الأحد، 2 أكتوبر 2016

زكي نجيب محمود: عصرنا من فلسفته. (عن كتاب "العربي")


عصرنا من فلسفته
د. زكي نجيب محمود؛ من كتاب "العربي" بعنوان: نافذة على فلسفة العصر.
* العدد 222 - مايو 1977

أهم المذاهب الفلسفية التي يتقاسمها عصرنا، أربعة:
الوجودية، والمادية الجدلية، والبراجماتية، والتحليل، وإن توزيع هذه المذاهب الأربعة ليوشك أن يكون توزيعًا جغرافيًا، بمعنى أن كل مذهب منها يتركز في إقليم جغرافي
بذاته، ثم يشع منه إلى ما عداه، فالوجودية في غربي أوربا، والمادية الجدلية في شرقها، والبراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتحليل في بريطانيا.
على أن العالم ليس كله أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، فهناك قارات أخرى بأكملها، لكنها من الناحية الفكرية الفلسفية إحدى اثنتين: فإما جاءتها الغزوة من أوربا وأمريكا وهي في ما يشبه الخلاء من ناحية الفكر الفلسفي، وإما جاءتها تلك الغزوة لتجد بين ظهرانيها تراثًا خصبًا عريقًا، ففي الحالة الأولى انفرد الفكر الغازي فلم يحدث في نفوس الناس وعقولهم أزمة ولا ما يشبه الأزمة، وأما في الحالة الثانية فقد انقسم المثقفون قسمين أحدهما جلس ليجتر ماضيه، وآخر جاهد ليجد لنفسه مخرجًا، تارة بدمج الشعبتين في حياة واحدة ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وتارة أخرى بإغلاق صفحات الماضي ليتفرغ للوافد الجديد.
وغني عن البيان أننا نحن الأمة العربية من الطراز الثاني، أعني الطراز الذي جاءته الفلسفة العربية المعاصرة وهو على امتلاء ثقافي بما ورثه عن أسلافه، لكنه انشق على نفسه شطرين، فبينما تجد فريقًا منه لا يكاد يعي من فكر عصره خردلة، مكتفيًا بموروثه الغني، تجد فريقًا آخر قد أتاحت له الفرصة أن يلم بفكر العصر قليلا أو كثيرا، فتأخذه الحيرة: كيف يوفق في رأسه بين طارف وتليد.
وإذا نحن أخذنا الدراسة في جامعاتنا العربية نموذجًا يوضح موقفنا من فلسفة العصر رفضًا أو قبولا، وجدنا أقسام الدراسة الفلسفية في تلك الجامعات تضع الشرائح الزمنية التاريخية جنبًا إلى جنب، تضعها متجاورة وهي في حياد كأن الأمر لا يعنيها،
ففي هذه الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الإسلامية، وفي تلك الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، مأخوذة من مصادرها الغربية، فيخرج دارس الفلسفة من الجامعة وهو لا يزال في الحيرة نفسها: هل يحاول التوفيق أو لا يحاوله؟
وإذا حاوله فكيف يكون ذلك؟ ولقد شهدت في حياتي أعوامًا اشتد فيها الصراع بين أساتذة الفلسفة الذين أنيط بهم تدريس الفلسفة الغربية، فكان كل منهم يتعصَّب لتيار غربي دون تيار، وكأن هذا التيار أو ذاك هو من نتاجنا نحن، وانعكاس لحياتنا
نحن، ثم كأن هذه التيارات الغربية الأربعة يناقض بعضها بعضًا تناقضًا يجعل المتقبل لأحدها رافضًا بالضرورة للثلاثة الأخرى، وكان أجدر بنا أن نتبين الأمر على حقيقته، وهي أن العصر الذي أنبت تلك التيارات الفلسفية المختلفة إنما هو عصر واحد، ذو
حضارة واحدة، وأنها لتكون مفارقة عجيبة، لو أن هذا العصر الواحد يتمزق في مذاهب متعارضة في أسسها وجذورها.
ولقد كنت لسنوات طوال مخطئًا بين مخطئين، لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكنني اليوم - مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا - أؤمن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط، وليس هو أمر تعارض أو تناقض، فكل مذهب من المذاهب الأربعة الرئيسة التي تسود العصر، يسأل سؤالاً غير الأسئلة التي تطرحها على نفسها بقية المذاهب، والتناقض لا يكون إلا إذا كان السؤال المطروح واحدًا عند الجميع، لكن الإجابة عند هذا تجيء نافية للإجابة عند ذاك، فالمذاهب الفلسفية الأربعة التي
أشرنا إليها، إن هي على وجه الجملة إلا إجابات أربع، لا عن سؤال واحد بعينه، بل هي إجابات مختلفة عن أسئلة مختلفة، عني كل مذهب منها بسؤال، وأولاه اهتمامه، دون الأسئلة الثلاثة الأخرى، بحيث لا يكون معنى ذلك أنه بالضرورة رافض لمشروعية الأسئلة الأخرى، أو رافض للإجابة التي أجيب بها عن تلك الأسئلة.
وعلى سبيل التشبيه: افرض أن أربعة أشخاص اختلفت ميولهم أو استعداداتهم، نظروا إلى سجادة يفحصونها، فاهتم أحدهم بالرسوم التي ظهرت على سطحها، من حيوان ونبات وزخارف وغير ذلك، بينما اهتم الثاني باللون متسائلا إن كان مصدر
الصبغة كائنات عضوية أم كان مصدرها تركيبات كيماوية، وأما الثالث فقد وجَّه عنايته إلى نوع الصوف وطريقة نسجه، وطفق الرابع يبحث عن موطن الصناعة ماذا كان: أكان أصفهان أم كان شيراز؟ فهل يحق لنا أن نقول عن هؤلاء الأشخاص الأربعة
إنهم «متعارضون » متناقضون إلى آخر هذه الحالات العراكية التي تصورناها نحن دارسي الفلسفة في الجامعات العربية بين مختلف الاهتمامات التي ظهرت في التيارات الفلسفية المختلفة في أوربا وأمريكا.
ولنبدأ بما شئنا من هذه التيارات الأربعة، التي هي: الوجودية، والمادية الجدلية، والبراجماتية، والتحليل، التي قلنا إنها هي الا تجاهات الفلسفية الأساسية في عصرنا الراهن، أقول: لنبدأ بأيها شئنا، لنرى ما هو لب رسالته؟ ثم ننتقل منه إلى مواقف
أصحاب الاتجاهات الأخرى، متسائلين: هل هم بحكم اتجاهاتهم تلك رافضون لتلك الرسالة في لبها وصميمها، أو أن الأصح هو أن يقال عن هؤلاء جميعًا إنهم اختلفوا في اهتماماتهم وفي محاور ارتكازهم، مع استعداد كل منهم لقبول ما انتهت إليه أفكار
الآخرين في ما جعلوا اهتمامهم له؟
وليكن المذهب الوجودي هو نقطة ابتدائنا: أليست رسالته في جوهرها هي حرية الإنسان؟

إن الإنسان - بناء على هذا المذهب - هو الذي يصنع نفسه ويشكلها عن طريق القرارات التي يتخذها بنفسه، فليس هو بذي حقيقة مقطوع بها مقدمًا، ليسير على طريق مرسوم له ولا صلة له فيه، إذ لو كان كذلك لما كان له اختيار في ما يفعل وما يكف عن فعله، لكن سبل الاختيار مفتوحة أمام الإنسان في كل لحظة من حياته، بل إن هذا الاختيار واجب مفروض على الإنسان إذا أراد لإنسانيته أن تتحقق، أما إذا ترك سواه ليختار له، ولا يكون له إلا أن يطيع، فإنه عندئذٍ يكون بمنزلة من أهدرت آدميته، لأنه يكون قد حول نفسه من الحالة الإنسانية التي تريد وتختار، إلى حالة الأشياء الجوامد، أو إلى حالة النبات والحيوان.
تلك هي رسالة الوجودية، ليس فيها ما يرفضه مذهب من المذاهب الثلاثة الأخرى، وكل ما في الأمر، هو أن تلك المذاهب الثلاثة لم تجعل حرية الإنسان - بذلك المعنى المحدد لها - موضوع سؤالها، وقد تجد من الفلسفات ما يرفض الوجودية من حيث الأساس، كالمذاهب المثالية التي تجعل ماهية الإنسان سابقة على وجوده الفعلي، لكنها فلسفات نبتت في عصور أخرى غير عصرنا، وأقول ذلك عنها دون أن أريد لهذا القول أن يتضمن أنها أقل أهمية أو أكثر أهمية من الاتجاهات الفلسفية التي أنبتها هذا العصر الذي نعيش فيه.
وأمام رسالة المذهب الوجودي في حرية الاختيار وحرية القرار بالنسبة إلى الإنسان، قد يسأل سائل: أليس هنالك من القيود ما يقيِّد تلك الحرية عند الإنسان؟ ألا تتقيد - مثلا - بما يقتضيه منطق العقل حتى لا تصبح كحرية المجنون؟ لنفرض أن مسافرًا
قرر السفر من مصر إلى أوربا ليقضي بعض شأنه، ألا تتقيد حرية إرادته تلك بوسائل الانتقال المتاحة وبالقدرة المالية والصحية وغير ذلك مما يملكه أو لا يملكه؟ أو افرض فرضًا آخر وهو أن إنسانًا أراد أن يقسم مائة دينار على أربعة أشخاص بالتساوي، تلك هي إرادته الحرة، لكن هل تكون له كذلك حرية ناتج القسمة، وهو أن يكون نصيب كل فرد من هؤلاء الأربعة خمسة وعشرين دينارًا؟ إن إرادته مهما بلغت من حريتها، لابد لها من الانصياع إلى قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة، وله بعد ذلك أن يتحرك
بإرادته الحرة داخل إطار هذه القوانين.
لا، بل إنه وهو يتخذ لنفسه قراره الحر بإرادته الحرة، مضطر أن يصوغ ذلك القرار في لغة يفهمها الناس، ولما كانت اللغة ليست من صنعه الخاص، فهو مضطر إلى التزام المفردات اللغوية وطرائق التركيب اللغوي التي تواضع عليها الناس، ليفهموا عنه ما أراد وما قرر، وإلا لما أحدث في العالم الخارجي الأثر الذي أراد أن يحدثه بقراره ذاك الذي اختاره حرًا.
فإذا سأل سائل عن مدى الضوابط التي يفرضها منطق العقل فرضًا، أي تفرضها قوانين العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، بل وتفرضها كذلك لغة العلم ولغة التفاهم، كان ذلك السائل باحثا عن جواب لن يجده إلا عند من عني بفلسفة التحليل، لأنها فلسفة
توجه اهتمامها الرئيس نحو تلك الضوابط، فتحاول أن تستخلص الصور المنطقية الخالية من مضموناتها، لعلها ترى في وضوح أنواع العلاقات التي تربط أطراف الفكرة الواحدة ربطًا يفيدنا في توليد النتائج، فإذا كان المشتغل بفلسفة التحليل لا يرفض حرية
الإنسان كما وصفتها الفلسفة الوجودية، فإن المشتغل بالفلسفة الوجودية من جهته لا يرفض أن تضطلع فلسفة التحليل بتحديد الضوابط التي لا مناص من التزامها عند عرض أفكارنا، إذ الفلسفة الوجودية وإن لم توجه اهتمامها إلى ضوابط الأفكار في
إطارها الصوري، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها، كما أن الفلسفة التحليلية وإن لم توجه اهتمامها إلى أركان الحرية الإنسانية عندما تريد وتفعل، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها.
على أن صور المنطق والرياضة وقوانين العلوم وقواعد اللغة المفهومة ذات الدلالة، ليست هي كل القيود التي تقيِّد حرية الإنسان المتمثلة في فاعليته، إذ هو يريد ويختار وينفذ بالفعل، فهنالك بالإضافة إلى ذلك قيود الأهداف، لأن الذي يسير على طريق حياته بلا أهداف يتصورها ويحددها ليعمل على تحقيقها، هو المجنون وحده، وإذا كان ذلك كذلك في حياة العقلاء، فماذا تقول البراجماتية غير هذا؟
إن البراجماتية قيدت دلالة الفكرة المعينة بمقدار تحقيقها لهدفها، فإذا قلت عن فكرة ما إنها بغير هدف محدد تقصد إليه وترسم معالمه، كنت كمن لا يريد أن يفرِّق بين عاقل ومجنون، وإذا كان فيلسوف الوجودية وهو منغمس في البحث عن حرية الإنسان، لم يوجه اهتمامه كذلك إلى تحليل الأفكار الصحيحة تحليلا يقيدها بالأهداف التي تتحقق بوساطتها على أرض الواقع الفعلي، فليس معنى ذلك أنه - أي فيلسوف الوجودية - يرفض هذا الذي تقوله البراجماتية، كما أن البراجماتي لم يكن ليرفض
ما يقوله الوجودي عن صنع الإنسان لنفسه باختياراته الحرة التي يمارسها في المواقف التي تعرض له في مسيرة حياته.
هنالك - إذن - قيود تحد من إطلاق الحرية الوجودية، دون أن تنتقص من صميمها، فلقد ذكرنا قيود العقل بمنطقه، وقيود الوسيلة اللغوية التي نتفاهم بها حتى لا تذهب أقوالنا عبثا مع الريح، وهنالك قيود الأهداف التي لابد منها لتهتدي بها الحرية الإنسانية إذ هي تريد وتختار، ونريد الآن أن نضيف قيدًا آخر، هو قيد الظروف المادية التي تحيط بنا عند الاختيار وإرادة الفعل، فماذا يجدينا من حرية لا تضع في اعتبارها ظروف الواقع وضروراته؟
إنها لو فعلت ذلك كانت هي حرية الحالمين! نعم، إننا أحرار في تقرير ما نريد فعله، لكن هذا القول يفقد معناه إذا كان هذا التقرير نفسه لا تواتيه العوامل المادية المحيطة بنا، وهي العوامل التي تتيح لنا أن نحول ما اخترناه وما أردناه، إلى واقع نحياه، وذلك هو جانب مما تقوله الفلسفة المادية الجدلية.
هكذا نرى أن المذاهب الفلسفية في عصرنا حين اختلفت، فهي إنما اختلفت في الجانب الذي تكون له أولوية النظر عند كل منها، دون أن تكون الجوانب المتعددة متعارضة في ما بينها، بل هي جوانب يكمل بعضها بعضا، ونستطيع أن نأخذ بها جميعا
- وكدت أقول إنه لابد أن نأخذ بها جميعا - في وقت واحد، إذ لا تعارض هناك بين أن نقر للإنسان بحريته (وتلك هي الفلسفة الوجودية)، وأن نبين لتلك الحرية ضوابط المنطق لتلتزم حدودها (وتلك هي الفلسفة التحليلية)، وأن نشترط لها كذلك التزام الأهداف المراد تحقيقها (وتلك هي البراجماتية)، مدخلين في حسابنا دائمًا ضرورات الواقع المادي الذي سنجري على أرضه تحقيق أهدافنا (وتلك هي المادية الجدلية).
ولنضرب لهذا التكامل بين مذاهب الفلسفة الأربعة التي تسود عصرنا مثلا يوضحه: افرض أننا أمام عبارة يقول بها صاحبها: «إن العمل على تحقيق القومية العربية واجب محتوم »، ثم أردنا الوقوف عند هذه العبارة ننظر إليها من الزوايا الفلسفية الأربع، فماذا نقول؟ إننا إذا بدأنا النظر من زاوية الفلسفة الوجودية، بحثنا عن العلاقة بين هذه العبارة وقائلها، لنرى إن كانت عنده بمنزلة القرار الأصيل الذي أصدره بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما وجدناها كذلك كان قائلها ملتزما فعلا بالعمل على تحقيقها، أما إذا وجدناها عبارة لم تصدر من ذات قائلها، بل أمليت عليه من
خارجه، فإنها عندئذٍ تفقد قيمتها من حيث دلالتها على حرية القائل ومسؤوليته الخلقية إزاءها.
فإذا انتقلنا إلى زاوية الفلسفة التحليلية ننظر منها إلى العبارة المذكورة، كان من أهم ما يلفت نظرنا في مفرداتها لفظتا «واجب محتوم »، لأنهما من الألفاظ التي لا تسمي أشياء بذواتها، فماذا تعنيان يا ترى؟ من الذي أوجب ومن الذي حتم؟ إنهما لفظتان تحملان معنى الأمر، فمن ذا الذي أمر؟ هل ثمة من سلطان خارجي يفرض علينا هذا الواجب؟ فإن كان فما هو؟ وهكذا يركز فيلسوف التحليل جهوده في توضيح أمور كهذه تجري في كلام الناس دون أن يتنبهوا إلى مدى غموضها.
ثم ننظر نظرة ثالثة، هي نظرة الفيلسوف البراجماتي، فلا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله الوجودي عن ضرورة أن تنبثق الإرادة من صميم الذات التي تريد لنفسها وتقرر لنفسها، ثم لا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله فيلسوف التحليل في توضيح الغوامض التي تكتنف ألفاظنا، إذ القول الواضح في
معناه أدعى إلى رسم الطريق في دنيا الفعل، لكننا ننظر من الزاوية البراجماتية إلى عناصر الموقف الراهن، وفي الطريقة التي يمكن أن يعاد بها ترتيب تلك العناصر، ليخرج لنا من ترتيبها الجديد موقف جديد، هو «القومية العربية » كما أردناها بادئ ذي بدء.
وتبقى لنا بعد هذا كله زاوية رابعة ننظر منها إلى العبارة السالفة الذكر، هي زاوية المادية الجدلية، فإذا كانت القومية العربية المنشودة غير متحققة الآن، فذلك لعوائق مادية اعترضت قيامها كالظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو غير ذلك من ظروف ظهرت في مراحل التاريخ، ولا سبيل إلى تحقيق القومية العربية إلا إذا
أزلنا تلك العوائق من الطريق، لأننا إذا ما افتعلنا تلك القومية افتعالاً، مع بقاء العوامل التي عارضت قيامها، فسرعان ما تعود تلك العوامل نفسها لتفعل فعلها من جديد.
زوايا أربع كما ترى، يكمل بعضها بعضًا أكثر جدًا مما ينتقض بعضها بعضا، فلكل منها سؤال يراد الجواب عنه يختلف عن الأسئلة الثلاثة الأخرى التي تطرح عند الزوايا الأخرى، فالسؤال عند الوجودية هو: من؟ والس ؤال عند التحليل هو: ما المعنى؟
والسؤال عند البراجماتية هو: ما الهدف؟ والسؤال عند المادية الجدلية هو: كيف حدث، وكيف يتغير؟ وكلها أسئلة ضرورية للموقف الواحد.

على أني أشعر بعد هذا كله بسؤال خامس، يلح على عقلي إلحاحًا إلى أن يجد جوابًا مقنعًا، وهو: إن هذه المواقف الأربعة التي تتقسم في ما بينها عصرًا واحدًا - هو عصرنا الراهن - لابد أن تلتقي جميعًا عند جذر واحد وإلا لتمزقت وحدة العصر وفقد طابعه الذي يميزه ويجعله يجيء حلقة في سلسلة العصور، فماذا عسى أن يكون ذلك الجذر الواحد المشترك؟ جوابي (وهو جواب شخصي، يستطيع من شاء أن يصححه بما شاء) هو أن ذلك الجذر المشترك في فلسفات عصرنا، هو التصور الذي يجعل الإنسان محورًا يدير نفسه ولا يُدار من خارجه، فهو الذي يقرر بنفسه
لنفسه (وجودية)، وهو الذي يوضح بنفسه لنفسه (تحليل)، وهو الذي يضع لنفسه الأهداف ابتغاء تحقيقها (براجماتية)، وهو الذي يتلمس عوائق السير ليزيلها (مادية جدلية). إذن، فالمحور الفلسفي الرئيس لعصرنا هو النظرة الإنسانية التي تجعل من الإنسان مبدأ وغاية، وتجعل هذه الحياة هي الأولى والأخيرة. لكن هذه النظرة لا تلتئم مع الوقفة الإسلامية العربية التئامًا كاملاً، لأن هذه الوقفة الإسلامية العربية من شأنها أن تجعل هذه الحياة مرحلة أولى لها ما بعدها من حياة آخرة، ها هنا تكمن المشكلة أمام الفيلسوف العربي المسلم - إذا وجد - فيكون سؤاله الخاص هو: كيف أضيف البعد الخامس إلى الأبعاد الأربعة التي ذكرناها مميزة لعصرنا؟
وبالإجابة عن سؤال كهذا، يمكن للإنسان المسلم العربي أن يحيا عصره وتراثه معًا.

ليست هناك تعليقات: