الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

في الفلسفة السياسية، لوك وهوبز: قراءة ووجهة نظر./ محمد الحجيري.



في الفلسفة السياسية: لوك (تابع)
لوك (1632ـ 11704) وهوبز (1588ـ 1679) والسلطة السياسية: قراءة ووجهة نظر.

يرى جون لوك بأن الإنسان في حالة الطبيعة كان يعيش في حال نموذجيّة، وكان يتمتّع بحقوق ثلاثة أساسيّة، هي: الحرّية، والملكيّة الطبيعيّة والمساواة الطبيعيّة.
وأنه ما انتقل إلى حال التعاقد، إلا بسبب خوفه من التعسّف في تطبيق العدالة، لأن "رغبة الفرد في الثأر لنفسه من عدوان الغير عليه فيطبّق العدلَ بمقتضى هواه؛ أي بطريقة تحكمية وغير منصفة. فلما كان الجُرم يصغر في عين فاعله، ويكبر في عين ضحيته اختل الوزن والميزان بسبب اجتماع الخصم والحكم في شخص من ينفذ الاقتصاص لنفسه بنفسه. يتبع ذلك باللزوم أنه تحاشيا لهذه النزعة الغاشمة التي تردّ على العدوان بالعدوان والمنذرة بالحرب وبانخرام الوضع الطبيعي ينبغي على الإنسان الخروج من الحالة الطبيعية إلى الحالة المدنية لوجوب التقاضي لدى قوة عليا ثالثة"
لكن هذه القوّة العليا الثالثة لا تملك إلا صلاحيّةً مقيَّدةً كتلك التي يتمتّع بها الحَكَم ليس إلا، على العكس من الصلاحيات المطلقة التي يعطيها هوبز للحكومة التي لا يسع أحداً محاسبتُها، طالما حفظت حياة الأفراد.
الأسئلة التي يمكن أن تُطرح في هذا السياق هي:
1
ـ ما هي خصائص الامتيازات التي كان يحظى بها الأفراد في حال الطبيعة؟
2
ـ لماذا تختلف الصلاحيات المعطاة للحكومة بين هوبز ولوك؟ وما علاقة ذلك بالحالة الافتراضيّة للأفراد في حال الطبيعة؟
3
ـ ما هي الطبيعة الحقيقيّة للأفراد في حال الطبيعة؟ أو على الأقل ما هي حقيقة الفطرة البشرية قبل أن تتأثر بعوامل التربية والبيئة الاجتماعيّة؟
الإجابة في ما يتعلّق بالسؤال الأول عن الامتيازات التي كان يحظى بها الأفراد في حال الطبيعة موجودة في كتابات لوك ذاتها بشكلٍ واضح.
تقتضي الحرّية -كما يقول- "ألاّ يكون الإنسان خاضعا لأية قوة عليا على الأرض، وألا يقع تحت إرادة إنسان أو سلطته التشريعية، وألا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها". وأما الثانية -وهي الحرية المدنية- فتقتضي "ألا يخضع الإنسان لأية سلطة تشريعية سوى تلك التي تقوم على الرضا بين الجماعة، وألا يقع تحت سيطرة أية إرادة أو أي قيد قانوني سوى ما يضعه المشرّع طبقا للأمانة التي عُهد بها إليه"
أما في ما يتعلق بالمِلْكيّة الطبيعيّة، فهي " ملكية الإنسان لشخصه ولبدنه ولحريته ولحقه في استخدام قواه كما يروق له"، فإذا كانت كل الأرض مِلْكا مشاعا بين البشرية جمعاء فإنّ العمل وحده هو ما يعطي للأرض قيمة مضافة تحّول قطعة منها من حيازة مؤقتة إلى ملكية قارّة مشروعة ومحدودة بحدود العمل. لا يملك الإنسان إلا ما يمكنه أن يستثمره استثمارا مباشرا، سواء كان هو بنفسه أو بالتعاون مع أسرته. لذلك اشترط لوك تعميمَ الملكية الخاصة، وليس إلغاءها لتكوين مجتمع من الأحرار والمتساوين بإباحتها من ناحية، وبالحدّ منها من ناحية أخرى.
أما المساواة الطبيعية فتتضمّن التكافؤ بين البشر من حيث الحقوق الطبيعية التي جاء ذكرها سابقا، ومن حيث واجبُ طاعة القانون الطبيعي، ومن أهم موضوعات المساواة الطبيعية هي: الناطقية (العقل) والحرية والحق في الحيازة والملكية وحق استخدام الفرد لقواه البدنية والذهنية؛ ليست قوى الأفراد الطبيعية متساوية، كالفرق بين من يولد بصيرا ومن يولد كفيفا. ولما كانت الملكية مرهونة بالعمل وكان العمل مرهونا بقوى الفرد، كانت الملكية متفاوتة. ولذلك يرى لوك أن المساواة بين البشر هي الصفة الطبيعية الوحيدة التي من الجائز أن تزول بإنشاء المجتمعات المدنية القائمة على التنافس، بل وحتى في بعض "التجمعات" الطبيعية. ولقد احتاط لوك من المجتمع التنافسي والقائم على التفاوتات فحَدَّ الملكية بحدود وشروط، من أهمها تلبية الحاجة المعيشية والتحوّز بالعمل وبما يضيفه من قيمة للأصل الطبيعي.
هذه أهم ميزات الحقوق التي كانت تميّز حال الطبيعة حسب لوك.
لكن لماذا هذه الفروقات الكبيرة بين صلاحيات الحكومة بين هوبز الذي يجعلها مطلقةً، ولوك الذي يجعلها في حدودها الدنيا للحفاظ على حال هي أقرب إلى حال الطبيعة الأولى؟
أظن أن الجواب واضحٌ هنا. فالإنسان في حال الطبيعة هو كائن عدائيّ عند هوبز. إنه ذئب تجاه الآخرين، وحال الطبيعة هي حال من "صراع الذئاب". لذلك على السلطة أن تكون مطلقة الصلاحيات للجم هذا النزوع العدائي الفطري عند الإنسان، لأن أيّ تساهل سيستفيد منه الأفراد لتجسيد ذاك النزوع وتحويل المجتمع إلى حالة من الفوضى والتدمير.. وهو يحذّر من ذلك صراحةً، إذ يقول بأن أيّ استنكاف للسلطة عن القيام بمهماتها تجاه الجميع، ستلجأ كل جماعة إلى الحلول محل تلك السلطة لتنال حقها بيدها، وما ينطبق على الجماعات ينطبق أيضاً على الأفراد.
وأنا أظن أن ملاحظة هوبز في مكانها، لكن ما هو موضع نقاش وموضع شبهةٍ ربما، هو أن ننسب حالةَ الفوضى الناتجة عن فساد السلطة أو عن تقاعسها عن القيام بمهماتها إلى حال الطبيعة أو الفطرة العدائية بطبيعتها.
ما الذي يؤكّد بأن حال النزاع التي ستنشأ بسبب خللٍ في أداء السلطة لا يعود إلى ما اكتسبه الإنسان في الحياة المدينيّة؟ من تنافس وقيَم أنتجتها المدنيّة نفسُها، أو ربما بسبب من الإحساس بالتعرّض للظلم وما إلى ذلك من الأسباب التي قد لا تعود إلى الفطرة الأولى للإنسان؟
وكذلك سيكون من الواضح أيضاً فهم موقف لوك من الصلاحيات الضعيفة المعطاة للحكومة، لأن ضعف هذه الصلاحيات لا يرتّب أخطاراً تُذكَر، وما على السلطات إلا مراقبة حسن سير الأمور في المجتمعات، والمقاضاة العادلة حتى لا يتم تطبيق العدالة بشكلٍ تعسّفي. ولا خطر من ضعف هذه الصلاحيات، لأن الأفراد في حالة ما قبل العقد الاجتماعي كانوا يعيشون رقيّاً ناتجاً عن هذه الحقوق الطبيعية التي كانوا يقدرونها حق قدرها بفطرتهم الإنسانية: الحرّية وحق المِلْكيّة وحق المساواة.
ـ نلاحظ هنا الأهمّية النظرية للفرضيّات المختلفة حول الطبيعة الأولى للبشر في حال الطبيعة!
وهذا بدوره يطرح سؤالاً قديماً جديداً: هل الإنسان بطبيعته طيّبٌ أم شرّير؟
وهل نحن نمتلك اليوم أجوبة أكثر علميّة عن الفطرة الإنسانيّة أكثر مما كان يمتلكها مفكّرو القرن السابع عشر والثامن عشر؟
أم أننا نمتلك فرضيّات إضافيّة ليس إلا؟ ليست أكثر أو أقل "علميّةً" من الفرضيات القديمة؟
ثم ماذا سيترتّب على هذه الفرضيّات الجديدة من تغيير في طبيعة نظرتنا المعاصرة لطبيعة السلطة ومدى صلاحيّاتها؟
في الحقيقة، فإني لا أملك جواباً عن السؤال الأخير الذي ربما نستعين بالإجابة عنه من خلال ما قدمته العلوم السياسية.. التي أعترف بمحدوديّة متابعتي ومعرفتي في هذا المجال؟
أما حول السؤال عن الطبيعة الإنسانية أو الفطرة الإنسانيّة، هل الإنسان مفطور على الغيريّة ومحبة الآخرين؟ أم هو مفطور على العدوانيّة والأذى؟
من الأجوبة المقدّمة في هذا المجال هو الجواب الذي قدّمه الفيلسوف الفرنسي (1613 – 1680) دو لاروشفوكو، وهو يعتبر بأن الإنسان بفطرته أنانيّ ولا يسعى إلا إلى ما يحقّق مصلحته حتى لو كان على حساب الجميع. وكل مظاهر التفاني ما هي إلا أقنعة خادعة تخفي حقيقة الأنانية لدى الإنسان.. وهو رأي شائع ومعروف.
والبعض يرى بأن الأمر أسوأ من ذلك، فالإنسان يسعى للأذى المجّاني حتى لو كان ذلك لا يقدّم له أية منفعة.
واختصاراً لهذا الموضوع، لأنه معروف كما سبقت الإشارة، فإني أرى أن الأنانية عند الأفراد حقيقة لا يمكن نكرانها، وبأنه أيضاً من الصحيح بأن الكثير من مظاهر الأنانيّة تتخفّى بأقنعة خادعة توحي بغير ذلك. لكن السؤال هو: هل الأنانيّة وحب الذات هي عدوانيّة بطبيعتها؟
لا أظن ذلك.
فالكثير من مظاهر الأنانية قد تكون في مصلحة طرفيّ العلاقة، وليست لصالح طرفٍ على حساب الطرف الآخر. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك هي علاقة الصداقة، التي قد لا تخلو من مصلحة ما، نفسيّة أو مادّية.. لكنها ليست على حساب الطرف الآخر. فإذا كنتُ أقف إلى جانب صديقٍ لي الآن لأنه يمر في محنةٍ ما، لأني بطريقة واعية أو غير واعية، أنتظر أن أستفيد من وقوف الآخرين إلى جانبي في وقتٍ آخر.. فليس في ذلك أيُّ ضيرٍ أو إساءةٍ إلى الآخرين.
وما ينطبق على الصداقة، ينطبق على العلاقة بين الأهل والأبناء، وعلى العلاقة بين الزوج والزوجة.. إلخ.
السؤال الآخر: ألا يوجد لدى الإنسان ميولٌ فطريّة غيريّة لا تبغي أيّ شكلٍ من أشكال المنفعة أو الأنانيّة؟
أنا أظن أن مثل تلك الميول موجودة. فإذا كان الأب يتفانى تجاه أبنائه لأنهم سيحملون اسمه لاحقاً، وسيحقق ما عجز عن تحقيقه من خلال إنجازاتهم.. فهذا لا يمنع شعور الأهل بالعطف على ابن معوّق لن يحقق لهم إلا المكابدة..
الرأي الأخير الذي يجب التوقف عنده في هذا المجال هو رأي فرويد في أوائل القرن العشرين، الذي يرى بأن النزعة العدائية عند الإنسان ليست فطريّة، بل هي ناتجة عن الكوابح التي يتعرّض لها الأفراد في بيئتهم: المنع والإلزام والقمع.. والذي لا يمكن للتربية أن تستغني عن بعض أشكالها.. فتنشأ العدوانيّة كردّ فعل على ذلك القمع.
ألا نلاحظ بأن الطفل حين يُمنَع من الحصول على ما يريد، كيف يتحوّل إلى العنف الممارَس على الأشياء من حوله، فإذا مُنع من ذلك قد يمارس عنفاً على جسده ذاته.
وللحديث بقيّة.. من خلال التعرّف على الضلع الثالث في نظريّة العقد الاجتماعي: جان جاك روسّو .. ثم ما جاء به مفكرون لاحقون في مجال الفلسفة السياسيّة.

محمد الحجيري
2
تشرين الأول 2015
(عن الفيس بوك)

ليست هناك تعليقات: