الخميس، 21 يونيو 2018



موت المثقَّف

موسى وهبه

ننقل في ما يلي نصًّا لافتًا للرّاحل الكبير موسى وهبه، كتبه في العام ١٩٩٤، بمناسبة الذّكرى المئويّة الثالثة لولادة مثقّف فرنسا الأوّل، بل ومثقّف العالم الأوّل، الذي سُمِّي المثقَّف تيمُّنًا به، أعني به أحد فلاسفة وكتّاب الثورة الفرنسيّة، فولتير. وهذا النّص المكثّف يتحدّث عن ولادة المثقّف مع فولتير ومن ثمّ مع إميل زولا ومن ثمّ تجسُّده الأكمل مع جان بول سارتر، الذي كان آخر تجسيدٍ كبيرٍ له، حيث مات المثقّف من بعده، لا سيّما المثقّف العضوي بحسب تعبير غرامشي. لكنّ فوكو تكلّم على المثقّف النّوعي الذي يتعاطى الشّأن العام انطلاقًا من مشكلات يعاني منها في اختصاصه بالذّات، كأن يرفع علماء الطَّاقة النّوويَّة الصَّوتَ عاليًا من أجل تنبيه الرّأي العام الى مخاطر السّلاح النَّووي والمنشآت النّوويّة، وكأن يرفع علماء الجيُّولوجيا الصَّوت عاليًا من أجل تنبيه الرّأي العام الى مخاطر تلوُّث المياه الجوفيَّة.
بالإضافة الى المثقَّف النّوعيّ والمثقَّف العضويّ. هناك ما سمّاه موسى وهبه في مقابلةٍ سابقةٍ المثقَّف الهامشيّ أو اللامنتمي، والذي لا يموت؛ لأنّه لا يعيش في هذه الأرض، بل في مدينته الأمثُليَّة.
هل مات المثقَّف عالميًّا ليولد في مكانٍ آخر كبلاد العرب مثلًا؟ هل لدينا فولتير عربيّ أو إميل زولار عربيّ أو سارتر عربيَ؟
أرجو قراءة النَّص المكثَّف والموجز. وهو من النّصوص النّادرة التي يعالج فيها الكاتب، وفي شذرةٍ واحدةٍ، موضوعًا غنيًّا وشائكًا مثل هذا الموضوع. هذا يعني أنَّ الكتابة عبر الشّذرات هو مستقبل الكتابة والتأليف العربيّيْن. وربما نشهد قريبًا ولادة الكتاب الذي لا يُكتب بغير هذا الأسلوب.
(جمال نعيم)


ذكرى فولتير

أيُّ مجدٍ أُعطي للمثقَّف!
فرنسا منصرفةٌ هذه الأيام، الى إحياء ذكرى كاتبها الشَّهير: فولتير، وقد بلغ الأمر حدَّ تسمية هذا العام "الدراسي" باسم: عام فولتير. احتفاءً بالذكرى المئويةِ الثَّالثة لمولده. وهو كان ولد في باريس. في 21 تشرين الثاني 1694.
واهتمام فرنسا بكاتبها الشَّهير لا تفسِّره شهرته ككاتبٍ بارعٍ لاذعٍ متنوِّع وحسب. فهــــــــو لا يُستحضر كمسرحيٍّ مثلًا.
ومسرحيَّاته التي تربو على العشرين، والتي أدَّت به مرَّتين إلى السِّجن ومرَّتين الى النَّفي، يكاد لا يذكرها أحدٌ، مثلما لا يُذكر صاحبُها ككاتبٍ مسرحيٍّ. ولا يُستحضر كناقدٍ أدبيٍّ أو كشاعرٍ. وهو على رغم خوضه غمار النَّقد الأدبي ونَظْم الشِّعر (نَظم ملحمةً وقصائدَ مناسباتٍ وأخرى تاريخيَّةً وألَّف بحثًا في الشِّعر الملحميِّ وعُيِّن لفترةٍ شاعرًا للبلاط) لا يُذكر بين الشُّعراء ولا يُحسب من النُّقاد.
ولا يُحتفى بفولتير بوصفه مؤرِّخًا، فهو على ُرغم شُهرة كتابه الموسوم: عصر لويس الرَّابع عشر، لم يُؤسِّس مدرسةً في التَّاريخ العام ولا في الأنتروبولوجيا الثَّقافية. ولا يُحتفى به كذلك بوصفه قاصًّا أو روائيًّا على رغم شهرته في هذا المجال (وقد ُترجم له الى العربيَّة: قصَّةَ "صادق أو القدَرَ" ورواية " كانديد"). ولا يُحتفى به أخيرًا بوصفه فيلسوفًا للثَّورة الفرنسيَّة الكبرى وهو كان أقلَّ أولئك الفلاسفة جذريَّةً وأكثرهم تردُّدًا وتسامحًا بالتَّالي، ولسوف يفضِّل الثَّوريون اللاحقون ديدرو وروسو، بل ومونتسكيو، ويقدِّمونهم عليه.
وأغلب الظَّنِّ أنَّ احتفاء فرنسا بفولتير تعيِّنه أسبابٌ أخرى : ففرنسا اليومِ محاصرةٌ بالأصوليَّات في الداخل والخارج، وفرنسا اليومَ لم تعدْ في الواجهة العالميَّة أمام تقدُّم النَّموذج الأميركي وغزوه للعالم وللدَّاخل الفرنسي نفسه. والاحتفاء بفولتير نوعٌ من استعادة الرُّوح وسعيٌ الى المبادرة. والحقُّ أنّ فولتير هو روحُ فرنسا الحيَّة، ولنقل على الطَّريقة اللبنانية: إنَّ مجد فرنسا أُعطيَ له. فرنسا الثَّقافة الانسانيَّة وفرنسا الحريَّة والمُثُل الحضاريَّة. وفولتير لم يرقَ الى مثل هذا إلا لأنَّه، بدءًا وأصلًا، المثقَّف بامتيازٍ وبكرُ المثقَّفين المُحْدثين:
وكان قد افتتح العصرَ الثَّقافيَّ منذ وقوفه منتصرًا للمتَّهم البريء " "كاله" (1762) وتأسيسه لسماحة العقل، إنْ صحَّ القولُ، ونضالِه ضد التَّعصُّب وقواه الرُّوحيَّة والاجتماعيَّة. واختراعِه قوةَ ضغطٍ جديدةً اسمها الرَّأيُ العام سوف يجدِّدها من بعده إميل زولا بمناسبة المتَّهم البريء " دريفوس" في مطلع القرن ليطبع ظاهرة المثقَّف بطابعٍ فرنسيٍّ نهائيٍّ، ويرتبط مجدُ فرنسا بمجدِ كبار ِمثقَّفيها. ألم يقل ديغول، حين كان سارتر، يمسِّخه ويسخر منه كتابةً ومسرحًا: " لن أسجن فولتير".
يُستعاد فولتير اليومَ إذًا بوصفه مثقَّفًا بامتيازٍ. أي بوصفه كاتِبًا أو فنّانًا يجد من واجبه أن يتدخَّل في الشَّأن العام مستمدًا "سلطته" لا من انصرافه الى الشَّأن العام بل من صيته وهيْبته في مجالٍ مهنيٍّ آخرَ. وكان مثلُ هذا الكائن قد شَغَل التَّفكير المعاصر سلبًا وإيجابًا قبل أن ينحسر دوره و"يُسقط في يده" من كثرة خيباته وتبدُّد أوهامه.
وكان هذا الكائن على هشاشته، وضعف موقعه، قد أثَّر أيَّما تأثيرٍ في أحداث العصر وصياغة قراراته الكبرى، حين شكَّل قوةَ ضغطٍ هائلةً على السلطات الحاكمة في بلادها أو في العالم، على امتداد هذا القرن الدَّموي العنيف: من إدانة قنبلة هيروشيما الى فضح العنف السَّتاليني، ومن صياغة شرعةِ حقوق الانسان والمواطن الى الانتصار للجزائر وكوبا وفيتنام. ومن محكمة راسل الى البيريسترويكا. وكان كبار مثقَّفي العصر، بمعنًى من المعاني، بمثابةِ تعويضٍ عن روح العصر المفقودة تحت وطأة التحليل الماديِّ والتَّفكير البراغماتي: كان برتراند راسل، مثلًا، وجان بول سارتر، ومحاكمة نيكسون الشَّهيرة إشارة الى أنَّ العالمَ غيرُ متروكٍ للمصادفة والقوة العسكريَّة العمياء، والى أنَّ ثمَّة ضميرًا عالميًّا يحرِّك الأفئدةَ والعقولَ، ويجعل العالمَ صالحًاْ للعيش أو محتملًا على الأقل.
غير أنَّ هذا الكائن الهشَّ قد مات. وقيل: بل تحوَّل. فقد رحل راسل وسارتر وفوكو وألدو مورو... من دون عقب. وربما كان غورباتشيف آخرَ مثَّقف مخذولٍ على قيد الحياة،
في حين أنَّ شومسكي يضيع في عجلة "الديموقراطية الأميركية" ولا ينتبه اليه أحدٌ خارج العالم الثالث.
وقد صار هذا الموت المعلَنُ ممكنًا بفضل النَّقد المتَّصل الذي مارسته القوارضُ الثَّقافية،
على طول هذا القرن وعرضه، في أسس الثَّقافة وأواليَّات إمكان المثقَّف بعامة. لقد كان المثقَّف ممكنًا، على زعم الزَّاعمين، بافتراض وحدة العقل والنَّقد: الإيمان بأنواره وقدراته على تبديد ظلامِ العالمِ وعَسْفه وبقدرةِ اللغة، وسيلة العقل، على دكِّ عروش الظُّلم والجهل. وانكشف الأمرُ، يا للخيبة، عن عقلانيَّة معسكراتِ الاعتقالِ وسحر بيان المقابر الجماعيَّة.
وكان المثقَّف ممكنًا بافتراض الحقيقة وسيادتها. وكان المثقَّف كاهنَها قبل أن يكشف هو نفسُه عن قوة الخطأ وفائدة الغلط. ويحفر تحت أقبية الحقيقة ليجدَ تماثيل السُّلطان نفسه. وكان المثقّف ممكنًاْ أخيرًا بالرِّهان على العدالة وكليَّة القيم الانسانيَّة قبل أن تتفتَّق عبقريَّته هو نفسُه عن نسبيَّة القيمِ الأخلاقية وجزئيَّة العدالة وإقليمية الثَّقافة الأوروبيَّة المزعومة كليَّة ويونيفرساليَّة، فينتصر لتعدُّد الثَّقافات و"يستوعب" اختلاف القيم، ويزدرد نسبيَّة العدالة.
في مثل هذه الحال من الموت المعلن للمثقَّف، وتراجع الدَّور المزعوم أمام خدمات الخبير التِّقني، وانحسار الأدب الكبير أمام المشهد المثير. وتقدُّم الاعلان على اللوحة والاعلام على الكتابة، والَّنثر على الشِّعر، أيُّ معنّى للاحتفاء بفولتير، وأيُّ صدًى أبعدُ من الهمِّ الموقَّت والظَّرف الفرنسيِّ الضَّاغط؟!
بودِّنا أن نقول، ونعتقد، أنَّ الذي مات وانحسر هو نمطٌ من المثقَّف وحسب. وهو نمطٌ ذو اسم محدّد، هو المثقَّف العضوي، بحسب تعريف غرامشي. ذاك الكائن المنحاز الى فئةٍ وطبقةٍ وموقعٍ. ذاك الذي يشهد مختارًا جهة شهوده، وهو الذي تمثَّل على أحسن ما يكون في صورة المثقَّف الحزبيِّ أو الوجوديِّ، وهو الذي أعطى سارتر نفسُه شهادةَ وفاته حين شدَّ على يد خصمه التَّقليدي، ريمون آرون على دَرَج الإليزيه في 26 حزيران 1979، معلنًا نهاية الفرقة تضامنًا مع المهجَّرين من فيتنام "الجنوبية" هربًا من جيش التحرير هذه المرّة فكان ذلك إيذانًا بولادةٍ جديدةٍ، واستباقًا عبقريَّا لعودة روح فولتير الأصليَّة: لا مثقَّف مع التحيُّز، ولا ثقافةَ من دون مَطْمح كليِّيٍّ يونيفرساليٍّ. ولا صلاحٍ لما هو حسنٌ إنْ لم يكن بالإمكان تعميمُهُ وجعلُه قانونًا كلِّيًّا على قول "العجوز الصيني" كنط.
وبودِّنا أن نَحتفيَ بدورنا بذكرى فولتير، وعلى طريقتنا، فنرى في هذه الذكرى، مناسبةً للإصرار على العقل، محرَّرًا من دغمائيَّته. وللتمسُّك بالعقلانيَّة المنفتحة المتمثِّلة في مَظَان النَّقد والتَّعدُّد والحوار والتّعارف على الاختلاف. ولإعلان عصر المصالحة بين العقل والحريّة.

(موسى وهبه)


 

ليست هناك تعليقات: