الجمعة، 18 مايو 2018

الفرد والجماعة (1)، عندما يناهض المثقف فرديته؛ موسى وهبه.


 


الفرد والجماعة (1)
عندما يناهضُ المثقف فرديته

(نصٌّ لموسى وهبه من كتاب مقاطع من كتاب النّثر)


يبدو الفرد اختراعًا غريبًّا وبلاءً في الوقت نفسه، لا يمكن الخلاص منه من دون نقد الأساس الذي عليه ترتفع حضارة الغرب وآليته النبذيَّة. فهل يكون الخلاص بالعودة إلى روح الجماعة؟
صاحبي يحفظ دفاتره من تقادم الزمن عليها، ويحفظها عن ظهر قلبٍ كي تظلَّ جديدة أو تبدو كذلك. فهو ما زال يقلّبها من عشرين ونيف، ويقلّبها ويعلن، مرةً: الفرد وهم إيديولوجي والفرد اختراعٌ غربيٌّ، والغرب في الأصل أنانية رأسمالية وإمبريالية اخترعت الفرد المزاحم َللآخر، وال«أنا أفكر إذًا أنا موجود» ووجودي قائمٌ على وعيي لأنا وأنانيتي، والآخر، ما الآخر؟ إنه جهنمُ على قول سارتر، أو هو برابرة العالم خارج أوروبا على واقع الحال ومآل المقال. لكنَّ الغرب دخل في الحائط. الغرب الذي اخترع الفرد يحتضر. إذًا... إذًا بنورٍ قذفه الله في الصدر لم تكن تلك الرحلة المضنية إلى الغرب سوى مرحلة الشك الضرورية حتى ينبلج اليقين. وها هو ينبلج: الجماعةُ أولًا والجماعة آخرًا. فعودوا إلى بيوتكم وأحضان أمهاتكم التي طالما انتظرتكم سالمين. هذا عندما يكون صاحبي موجزًا وشعبيًّا. لكنَّ صاحبي مثقف ٌومناضل أيضًا. وهو يعرف كيف يضبط ثقافته على قياس نضاله. ولطالما برهن على صحة موت الفرد وغربته عنّا. فهو يعلم ويعلّم أنَّ الحداثة الغربية لم تكن سوى شكلٍ جديدٍ من أشكال ممارسةِ السلطان، وأن السلطان الحديث أو سلطان «المراقبة والمعاقبة» إنّما يمارس سلطته عبر تقنيات الضبط والبحث والفحص والتدقيق. وإنَّ الفرد ليس سوى حالة خاصة هي في الوقت نفسه موضوع للمعرفة ومحل لممارسة السلطان. فالفرد هو ما علينا وصفه وقياسه وجسّه ومقارنته بسواه في فرديته بالذات، وهو ما علينا من ثمَّ تعليمه وتقويمه وتصنيفه وتطبيعه والقبول به أو نبذه.
ويستفيض صاحبي أحيانًا في الظرف والكياسة فيضيف كمن يقرأ في كتاب (مع أنه يقرأ في دفتره): ونسمّي هذا السلطان حديثًا لرصد خلافه مع شكل السلطان السابق عليه حيث كانت الفردية في الغرب نفسه مقصورة على الفئات العليا، وحيث كانت سيرة المرء وتاريخه الشخصي جزءًا من طقوس قوته وجبروته. فكان المجتمع فرديًّا من فوق وجمعيًّا عموميًّا من تحت. والفرديةُ [التي] كانت امتيازًا تصبح مع الحداثة علامةَ إخضاعٍ واستفرادٍ بالأحرى. فالولد أكثر فرادة من الراشد، والمريض من السليم، والمجنون والمتشرد من العاقل والسويّ.
وتشرق سحنةُ صاحبي وتلمع عيناه عند هذا الحد، فيعقّب بانتصار وتشفٍّ باديين: ذاك هو أصل تلك العلوم النفسانية والإنسانية. سلطان الغرب اخترع هذه العلوم، والحقيقة أنه لم يخترع بل مارس سلطانه فأوجد علمه وموضوع علمه دفعةً واحدةً.: فهو أحلّ السويَّ محل التليد، والقياس محلّ المقام، وأحلّ من يُعَدّ ويُحصى محلّ من يُذكَر ويحتذى به. بل قل أيضًا إنه أحلّ الرواية محلّ الملحمة، وصنع من كل ذلك حداثةً سرعان ما ستذوي عندما يدرك أن الفرد وهمٌ فيعلن موت الإنسان.
ويتضرّج وجه صاحبي كمن يحاول استدراك زلة لسانٍ لم يعد في الإمكان استدراكها، فيقلّب أوراقه بعصبية بالغة ويعلن: المهم الانتباه إلى أنّ الفرد لا يوجد. إنّه مجرّد بطانةٍ للدولة الحديثة. الفرد ليس. أو قل لا يكون بل يصير ويصير دولةً. أليس للدولة رئيسٌ، رأس، رأسمال. أنا الذي هو، في اختصار تحمل الفردية الوعد بالكَتْلانية أو التوتاليتارية كما تسميها الأجانب. الفرد تفرّدُ والكتلانية توحّد ويسمّى هذا الائتلاف في علوم الغرب: ديمقراطية. ومجمل تدابير الكَتْلانية وسعيها في وضع حدود للفردية وحصر آثارها يسمّى دستورًا. وهكذا عندما تسمعون إعلان حقوق الفرد المقدسة وحقوق الإنسان التي لا تمس، اعلموا أنَّ المسألةَ في الحقيقة هي مسألةُ تدبير وسائلَ للسيطرة عليه وتعليق حقوقه. فالغرب منذ أن اخترع هذه الهيئة المسماة فردًا، دخل في دروب الشقاء وأساس قيادة للسلطان وافتقد الرحمة اللدنية.
وقد يأنس صاحبي إلى مستمعيه أو بعضهم على الأقل، فيضيف من حين إلى آخر، وفي حميمية خالصة: الحقيقة أن المسألة أعتق من الحداثة في الغرب. وقل إنها تصعد قدمًا إلى اليونان، إلى التجرد المثالي للفكرة، وإلى التنسُّك وذمِّ الحياة الدنيا.. لكنّ المسالة لم تتفاقم إلا في العصور الحديثة عندما أسسها ديكارت على «أنا أفكر، إذًا أنا موجود» وجعل منها «سيستامًا» شاملًا للعالم.
ففي البداية كان الفكر، وفي النهاية يكون أيضًا. فكرٌ لا يعثر على العالم إلاّ بتوسّط مجرّد، هو مجرّد فكرةٍ أيضًا. وعالمٌ لا يوجد إلاّ لكي يكون موضوعَ علم، وعلمٌ لا يُطلَب إلّا لكي يجعلني سيدًت على الطبيعة ومالكًا لها. هذا العلم العدواني هو الذي ما زال، منذ أربعة قرونٍ، يعبث بالطبيعة ويستنفد مواردها ويجعل من هذا الأناني قاهرًا للعالم غير الأوروبي. لكن ليس إلى الأبد. فالسجنُ الذي حصرتْ فيه الذاتُ نفسَها لم يعد يطاق، وتراها عاجزةً عن فكّ الأسر ما لم تُعِد النظر في الأساس. والأساس أنَّ جهنمَ ليست الآخر بل الانغلاق على الآخر. فأنا أولد من آخرين وإليهم أنتسب ولا أبدأ من ذاتي بل من جماعتي. ولا أخلق نفسي بل أجد نفسي هنا. ولذا فأنا لا أخشى الموت ولا أحسبه القلق الأعظم، لأن وعيي لذاتي وفرديتي وعيٌ محصّل ومكتسَب، وتجاوز الذات والوعي الفردي أمرٌ ميسّرٌ في ثقافتي وحياتي اليومية.
إذًا؟ إذًا «وجهك يا غرب مات» فلتسقط الفردية ولتحيَ الجماعة وروح الجماعة وثقافة الجماعة. ويسرع صاحبي في الخطابة ويوغل في الفصاحة، فأكفّ عن الاستماع وأنصرفُ إلى المشاهدة.
وأنصرفُ إلى المشاهدة لأنني أعرف أن صاحبي يدلّس ويعرف أنني أعرف أنه يدلّس. لكن ما لا يعرفه صاحبي أو ما يبدو أنّه لا ينتبه إليه، هو أنني أعجب من قدرته على الانتقال من نقيضٍ إلى نقيضٍ أو ممّا يبدو لي كذلك، ومن قدرته على جمعها معًا، كالانتقال من سارتر إلى فوكو مثلًا، وجمعها في سلةٍ حاكها الماركسي روجيه غارودي السابق.
وأعجب مرةً أخرى لأنني أفهم إعجابه بنقد فوكو للماركسية، أو لماركسية ما، لكنني لا أفهم لماذا يغرم تحديدًا بما يزال يعلق بفوكو من الماركسية والهيغلية وكل جمعية وبنيوية سابقة أو مقبلة: الضيق بالفرد والضيق الأضيق بحقوق الإنسان والمواطن.
وأعجب مرةً ثالثةً لأنَّ صاحبي أقفل على دفاتره ولم يعد يدوّن قراءاته
فيها منذ أن اهتدى إلى... صوابه وثاب إلى... رشده. أي منذ أواسط السبعينات التي كانت تنشغل بالرد على أواسط الخمسينات.
كنت أودُّ أن أسرّ إلى صاحبي بأن يضبط ساعته على توقيت العصر، إلّا أنني انتبهت في اللحظة الأخيرة إلى أنه منذ أن – أعني من يومها – لم يعد صاحبي يحمل ساعة، أو لم يعد بحاجة إليها.

ليست هناك تعليقات: