الأحد، 3 يونيو 2018

عبارات فلسفية سيئة السمعة (كل ما هو واقعي عقلي؛ العلم لا يفكر)؛ محمد الشيخ.




عبارات فلسفية سيئة السمعة

 محمد الشيخ.
 

 
ثمة من العبارات الحكيمة ما أمكن به اختزال فلسفة بأكملها. وذلك شأن إمكان اختزال الرواقية في جامع العبارة: "إنما الحكيم من لا يتبعه طلب ولا يزعجه سلب"، أو إمكان اختزال البراغماتية في القول الجامع" "الحق ما نفع".. وكأيّن من عبارة فلسفية دارت على الألسن حتى اشتهرت هي وصار قائلُها نسياً. إذ من شأن العبارة الوجيزة المركزة أنها سهلة التمثّل والحفظ والتذكير مثلها في ذلك كمثل "الرتيمة" التي كان يتخذها العرب في القديم خيطاً يُشَدّ في الإصبع أو الخاتم للعلامة أو التذكير. بيد أن لبعض العبارات الفلسفية التي ذاعت بين الناس مآل غريب. فقد أمكنها أن تلابس الفلسفة التي عبرت عنها وتلبس عليها. وما كان من مضار لمثل هذه العبارات، في حال الإيجاب، سوى مخالفة الاختزال والابتسار. لكن ضرر هذه العبارة كان، في حال السلب، أمراً بدياً. والحال إن مقالنا هذا ما كان لينظر في تلك العبارات الشائعات التي اعتبرت إيجاباً، وإنما في عباراتٍ استشنعت واستبشعت.. والحق إننا لن نعمل، ههنا، على أن نصير للشيطان محامين، ولكن غاية قصدنا هو أن ندقق معاني هذه العبارات السيئة السمعة.. وقد اخترنا من هذه العبارات الفلسفية سيئة السمعة عبارتين شكلتا إحدى أهم الدلائل على إمكان التباس المبنى واشتكال المعنى.

"ما من أمرٍ عقليّ إلا وهو واقعي، وما من أمرٍ واقعيّ إلا وهو عقليّ"

ما ألغز قول هيغل وأغربه وأشكله: ما من أمرٍ عقليٍّ إلا وهو أمرٌ واقعي، وما من أمر واقعي إلا وهو أمر عقلي. والحق إنه ما انوجدت عبارة في تاريخ الفلسفة فسرت التفاسير وشرحت الشروح وأُوّلت التآويل وفهمت على أنحاءٍ من الفهم وحملت على أوجه من المعنى وعنفت التعنيف واستكرهت الاستكراه وأسيء إلى فهمها الإساءة واستخدمت الاستخدام بوجه حق أو بغيره، مثل هذه العبارة التي وردت، بصيغتها المعهودة المتداولة، في كتاب هيغل الموسوم بوسم فلسفة الحق [المقدمة، 25 يونيو 1820]، كم عاد إليها صاحبها شارحاً موضحاً مفسراً المرار العديدة، وكم هو مهّد إليها بالتمهيدات المبينة، إلا أنه قلما هو تنوبه إلى هذا الأمر واستُند إليه. ثم إنه بناها على مقدمات "خفيت" على أغلب شراحها، وأوردها في "سياق" من القول اطّرح من طرف منتقديها.

ولسنا ندعي، ههنا، فرادةً في القول في هذا القول، وإنما شأننا عرض الفكرة كما فهمها هيغل وعلى لسانه. والحال أن مدار المسألة عند هيغل، في هذه القولة السيئة السمعة، على مفهوم "الواقع" أو "الأمر الواقعي"، ومنشأ سوء فهمها الخلط بين مفهومين لدلالة لفظ "الواقع" ألح هيغل، أيّما إلحاح وفي كم من مناسبة، على التمييز بينهما أشد ما يكون التمييز. إذ مفهوم "الواقع" يتخذ لدى هيغل دلالتين متعارضتين، دلالة "الواقع من حيث هو أمر ظاهر محض" ـ وهو عنده الشأن الطارئ العارض العابر الذي لا مبنى له ولا معنى ولا أصل لحدوثه، وذلك بسبب مخالفته لما يقتضيه العقل والمنطق. وذلك شأن أن نجد دولةً في زمن الحداثة لا زالت تسود فيها بعض مظاهر الاعتباط والارتجال والعبث بما ينافي مبدأ "عقلانية الدولة الحديثة". وأفدنا بدلالة "الواقع" الثانية "الواقع المتحقق القائم الراسخ" الذي ما كان من شأنه أن يرفعه هوى أو يحركه عبث ـ وهو الذي يستحق، في نظر هيغل، وحده دون سواه من واقع شبيهي أن يعدّ واقعاً حقيقياً وأن يطلق عليه اسم "الواقع الفعلي" أو "الواقع بالفعل". والحق إن "الواقع" [الشبيهي] الأول، إن هو تؤمِّل، وُجِد أنه ضربٌ من الوجود "عابر" أو "عارض"، الأصل فيه أن يندرج في باب "الإمكان"، وأن "الواقع" [الحقيقي] الثاني أمرٌ "متحصّل" "راسخ" .. يحدث بوفق مقتضى "الضرورة" وعلى جهة "المنطق".

والمثال على هذا التمييز بين واقع وواقع أورده هيغل في أحد مؤلفاته المبكرة. عنينا به كتاب دستور ألمانيا (1800ـ 1802): ففيه ورد المبدأ القائل: إن "ما لا يمكن تصوره بالعقل" (الأمر العقلي) لا "يوجد" (الأمر الواقعي) (1)، أو إنه ما كان من شأن "ما لا يعقل" أن "يوجَد" وجوداً حقيقياً، وأن وجوده، إن هو أمكن أن يتحقق، وجود زائف طارئ لا بد أن يرتفع. وتطبيقه شهد عليه قول هيغل: "ألمانيا ليست دولة". والحال أنه ما من امرئ ذي حسٍ سليم إلا وليس يمكنه أن ينكر وجود "دولة ألمانيا" في الواقع. لكن هيغل ميّز هنا بين "الواقع" من حيث هو "ظاهر محض" (وجود الدولة الألمانية برموزها السطحية الظاهرة التي شأنها أن توحي وحياً خدّاعاً بقيام دولة)، والواقع من حيث هو "أمرٌ فعليٌّ متحقق" (واقع تجزؤ ألمانيا إلى دويلات ذات مظهر وحدة لا رابط بينها سوى ذكرى الماضي). فقد تحصل بهذا، أن من شأن ما خالف مفهوم "الدولة" الحق ـ الدولة الشبيه أو المسخ ـ أن يكون شأناً متناقضاً وليس بشيء. ومن ثمة فهو، عند هيغل، أمرٌ "متهافت" لا "وجود" له ولا "تحقيق"، وإنما وجوده "وجودٌ زائف" أو "وجود شبيهي"؛ أي أنه مجرد أمرٍ ظاهر محض. (2)

وبالجملة، إنه واقع شبيهي وليس حقيقياً. بل إن هيغل يعتبر هذا الظاهر المحض "شراً"، ويعتبره من باب ضرورة ما لا ينبغي أن يكون؛ أعني أنه يقع، وباعتبار وجوده، ضمن واقعة أن الشر، وإن هو وُجد، فإنه ينبغي أن يلغى ويُحذف. (3)

ذلك أنه في مجال التاريخ، كما في مجال الواقع، هناك أشياء يمكن أن تكون أو لا تكون، تحدث أو لا تحدث (ظواهر محضة). وهي أشياء لا ترقى، في اعتبار هيغل، إلى مرتبة "الشأن العقلي"، وإنما هي تظل في مجال "الشأن العرَضي". غير أن تحقق الفكرة (الأمر العقلي) يكون له دوماً جانبٌ خارجي (الأمر الواقعي). وهذا الجانب قد يكون مطبقاً [مطابقاً] للشأن العقلي (الأمر الواقعي بمعناه الأحق، أو قل: الواقع الحقيقي)، وقد يكون مخالفاً له (الأمر الواقعي بمعناه الزائف، أو قل: بمعناه الشبيهي). يقول هيغل: للشأن الواقعي الحق تحققه الخارجي، وهو تحقق قد يشهد على [مبدأ] "العرضية" و"الجواز". وكما أننا نعثر على أشياءَ مجتمعة مثل الشجرة والبيت والنبتة.. فكذلك نعثر في المجال الظاهري السطحي للمجال الأخلاقي ـ أي في مجال أفعال الإنسان ـ على جوانب سيئة تثير السخط وكان من الممكن أن تكون أفضل وأحسن. والحق أننا إذا ما نحن علمنا الجوهر تجاوزنا المظهر. ولا بد لنا من الإقرار ههنا بأننا سنعثر دوماً على أناس أراذل فاسدين، لكنهم لا يحققون الفكرة (فكرة الإنسان). ففي ظاهر الأمور تتصارع الأهواء. ولكن هذا ليس الواقع الفعلي المتحقق للجوهر.

إن ما هو لحظي عابر يوجد بدون شك، ويمكن أن يسبب الكثير من المتاعب، لكنه ليس واقعاً متحققاً ولا فرديةُ الذات وأمانيها وميولها كذلك (4).

فقد تحصل من هذا أن ههنا إذاً "معنى" أي "جواز" الأشياء والأحداث، من جهة، وفردية الذات وميولاتها وتعلقها من جهةٍ أخرى ـ وههنا "معنى المعنى" ـ أي "الشأن المعقول" الذي يتحقق في الواقع. لنأخذ مثلاً دستور دولةٍ ما: فههنا مطلوبٌ منا أن نعلم بالعقل مواصفات الدستور الحق؛ أي "الفكرة". ذلك أن الشأن المتناقض المتهافت لا قرار له ولا حقيقة. وعليه لذلك أن يختفي ويزول. وإن مثل هذا الشيء ما كان له إلا وجود زمني محدد ـ وجود شبيهي لا حقيقي ـ ولا يمكن أن يستمر أو يدوم. وإذا كان قد ساد لزمنٍ معيّن، فليس من المحتم أن يستمر في سيادته، وإن ضرورة إلغائه لمتضمنة في فكرة "الدستور" ذاتها.. فإذا فهمت هذه المسألة من طرف أهل السلطة كان التغيير سلمياً وزالت المؤسسات القديمة وحلت محلها أخرى حديثة.. أما إذا ما تمادى هؤلاء في التثبت بالمؤسسات البالية مدافعين عن الشأن غير الجوهري (الأمر الظاهر المحض) منكرين الأمر الجوهري (الفكرة الحقة)، فإن هذا لا يعد إلا بمثابة حفر لقبورهم بأياديهم..

ولنأخذ، ثانيةً، مثال "الدولة". إذ ينبغي علينا عندما ندرس فكرة "الدولة" ألا نضع نصب أعيننا "الدولة الجزئية" ولا "المؤسسات الجزئية". وبدلاً من ذلك، فإن علينا أن ندرس "الفكرة"؛ نعني فكرة "الدولة". والحال إنه يمكن أن نبيّن باعتبار هذا المبدأ الجزئي أو ذاك، أن أي دولة هي دولة سيئة إذ يمكن أن نعثر فيها على هذا العيب أو ذاك. ومع ذلك، فإننا نكون عرضة للانزلاق إلى خطأ النظر إلى الجوانب المنعزلة في الدولة، وأن نتجاهل، من ثمة، حياتها العضوية الداخلية. فما كانت الدولة عملاً مثالياً من أعمال الفن، وإنما الشأن فيها أن توجد على أرض الواقع؛ أعني في دائرة الهوى والخطأ. ولا شك أن السلوك السيء يمكن أن يتشكل في ألوانٍ كثيرة. لكن أقبح رجل والمجرم وكذلك المريض والمقعد أو الأعرج، كلهم رجال أحياء. فالحياة والجوانب الإيجابية تبقى رغم العيوب. فضلاً عن هذا، فإن بعض الدول القائمة قد تكون نهضت على مبادئ غير ديموقراطية؛ من عسف وتسلط بل وطغيان. إلا أن هيغل يرى أن هذه الحالات، التي يقر بأن الواقع يشهد على وجودها، "حالات غير واقعية"؛ بمعنى أنها غير معقولة. ولما كان ما من أمرٍ غير معقول إلا وهو غير واقعي، فإن هذه الدولة الشبيهة لا محالة آيلة إلى الأخذ بعقلانية السياسة وديموقراطيتها مهما تأخرت في ذلك أو تلكأت. ويوضح هيغل هذه المسألة بقوله: "لا يكون الشيء واقعياً حتى على الرغم من أنه قد يكتسب الوجود الفعلي. إن الدولة الفاسدة أو الجسم المريض رغم أنها موجودات في العالم الخارجي، فإنها ليست متحققة بالفعل أو واقعية، واليد المبتورة لا تزال تشبه اليد ولا تزال توجد، لكنها ليست متحققة بالفعل. فالتحقق الفعلي الأصيل هو الضرورة، وما يتحقق بالفعل هو الضروري من الناحية الداخلية" (5).

خذ بنا مثلاً إلى بيان أمر هذا "المعقول" الذي يتحدث عنه هيغل في قولته السيئة السمعة والذي يلزم بحسبه أن يصير هو "الواقع" المتحقق. هذه فكرة "العقل الكوني" وما يقتضيه من مبادئ سياسية؛ شأن فكرة "الدستور" و"الحرية" و"العدالة" و"الذاتية".. فكرة يجد هيغل أنه ليس من شأنها أنها توجد في عالم مثالي غيبي، وإنما هي، لا محالة، متحققة، بالتساوي أو النقصان، في أنحاء من العالم. ولذلك فإننا "حين نؤكد على أن العقل الكلي يحقق نفسه بالفعل، فإننا في الواقع لا نتحدث في هذه الحالة قط عن الفردي مفهوماً بالمعنى التجريبي ـ فهذا الأخير يقبل درجات من الأفضل والأسوأ، ما دامت الصدفة والخصوصية الفردية قد حصلا من "الفكرة" على تفويضٍ لممارسة قوتهما الهائلة. ولذلك، فمن الممكن الاهتداء إلى الكثير من العيوب في الجوانب التفصيلية للظاهرة الكبرى. وهذا النقد ذو الطابع الذاتي الذي لا يضع نصب عينيه سوى الفرد ونقائصِه دون أن يتعرف فيه على العقل الكلي الذي يتغلغل في الكل، هو أمر هيّن" (6). إذ يشهد واقع الحال على أن فكرة "الحرية" متحققة في الواقع، إن بنسب مختلفة، وإن فكرة "الذاتية" حالة بالعالم، وإن بدرجات متباينة، وأن فكرة "العقلانية" مبسوطة في الأرض وإن بمقادير متفاوتة.. ومن ثمة، فإن مبادئ "الحرية" و"الذاتية" و"العقلانية" ـ التي هي مبادئ معقولة وتدخل في باب "الأمر العقلي" أو "الشأن المعقول" ما كانت هي داخلة في باب "ما ينبغي أن يكون" ـ أو هي لا تدخل في باب "ما ينبغي" ـ وإنما هي حالة وحاضرة متحققة؛ أي أنها صارت تدخل في باب "ما هو واقع".. ذلك أن العالم الحقيقي هو كما ينبغي أن يكون، والخير الحقيقي والعقل الإلهي الكلي، ليس تجريداً فحسب، وإنما هو مبدأ عام قادر على تحقيق نفسه.. وما تم إنجازه بحيث يكون نتيجة لهذه الخطة [الإلهية] هو وحده الواقع الحقيقي على الأصالة، وما لا يتفق معها هو وجود سلبي لا قيمة له.." (7). ولئن هو صح أنه في أصقاع عديدة من العالم لا يزال يسود مبدأ "العسف" ـ وهو مبدأ غير معقول، وإن هو تحقق بضرب من التحقق شبيهي ـ بدل مبدأ "الحرية، وأنه لا زالت تحيا "الجوهرية المتبلدة"، التي من شأنها أن تغمر الفرد غمراً، وتحل مبدأ "الذاتي"، وأنه لا زال تسود "العقلانية" [؟] وتنمو فتقمع "العقلانية".. صح أيضاً أن هذه الأمور المخالفة للعقل ـ غير المعقولة ـ يلزم أن تزول. وإن لشأنها أن تزول وتنمحي، وذلك بحكم مخالفتها لروح العصر؛ أي بحكم صيرورتها غير عقلية. بهذا قضى منطق التاريخ.

أكثر من هذا، يلحظ هيغل أن "الفكرة" ـ سيادة العقل ـ وإن هي تحققت في بعض ممارسات الدول الأوروبية، فإن بقية الدول لا تزال تشهد على غيابها. لكنه يضيف بأنه مهما كان مصير هذه الدولة، فإنه لن يكون سوى تحقيق الفكرة "الأوروبية" تحقيقاً. والمسألة، عنده، ما كانت مسألة فلسفية ومبدئية، وإنما هي مسألة أمبيريقية واختباريه، أو هي ما كانت مسألة نظر ومبدأ ـ فالنظر انتهى والأمر قضيَ ـ وإنما هي مسألة تنفيذ وتحقيق. إذ ما إن يلاحظ هيغل أن الكثير من الدول تعدم تحقيق مبدأ "العقل" في واقعها، حتى يجد أن "المسألة مسألة أمبيريقية"، أي مسألة تطبيق، ثم يعقب بأنه، بوفق هذا الوجه من الاعتبار، "لا زال هناك شيء كثير ينتظر العمل على تحقيقه" (8).

وبه يتبيّن أن مراد هيغل من القول: ما من أمر عقلي إلا وهو أمرٌ واقعي، وما من أمرٍ واقعي إلا وهو أمرٌ عقلي، ما كان هو، كما ادعى خصومه، تبرير الواقع أي واقع كان. فهو يعترف بعيوب الواقع ويفضحها في كثير من كتاباته، شأن إثارته لمشكلة "الفقر" في المجتمعات الحديثة (9)، أو التعارض الذي تشهده الديموقراطية الليبرالية بين المصلحة العامة واحترام منطق العدد (الأغلبية التي قد توجهها عوامل ذاتية) (10). إنما بغيته كانت هي تنبيه الأشخاص "المثاليين" إلى ضرورة النزول من أبراجهم العاجية والنظر إلى الواقع بنظرة واقعية. أوليس هو القائل: "أما نحن، فحين نؤكد أن العقل الكلي يحقق نفسه بالفعل، فإننا في الواقع لا نتحدث في هذه الحالة قط عن الفردي مفهوماً بالمعنى التجريبي. فهذا الأخير يقبل درجات من الأفضل والأسوأ ما دامت الصدفة والخصوصية الفردية قد حصلا هنا من الفكرة على تفويض بممارسة قوتها الهائلة. لذلك فمن المؤكد الاهتداء إلى كثير من العيوب في الجوانب التفصيلية للظاهرة الكبرى. وهذا النقد ذو الطابع الذاتي الذي لا يضع نصب عينيه سوى الفرد ونقائصه دون أن يتعرف فيه على العقل الكلي الذي يتغلغل في الكل، هو أمر هين.. ذلك أن الكشف عن عيوب في الأفراد وفي الدولة وفي تدبير الكل، أيسر من أن نرى أعماقهم وقيمهم الحقيقية. ذلك لأننا في هذا البحث السلبي عن العيوب نتخذ موقف الكبرياء والشموخ بحيث نتغاضى عن الموضوع ولا ننفذ إلى داخله، وبذلك لا نفهم وجهه الإيجابي"؟ (11).

أما بعد، أوليس لنا، بعد هذا، أن نقلب دلالة هذه العبارة التي رأى فيها ثوريو القرن التاسع عشر العبارة المعبّرة عن النزعة المحافظة بامتياز، فنرى فيها عبارة ثورية ملهمة؟ لنا في هذه الحادثة التي يرويها تلميذ هيغل الشاعر والمفكر الألماني هانريش هاينه (1797ـ 1856) خير عبرة. ففي كتابه "رسائل عن ألمانيا" ـ التي ألفت سنة 1844 ونُشِرت لأول مرة سنة 1869 ـ يذكر هاينه أنه بينما هو كان يماشي هيغل ويحاوره بدر بخاطره أن يعيب عليه قولته التي أوردها في مقدمة كتاب "فلسفة الحق": ما من أمر عقلي إلا وهو واقعي، وما من أمر واقعي إلا وهو عقلي، فلما طرح الأمر على الحكيم لم ينزعج، وإنما هو، بالضد من ذلك تماماً، علت محياه ابتسامةٌ غريبة، وبعد أن هو تأكد من أن رجال وزارة الداخلية لم يكونوا يتعقبون آثار الرجلين أو يسترقون السمع إليهما، لاحظ أن ليس بإمكاننا القول "ما من أمرٍ عقلي إلا وهو أمرٌ واقعي" فحسب، وإنما الاستدراك عليه بالإضافة: "ما من أمر عقلي إلا ينبغي له أن يصير أمراً واقعياً [أي أن يتحقق آجلاً أو عاجلاً، وإن كره حكام الزمان]".

هذه غمزة دلت على مدى فهم الحكيم الواقعي للشاعر الرومانسي. ولا أخال إلا أن هاينه فهم المسألة حين أورد هو في كتابه في تاريخ الدين والفلسفة بألمانيا (1933ـ 1934) [قد يكون الصحيح 1833ـ 1834]، الشهادة الذكية التالية عن هيغل ـ وكان آنها قد قضى الأستاذ بزمن يسير ـ "إن هيغل كان رجلاً ذا خلق. ومع أنه منح مثل السيد شيلنج الشيء الموجود والقائم في الدولة والكنيسة [الواقع] بعض التجويزات المريبة جداً، فقد حدث هذا بالنسبة لدولةٍ أقرت بمبدأ التقدم، وإن كان هذا الإقرار نظرياً على الأقل، وحدث هذا أيضاً بالنسبة لكنيسة اعتبرت مبدأ البحث الحر عنصراً حيوياً لها" (12).

 
 

 

"العلم لا يفكّر"

ثمة اعتقاد راسخ لدى هايدغر أن ما كان "العلم بالشيء" من "التفكير فيه" في شيء. أكثر من هذا، ما كانت "للعلم" المقدرة على "الفكر". وهذا أصل منشأ عبارة هايدغر السيئة السمعة: "إن العلم لا يفكّر"، أو "ما العلم بمفكّر"، و"ليس من شأن العلم أن يفكر" ولا ينبغي له (13). وقد وصف هايدغر نفسه فعل هذه العبارة في الأذهان بفعل "الصدمة". وما زالت هذه تثير التآويل الكثيرة التي صار يشنَّع بها على صاحبها، ما بين عادّه "متصوّفاً" بل "رومانسياً"، ومعتبره "ظلامياً" بل و"شعوذياً"، وأقلهم مهاجمةً لهايدغر من عدّه مفكراً معادياً للعلم. لكن الرجل لم يعتبر  نفسه أبداً مفكراً وجّه فكره ضد العلم وأداره على مناقضته، وإنما هو، بالضد من ذلك تماماً، اعتبر أنه فكر من أجل العلم، أي أنه فكر من أجل إبراز كنه "العلم" من حيث بما كان هو "علماً". وإنه ما أنكر هو أبداً أن العلم أمر "جوهري" من أمور الإنسان، بل و"أساسي" (14) ـ بل أكد على أن العلم إمكانٌ للوجود والعيش الحر (15)، وأنه "موقف حر تاريخي يتخذه الإنسان" (16)، و"إمكان وجود لكينونة الإنسان" (17)، وقوة من قوى الإنسان (18) ـ لا ولا سعى هايدغر إلى "احتقار" العلم أو "الزراية به". وكيف يكون هايدغر مفكراً ظلامياً معادياً للعلم والعبارة جاءت لحماية ما يسميه "الفكر" لا لمهاجمته؟ وكيف له بذلك وأنت تجد هايدغر انتفض ضد كل صنوف المذاهب الغنوصية التي حاول البعض تقريب فكره منها، من عبادة أسرار، ومذاهب حكمة إشراقية، ورؤى عالم بروتستانتية أو كاثوليكية.. فحتى في أقصى حال سكرته، حافظ هايدغر على صحوته؛ عنينا "يقظة الفكر".

إنما هو أكد على أن ثمة حقول نظر تظل دون العلم مستغلقة وذلك بفعل مناهج العلم التي يُعمِلها في دراسة الأشياء ويمشيها عليها (19). فالعلوم، عنده، غير قادرة على تبيّن أمر الكائن أو الشيء، ليس من جهة "كمه" أو "كيفه؛ وإنما من حهة "كينونته"؛ أي "كنهه" ومعنى "وجوده". أكثر من هذا إن من شأن مفهوم "كينونة الأشياء" أن تبقى أبداً على العلوم أمراً مستغلقاً موصوداً (20). وليس للعلم من الأفق ما يتسع ليشمل "التفكر" في أمور من قبيل مسألة "الكائن"، وكنه "الحقيقة"، وماهية "الحرية" و"حقيقة اللغة".. فثمة مضمارات تظل على العلوم مغلقةً، وثمّة أسئلةٌ تبقى دونها مقفلة. وإنما هذه الأمور شأن الفلسفة وديدنها وهجيراها. ولذلك كتب هايدغر سنة  1949 يقول: "مهما بلغ العلم من دقة، فإنه لن يبلغ أبداً جدية الميتافيزيقا. وأبداً لا يمكن للفلسفة أن توزن فكرة العلم" (21).

وما كان هايدغر لينفي عن العلم كل فكر، وإنما لئن هو كان "العلم لا يفكر"، فإنه لا يفكر على نحوٍ من التفكير "جهري". إنما تفكيره شأن "مستتر". إذ ما من علمٍ إلا وشأنه أن يقوم، من حيث أسسُه ودعائمُه، على أنطولوجيا مضمرة (22)؛ أي إنه لا بد أن ينهض على نظرة معيّنة إلى "كينونة الكائن"؛ أي أن يعتبر معنى وجوده وما من اعتبار للكائن ـ وليكن الاعتبار العلمي ـ إلا ومن أمره أن يتضمّن، بدءاً وأصلاً، فهماً معيناً لشأن "الكينونة" جلي أم غمض وانبسط أم انطوى (23)؛ وذلك حتى وإن هو لم ينظر هذا العلم في فهم أمر "الكينونة" أو يعلم عن نظره (24). ومن ثمة، ساغ لهايدغر القول: "ما من علم إلا وهو في مكنونه واستتاره فلسفة"، و"ما من علم بالكائن إلا وهو يقوم بالضرورة على أنطولوجيا ثاوية مستترة" (25). ولا يعني هذا،أن لا بد للمشتغل بالعلم أن يهتم بالفلسفة التي تحتويها العلوم بالضرورة ـ وإن احتواءً خفياً ـ ولا أن له أن يهتم بالفلسفة عامة. فالاشتغال بالعلم أمرٌ ممكن حتى دونما عدة فلسفية (26). وبالجملة، "ما من علم إلا وهو فلسفة: سواءٌ اقتدر على الإدراك هذا الأمر وأراده أم لا" (27).

فقد تحصل، أن مقتضى نقد هايدغر للعلم عبارته الذائعة الصيت السيئة السمعة: "ما كان من شأن العلم أن يفكر ولا ينبغي له". وهي العبارة التي عدّ هايدغر نفسه أن من شأنها أن "تصدم تصورنا السائر عن العلم" (28). بيد أنه إن نحن طلبنا مزيد استبيانٍ عن أمر هذه العبارة، احتاج ذلك منا، لا محالة، إلى وقفةٍ طويلة. دعنا نحدد، بدايةً، دلالة العبارة السيئة السمعة على جهة السلب؛ أي على جهة ما لا تعنيه.

بدءاً: ليس مقتضى هذا القول، أن على "الفكر" أن يكون في حلٍ من "العلم"، وأن يرمي بنفسه إلى أحضان الأسطورة والوهم (29)، لا ولا أن يكون "العلم" في غنىً عن "الفكر" ومبعداً ومنفياً (30).

تثنية: ليس معنى العبارة، "القدح في العلم" والثلب. فالقول: "ما كان بمكنة ألعلم أن يفكر ولا بمقدرته فعل ذلك حتى وإن هو رغب"، لا يلزم منه النظر إلى هذا الأمر وكأنه "عيب" يلحقه أو "آفةٌ" تعترية، وإنما بالضد إنه "ميزة" له، فبفضله يمكن للعلم أن يدرك المعطيات والموضوعات بحسب طريق بحثه، وذلك دونما أن يكلف نفسه مؤونة النظر في "ما وراء" الكائنات والموضوعات التي يدرسها؛ أي في كينونتها وكنهها (31).

تثليثاً: ما كان معنى هذه العبارة الدلالة على توق هايدغر إلى "نقد العلم" وذلك بتأسيس "إبستمولوجيا" أو "علم علم" أو "ما وراء العلم" من شأنه أن يكون دعياً مختالاً، وإنما دور الفيلسوف، أمام العلم، في اعتباره، هو أن ينظر في الدور الذي يلعبه العلم في نشر تصوّر محدد لكينونة الكائن، هو الذي يشكل أصلاً، أساس وجوده.

ولئن كنا قد حددنا، سلباً، ما لا تعنيه هذه العبارة فإن شأننا الآن أن نحدد، إيجاباً ما تعنيه. والحق إن هذه العبارة قامت على مقدمات مضمَرة، فلا يستقيم فهم معناها إلا بتبيّن أمرها:

منها، أولاً؛ شأن كل العلوم أن تنظر في أمر "الكائن" بمختلف النظر، لكنها لا تنظر في شأن النظر في الكائن؛ أي أنها لا تستشكله من جهة كينونة، وإنما هو يُعطاها، قبلاً، من حيث هو كائن. فهي، من الجهة الفلسفية، مصابةٌ بالعمى عن كينونة الكائن (32). غير أن مشكلة العلم تكمن في أن ديدنه أن ينسى حدوده هذه (33). أجل، إن شأن العلوم أن لا "تنشئ" الكائن إنشاءً، وإنما هي "تفترضه" افتراضاً، أو قل: إنه "يوضع" قبلاً. ففي اعتبارها، الكائن "وضع"، أو قل: "موضوع" positum، لا فرق. وهي علوم "وضعية" شأنها أن "تضع" الكائن ـ الطبيعة مثلاً ـ "موضوعاً" للاعتبار العلمي والعلوم، إذ "تنظر"، فهي لا "تنظر" إلا في مختلف مجالات الطبيعة، وإذ هي "تستشكل"، فلا "تستشكل" إلا في مختلف مجالات الكائن؛ من طبيعة جامدة وفيزيائية ومادية وحية.. ثم هي تقسم الكائن الحي إلى حقول مخصصة مفردة، من عالم نباتي وحيواني.. (34). هذا هو شأن البيولوجيا، مثلاً، تنظر إلى الكائن من حيث هو "حياة"، أو قل بالأحرى: يعطاها الكائن بما هو حياة، لكنها لا تستشكل موضوعها بدءاً. فالحياة معطاة لها قبلاً. وإن هذه الغفلة عن النظر في حقيقة كينونة الكائن، لهي ما سماه هايدغر ذات مرة "الجهالة الميتافيزيقية" (35). وهي الجهالة التي ما إن يستفسرها أحد المفكرين، حتى يعد استفساره هذا أمراً غير معقول، بل وهداماً للعلم. إن معنى إن: "العلم ليس يفكر"، أنه ليس "حدثاً" يؤسس لحقيقة الكائن و"يفتحها"، وإنما هو أمرٌ يستغل جهةً ما من الحق تكون قد "انفتحت" له قبلاً، وذلك من غير استشكال ولا استثارة سؤال (36).

تأسيساً على ما تقدم، ينجلي أن ليس من شأن العلوم أن تدرك كنه مجالها؛ فهو يبقى أبداً عنها مغلقاً ودونها موصداً. فلا كان من شأن العلم التاريخي أن يدرك كنه التاريخ، ولا كان من شأن العلم الرياضي أن يدرك كنه الرياضة، ولا شأن العلم الفيزيائي أن يدرك كنه الطبيعة، ولا العلم الجمالي أن يدرك كنه الفن، ولا العلم اللساني يستكنه أمر اللسان.. تلك مجالات تبقى دون العلوم أبداً موصدة. بهذا المعنى، صح القول: إن العلوم، بما صح من أنها لا تقتدر على اقتحام كنه الكائنات التي تبحث فيها، ما كان بمقدورها أن تفكر (37). يبقى إذاً أن لكل علمٍ وجهاً آخر لا يمكنه أبداً أن يبلغه أو يدركه حتى الدرك ـ ألا وهو كنه مجاله، وأصل هذا الكنه، وكذلك كنه أصل كنه المنهج الذي يطوره. ألا إن للعلم مجاهل وغياهب. ومن ثمة، فإنه جاز وصف العلوم بأنها تبقى محدودة.

غير أنه لا يلزم عن ذلك فهم هذه المحدودية فهما سالباً وحسب، بل ينبغي فهمها الفهم الإيجابي أيضاً. إذ لا يمكن للوجه المغيّب للعلوم أن يظهر إلا بالعلوم ذاتها (38). فاعتبار أن: "العلم لا يفكر"، إنما معناه، بدءاً، أنه "لا يفكر" بالمعنى الذي يفكر به المفكرون (39). ولما كانت الفلسفة هي "إبداعٌ من شأن المفكرين"، فإن العلم لا يفكر بضربٍ من التفكير الفلسفي؛ أي إنه لا يفكر تفكيراً أنطولوجياً. فمن شأن العلم ألا يدرك أبداً إلا ما أنشأته طريقته الخاصة في "التمثيل" وقبلته على أنه "موضوع" ممكن له. هذه "الجرة"، مثلاً، إذ هي توضع فيها خمرة، لا ينظر العلم إلى "الجرة" في ذاتها بوصفها ملتقى عوالم أربعة: الآلهة والبشر والأرض والأشياء، وإنما ينظر إليها بما هي جم مقعّر يحتوي سائلاً حلّ محل الهواء. ومعنى هذا، أن من شأن "العلم" أن يلغي ذاك الشيء الذي اسمه "الجرة"، وذلك من حيث أنه لا يقبل إلا خواصها الفيزيائية والكيميائية والرياضية (40). والمترتب عن هذا، قول هايدغر: إن العلم دمّر الأشياء من حيث هي كانت أشياء، وحجب شيئيتها وعمى عليها وطوح بها إلى غياهب النسيان. فما عادت هي تظهر كينونة الشيء أبداً، ولا عادت هي تسأل وتنظر وتعتبر وفي هذا تدمير للشيء بما هو شيء.

والحال إن هايدغر يعجب لهذا الأمر ويقلق. وقلقه متأتٍ من جانبين: أولهما، الادعاء الوضعي بأن من شأن العلم أن يتفوق على كل تجربة، وإن من يدرك الواقع على حقيقته كما هو وبما هو. وثانيهما، الادعاء أن العلم، إذ هو يدرس الأشياء ويكتشفها، فإنه ما كان هو ليسيء إلى كنهها، وإنما هو يتركها كما وجدها من قبل: أشياء (41). والمترتب عن هذا، أن العلم، إذ هو ينظر في الطبيعة، فإنه يحولها إلى "موضوع"، فيحدث أن تنحجب. مما يفيد أن ليس من مقدور العلم أن يحيط بكينونة الطبيعة، وأنه لا يدرك من الطبيعة إلا ما ينشئه فيها، أو قل: إنه لا يعثر في الطبيعة إلا على ما يبحث عنه فيها. ومعنى هذا، أنه ليس بمكنة العلم أن يبيّن ما إذا كان استقصاؤه الطبيعة يؤدي إلى انكشافها، كما يدعي، أم بالضد هو يتأدى إلى انحجاب كنهها على التحقيق. أكثر من هذا، ليس من مقدرة العلم حتى أن يطرح هذا التساؤل؛ وذلك لأن من شأنه أن يعكس، بدءاً وقبلاً، تأويلاً معيناً للطبيعة يصيرها موضوعاً للنظر العلمي. ومن ثمة، كان العلم أن يغلق على نفسه إمكانات مساءلة كينونة الطبيعة (42).

أكثر من هذا، ليس بمكنة العلم أن يعلم طبيعة علمه بالطبيعة، أي أن يصير العلم بنفسه. فمن المستحيل التأمل في الفيزياء، من حيث هي علم، بدءاً من المناهج التي تستند إليها. لا ولا هو بإمكان الرياضيات أن تعتبر رياضياً أو تستشكل بما هي كذلك. وقس على ذلك، أن يكون بمكنة الجيولوجيا أن تتأمل جيولوجياً، أو يكون بمكنة الفيلولوجيا أن تتأمل فيلولوجياً. وهذا يبين عن حد للعلم داخلي: فهو لا يقدر على الانعكاس على ذاته والنظر فيها. لكن هذه المسألة لا تفيد معنى "النقص" أو "الآفة" أو "المعيب" الذي يلحق كنه العلم، وإنما هي، بالضد من ذلك تكشف عن أن ثمة في العلم شأناً أخفى وأدهى يجب إيقاظه واستشكاله. ولما كان هو يستحيل التأمل في أمر العلم تأملاً علمياً، فإنه ثبت أن ليس ذلك يمكن إلا بتوسل المعرفة الفلسفية (43) لا يمكن أن يدرك إلا بالمعرفة الفلسفية؛ يعني النظر في الكائن بما هو كائن، أي اعتبار الكائن باعتبار إمكانيات كينونته وحقيقته (44).

وفضلاً عن هذا وذاك، ما كان بمقدرة العلم أن يؤسس مفاهيمه البدئية. هذا العلم الطبيعي، مثلاً، يتوسل لدراسة الطبيعة أن يحدد ما يقصده بمفهوم "الحركة" و"الجسم" و"المكان" و"الزمان. وإن من شأن العالم الطبيعي أن يحدد ما يقصده بمفهوم "الحركة"، وما يعنيه بمفهوم "المكان"، وما يفيده بمفهوم "الزمان"، لكنه ليس من شأنه أن يحدد كنه "الحركة" بما هي موضوع بحثه، وإنما هو يدرس حركاتٍ محددة، ولا بمكنته أن يحدد كنه "الزمان"، وإنما هو شأنه أن يستعمل "الزمان" من حيث هو وسيلة لقياس الحركة لا من حيث دالته الأنطولوجية. وما يصدق على العلم الطبيعي يصدق أيضاً على البيولوجيا والتاريخ والفيلولوجيا (45).

ثم إنه ما من أطروحةٍ وضعية عن "الكائن" إلا ومن شأنها أن تتضمّن معرفةً قبليةً بكينونة الكائن وفهماً مسبقاً له، حتى ولئن كانت هذه التجربة الوضعية للكائن لا تعلم شيئاً عن هذا الفهم ولا هي ترقى إلى مستوى أن تنقل إلى المفهوم ما تحصل من هذا الدرك. فهذا أمرٌ شأنه ألا تقتدر عليه إلا الفلسفة بوصفها العلم بالكينونة. فالعلوم الوضعية بالكائن لا يمكنها إلا أن تنشئ حولها الأحلام، كما قال أفلاطون؛ أي أن تنشئ موضعها إنشاءً. ولما كان من شأن الحلم ألا يحدث إلا في حال النوم، فإن ما ينقص العلم حقاً هو التيقظ إلى درك الكائن من حيث هو كائن، أي باعتبار كينونته. فمن شأن الكائن أنه يعطاه سلفاً ومسبقاً وكأنه حلم (46). أكثر من هذا، لا تكتفي العلوم بالنظر إلى الكائن (الطبيعة)، بل إنها تعمد إلى تشويه كنهه. فالعلوم، وإن هي ثبتت ضرورتها ومهما بلغت دقتها، إنما شأنها أن تعمد إلى نزع الطابع الطبيعي عن الطبيعة (47).

ولهذا الاعتبار، نجد لدى هايدغر ضرباً من الزراية بالطرق العلمية التي تعتمد، بحسب نظره على تمحل آليات "الحيلة" و"الترتيق" و"الحسابات الضيقة". ومن ثمة، كان من شأن أعجب شؤون العلوم أنها تعتمد على منزعٍ "نفعي" "ترتيقي" خالص، مع أنها تدعي كشف الحقيقة. وهي إذ تقيم ما تقيمه على أساسٍ من مبدأ "النفع" فإنها تلجأ إلى القواعد والضوابط والأعداد والآلات والأجهزة تقيمها بينها وبين الأشياء وتتخندق بها وتتمترس. لكن ما كان من شأنها أن ترى الأشياء، وإنما حيلتها مع الأشياء في الحقيقة ترى [؟]. فبالرغم من التلسكوب القوي والآلات الأخرى المعقدة التي تقيمها لتنظر بعيداً، فهي لا ترى في نهاية المطاف إلا ما تتوسله من حيل لا مقام لها إلا بها. وإنه لمن سذاجة معرفةٍ كهذه، بالرغم من كل نجاحاتها الباهرة، أن تبقى دوماً عاجزة (48). والحق إن الطبيعة الأصلية، التي اكتشفها الإغريق وأبانوا عنها، بما هي ما من شأنه أن ينبثق بذاته (phusis)، ثم إتلاف طابعها الطبيعي من طرف قوتين كانتا عنها غريبتين: أولهما؛ المسيحية التي أزرت بالطبيعة حد تصييرها "مخلوقاً"؛ مما افترض تجاوزها بما فوقها؛ أي بالخالق. وثانيها؛ العلوم الحديثة التي سلكت بالطبيعة مسالك النظام الرياضي والتصنيع والتقنية والآلية (49).

ومن مقدمات فهم قول هايدغر بانتفاء صفة "الفكر" عن "العلم"، اعتباره أن لا أفضلية للعلوم ـ لا سيما العلوم الحديثة ـ على طرق اعتبار الكائن الأخرى، فبالرغم مما شهدته العلوم الحديثة من فعالية ونجاعة واشتهار، فإنه يلزم، لهذا السبب ذاته، التنبه إلى حدودها. وهذا ما لا تقتدر عليه من تلقاء ذاتها. لهذا، فإنه لا يلزم تحكيمها في النظر في "فلسفة الطبيعة" التي كانت سائدة قبلها. فليس من شأننا أن نحكم النظر العلمي الحديث في الأنظار الأخرى في الطبيعة، وبالتالي أن نعتبرها مجرد أنظار ميتافيزيقية شعرية. أوليس العلم نفسه يلجأ إلى استعمال استعارات شعرية في تضاعيف لغته وأثناءها؟ إن الحقيقة تقتضي منا القول: إن النظر في الطبيعة لزمننا هذا ما كان هو أكثر دقة وعمقاً من سالف النظر؛ هذا إن لم نقل بالضد: إنه أكثر فظاعةً وتصلباً وصدفية (50). والمستفاد من هذا، أن لا إمكان للمقايسة بين أنحاء النظر إلى الطبيعة، فضلاً عن المفاضلة بينها، فتفضل النظر الحديث على ما سواه! فما شمس علماء الفلك المحدثين بأحق ولا بأدق من شمس راعي الغنم القديم! (51). لا ولا الفيزياء الحديثة بأدقَّ ولا بأحقَّ من فيزياء أرسطو! فقد تحصّل عن هذا هدم أساس ضرورة العلم. فلا ضرورة إلى أن يقوم العلم، وما كان قيامه بمسيس الحاجة (52). ولئن هو قام العلم، بأوكد قيام، فما كان هو بأفضلِ المعارف. ثم إنه أمر تاريخي له أصلٌ ومنبع يطلب به وبه يستعرف. أصل العلم يوناني، ومآله هو المآل الحداثي الذي كان قد أعطى الأولوية للمنهج على الموضوع ذاته، والذي انتهى به ذلك إلى أن صار محض أمرٍ تقني وتخصصي وتنظيمي وتصنيعي (53).

ومن أصول فهم قول هايدغر بامتناع "الفكر" عن "العلم"، أن لا صلة لخبرة الكينونة والكائن بالاستناد إلى درجة المعرفة العلمية به. قس على ذلك كنه "الإصغاء" مثلاً: إذ يمكن للعلم أن يعلمنا الشيء الكثير عن فيزيولوجيا الأذن، لكنه لا يمكنه أن يعلمنا شيئاً عن معنى أن يكون الإنسان كائناً مصغياً (54). أكثر من هذا وأغرب، ثمة من علماء البيولوجيا من لم يعد في حاجة إلى صلة كنهية بالطبيعة الحية حتى يحصل على نتائج بحثه ويستجيب لمتطلبات شعبته العلمية وتقدمها، وكأيّن من مؤرخي الفن الذين، بما هم مؤرخون، ما عادوا يحتاجون أن يكونوا على صلة بالعمل الفني أو على تجربةٍ بكنهه. مما يعني أن العلم صار يدمر العلاقة الحقة للمعرفة بكنه الكائن، وذلك لدرجة أن العلوم صارت اليوم فاقدة الصلة بأسسها غير موصولة بها (55). ومعنى هذا، أن درجة انجلاء الكائن عامةً لا تتوافق مع درجة المعرفة بالكائنات. بل الأمر بالضد: حيثما علم الإنسان الكائن العلم، فإن حقيقة الكائن تصير له مجهولة، وحيثما أمكن للإنسان التحكم في الكائن، صارت له حقيقة مغيبة أكثر من هذا، إن العلم بالكائن عدمٌ له ونسيان (56). وحيثما سعى الإنسان إلى العلم بكنه الأشياء ـ من تاريخ وفن ولغة وطبيعة ـ وذلك من غير أن تكون له المقدرة عليها، ظهر للناس أن من شأن الفكر أن "يعرف" أقل ما "تعرفه" العلوم؛ بينما الضد هو الصحيح. كلا؛ ما كانت العبرة بكثرة المعارف، إما العبرة بالمقدرة على استكناه حقائق الأشياء. إنما التناسب بين "المعرفة العلمية" و"المعرفة الحقة" تناسبٌ عكسيّ (57). والشاهد على ذلك "أزمة الأسس" التي شهدتها العلوم الحديثة. وفي تصور هايدغر، فإن "أزمة الأسس" تلك، ما كان هي أمراً عارضاً ولا شأناً عابراً، وإنما هي شكلت "سمةً جوهرية" من سمات المشروع العلمي ذاته، لدرجة أنه يمكن القول: "هذه الأزمة سكنت كل علم منذ أن كان العلم علماً".. وما كان المطلوب تجاوز هذه الأزمة، وإنما صار المطلوب، بالعكس من ذلك، تعميقها ما أمكن، وذلك بغاية أن نستجلي، بأجل استجلاء، ما نريده من العلم على وجه التدقيق (58). والحق إنه ما شهد العلم يوماً على التعارض المفارق بين قوة النتائج المحصل عليها ولا على عدم يقينية وغموض المفاهيم والمسائل الأكثر أساسية وبساطة بمثل ما شهد عليه العلم المعاصر. ولئن كان لنا من أمر نتبيّنه في هذا، فهو ضرورة التمثل بالقول: "ليس من شأن العلم أن يفكر" (59). وهذا يظهر إلى أي حدٍ يمكن لإنجازات العلم الوافرة والسريعة أن تحجب عنا حقيقة غموض أساسه، كما يستحثنا هو على ضرورة استفسار هذا الأساس استفساراً فلسفياً لا استفساراً نفعياً. وإن المسألة لتحتاج إلى يقظة النظر الأنطولوجي في العلوم الحديثة وإلى صحوته واعتباره لهذه العلوم اعتباراً استكناهياً (60).

لهذه الاعتبارات كلها، فإنه لا غرابة أن يختم هايدغر تأملاته في العلم باستفسار عما إذا كان من أمر العلم أنه صير الكائن أكثر كائنية، أم بالضد. ما إذا كان ثمة شيء آخر انزلق بين الكائن والإنسان العارف وكان من آثاره تمزيق صلة الإنسان بالكائن وحرمان الإنسان من كل تخبر بكنه الطبيعة وانطماس كنهه نفسه. ولعل جواب هذا الاستفسار هو أن: "الكائن اليوم الذي صار موضوع الفيزياء النظرية بخاصة والفيزياء بعامة ما عاد بالنسبة لنا أكثر كائنية بفضل تدخل العلم هذا، ولن يعود هو كذلك" (62).

تلكما كانتا عبارتين من العبارات الفلسفية التي ساءت سمعتها بالتبع إلى سوء فهم دلالتها، وذلك إما بسبب من بترها من سياقها، أو ورودها في مساقٍ سجالي، إو خفاء الأصول التي انبنت عليها عن أذهان السامع، وذلك إلى حد أن هي صارت شأن شطحات الصوفية إن ما هي استوجبت القتل أو التفكير [التكفير] فقد استوجبت التشنيع والتهويل. وقد عملنا جاهدين، في هذه المقالة، على رفع بعض أنحاء لبس هذه العبارات، وما كانت نيتُنا أن نكون لأصحابها، وقد أخذتنا حمية الفلسفة، مستبرئين كل التبرئة، وإنما كنا لخصومهم محاجين. فلا ينبغي أن ننفي عن هيغل كل نزوعٍ محافظ، أنى كان شأنه، خصوصاً وأن قولته التي حللناها ههنا وردت في سياق مساجلته لبعض خصومه السياسيين الذين كان ينعتهم بالرومانسية السياسية أو الثورية. وأعرنا لساننا لهايدغر يتحدث به عن "العلم" وقد علمنا من أمر بعض عباراته بعض جنوحاته في مهاجمة بعض أساليب الاعتبار العلمية، وذلك شأن ذهابه إلى حد التسوية بين الرؤية العلمية للعالم كما تعكسها الفيزياء الفلكية المعاصرة و"فلك" أرسطو أو "فلك" راعي الغنم! فليعتبر.

 

ليست هناك تعليقات: