّصل أبداً. إنه الأزلُ والأبدُ والكلّ. وكل كائن مُستَغْرَق فيه. والمستغرقُ يكون كأنْ لم يكن، أو يكون كما لو أنّه كان وانقضى. فهو لا يمكنُ ولا يرقد بل يصير أبدًا.
قلت، أيصير إلى هدف معلوم؟
قال، لا هدفَ البتّة، بل صيْرٌ متّصل.
قلت، كيف أعرف ذلك؟ قال، الصيْرُ والعِرْفةُ لا يلتقيان. وعقلك، الحسّاب هذا، لا يدرك الصيْرَ والتبدّلَ لأنه لا يدرك إلاّ ما يثبتُ ويجمد، أي ما يتوهّم أنه الكائن والمتعيِّن.
قلتُ، كيف أوجد إذًا؟
قال، أن توجد يعني أن يجدك الغير. سيقولون لك بعدي أن المستقبل هو الغير، وستفقه ذلك حتمًا. أما أنا فأقول: أنت موجود لأنَّ الحياة تريد ذلك. فالحياة، كي تحيا كما ينبغي، بها حاجة إلى أفقٍ تظهر فيه، إلى ما يبقى هو هو، موجودًا متعيّنًا؛ لأن الصيْرَ المكلف ليس حياة أو لأنّه ليس بالمطلق.
قلت، ثمة إذًا ما هو أوسع من الصيْر؟
قال، ما هو صائرٌ. أو بالأحرى ما قد صار وعاد. لأنّ كل شيء يذهب، وكل شيء يعود. ودوّار الوجود يدور أبدًا. كل يموت وكل يزهر، وفي كل آنٍ يبدأ الوجود وحول كل هنا تنتشر الكرة هناك. فيكون المركزُ أينما كان. ودرب الأبد تتعرّج أبدًا.

قلتُ، وكيف تدفع عن زخمك الشاعري هذا؟ كيف تقنع نفسك بما تروي لتتابع الرواية؟
قال، أرى بدءًا كل شيء يصير الآن ويتبدّل ولا أرى نهاية لما يصير، وأفرض من ثمَّ أنَّ الزمان يقوم في ذاته لا في غيره فلا حدّ له. أمّا القوة المبذولة فمحدودة ولا بدّ. فلا بدّ إذًا من العود أبدًا. وإن شئت قل، مع من قالوا، إن إرادة السلطان أو إن النزوع إلى القدرة نازع أبداً إلى الاستزادة والتوسّع.
وإنَّ الحركة التي تتسع أبدًا تدور على نفسها ولا بدّ، وتعاود أبدًا، ولا بدّ، سيرتها الأولى.
قلت، فوتْسو؟ ولمَ هذا!؟
فانتفض كجريح ثم قال، لا تكرر هذا اللفظ بعد الآن. إنما جئت كي أخلّصك من السبب. كي أعلّمك كيف تقول نعم للحياة. كيف تقهر الموت بحبك للحياة. لأنك إن أحببتها، ستحبّها كما تحياها الآن وستقول: أريدها مرة أخرى بعد. أريدها كما هي، شواشاً ومصادفةً ولغزًا.
ورأيت نفسي أكمل زارا وأقول: هذا العود سيعيد أيضًا الصغير والحقير والغبي، ويعيد القطيع والدهماء أيضًا. لكن لا بأس، فإن تسلّطت عليك فكرة العود الأبدي ستبدلك في ما أنت عليه. وثمة حملٌ ثقيلٌ ترزح تحته سيلحّ عليك بالسؤال: هل تريد أن تحيا هذا أيضًا مرة أخرى؟ وعددًا لا ينتهي من المرّات؟ وسرعان ما ستنهمّ بأن تحيا على نحو ترغب معه أن تحيا من جديد. كما لو أنَّ أمرًا مطلقًا آخر يفرض أن تقيس بمقياسه كل ما أحسّ، وما تريد، وما تصنع، وما تكون.
وأحسست فجأة بطعم القِدَم، فأيقنت أنّ زارا مقبل على الموت. وصمّمت على أن أشارك في الجنازة. ومرّة إثر مرة وإلى الأبد.
 
(موسى وهبه)

ليست هناك تعليقات: