الأربعاء، 9 يناير 2019

محمد عابد الجابر؛ اقتباسات من كتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم".



مدخل إلى فلسفة العلوم
محمد عابد الجابري



محمد عابد الجابري: نصوص مقتبسة من كتاب "مدخل إلى فلسفة العلوم.

في الإيبستيمولوجيا: تداخلات.
يمكن تبرير مشروعية عدم التمييز بين الإبيستيمولوجيا والميتودولوجيا ونظرية المعرفة وفلسفة العلوم، لكونها جميعاً متداخلةً متشابكة، إلى الحد الذي يصعب معه تقرير ما إذا كانت قضيةٌ ما من قضايا المعرفة تخص الواحدة منها دون الباقي. فإذا كانت الإيبستيمولوجيا هي، كما قلنا، الدراسة النقدية، لمبادئ العلوم وفروضها ونتائجها بقصد تحديد قيمتها ونفعها، فإنه من الصعب القيام مثلاً، بنقد نتائج العلوم دون البدء أولاً بفحص المنهاج الذي اتُبع للحصول عليها. وفحص المناهج هو من اختصاص الميتودولوجيا بالذات، كما أن نقد النتائج، وبالتالي تأويلها، هو أيضاً من اختصاص فلسفة العلوم، وهو شيء يمسّ كذلك، بشكل أو بآخر، نظرية المعرفة، خصوصاً عندما ننظر إلى هذه النتائج من زاوية مدى تعبيرها، تعبيراً صادقاً أو غير صادقٍ، كاملاً أو غير كامل، عن الحقيقة الموضوعية. (ص 20)

موضوعات الفلسفة:
درجت المؤلفات الفلسفية التقليدية على تصنيف موضوعات الفلسفة إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
1ـ الأنطولوجيا، وتعني كلاسيكياً، البحث في الوجود المطلق، الوجود العام المتحرر من كل تحديد أو تعيين. وبعبارة أرسطو "البحث في الوجود بما هو موجود": فإذا كانت الطبيعيات تدرس الوجود باعتباره أجساماً متغيّرة، والرياضيات تتناوله من حيث هو كمّ ومقدار، فإن الأنطولوجيا تختص بالبحث في الوجود على العموم، فتحاول بيان طبيعته، والكشف عن مبادئه الأولى وعلله القصوى وخصائصه العام. (مثال ذلك: ما أصل الكون؟ هل هو حادث أم قديم؟ ما حقيقة النفس؟ هل هي فانية أم خالدة؟ وما علاقتها بالبدن؟ وهل الإنسان مخيّر أم مسيّر.. إلى غير ذلك من المسائل الميتافيزيقية المعروفة).
2ـ نظرية المعرفة، وتختص بالبحث في إمكانية قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف أشكاله ومظاهره. وإذا كانت المعرفة ممكنة، فما أدواتُها، وما حدودُها، وما قيمتها؟
من البحث في هذه القضايا وأمثالها، تفرّعت المذاهب الفلسفية المعروفة. وبغضّ النظر عن مذهب الشك الذي لا يمكن الدفاع عنه [؟]، رغم حجج الشكاك القدامى والمحدثين، فإن المذاهب الرئيسية في مشكلة المعرفة هي التالية:
المذهب العقلي الذي يرى أن العقل بما ركّب فيه من استعدادات أوّلية أو مبادئ قبلية هو وسيلتنا الوحيدة للمعرفة اليقينية.
المذهب الحسّي أو التجريبي الذي يرجع المعرفة كلّها إلى ما تمدّنا به الحواس، باعتبار أن العقل "صفحةٌ بيضاء" ليس فيه إلا ما تنقله إليه حواسُّنا.
والمذهب الحدسي الذي يذهب إلى أن الطريق الصحيح للمعرفة، الجديرة بهذا الاسم، هو الحدس (مع الاختلاف حول مفهوم الحدس ذاته).
أما بخصوص قيمة المعرفة التي يمكن للإنسان الحصول عليها بالحسّ أو بالعقل أو بهما معاً، فيمكن التمييز بين مذهبين رئيسيين: النزعة الوثوقية ـ الدوغمائية ـ التي تقول بإمكانية توصّل الإنسان إلى معارفَ مطلقة، يقينية يقيناً مطلقا، والنزعة النقدية ـ أو النسبية ـ التي ترى أن المعرفة البشرية محدودة بالمعطيات الحسّية، وبالتالي فإنها، على الرغم من أهمية دور العقل فيها، لن تكون إلا نسبية (النزعة الكانطية بالخصوص).
3ـ والمبحث الأخير، من المباحث الكلاسيكية للفلسفة، هو الأكسيولوجيا، أي البحث في القيم: قِيَم الحق والخير والجمال، وهي الموضوعات التي يتناولها، على التوالي:  علم المنطق، وعلم الأخلاق، وعلم الجمال، بالمعنى التقليدي لهذه "العلوم" التي توصَف بأنها علومٌ معياريّة لكونها تهتم بما ينبغي أن يكون، وذلك في مقابل العلوم الوضعية التي يقتصر اهتمامها في ما هو كائن. (21)

فلسفة العلوم:
"فلسفة العلوم" مصطلح غامضٌ عائم: فكل تفكير في العلم، أو في أيّ جانبٍ من جوانبه، في مبادئه أو فروضه أو قوانينه، في نتائجه الفلسفية أو قيمته المنطقية والأخلاقية، هو، بشكلٍ أو بآخر، "فلسفة للعلم". وحسب مقلفين أمريكيين معاصرين، يمكن التفلسف في العلم، من وجوه أربعة:
1ـ دراسة علاقات العلم بكل من العالم والمجتمع، أي العلم من حيث هو ظاهرةٌ اجتماعية.
2ـ محاولة وضع العلم في المكان الخاص به ضمن مجموع القيم الإنسانية.
3ـ الرغبة في تشييد فلسفة للطبيعة انطلاقاً من نتائج العلم. [الوضعية]
4ـ التحليل المنطقي للغة العلمية. (ص 24)

الفلسفة الوضعيّة:
يرى أوغست كونت (1798ـ 1857) بأن "الفلسفة الوضعية لا يمكن أن تقوم على الوجه المطلوب، إذا بقيت العلوم غارقةً في تخصصها، بعيدة عن بعضها..
وليس من سبيل إلى سدّ الباب في وجه الميتافيزيقا وأصحابها، سوى إنشاء اختصاص علمي جديد يضاف إلى الاختصاصات القائمة، تكون مهمته "دراسة التعميمات العلمية"، مما سيزوّدنا بفلسفة علمية، هي "فلسفة العلوم" بالذات.
يقول أوغست كونت: "لتقُمْ طبقةٌ جديدة من العلماء المكوَّنين تكويناً ملائماً، وفي ذات الوقت غير مستغرَقين في الدراسات التخصصية في أيّ فرع من فروع الفلسفة الطبيعية"..
إن فلسفة العلوم، بهذا المعنى، هي البديل العلمي الوضعي، للفلسفة الميتافيزيقية. إنها والفيزياء الاجتماعية (السوسيولوجيا) التي أنشأها أوغست كونت، الوجهان المتكاملان للفلسفة الوضعية التي نادى بها هو نفسه." (26)

الوضعية الجديدة:
عرفت ألمانيا، خلال نفس القرن، اتجاهاً وضعياً ظاهرياً تزعّمه العالم الفيزيائي، الفيلسوف أرنست ماخ (1838ـ 1916)..
يقرر ماخ أن العناصر الحقيقية للعالم، ليست الأشياء (أي الموضوعات المادية والأجسام) بل، إنها الألوان والضغوط اللمسية والأمكنة والأزمنة، وبكلمة واحدة ما نسمّيه الإحساسات. ولذلك كان من الواجب حصر المعرفة العلمية والبحث العلمي في معالجة ما يقبل الملاحظة، والامتناع عن وضع فرضيات تطمح إلى تفسير ما وراء الظواهر.. (27)
على أساس هذه النزعة الظاهراتية phénoménisme المغرقة في الحسية، قامت الوضعية الجديدة بمختلف اتجاهاتها وفروعها.
تدعى هذه المدرسة أحياناً بـ"الوضعية الجديدة"، وأحياناً أخرى بـ "التجريبية العلمية"، كما اشتُهر بعض فروعها باسم "الوضعية المنطقية". أما الاسم الغالب عليها، والذي يضم مختلف فروعها، فهو "التجريبية المنطقية".

الوضعية المنطقية:
ـ هي تجريبية، لأنها ـ كباقي النزعات التجريبية ـ ترى أن التجربة هي المصدر الوحيد لكل ما يمكن أن نحصل عليه من معارف عن الواقع. فلست هناك، في نظرها، أية أفكار قبلية، ولا أية بداهة عقلية، وبالتالي فإن القضايا التي تتحدث عن أشياء لا يمكن التحقق منها بالتجربة هي قضايا فارغة من المعنى، مثل القضايا الميتافيزيقية عامةً.
ـ وهي منطقية لأنها لا توافق هيوم وجماعة التجريبيين الإنكليز في رأيهم القائل باستحالة بلوغ اليقين سواءٌ في الميدان الفلسفي أو العلمي لكون جميع معارفنا مستمدّة من المعطيات التجريبية الحسية المتغيّرة باستمرار. إن التجريبية المنطقية ترى، على العكس من ذلك، أنه بالإمكان الحصول على معارفَ يقينية في ميدان العلم شريطة التقيد الصارم بالمنطق الذي هو علم استدلالي صوري بحت، مثل مثل الرياضيات. ولذلك يميّز المناطقة الوضعيون بين القضايا التي تنطوي على معنى، والقضايا الفارغة من كل معنى. الأولى هي القضايا التركيبية (قضايا العلوم الطبيعية) والقضايا التحليلية (قضايا الرياضيات التي هي عبارة عن تحصيل حاصل) أما القضايا الأخرى، الفارغة من المعنى، فهي كل القضايا التي لا تنتمي إلى عالم الرياضيات والعلوم الطبيعية، كالقضايا الميتافيزيقية المعروفة. (28)
هناك إذاً، في نظر هذه المدرسة الفلسفية المنطقية، نوعان فقط من المعارف المشروعة: معارف ترتبط بصور الفكر ومنشآت اللغة، ومعارف ترتبط بظواهر الواقع ومعطيات التجربة.. وبما أن هذا النوع الأخير، أي المعارف العلمية، يرتد في نهاية الأمر إلى ما نقوله عن الأشياء الواقعية، فإنه من الضروري إخضاع لغتنا، أي حديثنا عن الأشياء، لتحليل منطقي صارم، حتى تعبّر عما تقدمه لنا "محاضر" التجربة، من غير زيادة أو نقصان. ومن هنا يصبح موضوع الفلسفة، لا الأِياء نفسها، بل الكيفية التي نتحدث بها عنها، مما سيجعل منها "فلسفة علمية" تحلل لغة العلم، لا، بل "منطقاً للعلم". (28)
إن الفكر النظري ليس صفةً فطريةً إلا بالأهليّة لها. إن هذه الأهليّة ينبغي تطويرها وتثقيفها، وليس لهذا التثقيف من وسيلةٍ حتى الآن غير دراسة فلسفة الماضي. (إنغلز) (32)
وجهة نظر "الفلسفة المفتوحة" التي نادى بها فردينان كونزيت العالم الرياضي السويسري (1890ـ 1976) وتبنّاها وطوّرها غاستون باشلار [عالم فيزياء] (1884ـ 1962).. كما تلتقي معها في عدة جوانب، "الإيبستيمولوجيا التكوينية" عند جان بياجيه (1896ـ 1980).
يرى فردينان كونزيت (1890ـ 1976) أن الفكر يجب أن يبقى دوماً مفتوحاً، مستعداً لتقبّل أية فكرة جديدة وأية ظاهرة تتناقض مع الأفكار المسلّم بها من قبل..
[إنه] ينتقد المادية الجدلية لأنها ـ في نظره ـ "تفرض على العقل خطواتٍ معيّنة"، كما ينتقد الوضعية المنطقية لكونها تعتقد أنه بالإمكان معالجة صور الفكر دون إعطاء اعتبار للمادة أو المحتوى، والحالة إنه لا يمكن الانطلاق من نقطة الصفر في ميدان المعرفة، وبالتالي فإن الصورية المطلقة مستحيلة حتى ولو اقتصرت على جملة من الرموز التي لا ترمز لأي شيء معيّن، وفي الوقت ذاته ترمز لكل شيء. ذلك لأن في كل عملية تجريد راسب من حدس الواقع، كما أن الإنسان الذي يمارس البحث والتنقيب هو كائن له ماضٍ معرفي، ماضٍ يقدم له الأدوات (الأفكار والمفاهيم) التي بها يبحث وينقّب. من أجل هذا كلِّه كان من غير الممكن الفصل في المعرفة بين ما هو تجريبي وما هو محض عقلي. فالمعرفة بطبيعتها تجريبية وعقلية معاً: في كل معرفة عقلية راسب من التجربة، وفي كل معرفة تجريبية جانبٌ عقليّ يتمثل على الأقل في بعض الافتراضات النظرية المسبقة. (36)

"فلسفة النفي" عند باشلار:
إن التفكير في الموضوعات الواقعية معناه الاستفادة مم يكتنفها من لبس وغموض قصد تعديل الفكر وإغنائه. وتجديل التفكير (تطبيق الديالكتيك عليه) معناه الرفع من قدرته على إنشاء الظواهر الكاملة إنشاءً علمياً، وعلى إحياء جميع المتغيرات المهملة التي كان العلم، والفكر الساذج، قد أهملاها في الدراسة الأولى.
بهذه الطريقة تصبح الموضوعات العلمية عبارة عن مجموع الانتقادات التي وجهت إلى صورتها الحسية القديمة. فليست الذرة مثلاً هي هذه الصورة التي أعطاها لها هذا العالم أو ذاك، بل هي مجموع الانتقادات التي وُجِّهت إليها ـ أي إلى تلك الصورة ـ من طرف العلماء والباحثين اللاحقين.
.. إن "فلسفة النفي" إذاً، ترفض كل تصور علمي يعتبر نفسه كاملاً نهائياً، إنها الفلسفة التي ترى "أن كل مقال في المنهج هو دوماً مقال ظرفي، مقال مؤقت لا يصف بناءً نهائياً للفكر العلمي"، بل فقط، بناءٌ يبنى على الدوام وعاد فيه النظر باستمرار. ولذلك كان العلم وتاريخ العلم لا ينفصلان، باعتبار أن العلم محاولة دائبة للكشف عن الحقيقة،وأن تاريخ العلم هو "تاريخ أخطاء العلم".  (37)

الإيبستيمولوجية التكوينيّة عند جان بياجيه:
إن "المنهاج التكويني في الإيبستيمولوجيا يستلزم النظر إلى المعرفة من زاوية تطورها في الزمان، أي بوصفها عملية تطور ونموّ متصلة يستعصي فيها بلوغ بدايتها الأولى أو نهايتها الأخيرة..
وباختصار، فإن المبدأ الأساسي الذي تنطلق منه الإيبستيمولوجيا التكوينية "هو نفس المبدأ الذي تشترك فيه جميع الدراسات التي تتخذ موضوعاً لها: النمو العضوي، وهو أنه لا يمكن الكشف عن طبيعة واقعٍ حيّ، بمجرد دراسة مراحله الأولية وحدَها، ولا بدراسة مراحله الأخيرة وحدها، بل بدراسة حركيّة تحوّلاته نفسها".  (39)

الإيبستيمولوجيا وتاريخ العلوم:
..
إذا رجعنا إلى تاريخ النظريات العلمية فسنجد أن كثيراً من النظريات الحديثة قد قال بها، بشكلٍ أو بآخر، بعض العلماء المنتمين إلى عصورٍ سابقة، ولو على شكل إرهاصات أو ملاحظات معزولة. هذا صحيح. ولكن ماذا يفيدنا ذلك؟ إن المهم ليس هو هذه الإرهاصات أو الملاحظات المعزولة اليتيمة، بل المهم ـ بالنسبة إلى لابحث الإيبستيمولوجي ـ هو معرفة كيف أصبحت هذه الملاحظة أو ذاك الاكتشاف جزءاً من بنية فكريةٍ جديدة، أو عضواً أساسياً من عناصرها: ليس المهم هو ظهور الاكتشافات المنهجية أو العلمية ظهور البرق هنا أو هناك، بل المهم هو التيارات الجديدة التي تنشأ عنها. ومن ثمة فإن  ما يشكل الخصوصية العلمية، أو الأصالة الفكرية، لشعبٍ من الشعوب ليس هو كون بعض أفراده سبقوا إلى كذا أو كذا من الآراء العلمية، بل الأصالة الفكرية لشعبٍ من الشعوب كامنةٌ أساساً في طرائق العمل التي يعتمدها هذا الشعب، وفي العادات الفكرية والميول العقلية السائدة لديه.
* تأتي هذه الفقرة في سياق الشرح والتعليق على بيير بوترو Boutroux  الذي يميّز بين أربعة أنواع من تاريخ العلوم:
1ـ البحث الوثائقي المتعلق بجمع النصوص المتعلقة بمنهجية العلماء..
2ـ جمع سلسلة الظريات والفروض العلمية في مختلف العصور.. وهي تؤرخ للأخطاء الإنسانية وتفيد الفيلسوف مؤرخ الحضارة.
3ـ التأريخ الذي يهتم بالبحث عن "وطن" للاكتشافات العلمية الكبرى.
وهذا الأخير هو ما يعلق عليه الجابري، ثم يعلق في الهامش أيضاً بالقول: "من المفيد أن نلاحظ هنا، على ضوء ما سبق، أن محاولات التأريخ للعلوم عند العرب، في الأدبيات العربية الحديثة، ما زالت محولات "وطنية قومية" ترمي إلى إبراز مآثر العرب الجزئية في هذا الميدان العلمي أو ذاك. ولكنها لم ترقَ إلى مستوى التاريخ التطور الفكر العلمي العربي ككل، وبيان أسسه الفكرية وأدواته الذهنية وتأثيره في الحضارة العربية ككل."
وأظن أن الجملة الأخيرة من تعليقه في الهامش تؤشر إلى الإرهاصات الأولى لمشروع الجابري الذي سيبتدئه بكتاب "نحن والتراث" عام 1976، أي بعد نشر هذا الكتاب (مدخل إلى فلسفة العلوم) بسنة واحدة، مع العلم بأن نشر هذا الكتاب (مدخل..) كان عبارة عن تجميع لمحاضرات ودروسٍ في المادة كان قد أعدها لطلابه خلال سنوات عديدة سبقت نشره. (41)

القطيعة الإيبستيمولوجية:
إن قضيّة "الاتصال والانفصال" في تطوّر العلم من القضايا التي تُعنى بها الأبحاث الإيبستيمولوجية املعاصرة..
إن وجهة النظر القائمة على الانفصال هي السائدة الوم..
إن تاريخ العلوم هو عبارة عن مراحل تختلف فيما بينها اختلافاً جذرياً، مراحل تفصل بين كل واحدةٍ منها والتي تليها "قطيعة إيبستيمولوجية". وليس المقصود بـ "القطيعة الإيبستيمولوجية" ظهور مفاهيم ونظريات وإشكاليات جديدة وحسب، بل إنها تعني، أكثر من ذلك، أنه لا يمكن أن نجد أيَّ ترابط أو اتصال بين القديم والجديد. إن ما قبل، وما بعد، يشكلان عالمين من الأفكار، كل منهما غريب عن الآخر. (عن سوزان باشلار).
ولما كانت القطيعة الإيبستيمولوجية، بهذا المعنى، خاصيةً نوعية لتطوّر العلوم، أي لمّا كان ما قبل القطيعة وما بعدها يختلفان جذرياً أحدهما عن الآخر، فإن تاريخ العلوم يصبح حينئذٍ عبارة عن سلسلةٍ من "الحقائق" و"الأخطاء" المتعاقبة، أو كما قال غاستون باشلار "إن تاريخ العلم هو أخطاء العلم". وبعبارة أخرى "إن تاريخ العلم ليس تاريخاً للحقيقة، بل هو تاريخ ما ليس العلم إيّاه، وما لا يريد العلم أن يكونه، وما يعارضه العلم، تاريخ العلم هو تاريخ اللاعلم".
.. يرى [البولوني] سوشودولسكي أن العلم ليس تاريخاً للحقيقة، إذ لا وجود لتاريخ الحقيقة. فالحقيقة لا تاريخ لها، نعم يمكن أن يوجد تاريخ ما هو خطأ، ولكن ذلك ليس تاريخاً للعلم. (43)
إن تاريخ العلم ليس هو تاريخ الآراء والنظريات العلمية، ولكن تاريخ النشاط العلمي الذي يمارسه الناس، وتاريخ وعيهم المرتبط بهذا النشاط. (سوشودولسكي) (43)
إن النشاط المعرفي يحوّل ويغيّر الواقع، وفي الوقت ذاته يحوّل ويغيّر الناس أنفسَهم. إن العلم هو من منشآت الفكر البشري، هذا صحيح، ولكن صحيحٌ أيضاً أن الفكر البشري ذاتَه، هو بمعنى ما من المعاني، من منشآت العلم. (44)
إن حدود [= تعريفات] العلم قد تغيّرت خلال التاريخ. وهذا يطرح بدقّةٍ الصبغة التاريخية للعلم. إن تاريخ العلم هو قبل كل شيء تاريخ فهم العلم.  (44)

في الإيبستيمولوجيا، خلاصة:
 لعل القارئ يتساءل، بعد هذا العرض العام الذي تناولنا فيه علاقة الإيبستيمولوجيا بالأبحاث المعرفية الأخرى، قائلاً: وما هي الإيبستيمولوجيا بالضبط؟ وبإمكاننا أن نجيب قائلين: إنها كل تلك الأبحاث المعرفية، منظوراً إليها من زاويةٍ معاصرة، أي من خلال المرحلة الراهنة لتطور الفكر العلمي الفلسفي. إن الإيبستيمولوجيا هي "علم المعرفة". وبما أن المعرفة هي علاقة بين الذات العارفة والموضوع الذي يراد معرفته، فإن الإيبستيمولوجيا هي "العلم" الذي يهتم بدراسة هذه العلاقة التي هي بمثابة جسر يصل الذات بالموضوع، والموضوع بالذات، بل جسر يخلق الذات من خلال انفعالها بالموضوع ويخلق الموضوع من خلال فعل الذات فيه.
إن هذا التأثير المتبادل والمستمر بين الذات والموضوع يجعل العلاقة بينهما (وبالتالي المعرفة) عبارةً عن عملية تاريخية متسلسلة، تتطور وتنمو بتطور ونموّ وعي الإنسان من خلال نشاطاته المختلفة، وفي مقدمتها نشاطه العلمي.
إن الإنسان يبني معرفته بهذا العالم ن خلال نشاطه العملي والذهني. والبناء الذي يقيمه الإنسان بواسطة هذا النشاط هو ما نسميه العلم ـ أو المعرفة. أما فحص عملية البناء نفسِها (تتبّع مراحله، نقد أساسِها، بيان مدى ترابط أجزائها، محاولة الكشف عن ثوابتها، صياغتها صياغةً تعميمية، محاولة استباق نتائجها.. إلخ)، فذلك ما يشكّل موضوع الإيبستيمولوجيا.
ومن هنا يتجلّى لنا مدى ارتباط الإيبستيمولوجيا بالأبحاث المعرفية التي أشرنا إليها، ومدى تميّزها عنها في آن واحد:
ـ هي مرتبطة بالمنطق من حيث إنها كالمنطق تدرس شروط المعرفة الصحيحة. ولكنها تختلف عنه من حيث إن المنطق يُعنى بصورة المعرفة فقط، في حين إنها تهتم بصورة المعرفة ومادتها معاً، وبالأخص بالعلاقة القائمة بينهما.
ـ وهي مرتبطة بالميتودولوجيا من حيث إنها تتناول مناهج العلوم، ولكن لا من الزاوية الوصفية التحليلية وحسب، بل أيضاً، وبالأخص، من زاويةٍ نقدية وتركيبية.
ـ وهي مرتبطة بنظرية المعرفة بمعناها العام ن حيث إنها تدرس طرق اكتساب المعرفة وطبيعتها وحدودها، ولكن لا من زاوية التأمل الفلسفي المجرّد، بل من زاوية فحص المعرفة العلمية والتفكير العلمي فحصاً علمياً ونقدياً قوامه الاستقراء والاستنتاج معاً.
ـ وهي وثيقة الصلة بتاريخ العلوم من حيث إنها تدرس تاريخ العلم، ولكن لا لذاته، بل من زاوية كونه مسلسلاً لنموّ الفاعلية البشرية، الفكرية خاصة، تلك الفاعلية التي هي عبارة عن تحقق إمكانيات الذات في فهم العالم وتغييره، وبالتالي تحقق إمكانيات وعي الذات بنفسها وبقدراتها وحدودها.
ـ إنها إذاً فلسفة للعلم، تتلوّن بلون المرحلة التي يجتازها العلم في سياق تطوّره وتقدّمه، ومن هنا طابعها العلمي، وبلون الفلسفات التي تقوم من خلال كل مرحلة، أو عقبها مباشرة، والتي تحاول كل منها استغلال العلم لفائدتها، ومن هنا طابعها الإيديولوجي، باعتبار أن الفلسفة هي الصيغة الإيديولوجية الرئيسية التي تعكس بشكل مجرد، روح العصر وطبيعة الأوضاع العامة السائدة فيه.
لنقل إذاً إن الإيبستيمولوجيا تدرس وتنقد وعي الإنسان بالعلم ـ بما فيه هو نفسه ـ وعيه المؤسس على أكبر قدر ممكن من الموضوعية، ولكن الخاضع، في الواقع ذاته، لتاريخية الإنسان كفرد في مجتمع، الشيء الذي يجعل وعيه انعكاساً إيديولوجياً لواقعه العام. ومن هنا تلك الصيغة الإيديولوجية التي لا بدّ أن يتضمّنها، صراحةً أو ضمناً، كل بحث إيبستيمولوجي. (48)

المنهج التجريب وتطور الفكر العلمي (ص 227)
إن المنهجية الثمينة التي عمل بها كبلر كانت ملفوفة في تصورات واعتبارات تشده إلى الماضي شداً. لقد كان يعتقد أن على الكواكب أن تتخذ شكلاً إهليلجياً في حركتها حول الشمس، لأن هذا الشكل هو الأنسب، فهو يحاكي شكل البيضة. وبما أن البيضة هي أصل الحياة، فإنها ـ في نظره ـ هي المؤهلة، ودون غيرها لتمثيل حركة العالم الحقيقية. أما الرياضيات فقد لجأ إلى استعمالها لضبط حركة الكواكب اعتقاداً منه بأنه وحدها الكفيلة بعكس الروح الإلهية التي تتجلى في النظام والقانون.. كان كبلر يمارس العلم، ولكنه كان يتنفس، بملء رئتيه، مناخ القرون الوسطى.. (230)
..ديكارت الذي قوّض دعائم الصرح الأرسطي في القرون الوسطى، ليقيم صرحاً جديداً يحل محله، فاستهوته الميتافيزيقا، وشغلته عن العلم بعد أن أسهم فيه إسهاماً كبيراً، كان يرى أن تجديد العلم لا يتأتى إلا بتجديد أساسه الفلسفي.
لقد قلب كوبرنيك نظام الكون كما كان يُتَصوّر قديماً، ولكنه احتفظ في ثورته هذه بعض المسلّمات التي شيّد عليها الصرح القديم. لقد بقيت فكرة "الحركة الدائرية المنتظمة" التي قال بها القدماء إحدى الأفكار الأساسية الموجهة له، بل إنه ينتقد القدماء لأنهم لم يحترموا الحركة احتراماً تاماً في تصوراتهم، مع أنها ـ في نظره ـ الحركة الوحيدة التي يمكن أن تفسر تعاقب الحوادث بشكل منتظم، والتي بإمكانها أن تكون لانهائية، وقادرة على أن تعيد الماضي. وأكثر من ذلك وأشد غرابة، أنه دافع عن الفكرة التي تجعل الشمس مركزاً للكون بدعوى أها أجمل الكواكب، وأنها تنير العالم، وأنها لكي تستطيع إنارة العالم لا بد أن تحتل فيه المركز. فرضيات ميتافيزيقية لا ندري هل وجهت البحث العلمي فعلاً، أم إنها جاءت عقبة، لتقدم لنتائجه نوعاً من التبرير حتى يقبلها العصر. (231)
في هذه المرحلة من رحلتنا نجد أنفسنا مضطرين إلى التوجه غرباً إلى الأندلس وشرقاً إلى بغداد. أما باقي الجهات فظلام دامس، "لقد كان العرب يمثلون في القرون الوسطى التفكير العلمي والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما في أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة. وخلاقاً للإغريق، لم يحتقر العرب المختبرات العلمية والتجارب الصبورة. أما في الطب وعلم الآليات، بل في جميع العلوم، فقد استخدموا العلم في خدمة الحياة الإنسانية مباشرة، ولم يحتفظوا به كغاية في حد ذاته. وقد ورثت أوروبا عنهم بسهولة ما ترغب أن تسميه بـ "روح بيكون" التي تطمح إلى "توسيع حكم الإنسان" على الطبيعة". (أورده الجابري عن جون هرمان راندل، "تكوين العقل الحديث"، ترجمة جورج طعمة)
نستطيع أن نسترسل في الإتيان بمثل هذه الشهادات التي تنوّه بدور العلم العربي في النهضة العلمية الحديثة التي دشّنها غاليليو في أوروبا.. ولكن ما قيمة هذه الشهادات إذا كانت تشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا بتراثنا العلمي. إنها تبعث فينا الاعتزاز ولا شك.. ولكنه اعتزاز من يجهل نفسه!
من الأندلس إلى بغداد، ومن بغداد إلى الإسكندرية حيث بطليموس وأرخميدس وإقليدس، ومنها إلى أثينا.. ثم إلى بابل ومصر.. تلك هي المحطات الرئيسية التي على الباحث المؤرخ أن يقف عندها طويلاً في رحلته إلى الماضي، انطلاقاً من الحاضر.
والدرس الأساسي الذي نستخلصه من هذه الرحلة هو أن العلم لا وطن له. إنه ينتقل بين الأوطان ويعم سائر البلدان التي تكون مستعدة لاستقباله، لفهمه وإغنائه. استوطن العلم القديم مصر وبابل وأثينا والإسكندرية، واستوطن العلم الحديث البلدان الأوروبية الغربية. وبين العلم القديم والعلم الحديث كان العلم العربي.
لقد جمع العلم العربي العلم القديم فحافظ عليه وهضمه وأغناه وقدّمه لأوروبا لتقوم هي بعملية التجديد بعد أن مهد العربُ الطريقَ ورسموا معالم الأفق. لقد ظلت العلوم العربية سائدة في أوروبا، تشكل أرقى ما وصلت إليه العرفة البشريه، لمدة ستة قرون، من القرن العاشر إلى القرن السابع عش وأجزاءٍ من القرن الثامن عشر.
هذا ما يحدثنا به الغربيون. (233)


ليست هناك تعليقات: