الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

وليم جيمس والتجريبيّة./ زكي نجيب محمود.


زكي نجيب محمود معرّفاً بالمذهب البراغماتي عند وليم جيمس
 
(مقالة مأخوذة من "نافذة على فلسفة العصر")
وليم جيمس
ألّف في علم النّفس
ثم اتّخذ له البراجماتية مذهبًا*
.
وُلد وليم جيمس William James في يناير من عام 1842 م، بمدينة نيويورك، وكان أكبر إخوة خمسة من بينهم الأديب القصصي المشهور هنري جيمس، ولد لأسرة مؤمنة بدينها مستمتعة بثرائها، لكنها كانت متعة الأسرة المثقفة المهذبة، فراح أفرادها يطوفون بمراكز الحضارة في أوربا، يحصّلون الخبرة الواسعة والعلم الغزير، وكان من نتيجة
هذه الحياة المتنقلة أن تعلّم وليم جيمس إبان مرحلته المدرسية الأولى في عدد من المدارس المختلفة موقفًا وطابعًا، فدخل مدارس نيويورك ولندن وباريس وجنيف، وأقل ما يقال عن هذا الترحل، من مدرسة هنا تتكلم الإنجليزية، إلى مدرسة هناك تتكلم الفرنسية أو الألمانية، إنه ما بلغ سن شبابه إلا وقد ألمّ بتلك اللغات جميعًا إلمام الخبير بسرها، حتى إذا ما حان وقت الالتحاق بالجامعة، كانت الأسرة قد عادت من ترحالها الطويل إلى أرض وطنها، فدخل صاحبنا جامعة هَارفارد Harvard بادئًا بقسم الكيمياء، ثم منتقلا منه إلى قسم التشريح ووظائف الأعضاء، مستقرًا آخر الأمر على دراسة الطب.
من أستاذ طب إلى أستاذ فلسفة.
تخرج وليم جيمس في الجامعة طبيبًا، وعيّن بأحد المستشفيات حينًا، لكنه لم يلبث أن شد رحاله مرة أخرى إلى أوربا، حيث أكمل دراسته العليا في الطب، فلما عاد إلى هارفارد كانت قد خلت بالجامعة وظيفة مدرس لعلم وظائف الأعضاء فعيّن بها، وها هنا أخذ يلقي سيلاً من محاضرات عن صلة ذلك العلم بعلم النفس هكذا لبث خمسة أعوام خلص منها إلى تأسيسه لأول معمل لعلم النفس التجريبي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت أولى ثمرات هذه الدراسة الطويلة كتابه العظيم «أصول علم النفس» الذي يقع في جزءين، وبعدئذٍ رقي أستاذًا مساعدًا للفسيولوجيا، فأستاذًا مساعدًا للفلسفة، فأستاذًا للفلسفة عام 1885 م، وكان عمره عندئذٍ ثلاثة وأربعين عامًا.

من محاضراته تألفت كتبه
كان طبيعيًا أن يتجه وليم جيمس منذ ذلك الحين نحو التفكير الفلسفي الصرف - أعني أنه لم يعد يصرف كل عنايته إلى علم النفس - فأخرج كتابه «إرادة الاعتقاد» (وهو مترجم إلى العربية).
وفي عام 1901 م دُعي إلى أدنبرة ليلقي سلسلة محاضرات في الدين والفلسفة، فكانت مجموعة المحاضرات التي ألقاها هي ما أصدره بعد ذلك كتابًا بعنوان «صنوف من التجربة الدينية.» وفي عام 1906 م ألقى ثماني محاضرات في مدينة بوسطن، ثم أعادها بعد عام في جامعة كولومبيا، وهي التي تؤلف كتابه «البراجماتية». ولم يلبث بعد ذلك أن ألقى سلسلة أخرى من محاضرات جمعها في كتابه «الكون المتعدد»، وسلسلة أخرى جمعها في «معنى الصدق»، وأخرى في «التجريبية المتطرفة» وكان آخر كتاب له هو «بعض مشاكل فلسفية» (مترجم إلى العربية) مات ولم يُكمله، فنُشر ما كتب منه بعد موته. وكان موته سنة 1910 م عن تسعة وستين عاما.

كتابه أصول علم النفس
جاء كتاب «أصول علم النفس» نقطة تحول في تاريخ هذا العلم، ذلك أن علم النفس قبله كان محوره تفتيت عملية الإحساس إلى سلسلة من انطباعات تنطبع بها الحواس، ثم تترابط داخل الإنسان ترابطًا قيل إن له قوانينه التي تحكمه، فالأفكار يشد بعضها بعضًا في الذهن كما يشد الحجر حجرًا بقانون الجاذبية. وكان مذهب الترابط بين الأفكار هذا أساسًا مهمًا قامت عليه الفلسفة الإنجليزية التجريبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، على أيدي «لوك Loke» و «هيوم Hume» فكأنما العقل بغير فاعلية خلاّقة، وكأنما هو «لوحة بيضاء» - كما قال «لوك» - ترتسم عليه الانطباعات الحسيّة وتتجاذب، ولا حيلة له في ما يتلقاه إلا أن يسجله على صفحته تلك. أما العقل عند وليم جيمس فمختلف عن هذه الآلية الصماء، إذ هو عنده أداة فعالة نشيطة، مهمته أن يوائم بين الكائن وبيئته مواءمة تعين صاحبه على البقاء، فهو أداة بيولوجية - كسائر أعضاء الكائن الحي - لا تنفك تواجه المواقف الجديدة الطارئة فترد عليها بما عساه أن يكتب النجاة والبقاء القوي لصاحب تلك الأداة.

جيمس يحطم الثنائية التي شطرت الإنسان إلى عقل وجسم.
لكن هذا الوصف للعقل إنما ينطوي على نتائج خطيرة، لأن كلمة «العقل» بهذا تصبح اسما - لا على كائن روحاني قائم بذاته - بل على نمط معين من السلوك، وما الذي يؤدي السلوك؟ هو الكيان العضوي نفسه، هو الجسد الحي. وإذن فقد زال الحاجز التقليدي بين العقل والجسم، لأنه إذا كان العقل مجموعة سلوكية يردّ بها الكائن الحي على بيئته، فهذا
السلوك هو نفسه الجسم السالك، وليس هناك جانبان: أحدهما غيبي يصدر الأوامر، والآخر ظاهري مادي يصدع بما يؤمر به.
كلا، بل هنالك كائن عضوي واحد لا يتجزأ، هو الذي يسلك في بيئته على نحو معين، وهكذا تحطمت الثنائية التي شطرت الإنسان - بل شطرت الكون كله - نصفين: فعقل في جانب وجسم في جانب آخر.

فكرة «الواحدية المحايدة»
بل إن هذا القضاء على الثنائية سرعان ما انتهى به إلى رأي فلسفي ابتكره ابتكارًا ليجيء نتيجة متفقة مع تلك الوجهة من النظر، فأخذه عنه برتدراند راسل Bertrand Russell وطوّره ونمّاه، وأعني به فكرة «الواحدية المحايدة»، ويقصد بها أن العقل والجسم كليهما من عنصر مشترك، والذي يجعل العقل عقلا والجسم جسما ليس هو اختلافهما في العنصر، فذلك روحاني وهذا مادي كما كان يقال، بل الذي يجعلهما كذلك هو طريقة ترتيب العنصر الواحد، فإذا رُتّب على صورة كان عقلا وإذا رتّب على صورة أخرى كان جسما، كما يكون لديك حبّات من الحصى ترصّها على نحو فإذا هي دائرة، وترصها على نحو آخر فإذا هي مربع، والحصى في كلتا الحالين لم يتغير.

الفكرة الرئيسة في فلسفة جيمس
على أن الفكرة الرئيسة في فلسفة وليم جيمس، هي نفسها الفكرة الرئيسة عند أنصار الفلسفة البراجماتية ،Pragmatism، ألا وهي الفكرة الخاصة بتحديد مفهوم «المعنى». فما الذي يجعل عبارة ذات «معنى» على الإطلاق؟ جواب البراجماتيين جميعًا هو أن ما يجعل للعبارة «معنى» كونها ذات نتائج عملية تترتب على تنفيذها، أما إذا كانت أمامك عبارة لا تدري كيف تحوّلها إلى تجربة عملية تحسّها بحواسك، كانت تلك العبارة بغير معنى، ومن زعم أنه يفهم لها معنى كان مهوّشًا مخدوعًا.
وأنه لمن حسن الحظ أن الناس في حياتهم العملية وفي حياتهم العلمية على السواء إنما يجرون في التفاهم على هذا الأساس نفسه، فإذا قلت لي مثلاً: «في هذا الطبق شِواء» فهمت لقولك معنى، لأنني أعلم بخبرتي الحسية السابقة طبيعة الإحساسات التي تتأثر بها أعضاء الحس من شم وطعم، بل من بصر ولمس، عندما يكون الشيء لحمًا مشويًا، وكذلك في الحياة العلمية حينما يقول عالم لزميله العالم: «إن في هذه الأنبوبة غازا قابلا للاشتعال»، فيفهم الزميل كلام زميله، لأن وراء كل كلمة من هذه الكلمات رصيدًا من خبرة حسيّة سابقة، على ضوئها يفهم المراد.

إشكال
لكن الإشكال يبدأ حين ندخل ميدانًا ثالثًا - لا هو حديث الحياة الجارية كل يوم ولا هو حديث العلماء في معاملهم - بل هو ميدان عجيب يقال له «الفلسفة» أو ما يجري مجراها من كلام يحدثك بكلمات لا تستند إلى رصيد من خبرة حسيّة سابقة، ومع ذلك يطلب منك أن تقول إنك تفهم له «معنى» كأن يقال لك مثلا إن لكل شيء «جوهرًا» خافيًا عن الحواس كلها، هو الذي يكسب الشيء هويّته، وهم بطبيعة الحال لا يريدون بهذا «الجوهر» لونًا ولا صوتًا ولا طعمًا ولا رائحة ولا غير ذلك مما تدركه الحواس من بصر وسمع وغيرهما.
فلو أردت إزاء هذا القول أن تكون براجماتيا، وجب أن تسأل الزاعمين: ما هي النتائج العملية التي تقع في خبرة الإنسان بسبب كون الشيء ذا «جوهر» والتي ما كانت لتقع لو لم يكن له ذلك «الجوهر»؟ كيف تتغير هذه «البرتقالة» مثلا بين حالة أن يكون لها جوهر وحالة ألا يكون؟ فإذا قيل لك إن ليس ثمة من فرق ظاهر في النتائج العملية التجريبية، فاعلم أن كلامهم إذن كان بغير «معنى» على مذهب البراجماتيين.

نظرية «المعنى»
إن هذه النظرية في «المعنى» من شأنها أن تحسم كثيرًا جدًا من أوجه الخلاف التي تنشب بين الناس، فما أكثر ما يختلف اثنان على شيء، فيكون لكل منهما قول فيه يختلف عن قول زميله، حتى إذا ما احتكما إلى التطبيق العملي ألفيا القولين ينطبقان على صورة واحدة - وإذن فقد كانا قولين مترادفين بالرغم من اختلاف اللفظ - أو ألفيا القولين معا لا ينطبقان في التجربة العملية - وإذن فكلاهما باطل - أو ألفيا أحد القولين دون الآخر ممكن التطبيق العملي، وإذن فهو وحده القول الصائب، فافرض - مثلاً - أن شخصين اختلفا، فقال أحدهما إن العالم قوامه مادة لا روح، وقال الآخر بل قوامه روح لا مادة، ثم أرادا أن يحتكما إلى النتائج العملية التجريبية الحسية ليريا أيهما الصواب، فماذا يجدان؟ ماذا يتوقعان للعين أن ترى وللأذن أن تسمع وللأصابع أن تلمس، ليكون القول صائبًا أو خاطئًا؟ إنه لا نتائج عملية، فكل من الشخصين يأكل كما يأكل زميله، ويشرب كما يشرب زميله، ويمشي ويقرأ ويصح ويمرض، وإذا كان ذلك كذلك فقد كانت الموازنة بين المادة والروح بغير «معنى».

جيمس يهتم، إلى جانب «المعنى» بصدق العبارة
إلى هنا يتفق البراجماتيون جميعًا - ومنهم جيمس – في نظرية «المعنى»، لكن جيمس يتفرد وحده من دونهم جميعًا بنظرية أخرى يضيفها عن «الحق» أو «الصدق»، ذلك أن العبارة ذات «المعنى» لا يتحتم أن تكون صادقة، بل حسبها لتكون ذات «معنى» أن تكون مفهومة على أساس ما عساه أن يصادف الحواس من خبرات لو كانت صادقة، ومن البراجماتيين – مثل بيرس Peirce - من يكتفي بنظرية «المعنى» وحدها ولا شأن له بأن تصدق العبارة ذات المعنى بعد ذلك أو لا تصدق، أما وليم جيمس فيهتم أيضًا بـ«صدق » الكلام متى يكون وكيف يكون، فيقول إن العبارة تكون «صادقة» (لا مجرد كونها ذات معنى مفهوم) إذا تصرّفت على أساسها فلم تجد ما يعترض طريقك الذي يوصلك إلى غايتك. والأمر في ذلك شأنه شأن الفروض العلمية ذاتها، فكيف يقرر العالم أن فرضه الذي يفرضه ليفسر به ظاهرة معينة هو فرض صحيح؟ إنه يقرر ذلك على أساس أنه لا يجد ما يعترض سبيله في تطبيقه وفي التصرف على أساسه، أما إذا وجد من الوقائع ما يندّ عن ذلك، عرف أن فرضه باطل. فهكذا الحال في كل جملة تقولها عن أي شيء في حياتك اليومية، فقولك - مثلا - عن منزل صديقك إنه يقع عند ملتقى شارع كذا بشارع «كيت»، هو تماما كقول العالم إن بئرا للبترول تقع عند ملتقى ذلك الجبل بشاطئ البحر. كلا القولين يكون صادقا لو تصرفنا على أساسه فنتجت لنا النتائج المرتقبة.

«الحق» و «النفع» كلمتان مترادفتان
فليس «الحق» كيانا مجردا قائما بذاته، كذلك «الحق» الذي ظل يبحث عنه الفلاسفة والمتصوفة قرونا. بل ليس «الحق» صفة تصف الجملة الصحيحة في ذاتها حتى ولو لم يكن لها انطباق على واقع، بل «الحق» هو طريقة عمل، هو طريقة أداء من شأنها أن تنجز أمرًا وأن تحقق هدفًا. والجملة التي لا يمكن جعلها سلاحا في يدك تشق به هذا الطريق أو ذاك، هي جملة باطلة (هذا على فرض أنها جملة ذات معنى مفهوم). وهكذا تصبح كلمة «الحق» وكلمة «النفع» مترادفتين، فنقول عن فكرة إنها نافعة لأنها حق، أو إنها حق لأنها نافعة. والقولان في «المعنى» سواء، لأنهما في طريقة التنفيذ التجريبي سواء. وفي هذا الصدد يقول جيمس تشبيهه المشهور وهو أن الجملة المعنية من حيث كونها حقا أو باطلا، هي كالعملة النقدية من حيث كونها صحيحة أو زائفة، فالعملة النقدية صحيحة ما دامت مقبولة في التبادل التجاري، فإذا ما اعترض عليها معترض ذات يوم بحيث بطل استعمالها في البيع والشراء أصبحت زائفة منذ ذلك التاريخ، وكذلك القول المعيّن يظل صحيحًا ما دامت له «قيمة فورية»، أي ما دامت له نتائج عملية تحقق الأهداف المنشودة حتى إذا ما أخذ يتعثر في التطبيق بدأ بطلانه، وقد يظل إلى الأبد ناجحًا في التنفيذ فيظل إلى الأبد قولا «حقا» أو «صادقا».

بمعيار الصدق يبرهن جيمس على وجود الله
لكن فيلسوفنا المتدين بحكم نشأته، الرقيق المهذب بحكم فطرته، العاطفي الحسّاس بحكم نظرته، قد عرف كيف يستخدم معياره في «الصدق» ليبرهن به هو نفسه على حقيقة وجود الله، أليس صدق العبارة المعينة مرهونًا بنتائجها العملية في مجرى التجربة ومجرى الحياة؟ إذن فهاك عبارة تقول إن «الله موجود»، وانظر إليها محتكمًا إلى هذا المعيار نفسه، تجد الفرق شاسعًا بين سلوك من يؤمن بصدقها ومن لا يؤمن، فالأول يكون عادة مستبشرًا متفائلاً مليئًا بالأمل والرجاء، على حين يكون الثاني متشائمًا يائسًا ينظر إلى الدنيا وما فيها نظرة سوداء.
فماذا تسمّي هذا الفرق في الحياة عند الرجلين إلا أن يكون «نتائج عملية» ترتبت على الأخذ بالجملة المذكورة أو برفضها؟ وإذن فمن الوجهة البراجماتية الصرف، يقوم الدليل على صدق تلك الجملة، لكن صدقها في هذه الحالة لا يكون مستندًا بالضرورة إلى كائن موجود فعلا خارج الإنسان، بل يستند إلى الطريقة السلوكية ونوعها، إذا ما اتخذت تلك الجملة أداة هادية للعمل. وفي هذا يختلف وليم جيمس عن بقية زملائه البراجماتيين اختلافًا حدا بـ«بيرس » - وهو الذي استعمل كلمة براجماتية لأول مرة - أن يحتج على إساءة استخدام هذه الكلمة على يدي جيمس، قائلاً إنه سيتخذ لنفسه كلمة أخرى يسمي بها مذهبه، وسيتوخى فيها أن تكون قبيحة ثقيلة على النطق حتى لا يخطفها الخاطفون، ثم يسيئون استعمالها، ألا وهي كلمة «براجماتيقية». فما كان بيرس يحب لمذهبه أن يجاوز حدود العبارات العلمية ومعانيها إلى حيث العقائد التي مدارها الإيمان لا المنطق.
لكن وليم جيمس بما وهبه الله من خفة روح وطلاوة حديث وسلاسة أسلوب، ظل في دنيا المثقفين غربا وشرقا هو اللسان المعبر عن المذهب البراجماتي، أو قل عن الفكر الأمريكي كله، أمدًا طويلاً.

ليست هناك تعليقات: