الخميس، 7 يونيو 2018

التناهي واللاتناهي، بين هيغل وهايدغر؛ أشرف منصور.



التناهي واللاتناهي

[بين هيغل وهايدغر]
الدكتور أشرف حسن منصور.
 
من بحث طويل بعنوان "أنطولوجيا الوجود الإنساني بين هيغل وهايدغر"
يتطرق الباحث إلى مقارنة طروحات الفيلسوفين مع طروحات كانط في التناهي.

أنطولوجيا هايدجر هي أنطولوجيا التناهي، أي الأنطولوجيا التي تبحث فى الوجود الإنساني من منطلق أنه وجوه متناه. وهذا هو المعنى الحقيقي للزمان عنده، فزمانية الوجود الإنساني لديه تعني تناهي هذا الوجود( )، والحقيقة إنه بذلك كان متأثراً بلاهوت العصور الوسطى الذي كان يقسم الوجود إلى عالم إنساني مخلوق خاضع للزمان، وعالم إلهي متعال على الزمان وغير خاضع له. وكانت الكنيسة دائماً ما تنظر إلى سلطتها على أنها سلطة إلهية غير زمانية أما سلطة الدولة والقوانين الوضعية فهي ”سلطة زمانية“. كما أن كل ما هو دنيوي كان يسمى: secular، وهو نفس المصطلح الذي يعني الزماني. وبناء على ذلك نستطيع فهم عبارة هايدجر التي يقول فيها إنه لاهوتي مسيحى، ويجب أن نفهم هذا الاعتراف حرفياً ولا نؤوله، فأنطولوجيا هايدجر تعتمد بالفعل على المعنى اللاهوتي المسيحي عن الزمان باعتباره مجال التناهي.

ولأن أنطولوجيا هايدجر هي أنطولوجيا الوجود المتناهي فقد احتل موضوع الموت مكانة مركزية فى فلسفته، بل إنه قد وصف نمط الوجود الإنساني كله بأنه وجود تجاه الموت. ونشعر فى حديثه عن الموت أنه يتخذ المعنى الديني عن الموت أو الفناء Finitude.
وعندما أصدر هايدجر كتابه ”الوجود والزمان“ نظر الكثيرون إليه على أنه فيلسوف وجودي، وتم إلحاقه بزمرة الفلاسفة الوجوديين، لكنه لم يوافق على ذلك وأصر على أنه لاهوتي مسيحي، أي أصر على الدلالات الدينية لمفاهيمه عن الزمان والموت والتناهي. وكي يبعد هايدجر عن فلسفته شبهة الانتماء إلى التيار الوجودي نشر بعد ثلاث سنوات من
”الوجود والزمان“ (1926) كتاباً آخر بعنوان ”كانط ومشكلة الميتافيزيقا“ (1929).
فهو يعلن فى مقدمته للطبعة الرابعة أن الهدف الأساسي من نشره لهذا الكتاب تصحيح سوء الفهم الذى علق بسؤال الوجود فى ”الوجود والزمان“( )، ويقصد هايدجر بسوء الفهم هذا التفسير الوجودي لفلسفته والذي يرفضه بشدة. وما نلاحظه في هذا الكتاب أنه شرح لمفهوم هايدجر عن التناهي وأنطولوجيا التناهي عن طريق تأويل فينومينولوجي لـ ”نقد العقل الخالص“ لكانط. إذ ينظر هايدجر إلى كتاب كانط على أنه أول محاولة لتأسيس ميتافيزيقا للمعرفة على أساس تناهي الوجود البشري بالضد على الميتافيزيقات القديمة.

يهدف هايدجر من تأويله لـ ”نقد العقل الخالص“ إلى توضيح أن الكتاب تكمن وراءه أنطولوجيا حول تناهي الوجود الإنسانى( )، ذلك لأن كانط يبدأ كتابه بأسئلة ثلاث: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا على أن أعمل؟ وما الذي يمكن أن آمل فيه؟ ويقوم كل سؤال من هذه الأسئلة من وجهة نظر هايدجر على افتراض أن الوجود الإنساني متناه، ويقصد هايدجر من ذلك القول بأنها أسئلة تفترض كون الإنسان وحيداً فى العالم، ملقى هناك بدون دعم أو سند إلهي، وبالتالي فيجب عليه أن يفكر بنفسه ولنفسه؛ فكون الإنسان وحيداً فى العالم يحتم عليه التساؤل حول إمكان معرفته وحدودها وقدرته على الفعل وما يمكن أن يأمله، بعيداً عن أى مرجعية إلهية. ولذلك يطرح كانط سؤالاً رابعاً: ما هو الإنسان؟ وهو سؤال منطقي يتفق فى نظر هايدجر مع النظرة إلى الوجود البشري على أنه متناه. يعبر هذا السؤال عن أن الموجود الإنساني نفسه هو الذى يسأل عن وجوده وهو الذى يعثر بنفسه على الإجابة دون مساعدة من أحد، ودون مرجعية أخرى غير ذاته. والدليل الذى يقدمه هايدجر على أن فلسفة كانط مؤسسة على أنطولوجيا للتناهي هو نظرية كانط فى الحدس الحسي، إذ يذهب كانط إلى أن المعرفة الإنسانية ليست ممكنة بدون الحدس الحسي، وليس متاحاً للإنسان أن يتلقى موضوعات معرفته إلا فى صورة حدوس حسية، أما الحدس العقلي فغير ممكن، أي تكوين معرفة مشروعة دون الاعتماد على مادة الإدراك الحسي. فلأن المعرفة الإنسانية متناهية فهى تحدس الموضوع باعتباره قائماً أمامها أو معطى للإدراك الحسي، وعلى أنه ظاهر أو تمثل أما الموضوع في ذاته بعيداً عن ظاهره وعن النمط الذى يُعطى به للحدس الحسي فغير ممكن( ). الإنسان يعرف الظاهر ولا يعرف الأشياء في ذاتها لأنه وجود متناه.
إن لجوء هايدجر لتأويل فينومينولوجي لنقد العقل الخالص ليشرح به مفهومَه عن أنطولوجيا التناهي هو بالضبط ما يجعله عرضه للنقد الذي وجهه هيجل لكانط( ). ينظر هايدجر إلى "نقد العقل الخالص" على أنه نموذج لميتافيزيقا للمعرفة على أساس تناهي الموجود البشرى، وهذا الجانب في كتاب كانط هو ما اعترض عليه هيجل وما جعله ينقد كانط فى الأساس. والأكثر من ذلك إن هيجل كان يطلق على فلسفة كانط فلسفة التناهى قدحاً فيها ورغبة منه فى استبدالها بفلسفة أخرى للاتناهي أو للمطلق بتعبيره.
كان هيجل على وعي بالشعور الذي بدأ يسود فى عصره، وهو الشعور بفناء وتناهي الموجود البشري، أي نفس الشعور الذى نجده فى فلسفة هايدجر؛ ويتجسد هذا الشعور فى التمسك بكل ما هو فان والاعتقاد أنه هو جوهر وحقيقة الإنسان التي لا يملك غيرها، والنظر إلى كل ما هو سماوي أو مقدس على أنه لا ينتمي للبشري. وفي رأي هيجل إن السبب في هذا الشعور هو اختفاء القوة الموحِّدة من حياة الناس، تلك القوة التي كانت تَجمع الناسَ على قيم ومثل عليا كان يوفرها الدين.
أما بعد اضمحلال الدين وبعد عصر التنوير فقد اختفت هذه القوة الموحِّدة وذلك في سبيل مثال جديد وهو العقلانية التي تفصل كل ما هو سماوي ومقدس ولا متناه عن حياة البشر. وهنا يحدث للروح البشرية اغتراب، إذ لا تجد نفسها إلا وهي منغمسة فى الأرضي والمتناهي. ويصف هيجل حال الروح الإنساني فى عصره بقوله:
”إن الروح تقدم نفسها على أنها جدباء، حتى إنها، مثل الظمآن الذى يسير فى الصحراء من أجل شربة ماء، تتعطش إلى مجرد الإحساس بالمقدس. إن القدر القليل الذى يشبع الروح دليل على مدى ظمئها“
( ). وهيجل لا يرضى بمجرد الإحساس بالمقدس، بل يريد امتلاك المقدس كله، يريد وضع المقدس فى صورة نسق فلسفي والتعبير عنه تصورياً. وهنا بالضبط يكمن أصل فلسفة هيجل باعتبارها أنطولوجيا للاتناهي مواجهة لأنطولوجيا التناهي عند هايدجر.
ويعلن هيجل فى الفينومينولوجيا عن عدم رضائه عن ذلك الشعور الذي يجد أمانَه وطمأنينته وبيته فى التناهي
، لأن ذلك تعبير عن الفقر الروحي والخواء الداخلي. ويكشف هيجل عن حكمة ذات دلالة بالنسبة لهايدجر، إذ يقول إن الفلسفة العميقة، أي الفلسفة التي تصل إلى عمق الإنسان، يمكن أن لا تكون أصيلة، فالعمق ليس شرطاً أن يعني الأصالة، إذ يمكن أن يكون عمقاً خاوياً( )، عمقاً يعبر عن وحشة داخلية عميقة واغتراب روحي يتمثل فى صورة فراغ داخلي كبير نعتقد أنه عمق بمعنى الأصالة إلا أنه فى حقيقته فقر واغتراب روحي. وكأن هيجل يصف فلسفة هايدجر بالضبط، لأن هايدجر بالفعل هو الذي يجد أمانه وطمأنينته فى التناهي، ويبحث عن الأصالة فى فراغ داخلي كبير يعتقد أنه عمق إلا أنه خواء روحي، يسميه هايدجر الوجود تجاه الموت. هناك إذن تعارض قوي بين دوافع فلسفة كل من هيجل وهايدجر، فهيجل يعترض على نفس الشعور المسيطر على فلسفة هايدجر، ويضع إزاءه فلسفة تأخذ منطلقها من شعور مناقض تماماً، وفى النهاية يقدم لنا كل واحد منهما أنطولوجيا مواجهة للتي يقدمها الآخر: يقدم هيجل أنطولوجيا فى اللاتناهي ويقدم هايدجر أنطولوجيا فى التناهي.
لم يكتف هيجل بنقد فلسفة التناهي لدى كانط بل أدرك أن هناك تناقضاً بين التناهي واللاتناهي، بين الفلسفات الحديثة فى المعرفة والطموح الميتافيزيقى للفلسفات القديمة، وبحث عن مصدر هذا التناقض ووجد أنه تعبير عن تناقض أعمق بين الإيمان والمعرفة، بين المقدس والدنيوي، وأدرك أن الثقافة الحديثة هى سبب هذا التناقض، إذ نظرَتْ إلى طرفيّ كل ثنائية على أنهما فى تعارض لا يحلّ، ويقصد هيجل بالثقافة الحديثة ثقافة عصر التنوير بالأخص( )، إذ أتى بمفهوم عن العقل مواجه ومعارض لكل ما هو مقدس ولا متناه.
وفى حين استطاع هيجل وضع يده على التناقض بين التناهي واللاتناهي الذي ينازع الوجود البشري وبحث له عن أسباب، لم يلاحظ هايدجر مثل هذا التناقض، وكل ما فعله أن استغرق فى تأسيس أنطولوجيا حول تناهي الوجود البشري فى غيبة البعد الآخر وهو اللاتناهي. ولذلك فإن مفهوم هايدجر عن التناهي عرضة للاتهام بأنه مسمط ولا يحتوي على أي تناقضات، إلا تناقضاته هو الناتجة عن الشعور بالفناء الذي يسيطر عليه. لقد حكم هايدجر على الوجود البشري بالتناهي فى حين أننا جميعاً نشعر كأفراد بالتوتر والتناقض بين التناهي واللاتناهي، فهما يتنازعان داخل الفرد الواحد، وهذا ما عبرت عنه فلسفة هيجل تحت مصطلحات عديدة منها التناقض والسلب وشقاء الوعي. أما أنطولوجيا التناهي عند هايدجر فهي ذات بعد واحد لأنها لا تعترف بالبعد اللامتناهي ولا تعترف بأنه ينازع البعد الآخر المتناهي.
ولأن فلسفة كانط هي التى يستخدمها هايدجر لشرح مفهومه عن أنطولوجيا التناهي، فإن نقد هيجل لكانط ولنفس الجانب الذى يبرزه هايدجر وهو التناهي يعد فى نفس الوقت نقداً غير مباشر لهايدجر. وسوف نحاول فيما يلي توضيح نقد هيجل لكانط وكيف أن هذا النقد ينطبق كذلك على هايدجر.
يتركز نقد هيجل لفلسفة كانط باعتبارها فلسفة التناهي في عمل مبكر له وهو ”الإيمان والمعرفة“ (1802). ينقد هيجل فلسفات كانط وجاكوبي وفخته لكونها نظرت إلى العقل على أنه متناه ولا يمكنه الاشتغال إلا على المتناهي، ولكونها رفعت هذا المتناهي إلى مرتبة النسق الفلسفي وصنعت منه مطلقاً
. يقول هيجل: ”إن اليقين الوحيد المتيقن من ذاته لدى كانط هو وجود ذات مفكرة، عقل متأثر بالتناهي؛ وكل الفلسفة تتأسس فى تحديد الكون بالنظر إلى هذا العقل المتناهي، إن ما يسمى بنقد كانط للملكات المعرفية لا يرقى إلا إلى التقييد المطلق للعقل فى شكل متناه ... إنهم (كانط وجاكوبى وفخته) يحولون المحدودية إلى قانون أبدى ... ولذلك فهذه الفلسفات يجب أن ينظر إليها على أنها ليست إلا ثقافة ... الذهن الإنساني العادي الذي يرتفع إلى مستوى التفكير فى الكلي“(
). ومن الواضح مدى انطباق هذا النقد على هايدجر، إذ أنه هو الآخر ” يحدد الكون “ أي يصنع أنطولوجيا، ” بالنظر إلى العقل المتناهي “ أي بالنظر إلى ميتافيزيقا في المعرفة على أساس تناهي الوجود البشرى، ذلك لأن هايدجر يستخلص أسساً إبستمولوجية من ”الوجود فى العالم“ و ”التوجه الأداتي“ وهي كلها أشكال متناهية، أو زمانية، من الوجود الإنساني.
ويستمر هيجل فى نقد فلسفات كانط وجاكوبي وفخته بقوله: ”إن المثالية التي تقدر عليها هذه الفلسفات هي مثالية التناهي بمعنى أنها تضع التناهي فى شكل مثالي“( ). ولا يفعل هايدجر أكثر من ذلك إذ يجعل من البعد المتناهي في الإنسان أساساً يقيم عليه أنطولوجيا للوجود الإنساني كلِّه ويجعل هذه الأنطولوجيا منطلقاً لمراجعة كل تاريخ الأنطولوجيا السابق. ويرجع هيجل السبب فى سيادة فلسفة التناهي إلى الثقافة السائدة فى عصره وهي ثقافة عصر التنوير التي فصلت بين المتناهي واللامتناهي. وفي ذلك
يقول: ”إن الموقف الثابت الذي أسسته الثقافة البالغة القوة لعصرنا هو لعقل متأثر بالحواس، وفي هذا الوضع لا تستطيع الفلسفة أن تهدف إلى معرفة الإله (أو اللامتناهي)، بل فقط معرفة ما تسميه معرفة الإنسان Cognition of Man. وما يسمى بالإنسان وإنسانيته يُنظر إليهما على أنهما نوع متناه من العقل يشكل موقف الفلسفة المطلق “
( ). أليس هذا هو موقف التناهي الذى اعتنقه هايدجر وفسر على أساسه فلسفة كانط؟ إن نظرة هيجل وهايدجر لفلسفة كانط متطابقة، فكلاهما ينظر إليها على أنها فلسفة في المعرفة الإنسانية باعتبارها متناهية ومحدودة، وعلى هذا الأساس ينظر إليها هايدجر على أنها ترسي أسساً لأنطولوجيا التناهي، ويحكم عليها هيجل بأنها لنفس السبب تكون عاجزة عن إدراك المطلق وتحقيق مهمة الفلسفة فى العصر الحديث وهي التوفيق بين المتناقضات والقضاء على الثنائيات الفلسفية التقليدية، لأن فلسفة كانط توقعنا مرة أخرى فى الثنائيات، إذ تواجه بين الفهم والعقل، وبين عالم الظاهر وعالم الأشياء فى ذاتها، وبين العقل النظري والعقل العملي، أى تعيد إنتاج الثنائية الأساسية بين المتناهي واللامتناهي فى شكل ثنائيات جديدة.
تصنع فلسفة هايدجر من تناهي الوجود البشري حقيقة مثالية وتجعله أساساً لأنطولوجيا الدازاين، ولذلك فإن النقد التالي الذى يوجهه هيجل لكانط ينطبق كذلك على هايدجر:
” (ينظر كانط إلى) الفلسفة على أنها لا يجب أن تقدم فكرة عن الإنسان بل مفهوم مجرد عن الإنسانية التجريبية المنغمسة كلية فى المحدوديات
Limitations “( ). ومن الواضح أن
” المحدوديات “ التى يتكلم عنها هيجل هنا موازية لـ ”الوجود فى العالم“ عند هايدجر، لأن هايدجر يعالج هذا الوجود في العالم على أنه الشرط الإنساني الأساسي والذي لا يمكن تجاوزه. كما نشعر في تحليل هايدجر للوجود في العالم أنه انحباس في العالم، انغماس فيه وتورط بحيث أن هذا العالم يشكل الحد النهائي الذي لا يمكننا تجاوزه، وهنا يصبح الوجود في العالم هو المحدودية التي نقدها هيجل في فلسفة كانط.
ويذهب هيجل إلى أن فلسفة التناهي تتضمن السلب
Negation، وهو ليس السلب الإيجابي أو المتعين الذى نجده فى ”فينومينولوجيا الروح“، بل هو سلب يعبر عن المحدودية التي ذكرناها، إذ يتمثل في النظر إلى الجزء على أنه الكل، وأخذ الواقعة على أنها هي كل الحقيقة، وتحويل المتناهي إلى مطلق( )، والنظر إلى الفرد المتناهي على أنه الوجود الأساسي وإهمال النوع البشري باعتباره هو الخالد واللامتناهي، أو تحويل فلسفة الدازاين إلى أنطولوجيا مثلما يفعل هايدجر. وفلسفة التناهي سالبة لأنها تسلب الأمل في المطلق الحقيقي، ولأنها مجرِّدة، فالتمسك بالجوانب المتناهية من الوجود الإنساني واعتبارها هي الشرط الإنساني الأنطولوجي المطلق والنهائي هو تجريد لهذا الشرط الإنساني الذي يحتوي كذلك على اللامتناهي بالضرورة. لا عجب أن يعثر هايدجر في ”نقد العقل الخالص“ على حليف له، لأن الكتاب نقد لكل سعي نحو اللامتناهي والمطلق، وتقييم للمعرفة وللعقل بالتناهي والمحدودية. لقد كشف هيجل عن أن فلسفة التناهي سالبة ومجردة، وهذا هو ما تتصف به فلسفة هايدجر بالضبط كما أجمع كثير من الباحثين، إذ إن السلب عنصر أساسي للدازاين عند هايدجر، وهو يتخذ أسماء عديدة عنده أهمها العدم Nothingness؛ وهذا ما دفع سارتر نحو التركيز على عنصر العدم وتأسيس أنطولوجيا الوجود الإنساني كلها باعتبارها جدلاً بين الوجود والعدم. إن السلب والعدم عند هايدجر وسارتر يرجعان إلى التناهي والمحدودية، أي نفس نوع السلب الذي نقده هيجل. وهذا ما يفسر لنا المكانة المركزية التي يحتلها الموت في فلسفة هايدجر، فأنت عندما تقيم أنطولوجيا للوجود الإنساني باعتباره وجوداً متناهياً يتضمن العدم كعنصر أساسي فسوف تجد أن الموت يشكل المقولة الأساسية أمامك.
الحقيقة أن شعور التناهي المسيطر على فلسفة هايدجر كان حالة من حالات الوعي التى نقدها هيجل فى ”فينومينولوجيا الروح“ تحت اسم الوعي الشقي
Unhappy Consciousness. الوعي الشقي هو الوعي الذى ينظر إلى نفسه على انه متناه ويواجه بين ذاته وبين اللامتناهي معتقداً أنهما فى تعارض أبدي لا يمكن حله. والوعي الشقي كذلك هو الذي ينتابه الشعور بأنه لا شيء، أي الشعور بالعدم وبأن مصيره الفناء أو الموت( ). وهذه هي فلسفة هايدجر بالضبط. لكن ما الحل الذى يقدمه هيجل لشقاء الوعي
؟ إن شقاء الوعي هو حالة الوعي المرتبطة بالديانة اليهودية وبالمسيحية الأولى، ويوضح هيجل أن الحل لمثل هذا الشقاء هو فى القضاء على التناقضات التي تقسم الوعي الشقي نصفين، أي التناقض بين الأرضي والسماوي، والإنساني والإلهي، والتناهي واللاتناهي، والجسم والروح، والضرورة والحرية. ويذهب هيجل إلى أن القضاء على هذه الثنائيات يتطلب تغييراً شاملاً للثقافة، ولا يكفي التنوير فى نظره لتحقيق هذه المهمة، لأن عصر التنوير وقع مرة أخرى في نفس هذه الثنائيات. والحل الذي يقدمه هيجل هو مفهومه عن الروح المطلق، الذي تتآلف فيه جميع التناقضات، وهذا الروح المطلق هو روح الشعب، الوجود الجماعي الذى يضم الأفراد في وحدة عضوية ويقضي على التعارض بين الحرية والضرورة. هيجل إذن يشير إلى أن القضاء على الوعي الشقي وعلى التعارض بين التناهي واللاتناهي هو فى شكل جديد من الحياة الجماعية.

ليست هناك تعليقات: