الجمعة، 18 مايو 2018

الفرد والجماعة (2)، والرهان الحرية؛ د. موسى وهبه.


الفرد والجماعة
والرهان الحرية
​​موسى وهبه
(عن صفحة الدكتور جمال نعيم)

هل الفردانيةُ غربيةٌ وحسب، وحديثةٌ وحسب؟ وهل هي مجردُ خدعة سلطانية، أم تراها الفرض العمليّ لاحتمال الحرية؟!
قال، تقسو على صاحبك الجمعي وترحّل آراءه بسرعةٍ فائقة وبمجرّد السخرية. فلا أراك محاورًا ولا نقديًّا حتى، بل مجرد جدلي وحسب. لكأنه يكفي أن نرطن ببعض الأسماء-الأعلام حتى نفحم الخصم من دون أن نُقنع. أو لكأنّ الغرب ما زال ذلك النموذج المحتذى الذي لم يعْتور صوته أي خدش ولم يَعلُها أي اصفرار. ألم يحن الوقت لكي ندافع عن الرأي بالفكرة لا بالجرس؟! ألم يحن الوقت لكي نرى إلى بقايا الطفولة فينا والحماسة المنبهرة؟!
قلت، بلى، وبدل أن أعتذر كما ينبغي على قسوتي وتسرعي، تابعت كأيّ عقيديّ شديد، وبانتصاريّة شبه خفيّة.
فقلت، ولكن دعني أوضّح. لم تكن صورة الغرب محطّ الرهان مع صاحبي. كنت أهزأ منه وحسب بسبب تدليسه على نفسه. فهو كان يعرض أو يردّد أقوالًا معروفةً معادية للفرد والفردانية و«الحياة الغربية»، ظهرت في هذا الغرب نفسه، ثم ينسبها إلى نفسه ويزعم أنها دفاعه الذاتي ضدّ الغرب، ويقترحها رايةً جديدةً لاكتشاف الذات الجمعية والأصالة وشرف المحتد.
ثم هدأت وقلت، قد يكون من المفهوم أن يعترض مفكّرٌ في بلاد الغرب على الفردانية المفرطة، وينبّه إلى خواء الديمقراطية الشكليّة، وإلى سهولة تحوّل الأفراد المفردين أدوات استبداد وعسف، ويدلل على عزلة الأفراد وقصورهم أمام طغيان الدولة وسلطة المتسلّط. بل قد يكون من المفهوم أن يتبنى مثقفٌ ما عندنا (وهل من مثقف عند غيرنا!) عقائد معادية للديمقراطية أو موغلة في السفلية. ذلك سيكون خياره الخاص ومذهبه. أما التدليل فهو أن يقدم هذا المثقف نفسه تلك العقائد بوصفها ابتكاراتٍ ذاتية، وثوريّات محلية للقطع مع الغرب المستغرب.
قال، لكن الأفكار النهضوية عندنا، والدعوات التحررية، كانت مندّدة أبدًا بالفردية والانعزالية، وداعية إلى العمل المنظّم والتخلّي عن ضيق الأفق الأناني والأحكام الذاتية... وأل إلى آخره.
قلت، مع هذا الفارق البسيط: دعوات الأمس كانت إلى أن «نجد لنا مكانًا تحت الشمس» كسائر الأمم. ودعوات اليوم تقترحنا مثالًا يحتذى ومستقبلًا للعالمين. لكنّ الأمر في الحالين تقليد. والخلاف بين التقدميّة إلى أمام والرجعيّة إلى خلف مجرّد خلاف لفظي أو خلاف في الوجهة على الخط الواحد. والواحد الموحّد هو الرفض للحريّة الفردية والخوف من الحداثة المقلقة والسعي إلى سلطان مطلق على الأنفس والرغبات. ولعله سلطان كسول، وإذًا سلطان غيور على العبد والتابع، ذاك الذي تسميه الحكماء استبدادًا شرقيًّا. إن احتقار الأدب و«الأوجاع الشخصية» والهموم الاستثنائية، وكل «شواذ» عن القاعدة، كانت أبدًا علامة جامعة لكل سلطوي عجول، وتأكيدًا للخطّ نفسه. ولذا أمكن الجري على الخطّ نفسه في الوجهتين.
قال، لكنه الخطّ الذي يناسبنا وينتسب إلينا ولا يسلخنا عن تقاليدنا وتراثنا وشخصيتنا و...
قلت قبل أن يذهب بعيدًا، أراك تقفل النقاش على هذا النحو. إذ من الواضح أنك تتبنّى وجهة خاصّة في النظر إلى تقاليدنا وكل ما يمت لـ(نا) بصلة، وتقدّمها بوصفها حقيقة نا الثابتة التي تتخطّى كل نقاش. كأننا دون العالمين نولد بالجمع ونموت بالجمع، جمعًا متماثلًا متراصًّا لا يعتورنا خلل ولا يداخلنا اختلاف.
قال، أقرّك على أن هذا النوع من العسف تبسيطيٌّ ومجحف في حق التعدد والتنوع القائم في تراثنا، كما في أي تراث. وأنَّ التعدد والاختلاف لا ينجم عن اختلاف الأحقاب والعصور وحسب بل أيضًا عن اختلاف العناصر المكونّة من قدريّ وجبري، وعارب ومستعرب، وغازِ ومغزوّ. لكن هذا التعدّد هو تعدد الجماعات والقبائل والأنساب في هذا الكلّ المركّب. ويبقى الفرد اختراعًا غريبًا وحديثًا. وعندما نقول اختراعًا نقصد معنى التوهيم بهدف الاستخدام. كما لو كان ثمّة نداء يخرج من لا محلّ يدعو الأفراد كي يمتثلوا بحريّة كاملة.
قلت، لكنك في مسألة الغربيّة والحداثة هذه تدفعني إلى حيث لا أشاء. ألا تقوم الدعوة الدينية ذاتها على دعوة كل فرد بعينه؟ ألا يسقط معنى التكليف والجزاء إن انتفى الفرد ككائن حرّ ذي قيام بالذات والجوهر؟ لا يسقط بذلك معنى التوهيم، لكن يسقط بالتأكيد حسبان الفرد بضاعة غربيّة وحديثة حصرًا. أما أن تكون الفردية خدعة سلطانية، تلوّح بحرية الأفراد لتحسن إدراجهم في السعي إلى غايتها الخفيّة، فتلك مقالة بحاجة إلى هيغل وكل فلسفة «مكر التاريخ» كي يستقيم. ذلك أن استخدام الشيء يفترض قيامه السابق. فلا خلاص من الدور إلا بافتراض أن الفرد يُخلق أصلاً كي يستخدم لاحقًا ليصحّ التوهيم، وهذا يعني أن الخالق والمستخدم واحد، ولا أظنّ أن أحدًا، اليوم، يتبنى ميتافيزيقا هيغل.
قال، لكن الفردانية نفسها لا تستقيم، وتجافي واقع الحال وأسبقية الأصل على الفرع والعلاقة على المتعلّق. وتعاند علمية علوم الاجتماع والسكان والسياسة والاقتصاد والتاريخ الإنساني جملة. فإذا لا قواعد أو لا قوانين تنتظم بموجبها أفعال الفاعلين ونزواتهم، لا إمكان للمعرفة المنظمّة بهم.
قلت، ها قد تقدمنا خطوة على الأقل. إذ تبيّن أن جلّ ما في وسعنا هو تجريح الفردانية وحسب. فمدار الرهان ليس الفرد ولا الجماعة بل الحرية الفردية. والجمعي لا يدفع ضد الحرية الفردية إلا استبعادًا باسم مصلحة الجماعة، أو استنادًا إلى علميّة علوم الإنسان والمجتمع (والطبيعة أيضًا). إن جمعيته سياسة إذًا، وسياسة علمية إن شئت.
قال، وما ضير علمية السياسية؟ ألست مع إلحاق السياسة بمعطيات العلم و«التحليل الملموس للواقع الملموس»؟! قلت، للأسف لا، لكن أود لو تميز بين الفيزيقا والآطيقا. بين الطبيعة والأخلاق بين البحث في أحوال الشيء والكلام على قيمته. وفي النهاية بين الإدراك والإرادة، أو كما تقول النحاة، بين الخبر والإنشاء. فالخبر وحده يصح عليه الصدق أو الكذب، في حين يقع الإنشاء في باب الطلب والرغبة والتمنّي وسائر أحوال الإرادة.
والجمعي الذي ينفي حرية الإرادة لا يستطيع التمييز بين الخبر والإنشاء ويحسب أن كل إنشاء خبر في النهاية تصحّ محاكمته والحكم عليه. فهو يقيم أبدًا محاكم التفتيش ويضيق ذرعًا بحرية المعتقد. ليس لأنه ضعيف العقل أو قليل المعرفة أو مختلط المنطق بل لأنه قليل التمييز وحسب. ولذا تراه حامل الإرادة يفضّل الركون إلى ما يفرض عليه، من علٍ ومن خارج بدلاً من الانهمام بما يجب، والنهوض إليه.
الشيء والحقيقة
تعدد من أيّ الجهات أتيت

كيف يستقيم التعدد فعلاً وكينونة، وأي عقل يتسع لكثرة حقائقه؟ هل هو مجرّد لطيفة من لطائف الآطيقا أو منزع من منازع السياسة؟
قال، ما زلت لا أفهم كيف يكون اثنان على حق عندما يزعمان في الوقت نفسه مزاعم متضاربة في صدد الشيء نفسه. كيف يعقل أن لا يكون واحد على خطأ والآخر على صواب؟ كيف يعقل أن يكون الشيء هو هو، وهو غيره في الوقت نفسه؟
قلت، لكن الأمر هو كذلك أبداً عندما يختلف الموقع وتختلف الجهة أو يتعدد الشيء نفسه. وينبغي ترويض العقل على الإقرار بالصواب للواحد وللآخر في الوقت نفسه عندما يزعم الواحد غير ما يزعم الآخر.
قال، أليس ذهاباً بالعقل نفسه وتجرّؤاً على الحقيقة وإغراقاً في النسبية النافلة؟
قلت، لا حاجة إلى هذا التهويل كله. فأنت نفسك، كأيّ عاقل، تقرّ صوابين معاً على الأقل في شيء واحد، وتتسامح يومياً مع اختلاف وجهات النظر وتستملح الحيلة الجدلية. فالشمس تغيب عندك في لبنان وتشرق عند نسيبك في أستراليا وأنتما تتخاطبان على الهاتف فلا تصيبكما الدهشة. ولطالما استطرفت الكوب الفارغ والملآن في الوقت نفسه على أساس قسمته نصفين. ولطالما أعجبك القول، كل خطوة في الحياة خطة نحو الموت. والحي ميت باعتبار مستقبله ومآله.
قال، هذا معقول ومستملح وقديم قدم التفكير. ولا شيء فيه ينافي المنطق ويجافي الحقيقة الواحدة التي لا تضيق بأجزائها المتكاملة ولا بصيرورتها الآتية. ولا أظنك تصوّب إلى مثل هذه الأهداف القريبة أو تفتح مثل هذه الأبواب المخلّعة أصلاً. قد أكون أسأت التعبير في البداية، لكن المقصود بدا واضحاً على أيّ حال.
قلت، من الواضح أنك تستهول كثرة الحقائق واحتمال قيامها معاً وفي الشيء نفسه.
قال، إذا كانت حقيقة الشيء جوهره وماهيته وكان قول الحقيقة مطابقة القول للشيء، أو الفكرة لموضوعها، فكيف تكثر الحقيقة ولا تنكسر؟ إلّا إذا استعنت بالنسبية وحدثتني عن تغيير الإحداثيات وزاوية النظر، وما إلى ذلك. لكننا، هنا والآن، في إحداثيات واحدة ومقاييس واحدة، ولا بدّ من أن نتفق على الحقيقة وإلاّ استحال التواصل واستحال القول نفسه.
قلت، ما الشيء بدءاً وما حقيقته؟ أهو مجرد كلمة في سياق من القول، أم كائن معنيّ بالنظر والتأمل أم خارج مستقل ومطلق؟ إذا لم نكن نسبح في الوهم جملة أو ننعزل في شرنقة وإذا كان للكلام معنى يتواصل فيجب تدبّر مفهوم للحقيقة مصاقب. كأن نقول، مثلاً، إن الحقيقة مطابقة القول واتساق النظرة مع ذاتها. شيء ما قريب من الصواب والصدق (مع الذات).
قال، هذه طرفة من القول واستبدال للحقيقة بوجهة النظر، ولم نكن في حاجة إلى هذا التحذلق كله للوصول إلى هذه الحصيلة العجفاء. كيف نفاضل بين وجهات النظر إن لم يكن بحكّها على محك الحقيقة القائمة خارجها؟
قلت، لم يذهب أحد خلف الجدار، (أو خلف الستار ليرى ما الأمر كما كان يقول الشيخ الراحل). ولا تعدو هذه القائمة خارجها وخارجنا أن تكون «امبريالية» وجهة واحدة من وجهات النظر، و«احتكاراً» لمطابقة الأمر الواقع و«استبداداً» بحقيقة الشيء يتسامح بإنزال الوجهات الأخرى منزلة الجانب والجزء فيغتني بها ويستنير، أو يعتصب فيطهر وينير كحد السيف.
قال، إذا كانت الحقيقة وجهة نظر متسقة مع ذاتها، وإذا كان شيء النظر أو «موضوع» القول يتعين بالوجهة نفسها، فهل معنى ذلك أن لا خروج من الذاتية البتة؟ ألاَ ترانا نساق مختارين إلى سفسطة معاصرة جداً ونقضي على العلم نفسه؟ أو على الأقل نضيّع معيار الفصل بين العلم والسحر؟
قلت، لست لأصل إلى هذا الحد، وإن كنت أرى أن لا ضير البتة من الوصول حيث ترغب، وأن من سوء التدبير وضع العراقيل البلهاء أمام مغامرة العقل. بل أفرض أن الحقيقة، على النحو الذي عيّنته، احتمال واحد من احتمالات لا تحصى. ولنقل، على الدارج من القول إنها احتمال ناجح. لكن المسألة تزداد صعوبة عندما نقول ذلك، والصعوبة لا تنجم، كما تظن، عن الافتقار إلى الموضوعية واليونيفرسالية، بل عن وفرة الموضوعيات وكثرة اليونيفرساليات.
قال، أرانا نبتعد كثيراً عن المدارك السليمة ونتدافع بالألفاظ الكبيرة، ولا أرى في ذلك توسيعاً للآفاق أو اقتراباً من السؤال الأساس: كيف يمكن أن تستقيم حقيقتا معاً في صدد الشيء نفسه؟ قلت، إذا كانت الحقيقة وجهة نظر متسقة مع ذاتها، ومطبقة، تالياً، لشيئها وموضوعها، فلا بدّ من الإضافة أن الحقيقة مُعدية (أي تنتقل بالعدوى) وقابلة للتفشّي بين البشر وجمع المؤيدين أي الحصول على الإقناع. وهذه الإضافة ليست مستنبطة بالتأمل بل مستقاة من الملاحظة، وهي لذلك في حاجة إلى تسويغ.
وفي كلام أبسط، إذا سلّمنا أن الحقيقة احتمال واحد من احتمالات لا تحصى – وهذا لا يعني أن الحقائق نفسها لا تحصى، وإذا سلّمنا أن لا حقيقة إلا صادقة- وهذا يعني أنها مصدقة وقابلة للتناقل بوصفها كذلك وإذا سلّمنا أن الحقيقة الصادقة هي مطلقة في لحظة صدقها وتصديقها – وإلّا غدت مجرد احتمال وظنّ وترجيح – إذا سلّمنا بذلك كله، يبقى لنا أن نفهم كيف تكون الحقيقة احتمالاً وتكون مطلقة في الزعم. ثم كيف تكون مجرّد وجهة نظر، أي حقيقة فردية ومفردة، وتكون قابلة للتداول والتواصل؟ ولا يسعنا الاكتفاء بما اكتفى به شيخ الفيزياء الشهير عندما قال: «من غير المفهوم أن يكون العالم مفهوماً». لقد كان له من فيزيائه ما يغنيه عن الإصرار على الفهم، أما نحن فلا حيلة لنا سوى أن نحاول، سوى أن نتدبر الأمر كي يظل الكلام قادراً على الجري والتناسل.
وحيلتنا الباقية هي أن نفرض الفروض الواقية عسى أن تتعلق بواحد منها فينشلنا من الغرق في اللا معقول. فلنفرض إذن أن العقل البشر واحد بمنازع كثيرة أو بملكات متساوية، فما يصح لديه في واحد على وجه الصدق والاتساع يصح لديه في آخر وفي الكل جميعاً.
قال، كنت في السابق تفرض تعدد الكائن (الشيء) ولا تناهي وجوهه وتساوي تجلياته كي تجعل التفاهم ممكناً.
قلت، لا فرق كبيراً بين هذا وذاك إذا كان الكائن الشيء يتكوّن بفعل وجهة النظر أو يكوّنها. وهذا احتمال آخر جديد: يمكنك أن تكون مثالياً أو واقعياً وأن تظل مع ذلك تعددياً.
قال، شرط أن لا تنسى أن مدار الأمر فرض من الفروض وضرب من الآطيقا.

د. موسى وهبه

ليست هناك تعليقات: