الاثنين، 28 يناير 2019

فلسفة العلم في القرن العشرين؛ يمنى الخولي؛ اقتباسات




فلسفة العلم في القرن العشرين
سلسلة عالم المعرفة
العدد 264
ملف: md ـ عالم المعرفة.
ﻣﻘﺪﻣﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻷول: ٩ ﻣﺪﺧﻞ: اﻟﻌﻠﻢ ﺑين ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ وﺗﺎرﻳﺨﻪ
 اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻧﻲ: ٥٩ ﻣﻴﺮاث ﺗﺴﻠﻤﻪ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮون
 اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺜﺎﻟﺚ: ١١٧ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﺪﻳﺚ )اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ(
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺮاﺑﻊ: ١٧٣ ﺛﻮرة اﻟﻔﻴﺰﻳﺎء اﻟﻜﺒﺮى ﻣﻦ ﻣﻨﻈﻮر ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ
اﻟﻔﺼﻞ اﺎﻣﺲ: ٢٢٩ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ أﺻﺒﺤﺖ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎدس: ٣١٥ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺘﺒﺮﻳﺮ إﻟﻰ ﻣﻨﻄﻖ اﻟﺘﻘﺪم
اﻟﻔﺼﻞ اﻟﺴﺎﺑﻊ: ٣٧٧ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ واﻟﻮﻋﻲ ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ
٤٤٥ اﻟﻬﻮاﻣﺶ
٤٦١ اﺆﻟﻒ ﻓﻲ ﺳﻄﻮر

ﻋﺒﺮ اﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﻣـﻊ اﻟـﺒـﻨـﻴـﺎت اﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔة، وﻓﻲ ﺿﻮء ﺗﻄﻮره اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ. ﺣﺪث أﺧﻴﺮا ﺗﻼق ﺣـﻤـﻴـﻢ ﺑين ﻗﻄﺒﻲ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ: ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ وﺗﺎرﻳﺨﻪ، ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟـﻌـﻠـﻢ أﻛﺜﺮ ﺷﻤﻮﻟﻴﺔ ﻟﻠﻤﻮﻗﻒ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﻦ أي ﻓﻠﺴﻔﺔ أﺧﺮى، وﺗﺸﺎﺑـﻜـﺖ ﻋـﻼﻗـﺘـﻬـﺎ واﻧﻔﺘﺤﺖ أﻣﺎﻣﻬﺎ آﻓﺎق ﻣﺴﺘﺠﺪة تماماً. ﻫﺬا ﺑﻌﺾ ﻣﻦ الموﺿﻮﻋﺎت اﻟﺘﻲ ﻳﻌﺎﻬﺎ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب ﻓﻲ إﻃﺎر ﻣﺤـﺎوﻟـﺔ ﻟﻄﺮح إﺟﺎﺑﺔ ﻣﺘﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﺘﺤـﺎورة اﻷﻃـﺮاف ﻋـﻦ اﻟـﺴـﺆال: ﻛـﻴـﻒ ﺗـﺴـﻠـﻢ اﻟـﻘـﺮن اﻟﻌﺸﺮون ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ? وﻛﻴﻒ ﺗﻄﻮرت ﻋﻠﻰ ﻣﺪاره? وﻛﻴﻒ ﺳﻠﻤﻬﺎ إﻟﻰ اﻟﻘﺮن ادي واﻟﻌﺸﺮﻳﻦ? وﺑﻌﺪ... ﻳﺨﺮج ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب إﻟﻰ ﻳﺪي اﻟﻘﺎرئ اﻟﻜﺮيم وﻗﺪ ﻣﻀﻰ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻋﺎﻣﺎ وأﻧﺎ ﺳﺎﺑﺤﺔ ﻓﻲ ﺑﺤﻮر ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌـﻠـﻢ وﻣـﻴـﺎﻫـﻬـﺎ اﻟـﻌـﻤـﻴـﻘـﺔ2 ﻓـﻲ ﻧﺼﻮﺻﻬﺎ وإﺷﻜﺎﻟﻴﺎﺗﻬﺎ وﻣﻨﺤﻨﻴﺎﺗﻬﺎ وﻣﺮاﻣﻴﻬﺎ وﻓﻌﺎﻟﻴﺎﺗﻬﺎ... واﻟﺮؤى اﻟﻤﺨﺘﻠﻔـﺔ وا@ﺘﻘﺎﺑﻠــﺔ ﻟﺘـﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ وﻣﺴﻴﺮﺗــﻪ ﻋﺒﺮ اﻀﺎرات. ﺧﺮﺟﺖ ﺑﺤﺼﺎﺋﻞ ﺟﻤـﺔ ﻻ ﺑﺄس ﺑﻬﺎ2 ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺮاﺋﺪ. وﻗﺪ أﺗﻰ ﺗﻮﺟﻴﻬﻬﺎ وﺗﻮﻇﻴﻔﻬﺎ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻹﻃﺎر ا@ﺘﻜﺎﻣﻞ2 ﻣﻦ ﻓﻲء ﻟﻘﺎﺋﻲ ﺑﺄﺳﺘﺎذ ﺟﻴـﻠـﻲ اﻟـﺪﻛـﺘـﻮر ﻓـﺆاد زﻛـﺮﻳـﺎ. ﻟـﻘـﺪ ﺗـﻔـﻀـﻞ ﺳﻴﺎدﺗﻪ ــ ﺑﺄﺳﺘﺎذﻳﺘﻪ ا@ﻜﻴﻨﺔ وا@ﻌﻄﺎءة ــ وأرﺷﺪﻧـﻲ إﻟـﻰ ﻓـﻜـﺮة ﻫـﺬا اﻟـﻜـﺘـﺎب2 وﺗﺘﺎﺑﻌﺖ  اﻹرﺷﺎدات واﻟﺘﻮﺟﻴﻬﺎت ﻋﺒﺮ ﺧﻄﻮات اﻹز. ﺛﻢ ﻳﺘﻀﺎﻋﻒ ﻋﺮﻓﺎﻧﻲ واﻣﺘﻨﺎﻧﻲ ﻷﺳﺘﺎذي اﻠﻴﻞ اﻟﺪﻛﺘﻮر ﻓﺆاد زﻛﺮﻳﺎ2 @ﺎ ﻘﻖ ﻣﻦ اﺳﺘﻔﺎدة ﺑﺎﻟـﻐـﺔ ﺑﺄﻋﻤﺎل ﺳﻴﺎدﺗﻪ2 ﺗﺄﻟﻴﻔﺎ وﺗﺮﺟﻤﺔ2 واﻟﺘﻲ ﻫﻲ أﻋﻤﺎل راﺋﺪة وﻓﺎﻋﻠﺔ وﻧﺎﺟﺰة ﻓﻲ إرﺳﺎء أﺳﺲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ وأﺻﻮل اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻓﻲ ا@ﻜﺘﺒﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ. وﻳﺒﻘﻰ اﻣﺘﻨﺎﻧﻲ ﻟﺴﺎﺋﺮ أﺳﺎﺗﺬﺗﻲ اﻟﺬﻳﻦ ﺗﻌﻠﻤﺖ ﻋﻠﻰ أﻳﺪﻳﻬﻢ وﻣﻦ أﻋﻤﺎﻟﻬﻢ. ﻤﻨﻰ ــ وﻗﺪ اﺧﺘـﺎرُوأﻳﻀﺎ اﺑﻨﻲ ﺣﻜﻴﻢ ﺣﺎŒ2 وﺣﺒﻲ اﻟﻌﻈﻴﻢ ﻟﻪ ــ وﻟﺸﻘـﻴـﻘـﺘـﻪ ﻳ ﻟﺪراﺳﺎﺗﻪ ﻓﺮﻋﺎ ﻣﺘﻘﺪﻣﺎ ﻣﻦ ﻓﺮوع اﻟﻌﻠﻢ ورﻳﺎﺿﻴﺎﺗـﻪ اﻟـﻌـﺎﻟـﻴـﺔ2 ﻻﺷـﻚ ﻓـﻲ أن ﻣﻨﺎﻗﺸﺎﺗﻲ ﻣﻌﻪ اﻴﺔ ا@ﺴﺘﻔﻴﻀـﺔ ﺣـﻮل أﺻـﻮل ﻣـﻔـﺎﻫـﻴـﻢ ﻋـﻠـﻤـﻴـﺔ وأﺑـﻌـﺎدﻫـﺎ اﻀﺎرﻳﺔ وا@ﻨﻈﻮرات اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻟـﻬـﺎ... ﻗـﺪ ﺳـﺎﻫـﻤـﺖ ﻓـﻲ إﺿـﻔـﺎء ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ ا واﻴﻮﻳﺔ واﻟﻨﻀﺎرة ﻋﻠـﻰ إـﺎزي ﻫـﺬا اﻟـﻜـﺘـﺎب. وﺗـﺘـﻔـﻀـﻞ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻋﺎﻟﻢ ا@ﻌﺮﻓﺔ ا@ﺮﻣﻮﻗﺔ ﺑﺘﻘﺪIﻪ إﻟﻰ اﻟﻘﺎر اﻟﻌﺮﺑﻲ2 ﻓﻲ إﻃﺎر اﻟﺴﻌﻲ ﻧﺤﻮ ﺗﻮﻃ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﻈﺎﻫﺮة اﻟﻌﻠﻢ ﻛﻈﺎﻫﺮة إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺣﻤﻴﻤﺔ ﻣﺘﺪﻓﻘﺔ ﻓﻲ ﺳﻴﺎق ﺣﻀﺎري ﻣﻮات2 وﺗﻌﻤﻴﻖ أﺑﻌﺎد اﻟﺮوح اﻟﻌﻠـﻤـﻴـﺔ ﺑـ ﻗـﺮاء اﻟـﻌـﺮﺑـﻴـﺔ2 ﻻ ﺳـﻴـﻤـﺎ أﻣﺜﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺷﺒﺎب اﻟﻌﻠﻤﻴ... وﻓﻘﻨﺎ اﻟﻠﻪ ﺟﻤﻴﻌﺎ @ﺎ ﻓﻴﻪ ﺧﻴﺮ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﺮﺑﻴﺔ. ﻤﻨﻰ ﻃﺮﻳﻒ اﻮﻟﻲُﻳ ﻣﻨﻴﻞ اﻟﺮوﺿﺔ ــ اﻟﻘﺎﻫﺮة2 ١٣ أﻏﺴﻄﺲ )آب( ٠٠٠٢
ﻳﺨﺮج ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎب إﻟﻰ ﻳﺪي اﻟﻘارئ الكريم وﻗﺪ ﻣﻀﻰ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻋﺎﻣﺎ وأﻧﺎ ﺳﺎﺑﺤﺔ ﻓﻲ ﺑﺤﻮر ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌـﻠـﻢ وﻣـﻴـﺎﻫـﻬـﺎ اﻟـﻌـﻤـﻴـﻘـة، ﻓـﻲ ﻧﺼﻮﺻﻬﺎ وإﺷﻜﺎﻟﻴﺎﺗﻬﺎ وﻣﻨﺤﻨﻴﺎﺗﻬﺎ وﻣﺮاﻣﻴﻬﺎ وﻓﻌﺎﻟﻴﺎﺗﻬﺎ... واﻟﺮؤى اﻟﻤﺨﺘﻠﻔـﺔ والمتقابلة ﻟﺘـﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ وﻣﺴﻴﺮﺗــﻪ ﻋﺒﺮ اﻀﺎرات. ﺧﺮﺟﺖ ﺑﺤﺼﺎﺋﻞ ﺟﻤـﺔ ﻻ ﺑﺄس ﺑﻬﺎ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﺮاﺋﺪ.
ﻳﻘﻮل ﻫﻴﺪﺟﺮ إن اﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻲ ذاﺗﻪ. ويمكن أن ﻧﻀﻴﻒ إﻟﻰ ﻫﺬا أﻧﻪ ﻻ ﻳُﻌﻨﻰ ﻛﺜﻴﺮا ﺑـﺬاﻛـﺮﺗـﻪ وﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ إﻟﻰ ﻣﺎﺿﻴﻪ. ﻓﺪﻳﺪن اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻮأن ﻳﺼﺤﺢ ذاﺗﻪ وﻳﺠﺪد ﻧﻔﺴﻪ وﻳﺘﺠﺎوز اﻟﻮﺿﻊ اﻟﻘﺎﺋـﻢ، ﻧـﺎﻫـﻴـﻚ ﻋـﻦ الماﺿﻲ. إﻧﻪ ﻳﺸـﺤـﺬ ﻓـﻌـﺎﻟـﻴـﺎﺗـﻪ المنطلقة ﺑـﺼـﻤـﻴـﻢ اﺼﺎﺋﺺ المنطقية ﺻﻮب اﻻﺧﺘﺒﺎرﻳـﺔ واﻟـﺘـﻜـﺬﻳـﺐ واﻟﺘﺼﻮﻳﺐ، ﺻﻮب ﻣﺰﻳﺪ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﺪم واﻟـﻜـﺸـﻒ، أي ﺻﻮب المستقبل دوﻣﺎ.
ﺑﻘﺪر ﻣﺎ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻘـﺮن اﻟـﻌـﺸـﺮﻳـﻦ ﻗﺪ أﺻﺒﺢ اﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺔ اﻟـﻌـﻈـﻤـﻰ اﻟـﺘـﻲ ﺗـﺸـﻜـﻞ وﺗـﻌـﻴـﺪ ﺗـﺸـﻜـﻴـﻞ اﻟـﻌـﻘـﻞ واﻟـﻮاﻗـﻊ المعاصرين، ﻳﻮﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﻳﻮم وإﻟﻰ ﻏﻴﺮ ﻧﻬﺎﻳﺔ; ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻮ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻘﻞ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ واﻟﺘﻔﺎﻋﻞ ﺑﻴﻨﻪ وبين اﺒﺮات اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ أو ﻣﻌﻄﻴﺎت ااس، ﻫﻮ ﺗﺎرﻳﺦ االمناهج وأﺳﺎﻟﻴﺐ اﻻﺳﺘﺪﻻل وﻃﺮق ﺣﻞ المشكلات اﻟﺘﻲ ﺗﺘـﻤـﻴـﺰ ﺑـﺄﻧـﻬـﺎ واﻗﻌﻴﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ وﻧﻈﺮﻳﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻮاء. إﻧﻪ ﺗﺎرﻳﺦ ﺗﻨﺎﻣﻲ اﻟﺒﻨﻴﺔ ا@ﻌﺮﻓﻴﺔ وﺣﺪودﻫﺎ وﻣﺴﻠﻤﺎﺗﻬﺎ وآﻓﺎﻗﻬﺎ2 ﺗﺎرﻳﺦ ﺗﻄﻮر ﻣﻮﻗﻒ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﺎﺗﻪ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ واﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬي ﻳﺤﻴﺎ ﻓﻴﻪ2 ﺗﺎرﻳﺦ ﺗﻘﺪم المدنية واﻷﺷﻜﺎل اﻀﺎرﻳﺔ و اﻷﺳﺎﻟﻴﺐ اﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺼﻄﻨﻌﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺑﻴﺌﺘﻪ. ﻟﻜﻞ ذﻟﻚ ﻳﺤﻖ ﻟﻨﺎ اﻟﻘﻮل إن ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ وﻟﻴﺲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﺮوش واﻟﺘﻴﺠﺎن واوب وا@ﺆاﻣﺮات ﻫﻮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻘﻴﻘﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎن وﺻﻠﺐ ﻗﺼﺔ اﻀﺎرة ﻓﻲ ﺗﻄﻮرﻫﺎ اﻟﺼﺎﻋﺪ.
وﻋﻠﻰ أي ﺣﺎل، إذا ﻛﺎن اﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻔﻜﺮ ﻓﻲ ذاﺗﻪ، ﻓﺈن ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﻔﻞ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻌﺐء وﺗﻀﻄﻠﻊ ﺑﺎﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻲ ذات اﻟﻌﻠﻢ... ﻓﻲ ﻣﻨﻬﺠﻪ وﻣﻨﻄﻘﻪ وﺧﺼﺎﺋﺺ المعرفة اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ وﺷﺮوﻃﻬﺎ وﻃﺒﺎﺋﻊ ﺗﻘﺪﻣﻬﺎ وﻛﻴﻔﻴﺎﺗﻪ وﻋﻮاﻣـﻠـﻪ... ﻋﻠﻰ اﻹﺟﻤﺎل اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻲ اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ــ أي ﻧﻈﺮﻳﺔ المعرفة اﻟﻌﻠﻤﻴـﺔ ـــ ﺛـﻢ اﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑﻴﻨﻬﺎ وبين المتغيرات المعرفية اﻷﺧﺮى واﻟﻌﻮاﻣﻞ اﻀﺎرﻳﺔ اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ. وإذا ﻛﺎن اﻟﻌﻠﻢ ﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﻛﺜﻴﺮا إﻟﻰ ﻣﺎﺿﻴﻪ، ﻓﺈن ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ أﺻﺒﺤﺖ ﻻ ﺗﻨﻔﺼﻞ ﻋﻦ اﻷﺑﻌﺎد اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ ﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻐﺪت ﺷﺪﻳﺪة اﻟـﻌـﻨـﺎﻳـﺔ ﺑـﺘـﺎرﻳـﺦ اﻟﻌﻠﻢ، ﺑﺤﻴﺚ إن المتابع ﻟﺘﻄﻮرات ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﻳﻼﺣﻆ أن أﺑﺮز ﻣﺎ أﺳﻔﺮت ﻋﻨﻪ ﻫﺬه اﻟﺘﻄﻮرات ﻫﻮ ﺣﻠﻮل اﻟﻮﻋﻲ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ ﻓﻲ ﺻﻠﺒﻬﺎ. ﻓﺘﺴﺘﻘﺒﻞ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻘﺮن ادي واﻟﻌﺸﺮﻳﻦ وﻗﺪ اﻧﺘﻘﻠﺖ ﻣﻦ وﺿﻊ ﻣﺒﺘﺴﺮ اﺳﺘﻤﺮ ﻃﻮﻳﻼ ﻳﻮﻟﻲ ﻇﻬﺮه ﻟﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ وﻟﺪوره ﻓﻲ تمكيننا ﻣﻦ ﻓﻬـﻢ ﻇـﺎﻫـﺮة اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻬﻤﺎ أﻋﻤﻖ، ﻓﻀﻼ ﻋﻦ دﻓﻊ ﻣﻌﺪﻻت اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ، وﻳﻜﺘﻔﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴـﻖ اﻟﻌﻠﻤﻲ المنجز اﻟﺮاﻫﻦ، وﻳﻔﻠﺴﻔﻪ بما ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻋﻠﻰ أﺳﺎس اﻟﻨﻈﺮة إﻟﻴﻪ ﻣﻦ اﻟﺪاﺧﻞ، أو اﻟﻨﻈﺮة إﻟﻰ اﻟﻨﺴﻖ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻓﻲ ﺣﺪ ذاﺗﻪ... اﻧﺘﻘﻠﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠـﻢ ﻣﻦ ﻫﺬا إﻟﻰ وﺿﻊ ﻣﺴﺘﺠﺪ ﻳﺮﺗﻜﺰ ﻋﻠﻰ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ، ﻓﻴﻔﻠﺴﻒ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ ﺿﻮء ﺗﻄﻮره اﻟﺘﺎرﻳﺨﻲ وﻋﺒﺮ ﺗﻔﺎﻋﻠﻪ ﻣﻊ اﻟﺒﻨﻴﺎت اﻀﺎرﻳﺔ واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، مما ﻳﻌﻨﻲ ﺗﻄﻮرا ذا اﻋﺘﺒﺎر ﻓﻲ ﻣﻨﻄﻠﻘﺎت وﺣﻴﺜﻴﺎت وﻋﻮاﻣﻞ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ إﻟﻰ اﻟﻌﻠﻢ. وﻫﺬا اﻟﺘﻄﻮر ﻓﻲ اﻟﻮاﻗﻊ ﻫﻮ ﺗﻜﺎﻣﻞ اﻟﻨﻈﺮة إﻟﻰ اﻟﻌﻠﻢ »ﻣﻦ اﻟﺪاﺧﻞ« ﻣﻊ اﻟﻨﻈﺮة إﻟﻴﻪ ﻣﻦ ارج، أي ﺑﺎﺧﺘﺼﺎر ﻧﻈــﺮة ﻓﻠﺴﻔــﻴــﺔ أﺷـﻤـــﻞ ﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﻌﻠﻢ. وﻻ ﺷﻚ ﻓﻲ أن ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻲ المعبر اﻟﺮﺳﻤﻲ واﻟﺸﺮﻋﻲ ﻋﻦ أﺻﻮل اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ، وﻫﻲ ﻣﺴﺆوﻟﺔ ﻋﻦ وﺿﻌﻴﺔ ودور ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ.
وﻟﻜﻦ ﻧﻼﺣﻆ ﻣﺒﺪﺋﻴﺎ أن ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ــ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻫـﻲ ﻣـﺒـﺤـﺚ أﻛـﺎدIـﻲ ﻣﺘﺨﺼﺺ وﻣﺴﺘﻘﻞ ﻋﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ ا@ﻌﺮﻓﺔ ﺑﺼﻔﺔ ﻋﺎﻣﺔــ ﻗﺪ ﻧﺸﺄت ﻓﻲ اﻟﻨﺼﻒ اﻷول ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﺘـﺎﺳـﻊ ﻋـﺸـﺮ
وﻓﻲ إﻗﺮار ﻫﺬا اﺳﺘﻌﺎن اﻟﺘﻨﻮﻳﺮﻳﻮن بمقولة ﻫﻴﻤﻨﺖ ﻫﻴﻤﻨﺔ ﻃﺎﻏـﻴـﺔ ﻋـﻠـﻰ التفكير الحديث. إنها مقولة الحتمية الميكانيكية الشاملة determinisme اﻟﺘﻲ ﻓﺮﺿﺘﻬﺎ ﻓﻴﺰﻳﺎء ﻧﻴﻮﺗﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻲ اﺪﻳﺚ ﻣﻦ رأﺳﻪ ﺣـﺘـﻰ أﺧﻤﺺ ﻗﺪﻣﻴﻪ، وﺣﻜﻤﺘﻪ ﺑﻘﻀﺒﺎن ﺣﺪﻳﺪﻳﺔ. واﺘﻤﻴﺔ ﺗﻌﻨﻲ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ قوانين اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ وﺛﺒﺎﺗﻬﺎ واﻃﺮادﻫﺎ، ﻓﻼ ﺗﺨﻠّﻒ وﻻ ﻣﺼﺎدﻓﺔ وﻻ ﺟﻮاز وﻻ إﻣﻜﺎن، ﻷن ﻛﻞ ﺷﻲء ﻓﻲ اﻟﻜـﻮن ﺿـﺮوري ذو ﻋـﻼﻗـﺎت ﺛـﺎﺑـﺘـﺔ، وﻛـﻞ ﺣـﺪث ﻣـﺸـﺮوط بما ﻳﺘﻘﺪﻣﻪ أو ﻳصحبه، ﻓﺘﺮﺗﺒﺖ أﺣﺪاث اﻟﻜﻮن ﻓﻲ اه واﺣﺪ ﻣﻦ ﻣﻄﻠﻖ الماضي إﻟﻰ ﻣﻄﻠﻖ المستقبل بما ﻳﺠﻌﻞ ﻧﻈﺎم اﻟﻜﻮن ﺛﺎﺑﺘﺎ ﺷﺎﻣﻼ ﻣﻄﺮداً، وﻛﻞ ﻇﺎﻫﺮة ﻣﻦ ﻇﻮاﻫﺮه ﻣﻘﻴﺪة ﺑﺸﺮوط ﺗﻠﺰم ﺣﺪوﺛـﻬـﺎ اﺿـﻄـﺮاراً، أي ﺧـﺎﺿـﻌـﺔ ﻟـﻘـﺎﻧـﻮن ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺿﺮورﻳﺔ لما ﻗﺒﻠﻬﺎ وﻣﻘﺪﻣﺔ ﺷﺮﻃﻴﺔ لما ﺑﻌﺪﻫﺎ، بما ﻳﻌﻨﻲ أن ﻛﻞ ﻣﺎﻳﺤﺪث ﻻ ﺑﺪ أن ﻳﺤﺪث وﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﺣﺪوث ﺳﻮاه.
ﻟﻘﺪ أﺻﺒﺤﺖ اﺘﻤﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ، وﻣﻦ ﻫـﺬه اـﺘـﻤـﻴـﺔ اﻟـﻔـﻴـﺰﻳـﺎﺋـﻴـﺔ ﺧﺮﺟﺖ اﺘﻤﻴﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺰﻋﻢ ﻗﻮاﻧين ﺿﺮورﻳﺔ ﻟﻠﺤﺮﻛﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ، وﺗﻌﻀﺪت اﺘﻤﻴﺔ اﻟﺘﺎرﻳﺨﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺰﻋﻢ ﻃﺮﻳﻘﺎ واﺣﺪا ﻣﺤﺘﻮﻣﺎ لمسار اﻟﺘﺎرﻳﺦ. وﻗﺪ اﺳﺘﻌﺎن اﻟﺘﻨﻮﻳﺮﻳﻮن ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸﺮ ﺑﻬﺬه اﺘﻤﻴﺔ اﻟﻌـﻠـﻤـﻴـﺔ ﻓـﻲ إﻗﺮار وتعيين وﺗﺮﺳﻴﻢ ﻣﺎ رأوه ﻣﻦ ﻃﺮﻳﻖ واﺣﺪ ﻻ ﺳﻮاه ﻟﻠﺘﻘﺪم ﻏﻴﺮ اود اﻟﺬي ﺗﻨﺠﺰه اﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺑﺎﻃﺮاد: ﻃﺮﻳﻖ اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﻠﻢ.

لقد بدت المراحل المنقضية ﻋﻘﺒﺎت ﻛﺆودا ﻇﻔﺮ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﺸﺮي ﺑﺎﻟﺘﺤﺮر ﻣﻦ رﺑﻘﺘﻬﺎ، وإذا ﻛﺎن ﺛﻤﺔ ﺗﺎرﻳﺦ ﻣﻨﻘﺾ لماضي اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻠﻦ ﻳﻌﺪوَ أن ﻳﻜﻮن ﺳﺠﻼ ﻹزاﺣﺔ اﻬﻞ. ﻓﻬﻞ ﻧﻮﻟﻴﻪ اﻫﺘـﻤـﺎﻣـﺎ?! وﻫـﻞ ﺗﻨﺎط ﺑﻪ أدوار إﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ?! ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻛـﻼ! ﻫـﻜـﺬا ﺗـﺮاﺟـﻌـﺖ أﻫـﻤـﻴـﺔ ﺗـﺎرﻳـﺦ اﻟﻌﻠﻢ. وﻫﺬا الميراث اﻟﻌﻘﻼﻧﻲ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮي ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸﺮ ﺣﻤﻠﺘﻪ ﺑﺎﻗﺘﺪار واﻣﺘﻴﺎز ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ حين ﻧﺸﺄت ﻓﻲ اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸـﺮ. وﻣـﻦ ﺛـﻢ ﺳـﻴـﻄـﺮ ﻋﻠﻰ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ آﻧﺬاك، وﺣﺘﻰ أواﺳﻂ اﻟﻘﺮن اﻟﻌـﺸـﺮﻳـﻦ، اﻻﻗـﺘـﺼـﺎر ﻋـﻠـﻰ النسق العلمي كمنجزٍ راهن تطّﺮد ﻛﺸﻮﻓﻪ وﻳﺘﻮاﻟﻰ ﺗﻘﺪﻣﻪ، ﻟﻴﻐـﺪو ﺗـﺎرﻳـﺨـﻪّ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺷﺎﺣﺒﺔ ﻏﻴﺮ ذات ﺻﻠﺔ ﺑﺎلموضوع.

ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻤﻮم، تم وز ﻫﺬه المرحلة اﻵن، وﺣﺪث اﻧﺪﻣﺎج واﻗﺘﺮان ﺣﻘﻴﻘﻲ وﺣﻤﻴﻤﻲ ﺑين ﻓﻠﺴﻔـﺔ اﻟـﻌـﻠـﻢ وﺗـﺎرﻳـﺨـﻪ. وﺳـﻮف ﻧـﺮى أن ﻫـﺬا ﺣـﺪث أﺳـﺎﺳـﺎ ﻛﺘﻄﻮر ونماء ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ذاﺗﻬﺎ، وﺑﻔﻀﻞ ﺟﻤﻊ ﻣﻦ ﻛﺒﺎر ﻓﻼﺳﻔﺘﻬﺎ ﻻ ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ اﻟﺜﻠﺚ اﻷﺧﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ، ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺤﻖ اﻋﺘﺒﺎره ﻇﻔﺮاً ﻟﻠﻌﻘﻞ اﻟﻔﻠﺴﻔﻲ. وﻟﻜﻦ ﻻ يمكن أن ﻧﻔﺼﻞ ﻫﺬا تماماً ﻋﻦ إز آﺧﺮ تميز ﺑﻪ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮون، أﻻ وﻫﻮ أﻧﻪ ﻗﺪ ﺷﻬﺪ أﺧﻴﺮا ﻧﻀﺞ ﻣﺒﺤﺚ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ » إذ ﻟﻢ ﻳﻜﺘﻤﻞ اﻻﻋﺘﺮاف ﺑﻪ ﻛﻤﺒﺤﺚ أﻛﺎديمي ﻳﺘﻔﺮغ ﻟﻪ دارﺳﻮن ﻣﺘﺨﺼﺼﻮن إﻻ ﻓﻲ اﻟﻌﺎم 1950  ﻓﻘﻂ، حين بدأ ذلك في بعض الجامعات الأميريكية اﻟﺘﻲ أَﻧـﺸـَﺄت ﻷول ﻣـﺮة أقساماً مستقلة لتاريخ العلم وليس فقط كراسيَ لأساتذته.
وﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑـﻪ اﻟـﺼـﺎدر اﻟـﻌـﺎم ٨٧٨١ ﻗـﺒـﻴـﻞ رﺣﻴﻠﻪ2 أوﺿﺢ ﻛﻠﻴـﻔـﻮرد ﺧـﻄـﻮرة اﻻﻗـﺘـﺼـﺎر ﻋـﻠـﻰ ﺗـﺪرﻳـﺲ اﻟـﻌـﻠـﻮم اـﺪﻳـﺜـﺔ واﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﺸﺎﻣﻠﺔ2 ﻣﻊ اﻬﻞ ^ﺎﺿﻲ اﻟﻌﻠﻢ. ورأى ﻛﻠﻴﻔﻮرد أن ﻣﺒﺎﺣﺚ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻬﺎ أن ﺗﺮدم اﻟﻬﻮة اﻟﺘﻲ اﻧﺸﻘﺖ وﺗﻌﻤﻘـﺖ ﺑـ اﻟـﺪراﺳـﺎت اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﺪﻳـﺜـﺔ واﻟـﺪراﺳـﺎت اﻹﻧـﺴـﺎﻧـﻴـﺔ2 ﻛـﻤـﺎ ﺗـﻌـﺒـﺮ ﻋـﻨـﻬـﺎ اﻟـﻔـﻨـﻮن اـﺮة .(٢)واﻵداب

ﻛﺎن ﻟﻮرد ﺳﻨﻮ عالماً ﻃﺒﻴﻌﻴﺎ ﻣﺤﺘﺮﻓﺎ ﻳﻘﻀـﻲ ﻧـﻬـﺎره ﻣـﻊ اﻟﻌﻠﻤﺎء، وأدﻳﺒﺎ ﻫﺎوﻳﺎ ﻳﻘﻀﻲ أﻣﺴﻴﺎﺗﻪ ﻣﻊ اﻷدﺑﺎء، وأﻓﺰﻋﺘﻪ اﻟﺸﻘﺔ اﻟﻮاﺳـﻌـﺔ بين  اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ اﻷدﺑﻴﺔ، ﺣﺘﻰ أﺻﺒﺤﺎ ﻓﺮﻳﻘـين ﻣـﺘـﻘـﺎﺑـﻠـين ﻟـﻜـﻞ خصائصه وﻣﻨﻄﻠﻘﺎﺗﻪ، وﻳﺠﻬﻞ أو ﻳﺘﺠﺎﻫﻞ اﻵﺧﺮ وعالمه وﻣـﻨـﺠـﺰاﺗـﻪ. ﺑﺪا واﺿﺤﺎ ﺧﻄﻮرة ﻓﺼﻞ اﻟﻌﻠﻢ ﻛﻤﻀﺎﻣين وأﺟﻬﺰة ورﻣﻮز ﻋﻦ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺑﺎﻴﺎة واﻟﺜﻘﺎﻓﺔ بمعناها اﻟﺸﺎﻣﻞ، وﻟﻌﻞ ﻫﺬا ﻣﺎ تمخض ﻋﻤﺎ ﻳﺴﻮد اﻵن ﻣﻦ ﺿﺮورة أن ﻳﺪرس ﻃﻠﺒﺔ اﻟﻌﻠﻮم ﻣﺎدة إﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﻳﺪرس ﻃﻠﺒﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺎت ﻣﺎدة ﻋﻠﻤﻴـﺔ، ﻛﻤﺎ ﻛﺎن ﻳﺤﻠﻢ ﻛﻠﻴﻔﻮرد.
اﻟﻌﻠﻢ ــ وﻫﻮ اﻻﺑـﻦ اﻟـﻨـﺠـﻴـﺐ واﻷﺛـﻴـﺮ ﻟﻠﺘﺎرﻳﺦ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ــ ﻇﻞ ﺗﺎرﻳﺨﻪ ﻻ ﻳﻠﻘﻰ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﺤﻘﻪ ﻣﻦ اﻻﻫﺘﻤﺎم ﺣﺘﻰ ﻧﻬﺎﻳﺎت اﻟﻘﺮن اﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ. (16)
اﻹﺑـﺴـﺘـﻤـﻮﻟـﻮﺟـﻴﺎ ــ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل »ﺟﺎن دوﻣﺒﺮﻳﻪ« ــ ﺗﻘﺪم اﻟﻌﻮن اﻷﺳﺎﺳﻲ ﻓﻲ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ اﻘﻴﻘﻲ ﻟـﻨـﺸـﺎط ﺗـﺎرﻳـﺦ اﻟـﻌـﻠـﻢ، وﺗـﺎرﻳـﺦ اﻟـﻌـﻠـﻢ ﺑـﺪوره ﻟـﻴـﺲ ﻣـﺠـﺮد ذاﻛـﺮة اﻟـﻌـﻠـﻢ، ﺑــﻞ ﻫــﻮ ﻣــﺨــﺘــﺒــﺮه . أو ﻛﻤﺎ ﻗﺎل »إﻣﺮي ﻻﻛﺎﺗﻮش«(٦)Epistemological Laboratory اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻲ )٢٢٩١ ــ ٤٧٩١( ﻓﻴﻠﺴﻮف اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺒﺎرز ﺑﻌﺒﺎرﺗﻪ اﻟﻨﺎﻓـﺬة اﻟـﺘـﻲ ﻛـﺎﻧـﺖI. Lakatos ﻗﻮﻳﺔ اﻟﺘﺄﺛﻴﺮ ﺣﻘﺎ: »ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ دون ﺗﺎرﻳﺨﻪ ﺧﻮاء، وﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ ﻣﻦ دون ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ ﻋﻤﺎء«. (19)
يمكن اﻻﺗﻔﺎق ﻣﻊ ﻋﺎﻟﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺒﺎرز »إدوارد إﻳﭭﺎﻧﺰ )٢٠٩١ ــ ٣٧٩١( ﻋﻠﻰ أن اﻟﻨﺸﺄة اـﻴـﻘـﻴـﺔE.E. Evans-Prictchardﺑﺮﻳﺘﺸـﺎرد« ا@ﻬﻴﺄة ﻟﻠﻨﻤﺎء ﻟﻠﻤﺒﺎﺣﺚ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺟﺎءت ﻣـﻊ اﻧـﺸـﻐـﺎل ﻓـﻼﺳـﻔـﺔ اﻟـﻘـﺮن اﻟﺜﺎﻣﻦ ﻋﺸﺮ ﺑﺎﻟﺴﺆال ﺣﻮل اﺎﻟﺔ اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن2 أو ﻣﺎ ﻛﺎن ﻋﻠﻴﻪ ﻗـﺒـﻞ . ﻟﺬا Iﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر ﻋﻠﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﻟﻴﺪ ﻋﺼﺮ(١٠)ﻧﺸﻮء اﻜﻮﻣﺎت ا@ﺪﻧﻴﺔ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮ اﻟﺬي ﺣﻜﻤﺘﻪ ﻋﻘﻴﺪة اﻟﻌﻘﻞ واﻟﻌﻠﻢ واﻟﺘﻘﺪم اﻟﻼﻣﺤﺪود اﻟﺬي ﺗـﻨـﺠـﺰه اﻟﺒﺸﺮﻳﺔ ﺑﺎﻃﺮاد.
وﻣﺎ دﻣﻨﺎ ﻣﻌﻨﻴ اﻵن ﺑﺄﺻﻮل ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ2 ﻓﻴﻤﻜﻦ اﻋﺘﺒﺎر »ﻟﻮﺳﻴﺎن ﻟﻴﭭﻲ )٧٥٨١ ــ ٩٣٩١( أﺑﺮز ﺜﻠﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻈﺮة اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴـﺔL Levy Bruhlﺑﺮﻳﻞ«  و »إﻣﻴﻞ(١٣) اﻟﺘﻄﻮرﻳﺔ. إﻧﻪ اﻟﻮرﻳﺚ اﻷﻣ ﻟـ »ﺳﺎن ﺳﻴﻤﻮن وأوﺟﺴﺖ ﻛﻮﻧﺖ« دورﻛﺎﻟﻴﻜﻮن ﻣﻦ أﻫﻢ اﻟﺸﺨﺼﻴﺎت اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟـﻮﺟـﻴـﺔ ﻓـﻲ اﻟـﺮﺑـﻊ اﻷول ﻣـﻦ اﻟﻘﺮن اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ. ﻳﻌﻄﻴﻨﺎ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺸﻬﻴﺮ »اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ« ﺻﻮرة ﻣﺜﻠﻰ @ﻨﻄﻠﻘﺎت ﻫﺬه ا@ﺮﺣﻠﺔ اﻷﺳﺒﻖ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻄﻊ ﻛﻞ ﺻﻠﺔ ﺑ اﻷﺻﻮل
25
ﻣﺪﺧﻞ: اﻟﻌﻠﻢ ﺑ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ وﺗﺎرﻳﺨﻪ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن وﺑ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﺤﻀﺮ اﺪﻳﺜﺔ2  وﻋﻠﻰ رأﺳﻬﺎ اﻟﻌﻠـﻢ2 €ـﺎ ﻳﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ ﺗﺒﺮﻳﺮ اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺘﻲ ﺗﻐﻔﻞ أﻫﻤﻴﺔ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ. ﻓﻘﺪ ذﻫﺐ ﺑﺮﻳﻞ إﻟﻰ أن اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ اﺧﺘﻼﻓﺎ ﺟﺬرﻳﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ا@ﺘﺤﻀﺮة. وﻳﺴﺘﻌ ﺑﻐﻴﺎب ﻗﺎﻧﻮن اﻟﻌﻠﻴﺔ Fﺎﻣﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ2Thurnwald ﺑﺮأي »ﺛﻮرﻧﻔﺎﻟﺪ« ﻟﻴﺆﻛﺪ أﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺎ اﻟﺒﺘﺔ ﺑﺎ@ﻨﻄﻖ واﻟﺘـﻔـﻜـﻴـﺮ اﻻﺳـﺘـﺪﻻﻟـﻲ2 ﺑـﻞ ﻫـﻲ ﻣـﺤـﺾ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ ااﻓﺎت واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻐﻴﺒﻴﺎت واﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﻘﻮى ﺧﻔﻴﺔ ﻜﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ2 وﺑﺴﻄﻮة اﻷﺣﻼم وأرواح ا@ﻮﺗﻰ وﻋﻼﻣـﺎت اﻟـﺘـﻄـﻴـﺮ2 وﻻ Fـﻴـﺰ ﺑـ اﻹﻧـﺴـﺎن واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ2 ﺑﻞ ﺗﻌﺘﺒﺮه ﻣﺸﺎرﻛﺎ ﻓﻴﻬﺎ وﺟﺰءا ﻣﻨﻬﺎ.

ﻓﻲ اﻟﻌﺎم ٦٣٩١ أﺧﺮج ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ دراﺳﺔ ﻣﻬﻤﺔ ﺑﻌﻨﻮان »اﻟﺴﺤﺮ واﻟﻌﻠـﻢ واﻟﺪﻳﻦ« ﺗﻌﺪ ﻓﻲ ﻃﻠﻴﻌﺔ اﻷﺑﺤﺎث اﻟﺮاﺋﺪة اﻟﺘـﻲ ﺗـﻠـﻘـﻲ اﻟـﻀـﻮء ﻋـﻠـﻰ اﻷﺻـﻮل اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟﻈﺎﻫﺮة اﻟﻌﻠﻢ. ﺑﺎد ذي ﺑﺪء ﻳﺴﻠﻢ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﺗﺴﻠﻴـﻤـﺎ ﺑـﺄن اﻟـﻌـﻠـﻢ اـﺪﻳـﺚ ﻫـﻮ ﻫـﺬه اﻟﻘﻮة ا@ﺘﻌﻤﻠﻘﺔ اﻟﺪاﻓﻘﺔ ﻓﻲ ﺳﻴﺎق اﻀﺎرة ا@ﻌﺎﺻﺮة2 ﻛﺈزات ﻋﻘﻠﻴﺔ ﺟﺒﺎرة ﻻ ﺗﻬﺪأ وﻻ ﺗﺴﺘﻜﻦ أﺑﺪا2 ﺗﺼﻮب ذاﺗﻬﺎ وﺗﺘﺠﺎوز اﻟﻮﺿﻊ اﻟﺮاﻫـﻦ ﺑـﺎﺳـﺘـﻤـﺮار2 ﻳﺘﺴﺎرع2 ﻟﻴﻤﺜﻞ اﻟﻌﻠﻢ اﺪﻳﺚٍوﺗﻔﺘﺢ دوﻣﺎ أﻓﻘﺎ أﻋﻠﻰ وأﺑﻌﺪ ﻓﻲ ﻣﺘﻮاﻟﻴﺔ ﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻘﻞ اﻟﻨﻘﺪي اﻟﺒﻨﺎء ﻓﻲ أﺑﻬﻰ ﺻﻮره2 وأﻛﺜﺮﻫﺎ ﺣﺴﻤـﺎ وﺟـﺰﻣـﺎ وﻓـﻌـﺎﻟـﻴـﺔ.... اﻟﻌﻠﻢ ﺑﻬﺬه اﻟﺼﻮرة اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺎﻣﺖ ﻓﻲ اﻟﻌﺼﻮر اﺪﻳﺜﺔ ﻻ وﺟﻮد ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻘﻄﻊ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ2 وﻻ ﺣﺘﻰ ﻓﻲ اﻀﺎرات اﻟﻘﺪIﺔ. ﺑﻴﺪ أن اﻟﻌﻠﻢ ﺑﺸﻜﻞ ﻋﺎم ﻫﻮ أﺳﺎﺳﺎ kﻂ ﻣﻦ ا@ﻌﺮﻓﺔ ﻳﺴﺘﻨﺪ إﻟﻰ ا@ﻼﺣﻈﺎت اﻟﺘﺠﺮﻳﺒـﻴـﺔ ﻟـﻮﻗـﺎﺋـﻊ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻲ إﻃﺎر ﻣﻦ اﻓﺘﺮاض اﻟﻨﻈﺎم واﻻﻃﺮاد ﻓﻲ اﻟﻜﻮن2 وﻣﺎ ﺷﺎﺑﻪ ﻫﺬا ﻣﻦ ﺧﻄﻮط ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ أوﻟﻴﺔ2 ﻓﺘﺰﻳﺪ ﻣﻦ ﺳﻴﻄﺮة اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻠﻰ ﺑﻴﺌﺘﻪ وإﺣﻜﺎم ﺗﻌﺎﻣﻠﻪ ﻣﻊ ﻋﺎ@ﻪ. وا@ﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﺑﻬﺬا اﻟﺘﻮﺻﻴﻒ ا@ﺒﺪﺋﻲ »ﻻ ﺑﺪ« ﺣﺎﺿـﺮة ﻓـﻲ ﻛـﻞ ﻣﺠﺘﻤﻊ إﻧﺴﺎﻧﻲ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﺑﺪاﺋﻴﺎ. وإذا ﻛﻨﺎ ﻧﺴﻠﻢ ﺑﺄن اﻟﺪﻳﻦ واﻟﺴﺤﺮ ﻛﺎﺋـﻨـﺎن وﺣﺎﺿﺮان ﺑﻘﻮة ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴـﺔ2 ﻓـﻼﺑـﺪ أن ﻧـﻀـﻴـﻒ إﻟـﻴـﻬـﻤـﺎ أﻳـﻀـﺎ اﻟﻌﻠﻢ.
ﻟﻴﺆﻛﺪ أﻻ ﻋﻼﻗﺔ ﻟﻬﺎ اﻟﺒﺘﺔ ﺑﺎ@ﻨﻄﻖ واﻟﺘـﻔـﻜـﻴـﺮ اﻻﺳـﺘـﺪﻻﻟـﻲ2 ﺑـﻞ ﻫـﻲ ﻣـﺤـﺾ ﺧﻠﻴﻂ ﻣﻦ ااﻓﺎت واﻟﺴﺤﺮ واﻟﻐﻴﺒﻴﺎت واﻻﻋﺘﻘﺎد ﺑﻘﻮى ﺧﻔﻴﺔ ﻜﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ2 وﺑﺴﻄﻮة اﻷﺣﻼم وأرواح ا@ﻮﺗﻰ وﻋﻼﻣـﺎت اﻟـﺘـﻄـﻴـﺮ2 وﻻ Fـﻴـﺰ ﺑـ اﻹﻧـﺴـﺎن واﻟﻄﺒﻴﻌﺔ2 ﺑﻞ ﺗﻌﺘﺒﺮه ﻣﺸﺎرﻛﺎ ﻓﻴﻬﺎ وﺟﺰءا ﻣﻨﻬﺎ. (29)
وﻳﺴﻬﺐ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻓﻲ إﻳﻀﺎح ﻛﻴﻒ أن ﻫﺬه اﻟﺪواﺋﺮ اﻟﺜﻼث2 اﻟﺴـﺤـﺮ واﻟﻌﻠﻢ واﻟﺪﻳﻦ2 ﻣﺘﻤﺎﻳﺰة Fﺎﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ. وﻏﻴﺮ ﺻﺤﻴـﺢ أن داﺋـﺮة اﻟﺴﺤﺮ ﺗﺒﺘﻠﻊ داﺋﺮة اﻟﻌﻠﻢ2 أو أن داﺋﺮة اﻟﺪﻳﻦ ﺗﻨﻔـﻴـﻬـﺎ. ﻓـﻠـﻮﻻ ا@ـﺴـﺎﺣـﺔ اﻟـﺘـﻲ ﺗﻨﻔﺮد ﺑﻬﺎ أﺻﻮل اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﻦ ﻣﻼﺣﻈﺔ ﻟﻠﻄﺒﻴﻌﺔ واﻋﺘﻘﺎد راﺳﺦ ﺑﻨﻈﺎم ﻓﻴﻬﺎ2 @ﺎ ﺳﺎرت ﻋﻤﻠﻴﺎت اﻟﺼﻴﺪ واﻟﺰرع وﺳﺎﺋﺮ اﻟﻔﻨـﻮن واـﺮف واﻟـﺼـﻨـﺎﺋـﻊ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻴﻢ اﻴﺎة اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ. (29)
ﻟﻘﺪ اﻫﺘﻢ اﻟﺴﻴﺮ »إدوارد ب. ﺗـﺎﻳـﻠـﻮر« ﻋﻠﻢ اﻹﻧﺜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﺪﻳﺚ ﺑﺪور اﻟﺪﻳﻦ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ2 واﻫﺘﻢ ﺟﻴﻤﺲ ﻓﺮﻳﺰر ﺑﺎﻟﺴﺤﺮ اﻟﺒﺪاﺋﻲ ووﺿﻊ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻣﻮﺳﻮﻋـﺔ ﻛـﺒـﺮى ﻓـﻲ ﻫـﺬا اﻟـﺼـﺪد2 وﻫﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ اﻟﺸﻬﻴﺮ »اﻟﻐﺼﻦ اﻟﺬﻫﺒﻲ« ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﻛﺘﺎﺑﻪ ا@ﺘﺮﺟﻢ إﻟﻰ اﻟﻌﺮﺑـﻴـﺔ »اﻟﻔﻮﻟﻜﻠﻮر ﻓﻲ اﻟﻌﻬﺪ اﻟﻘﺪo« اﻟﺬي ﻳﻌﺮض ﻟﻸﺻﻮل اﻷﻧﺜﺮوﺑﻮﻟﻮﺟﻴﺔ أو اﻷﺻﻮل اﻟﻔﻜﺮﻳﺔ اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ @ﻀﻤﻮﻧﺎت اﻟﺘﻮراة. وﺑﻌﺪ اﻟﺴﺤﺮ واﻟﺪﻳﻦ ﻳﺄﺗﻲ ﻣﺎﻟﻴﻨﻮﻓﺴﻜﻲ ﻟﻴﻬﺘﻢ ﺑﺪور اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴـﺔ وإﺑـﺮاز Fـﺎﻳـﺰه ﻋـﻦ اﻟـﺴـﺤـﺮ وﻋـﻦ اﻟﺪﻳﻦ. ﻓﺎﻟﺪﻳﻦ ﻣﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻌﻠﻮي واﻴﺎة اﻷﺧﺮى وﻣﺎ ﺑﻌﺪ ا@ﻮت2 واﻟﻌﻠﻢ ﺪا ﻣﻌﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﻘﻠـﻴـﺔَﻣﺨﺘﺺ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ اﻷرﺿﻲ واﻴﺎة اﻟﺪﻧـﻴـﺎ2 Iـﻜـﻦ أن ﻳـﻮﺟ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺪاﺋﻲ2 ﻛﻤﺎ ﻫﻮ اﻷﻣﺮ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن ا@ﻌﺎﺻﺮ. أﻣﺎ اﻟﺴﺤﺮ2 ﻓﺼﺤﻴﺢ أﻧﻪ ﻳﺘﺸﺎرك ﻣﻊ اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻲ أن ﻛـﻠـﻴـﻬـﻤـﺎ ﻳـﺼـﺪر ﻋـﻦ رﻏﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻰ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ2 إﻻ أﻧﻬﻤﺎ ﻣﻊ ﻫﺬا ﻳﺨﺘﻠﻔﺎن ﺟﺬرﻳﺎ ﻓـﻲ أن اﻟﺴﺤﺮ إﻗﺼﺎء ﺗﺎم ﻟﻠﻌﻘﻞ وﻻ ﻳﺴﺘﻨﺪ إﻻ ﻋﻠﻰ ﻗﻮة اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻻﻋﺘﻘﺎدات ا@ﺘﻮارﺛﺔ2 ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﻏﺎﻣﺾ ﻫﻼﻣﻲ ﻣﺠﻬﻮل2 ﺎ ﻳﺠﻌﻞ اﻟﺴﺤﺮ ﺣﻜﺮا ﻋﻠﻰ ﻃﺒﻘﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﻫﻲ ﻃﺒﻘﺔ اﻟﻜﻬﻨﺔ واﻟﺴﺤﺮة. أﻣﺎ اﻟﻌﻠﻢ اﻟـﺒـﺪاﺋـﻲ ﻓـﻸﻧـﻪ ﻋﻠﻢ ﻓﻬﻮ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﺪاﺋﻲ وﺗﺼﻮﺑﻪ ا@ﻼﺣﻈﺎت اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ2 وIﺜﻞ ﺧﻴﺮا ﻋﻤﻴﻤﺎ ﻣﺘﺎﺣﺎ ﻟﻠﺠﻤﻴﻊ2 وﻟﻴﺲ ﺣﻜﺮا ﻋﻠﻰ ﻓﺌﺔ ﻣﺎ2 وﻟﻦ ﻳﺼﺒﺢ اﻟﻌﻠﻢ ﻫﻜﺬا إﻻ ﺑﻌﺪ أن Iﺘﻬﻨﻪ اﻟﻜﻬﻨﺔ ﻓﻲ اﻀﺎرات اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ اﻟﻘﺪIﺔ. (30)
لقد اهتم السير "إدوارد ب . تايلور" (1832ـ 1917) مؤسس الإثنولوجيا الحديث بدور الدين في المجتمعات البدائية، واهتم جيمس فريزر بالسحر البدائي ووضع ما يشبه موسوعةً كبرى في هذا الصدد، وهي كتابه الشهير "الغصن الذهبي" فضلاً عن كتابه المترجم إلى العربية "الفولكلور في العهد القديم" الذي يعرض للأصور الأنثروبولوجية أو الأصور الفكرية البدائية لمضمونات التوراة. وبعد السحر والدين يأتي مالينوفسكي ليهتم بدور العلم في المجتمعات البدائية وإبراز تمايزه عن السحر وعن الدين. فالدين مختص بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلم مختص بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يوجَدا معاً في العقلية نفسها في حالة الإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر.
 أما السحر، فصحيح أنه يتشارك مع العلم في أن كليهما يصدر عن رغبة في السيطرة على الطبيعة، إلا أنهما مع هذا يختلفان جذرياً في أن السحر إقصاء تام للعقل ولا يستند إلا على قوة التقاليد والاعتقادات المتوارثة، في عالم غامض هلامي مجهول، مما يجعل السحر حكراً على طبقةٍ معيّنة في المجتمع البدائي هي طبقة الكهنة والسحرة. أما العلم البدائي فلأنه علم فهو ينبع من العقل البدائي وتصوّبه الملاحظات البدائية، ويمثل خيراً عميماً متاحاً للجميع، وليس حكراً على فئةٍ ما، ولن يصبح العلم هكذا إلا بعد أن يمتهنه الكهنة في الحضارات الشرقية القديمة.
ربما كان كل إنسان بدائي مؤمناً بقوة السحر الخارقة وقدرة التمائم والتعاويذ على صد الكوارث الطبيعية الجامحة وغير المتوقعة، كالفيضان والأعاصير والزلازل والأوبئة وهجوم أسراب الحيوانات الضارية.. لكن الإنسان البدائي لن يترك أصوليات حرفته أو زراعته أو طهوه للطعام.. إلخ ارتكاناً إلى السحر فقط. ويؤكد مالينوفسكي أن الإنسان البدائي سوف يستخف تماماً بأي اقتراح كهذا، مما يعني حدوداً مصونةً لأصوليات المعرفة العلمية في عقل الإنسان البدائي. وبطبيعة الحال يستشهد مالينوفسكي على هذا من واقع دراساته لجزر التروبرياند.
وعلى هذا الأساس يرفض مالينوفسكي تماماً رأي ليقي بريل الذي يقطع كل صلة بين الإنسان البدائي والعقلية البدائية، وبين العلم وأصوله المنطقية. ولكنه أيضاً لا يأخذ بالرأي المناقض تماماً من قبيل الرأي الذي يأخذ به عالم الاجتماع والأنثروبولوجيا الأمريكي ذو الأصول الروسية "ألكسندر جولدنفايزر" الذي يرى تماثلاً تاماً أو تطابقاً بين الميول العلمية في العقلية البدائية والميول العلمية في العقلية المعاصرة. والأدنى للصواب موقف وسط نعتمده عبر هذه السطور ويأخذ به مالينوفسكي، وهو يؤكد فقط الأصول الأنثروبولوجية لظاهرة العلم في المجتمعات البدائية.. وبالتالي في العهود السحيقة من الحضارة الإنسانية ثم تطورها عبر اتجاهات تطور الحضارة الإنسانية. (30)
ﻟﻘﺪ ﻛﺎن اﻹﻏﺮﻳﻖ أول ﻗﻮم ﻓﻲ أوروﺑﺎ ﻳﺨﺮﺟﻮن ﻣﻦ اﻟﻮﺿﻊ اﻟﻘﺒﻠﻲ اﻟﺒﺪاﺋﻲ، وﻳﺼﻨﻌﻮن ﻣﺪﻧﻴﺔ وﺛﻘﺎﻓﺔ ﻣﺘﻨﺎﻣﻴﺔ، ﻗﺒﻞ الميلاد ﺑﺴﺘﺔ ﻗﺮون. إﻧﻬﻢ ﺑﺪاﻳﺔ اﻀﺎرة اﻷوروﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻄﻮرت ﻋﺒﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﺖ ﻣﺮﺣﻠﺔ المدّ اﻻﺳﺘﻌﻤﺎري، ﻓﻠﻢ ﻳﺘـﻮان ﻣـﻔـﻜـﺮون ﻏـﺮﺑـﻴـﻮن ﻓـﻲ ﺗـﺴـﻮﻳـﻐـﻪ، ﺣـﺘـﻰ ﺷـﻜـﻠـﻮا ﻓـﻴـﻠـﻘـﺎ ﻓـﻲ اـﻴـﻮش اﻻﺳﺘﻌﻤﺎرﻳﺔ، ﺑﺰﻋﻢ أن اﻟﻐﺮب ﻫﻮ ﺻﺎﻧﻊ اﻀﺎرة اﺑﺘﺪاء وأﺑﺪا، ﻓﻴﻐﺪو اﻟﺴﺆدد اﻀﺎري واﻟﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺎلم اﻟﻨﺼﻴﺐ المشروع ﻟﻠﻐﺮب وﻣﻜﺎﻧﻪ اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ. وﻛﺎن اﻟﺴﺒﻴﻞ ﻟﻬﺬا ﻫﻮ اﻹﺳﺮاف ﻓﻲ تمجيد ﻣﺎ ﺳﻤﻮه المعجزة اﻹﻏـﺮﻳـﻘـﻴـﺔ، وإﻫﺪار ﻣﻴﺮاث اﻀﺎرات اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ اﻟﻘﺪيمة اﻷﺳﺒﻖ ﻣﻨﻬﺎ، واﻟﺘﻲ أﺻﺒﺤـﺖ ﻣﺴﺘﻌﻤﺮة. وﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻀﺎرة اﺧﺘﺮاﻋﺎ ﻣﺼﺮﻳﺎ ﺧﺎﻟﺼﺎ، أه اﻟﻔﺮاﻋﻨﺔ ــ ﻗﺒﻞ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﺑﺄﻟﻔﻲ ﻋﺎم ــ ﻟﻴﻜﻮن اﻟﻔﺠﺮ اﻟﻨﺎﺻﻊ وﻧﻘﻄﺔ اﻟﺒﺪء اـﻴـﻘـﻴـﺔ، راﺣﻮا ﻳﺰﻋﻤﻮن أن ﻫﺬا ﻗﺪ اﻧﺰوى، واﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﻢ ﻧﻘﻄﺔ ﺑﺪء اﻀﺎرة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺑﺠﻤﻠﺘﻬﺎ، وﻟﻴﺲ اﻷوروﺑﻴﺔ ﻓﻘﻂ. ﻓﺎﻟﻌﻠﻢ ﺑﺪأ ﻣﻊ اﻹﻏﺮﻳﻖ، ﻛﻤﺎ ﺑﺪأت اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻣﻊ ﻃﺎﻟﻴﺲ، وﺑﺪأت اﻟﺮﻳﺎﺿﺔ ﻣﻊ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرث2 والميثولوجيا )اﻷﺳـﺎﻃـﻴـﺮ( ﻣـﻊ ﻫﻮﻣﻴﺮوس،  والمسرح ﻣﻊ ﻳﻮرﺑﻴﺪﻳﺲ وأﺳﺨﻴﻠﻮس، وﺑﺪأت اﻟﺪIﻮﻗﺮاﻃﻴﺔ ﻓﻲ أﺛﻴﻨﺎ... إﻟﺦ... إﻟﺦ. ﻓﻴﺒﺪو اﻟﻐﺮب ﻫﻮ اﻟﻔـﺎﻋـﻞ اﻟـﻮﺣـﻴـﺪ ﻟـﻜـﻞ ﻓـﻌـﻞ ﺣـﻀـﺎري والمالك اﻟﻮﺣﻴﺪ ﻟﻜﻞ ﻏﻨﻴﻤﺔ ﺣﻀﺎرﻳﺔ، وﺻـﺎﺣـﺐ اـﻖ ﻓـﻲ ﺗـﺼـﺮﻳـﻒ ﺷـﺆون اﻀﺎرة اﻟﺒﺸﺮﻳﺔ وﻓﻘﺎ لمصالحه. إذن اﻻﺳﺘﻌﻤﺎر واﻟـﻬـﻴـﻤـﻨـﺔ ﻋـﻠـﻰ العالم  ﻧﺼﻴﺐ اﻟﻐﺮب المشروع وﻷن اﻟﻌﻠﻢ ﻓﺎرس اﻠﺒﺔ ﻓﻲ اﻀﺎرة اﺪﻳﺜﺔ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﺄﺛﺮ ﺑﻨﺼﻴﺐ اﻷﺳﺪ ﻣﻦ ﻫﺬه الملحمة اﻟﺰاﺋﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻛﺪ ﻧﻘﻄﺔ اﻟـﺒـﺪء ﻣـﻊ اﻹﻏﺮﻳﻖ، ﺴﻴﺪا لما أﺷﺮﻧﺎ إﻟﻴﻪ ﺳﺎﺑﻘﺎ ﻣﻦ ﺗﺸﻮﻳﻪ أﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻲ وﻗـﺪ اﻧـﺼـﺐ ﻋﻠﻰ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ. وأﺟﺞ ﻣﻦ ﻫﺬا ﺿﻌﻒ اﺼﻴﻠﺔ المعرفية ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻘﺪيم وﻣﺎ ﻛﺎن ﺷﺎﺋﻌﺎ ﻣﻦ ﺧﻔﻮت اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺘﺎرﻳﺦ اﻟﻌـﻠـﻢ. وﻣـﻊ اﻧـﻄـﻼﻗـﺔ اﻟـﻮﻋـﻲ اﻟـﺘـﺎرﻳـﺨـﻲ وﺗـﻨـﺎﻣـﻲ اﻟﺪراﺳﺎت ﻓﻲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻌﻠﻢ، ﺗﺮاﺟﻊ ذﻟﻚ اﻟﺰﻋﻢ وﺑﺪأ اﻹدراك اﻟـﻮاﺿـﺢ ﻟـﺪور ﻛﻞ اﻀﺎرات ﺑﻔﻀﻞ ﺟﻬﻮد ﺟﻮرج ﺳﺎرﺗﻮن وﺟﻮزﻳـﻒ ﻧـﻴـﺪﻫـﺎم وأﻣـﺜـﺎﻟـﻬـﻤـﺎ. ﻫﺬا ﺑﺨﻼف اوﻻت اﻟﺪؤوﺑﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﺮت ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻣﺤﺎوﻟﺔ  ﺗﺘﺒﻊ ﺣﺮﻛﺔ اﻟﻌﻠﻢ ﺣﺘﻰ اﻷﺻـﻮل اﻷﻧـﺜـﺮوﺑـﻮﻟـﻮﺟـﻴـﺔ. واـﺼـﻠـﺔ أن ﺗـﺘـﻜـﺎﻣـﻞ ﻗـﺼـﺔ اﻟـﻌـﻠـﻢ ﻋـﺒـﺮ اﻀﺎرات، ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻌﺪ ﻇﻔﺮا ﻣﻌﺮﻓﻴﺎ ﻛﺒﻴﺮا. وﺑﻬﺬا اﻟﻄﺮح الموضوعي المتكامل ﻳﺒﺪو اﻟﻌﻠﻢ اﻹﻏﺮﻳﻘﻲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺗﺎﻟﻴﺔ لمرحلة اﻀﺎرات اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ القديمة، ﻣﺴﺘﻔﻴﺪة ﻣﻨﻬﺎ وﻣﻮاﺻﻠﺔ لمسارها. ﺑﺪأت ﻓﻲ  أﻳﻮﻧﻴﺎ ﺑﺒﻼد اﻟﻴﻮﻧﺎن وﻟﻴﺲ ﻓﻲ أي ﻣﻜﺎن آﺧﺮ ﻣـﻦ أوروﺑـﺎ، ﻟـﻘـﺮﺑـﻬـﺎ وﺳـﻬـﻮﻟـﺔ اﺗﺼﺎﻟﻬﺎ بمواﻃﻦ اﻀﺎرات اﻟﺸﺮﻗﻴﺔ اﻷﺳﺒﻖ ﻣﻨﻬﺎ: ﻣﺼﺮ وﻓﻴﻨﻴﻘﻴﺎ وﺑﺎﺑـﻞ، ﻓﻜﺎﻧﺖ تمثّلاً واﺳﺘﻴﻌﺎﺑﺎ لميراثها ﺛﻢ ﺗﻄﻮرا ﻟﻬﺎ. (35، 36)
بطليموس، (100ـ 170 م) الإسكندرية
 أرسطرخس الساموسي، (320ـ 230 ق م) الإسكندرية.
إقليدس، (300 ق م ـ ..  ) الإسكندرية.
 أرخميدس. (287ـ 212 ق م)
ﻛﻤﺎ ﻻﺣﻆ ﻫﺎل، ﻓﺈن اﻟﻌﺮب ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺘﻔﺘﺢ اﻟﻮاﻋﺪ ﻟﻢ ﻳﺮﺗﺪوا ﻋﻦ إيمانهم ﺑـﺎﻟـﻠـﻪ أو ﺗـﻬـﺎوﻧـﻮا ﻓـﻲ أﺧﺬ اﻟﺪﻳﻦ ﻣﺄﺧﺬ اﺪ، ﺑﻴﺪ أن ﺗﻌﺼﺒﻬﻢ اﻧﺤﺴﺮ وﺗﻨﺎﻣﻰ إﺣﺴﺎﺳﻬﻢ بمغزى اﻟﺘﻨﺎﺳﺐ، ﻓﺸﺮﻋﻮا ﻓﻲ ﺗﻔﻬﻢ واﺳﺘﻴﻌﺎب ﻓﻀﺎﺋﻞ اﻟﻨﺰﻋﺔ اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ وﻣﻦ ﻫﻨﺎ اﻧﻄﻠﻘﺖ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻣﻬﻤﺔ ﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻀﺎرة وﻣﻦ ﻣﺮاﺣﻞ اﻟﻌﻠـﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻮاء، تميّز اﻟﻌﻠﻢ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻐﺮﺑﻲ اﺪﻳﺚ ﻓﻲ أن ﻫﺬا اﻷﺧﻴﺮ اﻧﻔﺼﻞ اﻧﻔﺼﺎﻻ ﺑﺎﺋﻨﺎ ﻋﻦ اﻟﻘﻴﻢ واﻷﺧﻼق. أﻣﺎ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻌﺮﺑﻲ ﻓـﻲ اـﻀـﺎرة اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻓﻘﺪ ﺗﺄﺗﻲ ﻓﻲ إﻃﺎر ﺗﻮﺟﻬﻬﻢ اﻷﺧﻼﻗﻲ المثالي اﻟﻌﺎم. وﺑﻴﻨﻤﺎ اﻧﻄﻠﻖ اﻟﻌﻠﻢ اﺪﻳﺚ ﻣﻦ ﺻﺮاع دام ﻣﺮﻳﺮ ﻣﻊ اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﻟﺴﺎﺋﺪة ﻓﻲ أوروﺑﺎ، ﻓﺈن اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻌﺮﺑﻲ اﻧﻄﻠﻖ ﻣﻦ داﺧﻞ إﻃﺎر اﻷﻳﺪﻳﻮﻟﻮﺟﻴﺎ اﺎﻛـﻤـﺔ وﺑـﺮﻋـﺎﻳـﺘـﻬـﺎ. إن تمويل اﻠﻔﺎء اﻟﺴﺨﻲ ﻟﻠﺘﺮﺟﻤﺔ واﻟﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻣﺬﻛﻮرة وﻣﺸﻬـﻮرة.. (38)
يعتبر الكندي بأن الرياضيات هي أساس العلوم، بينما المنطق يشكل الجسر بين الرياضيات والفلسفة.
وتذكر يمنى الخولى بأن للكندي إحدى عشرة رسالة في الحساب، وثلاثة وعشرين رسالة في الهندسة، فضلاً عن تسعة عشر في النجوم.
بينما يذهب ابن سينا إلى وضع المنطق في المدخل، ثم الطبيعيات وبعدها تأتي الرياضيات وأخيراً الإلهيات.

أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم "الجذر" إشارةً إلى جذر النبات الذي عادةً ما يكون مختفياً تحت الأرض، وأطلق على مربع الجذر اسم "المال". وقد انطوى جبر الخوارزمي على جِدّةٍ حقيقة وإبداعٍ أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليد حسابي سابق عليه لا شرقي ولا غربي..
وشهد الجبر في الحضارة الإسلامية قفزةً تاليةً مع عمر الخيّام الذي وضع قواعد لحل ثلاث فئات من معدلات الدرجة الثالثة وفئة من معادلات الدرجة الرابعة.  (41)
يكتب توفي هيل بأن "العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر (المتوفى العام 1375)، وتمخض عن تطوير نماذج كوكبية جديدة للكون، كثيراً ما توصف بأنها باكورة النماذج اللابطليمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث. فضلاً عن هذا، فإن تلك النماذج الكوكبية هي ما اتخذه كوبرنيكوس فيما بعد." (44)
ﺒـﺪأت ﻣـﺮﺣـﻠـﺔ اﻟـﻌـﺼـﻮر الوسطى ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﻣﻌﻠﻮﻻ ﻣﺒﺎﺷﺮا ﻟﻸدﻳﺎن اﻟﺴﻤﺎوﻳﺔ، أي ﻟﻨﺼﺮة المسيحية ﺑﻌﺪ ﻃﻮل ﻧﻀﺎل واﺳﺘﺸﻬﺎد ﻓﻲ اﻟﻐﺮب واﻧﺒﺜﺎﻗﺔ اﻹﺳﻼم اﻟﻔﺘﻲ ﻓﻲ اﻟﺸـﺮق. واﻟﻔﻠﺴﻔﺔ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻌﻨﻲ ﺷﺘﻰ اﻟﻌﻠﻮم والمعارف الكسبية والمباحث اﻟﻌﻘﻠﻴـﺔ أﺻﺒﺤﺖ دﻳﻨﻴﺔ أو ﺧﺎدﻣﺔ ﻟﻼﻫﻮت. ﻓﺘﻘﻮم اﻟﻨﻈﺮة اﻷﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻴﺔ أﺳﺎﺳﺎ ﻋﻠﻰ وﺟﻮد اﻟﻜﻴﺎن اﻷﻋﻠﻰ المفارق للطبيعة، وﻛﻞ اﻬﻮد اﻹﺑﺴـﺘـﻤـﻮﻟـﻮﺟـﻴـﺔ ﺗـﺴـﻠـﻢ ﺑﺎﻟﻮﺣﻲ اﻟﺼﺎدر ﻋﻨﻪ وﺗﺴﻴﺮ ﻓﻲ إﻃﺎره. اﻟﺪﻳﻦ اﻵن ﻫﻮ ار واﻟﺮاﻋﻲ والمهيمن واﻟﺬي اﺻﻄﺒﻐﺖ اﻀﺎرة ﺑﺼﺒﻐﺘﻪ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﺣﻀﺎرة اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ ﺣﻀﺎرة دﻳﻨﻴﺔ. إﻧﻬﺎ ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ المسيحية ﻓﻲ اﻟﻐﺮب، واﻟﻌﺼﻮر اﻟﻮﺳﻄﻰ اﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﺸﺮق، لكن المتألقة الناضرة.  (50)

فلسفة العلم الحديث (الكلاسيكي)
لا شك أن الروح الدافقة للعلم الحديث الذي استقل وتنامى وتصاعد وتعاظم أمرُه، قد انعكست في كل خلجة من خلجات الفلسفة الحديثة المواكبة زمانياً للعلم الحديث، من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر. وحتى التيارات اللاعقلانية فيالفلسفة الحديثة، الصوفية والروحية والحدسية والرومانتيكية إلى الوجودية التي بدأت مع سرن كيركجود (1813ـ 1855).. هذه التيارات المناهضة لروح العلم، لا تُفهَم إلا كردّ فعلٍ لعملقة الروح العلمية وصرامة حتميتها التي تهدد فردانية الإنسان وحريته. (117)
على مدار العصر الحديث تبارى الفلاسفة الإنجليز في تأكيد التجريبية والنظرية الحسية في المعرفة والعزوف عن الميتافيزيقا، حتى ارتبطت هذه النزعة ارتباطاً خاصاً بروح الفلسفة الإنكليزية. وقد بلغت ذروتها وأكثر صورها شعبية وشيوعاً في إنجلترا إبان القرن السابع عشر مع جون لوك (1632ـ 1704). هاجم لوك القياس الأرسطي بطبيعة الحال وأشبعه تهكماً وسخرية، ورفض بقطع أي ادعاء بوجود أفكار مفطورةٍ في العقل البشري ترتكز عليها المذاهب العقلية المقابلة للتجربة. وأكد أن العقل يولد صفحةً بيضاء ثم تخطها المعطيات الحسية والتجربة.
ومع هذا تقدم الأسقف جورج باركلي (1685ـ 1753) بتجريبية ونظرية حسّية في المعرفة أكثر تطرفاً، تهدف إلى إثبات وجود الله، وأيضاً إلى تخليص فلسفة لوك من عناصر لا تتسق مع التجريبية. فأنكر الوجود الحقيقي للمادة كجوهر مستقل. وهذا عن طريق نظرية حسية متطرفة في المعرفة، ترهن الوجود بالإدراك الحسي له، الوجود هو المدرَك، فيغدو الشيء هو فقط الصفات أو الصور الحسّية التي تبدو في أذهاننا عن طريق الحواس لا أكثر ولا أقل.  وكل ما لا يُدرَك لا وجود له.
ولا يعني إنكارُ المادة إنكاراً لوجود الأشياء، فما دمنا ندرك المحسوسات لا نستطيع الشك في وجودها. إن لامادّية باركلي لا تجعل الأشياء معاني، بل تجعل المعاني أشياء، وكل شيء يُدرك فقط داخل الذهن الإنساني كمحسوسات جزئية. إذاً جميع معارفنا جزئية، ولا وجود للكليات، إنها مجرد (أسماء) تنطبق على جزئيات عدّة. هكذا انتهت التجريبية والمعرفة الحسّية مع باركلي إلى المثالية الذاتية التي تربط الوجود بإدراك الذات له، وإلى اللامادية والاسمية. وعن طريق الألوهية يفسر باركلي تآلف الإحساسات في مجاميع وأطرادها، والمعاني ونظامها، وبقاء الله هو التأييد الوحيد لبقاء الأشياء وبقاء العلاقت بينها التي تعرض نظام العالم الطبيعي. وتغدو الطبيعة ـ التي يستكشفها العلم ـ بمنزلة رسالة الله إلينا. (119)
أول من استخدم لفظ وضعي positif هو المفكر الطوباوي المبشر بالدراسة العلمية للإنسان والمجتمع سان سيمون (1760ـ 1825)، أراد أن يجعل العلم شريعة البشرية وناموسها ودينها الجديد، لأنه طريق الخلاص الحقيقي للإنسانية. وكان التفكير "الوضعي" مع سان سيمون يمثّل اتجاهاً إيجابياً (كما يفيد معنى اللفظ) مقابلاً لأخلاق المسيحية السلبية، ويجب أن يحل محل الأفكار الميتافيزيقية والخارقة للطبيعة.
ثم أتى تلميذ سان سيمون وسكرتيره، أوغست كونت مؤسس علم الاجتماع ليضع الصياغة المعتمدة للمذهب الوضعي. (127)
إن تنميط كونت لمراحل الفكر البشري من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الميتافيزيقية وصولاً إلى المرحلة الوضعية، يوعز بأهمية تاريخ العلم. وقد أنشئ كرسي التاريخ العام للعلوم في الكوليج دو فرانس العام 1892 من أجل بيير لافيت، شغله حتى وفاته العام 1903.. لتكون معبرة عن الفلسفة الوضعية بوصفها اتجاها عاماً للحضارة الغربية.
.. في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر نشأت فلسفة العلم. (128)
هناك علوم تعتمد على الملاحظة فقط كالفلك والجيولوجيا، وعلوم تعتمد على التجربة فقط كالفيزياء والكيمياء، وعلوم تجمع بين الاثنتين كعلوم الطب والحياة. (130)
[تبارى الفلاسفة] في تحديد خطوات الاستقراء وترتيبها تصاعدياً، وصولاً إلى الكشف أو النظرية العلمية. وأهم ما في هذا الترتيب أن الخطوة الأولى هي الملاحظة التجريبية.. وما التجربة المعملية إلا اصطناع الظروف المطلوب ملاحظتها.
.. الخطوة الثانية للمنهج العلمي التجريبي هي التعميم الاستقرائي للوقائع التي لوحِظت، فإذا اشتعل الخشب كلما تعرض للّهب في سائر الوقاع التي لوحِظت، أمكن الخروج بالتعميم الاستقرائي: الخشب قابل للاشتعال. وعلى سبيل المثال، أجرى باستير ملاحظات كثيرة على مواد قابلة للفساد، تعتبر مثالاً يُحتذى للتجريب العلمي، وخرج بتعميم استقرائي لها في صور القانون: لا تفسد المواد القابلة للفساد إلا إذا تُرِكت مكشوفة. والخطوة الثالثة للمنهج الاستقرائي ـ كما صاغة فلاسفة العلم ـ هي افتراض فرضٍ يعلّل أو يفسّر هذا التعميم، كافتراض أن الخشب قابلٌ للاشتعال لأنه يتحد بالأوكسجين، أو افتراض باستير أن الهواء يسبب الفساد لأنه يحتوي على كائنات دقيقة. والخطوة الرابعة هي التحقق من صحة الفرض.
لا بدّ أن يكون [الفرض] من الناحية المنطقية قادراً على حلّ المشكلة المطروحة للبحث، ومتسقاً مع ذاته، ومع القوانين العلمية الأخرى المعمول بها.
.. ولا تحسبنّ أحداً من فلاسفة العلم المحترفين آنذاك قد اعتقد حقاً أن هذه المصفوفة لخطوات المنهج الاستقرائي (ملاحظة ثم تعميم، افتراض فرض، التحقق منه، البرهان أو الدحض، وبالتالي المعرفة)، الشائعة في الكلاسيكيات البائدة لفلسفة العلم التجريبي هي المفتاح الذهبي للإنجاز في العلم، كما تصور بيكون من قبل. الواقع أنها لم تكن إلا تبريراً justification  للقانون العلمي وتمييزاً للمعرفة العلمية. (131)
ﻋﻤﻞ ﻫﻴﻮول ﻋﻠﻰ ﺗـﻄـﻮﻳـﺮ ا@ـﻨـﻬـﺞ اﻟـﺘـﺠـﺮﻳـﺒـﻲ ﻟﻴﺘﺨﺬ ﺻﻮرة ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻔﺮﺿﻲ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﻲ اﻟﺬي ﻳﻌﻨﻲ إﺑﺪاع ﻓﺮوض ﻋﻠﻤﻴﺔ ﺛﻢ اﺧﺘﺒﺎرﻫﺎ ﺮﻳﺒﻴﺎ2
لقد أدرك [هيوول] بجلاء أن المسألة أعمق من التعميم الاستقرائي، وأن المعرفة العلمية ليست محصلة التجريب، بل محصلة تفاعل العقل مع معطيات الحواس. وبينما انشغل أصحاب النزعة الاستقرائية بالوقائع الجزئية الملاحَظة، انشغل هيوول بإبداع الفرض العلمي وبالنظرية ودور العالِم وإمكاناته العقلية، مؤكداً خطأهم في إهمال الفروض والتعويل على التعميم.
من هنا صبّ جون ستيوارت مل جام نقده على هيوول، واعتبر فكرة الفرض عنده تأثراً منه بكانط ونزوعاً نحو المثالية الألمانية. (136)

كلود برنار:
كان كلود برنار من الشخصيات النبيلة حقاً في مسار العلم وفلسفته على السواء. تخرج في كلية الطب، وتنازل تماماً منذ بدء حياته العملية عن الممارسة الإكلينيكية والعمل في العيادات، مضحياً بفرص الكسب المالي لكي يتفرغ تماماً للبحث العلمي في الفسيولوجيا. تكرس له طوال حياته، حتى بعد أن وهنت صحته وغزاه المرض كان يُحمَل إلى قلب معمله. علّم البشرية كيف يكون التفاني بين جدرانه كما يتبتّل العابد الصوفي في محراره. لم يكن يتوقف إلا إذا قهره الإرهاق. وذات مرة طلب فنجاناً من الشاي ليقاوم الإرهاق ويجدد نشاطه. وبهدوء وضعهالخادم الذي تعلّم ألا يقطع تركيزه، امتدت يد برنار إلى الفنجان، لكنه سحب كأساً به عيّن من بول أرانب جيء بها من أجل التجارب على فسيولوجيا الجهاز الهضمي. الوعي كله مكرس للتجربة العلمية، وبلا وعي أخذ برنار رشفةً من بول الأرانب! ربما انتفض الإنسان العادي اشمئزازاً وتقززاً إن حدث هذا، لكن العالم المتبتل برنار انتبه فجأةً على خبرةٍ تجريبية لا تعوّض، فلم يهدرها. ولاحظ المذاق السكري لبول الأرنب التي لم تتناول طعاماً منذ فترة. طرح برنار السؤال: من أين جاء المذاق السكري؟ وللإجابة عنه دخل في سلسلة أبحاث معملية طويلة انتهت إلى اكتشاف وظيفة البنكرياس ومرض البول السكري الذي يعاني منه الكثيرون. (142)
يؤكد [برنار] أن فنّ البحث العلمي حجرُ الزاوية في كل العلوم التجريبية، لكن قواعد المنهج لا تُفرَض على العالم من الخارج، بل تنبع من صميم ممارساته، وتتطورّر وفقاً لمتطلبات البحث العلمي ذاته. من هنا شرع في تطوير النزعة الاستقرائية تطويراً نقدياً يكاد يفتح طريقاً جديداً.
"عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة والنظرية السائدة، يجب قبول الواقعة ونبذ النظرية، حتى لو أخذ بها الجميع، نظراً لتأييد مشاهير العلماء لها". (برنار)
نتيجة الاستدلال العلمي يجب أن تظل دائماً ظنّية. فالعلم يتقدم دوماً في طريقه نحو إدراك الحتمية الشاملة والحالة الراهنة مصيرها إلى زوال لا محالة. (143)
بفضل برنار استقر الفرض في منظومة المنهج الاستقرائي، ومنذ برنار فصاعداً أصبح منهج العلوم الإخبارية يقوم على دعامتين هما: الفرض والتجريب. (144)
يميّز برنار تمييزاً قاطعاً بين الملاحظة والتجربة. إن الملاحظة أمبيريقية أي تجريبية خالصة، وهي تمهيدية عامة بسيطة، تلاحظ الواقعة الغفل كما تحدث لجمع المعلومات بتعميم استقرائي مباشر. أما التجربة والبحوث التجريبية فهي موجّهة في إطار محدد ومسلحة بالأجهزة المعملية الدقيقة، تخلق الظواهر خلقاً في المعمل ويكون التعميم الاستقرائي نتيجة اختبار فرض. إذاً الفارق الكبير بين الملاحظة والتجربة يعود إلى الفرض.
يفرّق برنار بين الطب الإمبيريقي القائم على الملاحظة ومحض تراكم الخبرة، وبين الطب التجريبي الذي يطمح إلى معرفة قوانين الجسم السليم والمريض، بحيث لا نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل نتمكن أيضاً من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة. (145)
"صحيح أنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهنٍ خلا من الفروض وتجرد من الأفكار السابق تصورها، لكن واجب المجرّب في الوقت نفسه أن يحذَر العدول عن استخدام الفروض والأفكار،حين يكون الأمر خاصاً بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة. وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان، ذلك أن الفكرة هي أصل كل استدلال واختراع، وإليها يعود الفضل في البدء. ولا يجوز للمرء وأدها أو استبعادها بحجة أنها قد تضر، وكل ما يقتضيه الأمر هو تنظيمها وإخضاعها لمقياس" (برنار]
[برنار هنا ينتقد أوغست كونت في تأكيده على أهمية الملاحظة ومهاجمته الفرضيات. النظرية بالنسبة إليه هي مجرد تعميم للملاحظة] دور المخيلة واضح في صوغ الفرضية.
الفروض لا تفتح الطريق إلى التجارب الجديدة فقط، بل أيضاً تجعلنا نكتشف وقائع جديدة ما كنا لنلحظها دون فرض. (146)
»ﻫﺐ ﺷﺨﺼﺎ ﻣﺎ ﺟﻲء ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺣ ﻏﺮة إﻟﻰ ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ2 ﻋﻠﻰ أﻧﻪ ﻣﺰود ﺑﺄﻣﻀﻰ ﻣﻠﻜﺎت اﻟﻌﻘﻞ واﻟﺘﻔﻜﻴﺮ2 ﺣﻘﺎ ﺳﻴﻼﺣﻆ ﻟﻠﻮﻫﻠﺔ اﻷوﻟﻰ ﺗﺘﺎﺑﻌﺎ ﻣﺘﺼﻼ ﻟﻸﺷﻴﺎء2 وأن ﺣﺎدﺛﺔ ﻣﺎ ﺗﻌﻘﺐ اﻷﺧﺮى2 ﻟﻜﻨﻪ ﻟﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ اﻟﺒﺘﺔ أن ﻳﺴﺘﻜﺸﻒ أي ﺷﻲء أﺑﻌﺪ ﻣﻦ ﻫﺬا. وﻓﻲ اﻟﺒﺪاﻳﺔ ﻟﻦ ﻳﻜﻮن ﻗﺎدرا ﻋﻠﻰ اﻟﻮﺻﻮل إﻟﻰ ﻓﻜﺮة اﻟﻌﻠﺔ وا@ﻌﻠﻮل ﺑﺄي ﺷﻜﻞ ﻣﻦ أﺷﻜﺎل اﻟﺘﻔﻜﻴـﺮ2 ﻣـﺎداﻣـﺖ اﻟـﻘـﻮى اﻟـﺘـﻲ ـﺪث ﺑﻔﻌﻠﻬﺎ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻌﻤﻠﻴﺎت اﻟﻄﺒﻴﻌﻴﺔ ﻻ ﺗﻈﻬﺮ أﺑﺪا ﻟﻠﺤﻮاس2 وﻟﻴﺲ ﻣﻦ ا@ﻌﻘﻮل أن ﻳﺴﺘﻨﺘﺞ إﻧﻪ ﻣﺎ داﻣﺖ ﺣﺎدﺛﺔ ﻓﻲ ﻣﺜﺎل ﻣﺎ ﻗﺪ ﺳﺒﻘﺖ أﺧﺮى2 ﻓﻼﺑﺪ أن ﺗـﻜـﻮن اﻷوﻟﻰ ﻋﻠﺔ واﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻣﻌﻠﻮﻻ. ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮن اﻻرﺗﺒـﺎط ﺑـﻴـﻨـﻬـﻤـﺎ ﺟـﺰاﻓـﺎ أو ﻋـﺮﺿـﺎ علّياً. وﻗﺪ ﻻ ﻳﻜﻮن ﺛـﻤـﺔ ذرﻳـﻌـﺔ ﻷن ﻳـﺴـﺘـﺪل ﻋـﻠـﻰ وﺟـﻮد واﺣـﺪة ﻣـﻦ ﻇـﻬـﻮرّﻋـﻠ اﻷﺧﺮى. وﺑﻌﺒﺎرة ﻣﻮﺟﺰة2 ﻓﺈن ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺸﺨﺺ2 ﺑﻐﻴـﺮ ﻣـﺰﻳـﺪ ﻣـﻦ اـﺒـﺮة2 ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻋﻠﻴﻪ أن ﻳﻮﻇﻒ ﺣﺪﺳﻪ أو ﺗﻔﻜﻴﺮه ﻓﻴﻤﺎ ﻳـﺘـﻌـﻠـﻖ ﺑـﺄي أﻣـﺮ ﻣـﻦ أﻣـﻮر اﻟﻮاﻗﻊ2 أو أن ﻳﻜﻮن ﻋﻠﻰ ﺛﻘﺔ ﻣﻦ أي ﺷﻲء ﻳـﺘـﺠـﺎوز ﻣـﺎ ﻫـﻮ ﺣـﺎﺿـﺮ ﺣـﻀـﻮرا ﻣﺒﺎﺷﺮا أﻣﺎم ذاﻛﺮاﺗﻪ وﺣﻮاﺳﻪ (هيوم) (152)
لقد كان هيوم من السائرين في مسار النزعة النفسية التي تنكر استقلال المنطق عن الحياة والنفس، وتحاول ردّ العلوم والحقائق وكل شيء إلى الحياة النفسية ومكوّناتِها. (153)
بالغوص في الدروب النفسية أوضح هيوم أن تكرار الخبرة الحسية التي تقع فيها (ب) بعد (أ) يخلق عادةً لتوقّع (ب) كلما شوهدت (أ)، في الإنسان وفي الحيوان أيضاً. فكما يقول برتراند راسل، الحيوانات النزلية تتوقع الطعام حين ترى الشخص الذي يطعمها عادةً، ولكن ألا يمكن أن يأتي يومٌ يطيح فيه برقبة الدجاجة الشخص نفسه الذي اعتادت أن تتلقى منه الطعام كل يوم، إذاً تكرار الوقائع التجريبيبة لا يعني شيئاً ولا يضمن شيئاً، فمن أدرانا أن الطبيعة لن تفعل بنا ذلك في الغد، فتسممنا ثمرة فاكهةٍ اعتدنا أنها شهيّة؟ (154)
العلم في القرن العشرين أملى نظرية البدء بالفرض. وإذا كان آينشتاين ـ كما سنرى ـ هو الذي تربع على عرش نيوتن، فإنه بدوره خير ممثل لهذه النظرية. فقد رأى أن منهج البحث يتلخص في ن يتخذ الباحث لنفسه مسلماتٍ عامةً أو مبادئ يستنبط منها النتائج، فينقسم عمله إلى جزأين يجب عليه أولاً: أن يهتدي إلى المبادئ التي يستند إليها، ثم يتبع ذلك أن يستنبط من هذه المبادئ النتائجَ التي تترتب عليها. ويؤكد آينشتاين تأكيداً حاسماً على أن الوقائع التجريبية بمفردها تظل عديمة النفع للباحث ما لم يهتدِ إلى قاعدة لاستنباطاته.
وقد صيغت نظرية المنهج التجريبي البادئ بالفرض فيما يعرف بالمنهج الفرضي الاستنباطي، يبدأ بفرضٍ صوريٍ عام لا يُشتَق من الخبرة ولا يخضع هو ذاته للتحقيق التجريبي المباشر. فيلجأ الباحث إلى منهج الاستنباط كي يستنبط منطقياً ورياضياً النتائج الجزئية التي تلزم عنه، وهنا يأتي التجريب ودور الملاحظة فيقابل بين النتائج الجزئية التي تلزم عنه، وهنا يأتي التجريب وجور الملاحظة فيقابل بين النتائج المستنبَطة من الفرض وبين وقائع التجريب، إن اتفقت معها سُلِّم تسليماً مؤقتاً بالفرض، وإن لم تتفق يكون تعديله أو الاستغناء عنه والبحث عن غيره. مع ملاحظة أن مصدر الفرض لا يعنينا، فقد يأتي به العالم من الحصيلة المعرفية السابقة أو من وقائع التجريب أو من صفاء ضوء القمر أو رؤية وجه المحبوبة، أو من أين تستطيع العقلية العلمية المبدعة الخلاقة أن تستلهمه فرضاً. (158)
[يمكن إعطاء مثال القول بتقلص الطول بفعل السرعة كفرضية لا يمكن أن تأتي من الملاحظة]
وﺣﺘﻰ ﻫﺬه اﻵوﻧﺔ ﻗﺪ ﻳﺮد ﻓﻲ اﻷﺣﺎدﻳﺚ ارﻳﺔ ﻣﺼﻄﻠـﺢ )اﻻﺳـﺘـﻘـﺮاء( ﻛﻤﺮادف ﻟﻠﻤﻨﻬﺞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ. وﻟﻜﻦ ﻓـﻲ ﺳـﻴـﺎق ا@ـﻌـﺎـﺔ اﻟـﺪﻗـﻴـﻘـﺔ ﻋـﺒـﺮ ﻫـﺬه اﻟﺼﻔﺤﺎت ﻳﻌﻨﻲ اﻻﺳﺘﻘﺮاء ﻣﻨﻬﺞ اﻟﺒﺪء ﺑﺎ@ﻼﺣﻈﺔ2 وﻫﻮ ﺣﺎﻟﺔ ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻠﻤﻨﻬﺞ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ2 ﻓﻀﻼ ﻋﻦ أﻧﻬﺎ ﻣﺘﺨﻠﻔﺔ وﻗﺎﺻﺮة2 ﻣﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ ﻓﻌﻼ ﻫﻮ ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻔﺮﺿﻲ اﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻃﻲ. (159)
تقدمت فلسفة العلم في القرن العشرين خطوةً منطقية أبعد وأجرأ، لتؤكد أن الاستقراء كمنهج للعلم التجريبي ليس به مثالب وأغاليط منطقية فحسب، بل به استحالة منطقية أصلاً. بعبارة موجزة، البدء بالملاحظة يستحيل أن يفضي إلى شيء، والمسألة ـ كما طرحها غاستون باشلار ـ أن الواقع هو نقطة نهاية التفكير العلمي لا نقطة بدايته.
بدأ [كارل بوبر] إحدى محاضراته في فيينا بأن قال لطلاب الفيزياء: "امسك بالقلم والورقة، لاحظ بعناية ودقّة، سجل ما تلاحظه!". بالطبع تساءل الطلاب عما يريدهم بوبر أن يلاحظوه. وهنا أوضح لهم كيف أن [كلمة] (لاحظ!) فحسب لا تعني شيئاً، العالِم لا يلاحظ فحسب، الملاحظة دائماً منتقاة، توجهها مشكلة مختارة من موضوعٍ ما، ومهمة محددة، واهتمام معيّن ووجهة من النظر نريد من الملاحظة أن تختبرها. المشكلة هي ما يبدأ به العالم وليس الملاحظة الخالصة كما يدعي الاستقرائيون، فماذا عساه أن يلاحظ ويسجل؟ بائع جرائد ينادي وآخر يصيح، وناقوس يُدَق.. أم يلاحظ أن كل هذا يعرقل بحثه. إن العالِم يحتاج مسبقاً إلى نظرية يلاحظ على أساسها. فهو يبدأ من الحصيلة المعرفية السابقة لتحدد له موقف المشكلة وتعين على فهمها، فيقدح عبقريته العلمية ليتوصل إلى الفرض الذي يستطيع من خلاله حلّها، هنا فقط يلجأ إلى الملاحظة ليختبر فرضه تجريبياً عن طريق النتائج المستنبَطة. (165)
إن العلم صنيعة الإنسان، وقد تبدو هذه حقيقةً أوضح من شمس النهار، لكنها غابت بفعل الغيوم الاستقرائية، ولم تتبلور إلا في القرن العشرين، الذي أدرك أن العلم ليس نشاطاً آلياً متاحاً لذوي العقول المتوسطة ـ كما رأى بيكون ـ أو مجرد قراءة لكتاب الطبيعة المجيد ـ كما قال غاليليه. (167)
إن العلم صنيعة الإنسان، أي فعالية نامية باستمرار، كل خطوةٍ قابلة للتجاوز، للتقدم، لذلك يجعل المنهج الفرضي الاستنباطي كل قانون مجرد فرضٍ ناجح، في حين إن المنهج الاستقرائي يجعل كل فرضٍ ناجحٍ قانوناً، اكتشافاً للحقيقة. (167)
ثورة الفيزياء الكبرى
الكوانتم:
عام 1900 في جلسة الجمعية الفيزيائية التابعة لأكاديمية العلوم في برلين، أعلن ماكس بلانك (1858ـ 1947) فرض الكوانتم العبقري، ولحقت به نظرية النسبية لآينشتين بعد سنوات خمس. هذه البداية الحاسمة تجعل القرن العشرين متميّزاً كوحدة فريدة ونقطة تحوّل في مسار العلم. فلم تكن بدايته مجرد مسألة تقويم ميلادي أو تعداداً في تواريخ الأيام، بل هي مستهل طريق جديد في البحث العلمي، وطريق جديد بكل معاني الجدة المتمايزة عن المألوف والقديم. إنه طريق شقته ثورةٌ كبرى تقوم بصفةٍ أساسية على دعامتين: هما نظرية الكوانتم ونظرية النسبية. (173)
بمجرّد أن انتهى نصفُه الأول قيل إن "أكثر من ثلاثة أرباع علم الفيزياء المعروف لنا اليوم قد أنتجه القرن العشرون"، وفي نصفه الثاني تضاعف هذا النتاج ولحقت بالفيزياء ـ وهي العلم الطبيعي الأم ـ بقية أفرع العلوم الطبيعية، ونشأت فروعٌ أخرى ولا تزال تنشأ في حركية تقدمية دافقة، تبدو فيها الفيزياء وكأنها ظلت طوال القرن العشرين محتفظةً بدماء الثورة، ومحوراً تدور حوله فلسفة العلم. (174)
إن عائلة الإشعاع الكهرومغناطيسي رحيبة جداً، تمتد بطول الكون وعرضه. ويمكن تصنيفها تبعاً لصغر طول الموجة كالآتي: الأشعة الكونية، أشغة غاما ـ الأشعة السينية، الأشعة فوق البنفسجية، الأشعة المرئية (وهي الضوء بالمعنى المعتاد للكلمة)، الأشعة تحت الحمراء، ذبذبات الراديو.
وتنبعث الأشعة تحت الحمراء بفعل التأثير الحراري للمصباح أو الموقد أو اللهب أو الشمس أو النجوم البعيدة.. إلخ. وقد وضعت الفيزياء الكلاسيكية قوانين للإشعاع الحراري، نشير الآن إلى اثنين مألوفين في التجربة اليومية للحس المشترك:
1ـ كلما سخن الجسم ازداد سطوعه.
2ـ يتغير لون التوهج بازدياد درجة الحرارة. (174)
"كارثة" الشعاع البنفسجي:
كان كل شيء يسير على ما يرام، إذا تشهد الوقائع بالصحة الكاملة لكل قانون منهما على حدة، بيد أن الأزمة التي وصلت إلى حد الكارثة جاءت من إجراءٍ بسيط قام به الفيزيائيان الإنجليزيان رايلي وجينز، ليصلا إلى القانون الشامل الذي يجمعهما ومؤداه: قوة الإشعاع المنبعث من جسم ساخن تتناسب طردياً مع درجة حرارته المطلقة، وعكسياً مع مربع طول الموجة الضوئية المنبعثة منه.
وبدا أن هذا القانون يتوافق تماماً مع المعطيات التجريبية. ثم اكتشف العلماء أن التوافق يحدث فقط في نطاق الموجات الطويلة من الطيف المرئي وهي الأخضر والأصفر والأحمر. ولكن قانون رايلي/ جينز لا ينطبق على الموجات التقصيرة عند الاقتراب من الأشعة الزرقاء والبنفسجية وفوق البنفسجية. على هذا يتبع قانون رايلي/ جينز الشامل أنه كلما قصرت الموجة ازدادة شدة الإشعاع الحراري. بيد أن شيئاً من هذا لم يحدث إبان التجربة، والأدهى أن شدة الإشعاع يجب أن تنموَ بغير حدود عند الانتقال إلى موجات أقصر وأقصر. وبالطبع هذا لا يحدث فيستحيل أن يوجد نموّ غير محدود في شدة الموجة. لا شيء في الطبيعة غير محدود باستثناء الكون نفسه. لذلك عندما يفضي قانون فيزيائي إلى اللامحدودية فمعنى هذا أن نهايته قد حلّت.
أصبح هذا المأزق الناجم عن نظرية الإشعاع معروفاً باسم الكارثة فوق البنفسجية لأنها بخلاف ما تصور الجميع لم تكن أزمة قانون واحد، بل أزمة التصور الفيزيائي الكلاسيكي بأسره. (176)
.. وبعد أبحاث عدة، وجد بلانك المعادلة .. بطريقة تحول دون الكارثة فوق البنفسجية. بيد أن هذه المعادلة كانت متورطة في مصاعب عدة، تتلخص في أنها تأبى الخضوع لأطر الحتمية، أطر الفيزياء الكلاسيكية بينما تتجاوب تجاوباً رائعاً مع المعطيات التجريبية.. (176) [لكن لا يوجد توضيح أو حديث عن عدم الخضوع لأطر الحتمية]

إن تطورات العلم، قد أفصحت عن أن "أي محاولة لاعتبار سيل الطاقة تياراً عينياً، على الفور تدحض نفسها". حتى جاء ماكس بلانك، فقال إن الإجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها، لا باستمرارٍ كسيل، بل على كمات أو كوانتات حسب المصطلح الذي اختاره. (كوانتم كلمة لاتينية تعني كمّية أو وجبة).
وكوانتم الضوء بمنزلة قطاعٍ ضئيل للغاية من الطاقة إدراكُه ليس أسهل من إدراك الذرة. وهذا الكوانتم الذي استحدثه بلانك هو الوحدة الأولية للضوء وللطاقة، يناظر الذرّة بوصفها الوحدة الأولية للمادة. (176)
أصبحت الكوانتم نظريةً شاملةً تحكم قبضتها على عالم الإشعاع وال1رة، العالم المتناهي في الصغر، الذي تعجز فيزياء نيوتن الكلاسيكية عن التعامل معه، ولن تجد أيَّ همزة وصل بينه وبين حتميتها الميكانيكية البائدة. إن عالم الكوانتم والذرة والإشعاع عالم لاحتمي، وهذا انقلاب جذري في إيبستيمولوجيا العلم، من النقيض إلى النقيض، من الحتمية إلى اللاحتمية.
تسمى كمية الطاقة المضيئة (الكوانتم) في هذه الحالة بالفوتون. الفوتون هو الجسيم في كل إشعاع، هناك فوتونات الأشعة السينية وفوتونات الأشعة تحت الحمراء وهكذا..
إذا كان العلماء منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر ـ كما سنرى ـ قد طردوا التفسير الجسيمي لطبيعة الضوء واجتمعوا على التفسير الموجي له. لكن آينشتين يعود ومعه التفسير الجسيمي من جديد. إن الفوتون هو الكوانتا، هو الجسيم في الإشعاع كمتمميز عن الموجة، وإذا كان كل جسيم له كتلته، فإن الفوتون كتلته صفر. وكان الفوتون من الكيانات التي أدت إلى الانقلابة الجذرية في إيبستيمولوجيا العلم، وإلى أقوى وأرسخ تصور للاحتمية، وهو الميكانيكا الموجية. (183)
تصور نيوتن أن الضوء ينحني حول الأجسام الصغيرة الرفيعة، فلا تلقي ظلاً، وبدا لعبقريته النافذة أن في هذا دليلاً على أن الجسيمات الضوئية قد جذبتها الأجسام الصلبة وقال إن أشعة الضوء تنحني حول هذه الأجسام كأنما هي منجذبة إليها.. (190)
النسبية:
تنقسم النظرية النسبية إلى النسبية الخاصة التي أعلنها آينشتين العام 1905 ونظرية النسبية العامة التي أعلن تخطيطها في العام 1916.
النظرية الخاصة تتناول الأجسام أو المجموعات التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة، أي حركة منتظمة.. والنظرية النسبية العامة تعالج الأجسام والمجموعات التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة متزايدة أو متناقصة، أي تتحرك بعجلة [تسارع]. إذاً النظرية الخاصة سميت هكذا لأنها حالة خاصة من النظرية العامة. فالمجموعات التي تتحرك بسرعةٍ ثابتة يمكن اعتبارها تتحرك بعجلةٍ [بتسارعٍ] مقدارها صفر.
.. بدأت النظرية النسبية بالتسليم بهذين الفرضين الأساسيين وهما استبعاد الأثير، ثم ثبات سرعة الضوء بصورة مطلقة، وهذا هو الشيء الوحيد الثابت المطلق في الكون النسبي. (193)
في القانون الأول للنسبية الخاصة تنكمش الأجسام في اتجاه حركتها. وبما أننا نفترض عادةً أن الجسم يتحرك في اتجاه طوله فإننا نتكلم عن انكماش الطول، بيد أن العرض أيضاً ـ وأي بعدٍ آخر ـ ينكمش إذا تحرك الجسم في اتجاهه. وهذا القانون يحدد مقدار انكماش الجسم بالنسبة لسرعته، بحيث يزداد الجسم في القِصَر أو الانكماش كلما ازدادت سرعته، حتى إذا اقتربت السرعة من سرعة الضوء اقترب طول الجسم من الصفر. أي أنه يختفي ببلوغه سرعة الضوء، مما يعود بنا إلى مصادرة استحالة تجاوزها.
وفي القانون الثاني تزداد كتلة الجسم بازدياد سرعته، حتى إذا وصل إلى سرعة الضوء تصبح كتلته لانهائية. لذلك ـ مرةً أخرى ـ كانت سرعة الضوء هي أقصى سرعةٍ ممكنة، ولا يمكن أن يتحرك أي شيءٍ أسرعَ من الضوء، لأنه ينكمش حتى يتلاشى وتزداد كتلته حتى تصبح لانهائية. (194)
أما القانون الثالث، فهو خاص بجمع أو تحصيل السرعات، كحساب السرعة النسبية لجسمين يتحركان بالنسبة لبعضهما في اتجاه معاكس، فينص على أنها ليست حاصل جمع السرعتين ـ كما تتصور الفيزياء الكلاسيكية ـ بل هي أعقد كثيراً، وتحكمها معادلة تدخل فيها سرعة الضوء كثابت أساسي، بحيث إذا عوضنا عن الرموز في هذه المعادلة بحالة جسم سائرٍ بسرعة الضوء إلى جسم آخر سائر بسرعة الضوء نفسها، كان الحاصل سرعة الضوء أيضاً، مما يعود بنا من جديد إلى مصادرة استحالة تجاوزها. (195)
أما القانون الرابع فينص على أن الطاقة تساوي الكتلة مضروبةً بسرعة الضوء..
وفي القانون الخامس يتباطأ الزمن تبعاً للسرعة، وبالمعامل نفسه الذي ينكمش به الطول، لذلك يختلف الزمن أو يتباطأ باختلاف السرعة التي يسير بها حامل الساعة ـ أي الذي يقوم برصد الزمن ـ وبهذا ينهار تماماً الزمن الموضوعي المطلق في الفيزياء الكلاسيكية الذي يتدفق بمعدل واحد بالنسبة للجميع من مطلق الماضي إلى مطلق المستقبل. (196)
لا يوجد في الكون كلِّه مقياسٌ معياري للطول أو الكتلة أو الزمان. لأنه يتضمّن الثبوت في مكان معيّن وهذا شيءٌ لا وجود له، والزمان الذي تحدده حركة الأجرام السماوية، وبعدها المتغير عنا، نسبي غير منتظم، ولا يجري في جميع أنحاء الكون بالتساوي، فأين الزمان المطلق الذي تحدث عنه نيوتن؟! (197)
العلم الرياضي يولد ناضجاً.
.. حتى أن القديس توما الأكويني (1225ـ 1274) قد شغلته قضية مهمة هي: ما الذي يكون فوق إرادة الله؟ فوضع إجابة تتضمن بضعة أشياء منها أن الله لا يستطيع أن يجعل زوايا المثلث أقل من قائمتين. (205)
الرياضيات:
النسق الهندسي يقوم على مقدمات أساسية، هي تعريفات للحدود الهندسية المستخدمة، ثم قضايا نسلم بها بلا برهان، يحددها العالِم فنسلم بها معه مادام رآها ضرورية لبناء النسق بشرط أن تكون متسقة فيما بينها وكافية للبرهنة على نظريات النسق، وأيضاً لا بد وأن تكون كل مسلمة مستقلة بذاتها فلا يمكن استنتاجها أو استنباطها من القضايا الأخرى المسلّم بها، لأنه لو أمكن استنباطها لكانت نظريةً مبرهنة وليست مسلمة. من هذه المقدمات، وعن طريق الوسائل الممنطقية وقواعد الاستدلال، تستنبط النظريات أو المبرهنات. النظرية الرياضية مبرهنة theorem وليست مجرد نظرية theory مطروحة، فقد بُرهن عليها وأثبتت بناءً على المقدمات. وبهذه العناصر الثلاثة ـ المقدمات والقواعد المنطقية والمبرهَنات ـ يكتمل بناء النسق الصوري. (206)
[ومع هندسات لوباتشيفسكي وريمان] "أدركنا أن الله يمكن أن يخلق مثلثات زواياها أكثر أو أقل من قائمتين، وأن ما قاله إقليدس محض بناء عقلي معجز، وليس ضربة لازب مفروضة على الله قبل الإنسان." (209)

في العقود الأولى قوبِل انهيار الحتمية الكونية بالتوجس والارتياب، تصوّر البعض أن هذا يجعل الفوضى تعم عالم العلم. وكان آينشتاين نفسه من غير المحبّين للاّحتمية، بتعبيره الشهير: الله لا يلعب النرد في الكون: فسمع كارل بوبر فيزيائيين شباناً لامعين يصفون آينشتاين ـ وكان لا يزال يعمل بجِدّ ـ بأنه في رفضه للّاحتمية يقف ضد الطوفان. وهذا، كما يقول دو بروي، نتيجةً لعاداتٍ فكرية متأصلة، لأن الفيزيائيين الشبان ـ آنذاك ـ الذين تعوّدوا منذ بداية دراستهم على النظر إلى الأشياء بمنظار الفيزياء الجديدة كانوا لا يقابلون من الصعاب في التخلي عن الحتمية قدر ما يقابل الأكبر سناً. أما اللورد آرثر إدنغتون فيؤكد أن صديقه آينشتاين من أوائل الذين أدركوا اللاحتمية في الفيزياء الجديدة، ولم تكن الحتمية عنده إلا مسألة معتقدات شخصية. ولا شك في أن الحتمية تحظى بقبول سيكولوجي تريح الإنسان حين تخبره أنه يعيش في عالم كل ما فيه ضروري. (219)
[بعد ثورة الكوانتم والنسبية] حلّ الترابط الإحصائي محل الترابط العلّي الضروري، وأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث وليس كشفاً عن القدر المحتوم. (221)
لقد ظهر التآني، أي استحالة الحكم بأن حدثاً وقع قبل أو بعد الآخر، فثمة أنظمة زمانية مختلفة، حتى أنه يمكن أن يكون الزمن قابلاً للارتداد، للرجوع إلى الوراء. هكذا قوّضت النسبية مفاهيم الإطراد والتسلسل الزمني المتعاقب، الضروري لمفهوم العلّية ليجعل الحادث السابق علّةً واللاحق معلولاً. بالإضافة إلى أن جاذبية نيوتن (التثاقل) التي تعدّ التمثيل العيني للعلّية قد حلّ محلّها تحدّب الكون. (222)
إن أبرز معالم إيبستيمولوجيا القرن العشرين أنها انتهت إلى أن أيّ قضيةٍ إخباريّة بما هي إخباريّة تظل احتمالية، اليقين في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون، كقضايا المنطق والرياضيات. وحتى اليقين الرياضي اتضح أن أمره ليس بسيطاً ومحسوماً كما كان يُظَنّ. ولكن نتفق على أن صياغة القوانين العلمية في لغةٍ رياضية لن تعني حتمية أو لاحتمية، لأن الرياضيات في حدّ ذاتها محايدة، محض رموز نعبر بها عن أي مرموز إليه، ونملأها بالمضمون التطبيقي سواءٌ افترضناه حتمياً أو لاحتمياً. (223)
نحن لا نشاهد كل وقائع الرؤية ولا نسمع كل وقائع الصوت، الانتباه انتقائي إلى حدٍ كبير مما يجعل وقائع معيّنة دون غيرها تدخل حيّز الإدراك وليس من الضروري أن تكون هي الأقوى في إثارتها للأعصاب الحسّية، فالبرنامج المعرفي للشخص أقوى في توجيه الانتقاء في الانتباه. (225)

التجريبية أصبحت منطقية

[بين فلسفة العلم والفلسفة العلمية]:
بجانب فلسفة العلم التي غدت أبرز فروع الفلسفة، أصبحت معظم التيارات الكبرى في فلسفة القرن العشرين توصف بأنها "فلسفات علمية" مما يعكس المد الكبير للتجريبية. فلسفة العلم موضوعها ظاهرة العلم الحديث، أما الفلسفة العلمية فتبحث الموضوعات الأخرى التقليدية للفلسفة، لكن بأسلوب جديد يقتبس روح  العلم وطابعه، خصوصاً كما يتمثل أساساً في تجريبية القرن العشرين المتطورة بأبعادها الجديدة.
في مقال لبرتراند راسل بعنوان "فلسفة القرن العشرين" .. يقول إنه في العام 1900 بدأت الثورة على المثالية الألمانية بعملاقيها كانط وهيغل، والتي مثّلت قوةً طاغيةً إبان القرن التاسع عشر، موازيةً لفلسفة العلم وللفلسفة العلمية ومحتلةً لأراضٍ على حسابهما. (230)
فرنسيس بيكون (1561ـ 1626)
["وضعيون" ناقدون للحتمية العلمية]
في فرنسا، الذي ينبغي أن يستوقفنا في تلك الحقبة هو تيار "نقد العلم" الذي يحاول تقليص نفوذ التجريبية وتقليم أظافرها، مستعيناً في هذا بفلسفة كانط. يؤكد فلاسفته أنهم وضعيون. فقد نشأ هذا التيار موازياً للوضعية العلمية مع أوغست كونت وأشياعه، كردّ فعل لها، لا يرفضها ولا يناصبها العداء كما تفعل الرومانتيكية، وإنما يحاول تحقيق شيء من التوازن معها عن طريق إبراز مشروعية المعرفة العلمية التجريبية كمعرفة وضعية بالعالم التجريبي، ثم الرفض البات لأن يبتجاوز العلمُ الحدودَ المعرفية "الأيبستيمولوجية"، فلا ترتع حتميته في العالم الأنطولوجي لتهدد حرّية الإنسان. (232)
ﻣﻦ ﻫﺬا ا@ﻨﻄﻠﻖ ﺟﺎء ﺗﻴﺎر »ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻠﻢ« اﻟﺬي Iﺜﻞ اﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻛﺎﻧﻂ2 وﻳﺰﻋﻢ أﺻﺤﺎﺑﻪ أن أﺳﺎس ﻓﻠﺴﻔﺘﻬﻢ ﻫﻮ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ2 أو ﻧﻮع ﻣﺘﺒﺼﺮ ﻣﻦ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ. وﻳﻨﻘﺴﻢ ﻫﺬا اﻟﺘﻴﺎر إﻟﻰ ﻓﺮﻋ ﻫﻤﺎ: اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ا@ﻴﺘـﺎﻓـﻴـﺰﻳـﻘـﻴـﺔ أو اﻟﺮوﺣﻴﺔ2 واﻟﻮﺿﻌﻴﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ. اﻟﻔﺮع اﻷول2 اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ا@ﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ أو اﻟﺮوﺣﻴﺔ: ﻳﺠﻤﻊ ﺑ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﻛﺎﻧـﻂ )٦٦٧١ ـــ ٤٢٨١( اﻟـﺬي رأى أن اﻟـﻮاﻗـﻊ Main De Biran وﺗـﺄﺛـﻴـﺮ ﻣـ دي ﺑـﻴـﺮان اﻷوﻟﻲ اﻟﺴﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻫﻮ اﻴﺎة اﻟﺮوﺣﻴﺔ اﻟﺒﺎﻃﻨﻴﺔ2 واﻟﻌﻼﻣﺔ ا@ﻤﻴﺰة ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺸﻌﻮر2 واﻟﻮاﻗﻌﺔ اﻷوﻟﻴﺔ ﻟﻠﺸﻌـﻮر ﻫـﻲ اﻷﻧـﺎ ﺑـﻮﺻـﻔـﻬـﺎ ﻨﺎ ــ ﻛﻤﺎ ﻳﺮى دي ﺑﻴﺮان ـــ ـﺪ ﻣـﻌـﺎﻧـﻲ أوﻟـﻴـﺔ ﻫـﻲُﻬَاﻟﻌﻠﺔ واﻟﻘـﻮة واﻟـﻔـﻌـﻞ. ﻫ أﺻﻮل اﻟﻔﻜﺮ وأﺻﻮل اﻟﻌﻠﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻮاء ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ اﻟﻮﺟﻮد واﻮﻫﺮ واﻟﻮﺣﺪة واﻟﻬﻮﻳﺔ واﻟﻘﻮة واﻟﻌﻠﺔ2 وأﻫﻤﻬﺎ ﻣﻌﻨﻰ اﺮﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻓﻲ ﻣﻌﺎرﺿﺔ اﻹرادة ﻟﻠﻨﺰوع. إن ﻫﺬا اﻟﻔﺮع ﻳﺮﻳﺪ اﺳﺘﻴﻌﺎب اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ ﻓﻲ إﻃﺎر اﻟﺮوﺣﻴﺔ ا@ﻴﺘﺎﻓﻴﺰﻳﻘﻴﺔ. وﻗﺪ رأﻳﻨﺎ ﻧﺴﻖ اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺒﺪأ ﻣﻦ ا@ﺎدة ﻷﻧﻬﺎ ا@ﻔﻬﻮم اﻟﺒﺴﻴﻂ وﻳﺘﺪرج ﻣﻨﻬﺎ إﻟﻰ اﻷﻛﺜﺮﺗﻌﻘﻴﺪا2 إﻟﻰ اﻴﺎة. أﻣﺎ ﻫﺬا اﻟﻔﺮع ﻓﻴﺮﻳﺪ اﻟﻌﻜﺲ2 اﻟـﺒـﺪء ﻣـﻦ ا@ـﻌـﻘـﺪ ﻟﻴﺼﻞ إﻟﻰ اﻟﺒﺴﻴﻂ2 ﻷن ا@ﻌﻘﺪ ﻳﺤﺘﻮي اﻟﺒﺴﻴﻂ ﻓﻴﺒﺪأ ﻣﻦ اﻟﺮوح واﻟﻮﺟـﺪان ﻟﻴـﺼـﻞ إﻟـﻰ اـﻴـﺎة2 وأﺧـﻴـﺮا ا@ـﺎدة2 وﻳـﺮون ا@ـﺎدة ﻗـﺎﺻـﺮة ﻏـﻴـﺮ ﻗـﺎدرة ﻋـﻠـﻰ اﻻﺳﺘﻘﻼل أو اﻻﺳﺘﻤﺮار ﻣﻦ دون اﻟﺮوح.
(232)
[قوانين عقلنا]
 يهدف بوترو Boutroux إلى إثبات أن الضرورة العقلية لا تتحقق في الأشياء كما يزعم الحتميون الميكانيكيون، وأن قوانين العلم مجرد مناهج للملاءمة بين الأشياء وعقولنا، إنها تعبر عن طريقتنا في النظر إلى الأشياء. (233)
كان أوغست كورنو (1801ـ 1877) يحرص على تأكيد أن العلم من دون فلسفة أعمى، كما أن الفلسفة من دون علم جوفاء. (233)
ميرلوبونتي
المنهج الفينومينولوجي الذي نما وتطور خلال القرن العشرين، مع كثيرين نذكر منهم موريس ميرلوبونتي (1908ـ 1961)، يعني تركيزاً خاصاً على الظاهرة، أي ما يظهر أمام الوعي. إنه يبدأ من الواقعة الأولية المعطاة للوعي والمدرَكة حدساً، فنكون بإزاء "الإحالة" إلى الوعي و"قصدية" الوعي، أن إن الوعي يقصد الظاهرة المعنية فيتوجه إليها، إلى شيء آخر سوى ذاته. بالقصدية والإحالة المتبادلة بين الوعي وموضوعه تنهار القسمة المصطنعة بين الذات والموضوع التي ورثناها عن الفلسفة التقليدية والتقابل الشهير فيها بين المثالية والمادية. بالمنهج الفينومينولوجي لا يبقى إلى التجارب الشعورية الحية التي تحمل الطابع الخاص لما هو إنساني، إنها معطيات واقعية. فتظهر الحقيقة بوصفها تياراً من الخبرات، الخبرات باعتبارها أفعالاً خاصةً بالوعي، ومن حيث هي بنيات وتراكيب ولبست مجرد تجارب شخصية. لا بد إذاً من وصف المضامين الخالصة لما هو حاضر في الوعي، في الخبرة أو الشعور، وتأويل الظواهر بيحث تعرض نفسها للتحليل في شكل خالص لتكشف لنا عن الأشياء نفسها، عن الماهيات. ومن ثم يقوم المنهج الفينومينولوجي على تعليق الظاهرة في حد ذاتها أو وضعها بين قوسين، ثم إعادة بنائها عن طريق تحليلها كما هي معطاة للوعي، أي من حيث هي خبرة شعورية مندرجة في تيار الزمان. (235)
ا@ﻨﻄﻖ ﻋﻠﻢ ﻳﺪرس ﻗﻮاﻧ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻷﺳﺎﺳﻴﺔ2 ﺑﺼﺮف  اﻟﻨﻈﺮ ﻋـﻦ ﻣـﺎدة ﻫﺬا اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ أو ﻣﻮﺿﻮﻋﻪ2 ﻓﻬﻮ ﻣﻌﻨﻲ ﺑﺼﺤﺔ اﻻﺳﺘﺪﻻل وﺳﻼﻣﺔ اﻻﻧﺘﻘﺎل ﻣﻦ ا@ﻘﺪﻣﺎت إﻟﻰ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ2 وﻻ ﺷﺄن ﻟﻪ ﺑﺎﻜﻢ ﺑﺎﻧﻄﺒﺎﻗﻬﺎ أو ﻋﺪم اﻧﻄﺒﺎﻗﻬﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻮاﻗﻊ2 إﻧﻪ ﻣﻌﻨﻲ ﺑﺎﻟﺼﺤﺔ وﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﺼـﺪق2 ﻓـﺎﻟـﺼـﺤـﺔ أو اﻟـﺒـﻄـﻼن ﺧـﺎﺻـﺔ ﻟﻼﺳﺘﺪﻻل2 أﻣﺎ اﻟﺼﺪق أو اﻟﻜﺬب ﻓﻤﺠﺮد ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻠﻘﻀﻴـﺔ. (242)
كانط أول من استعمل مصطلح "المنطق الصوري" (242)
كانت نشأة المنطق مع الإغريق في سياق النزعة العقلانية الوليدة. وارتبط بجهودهم في تأسيس الهندسة كمبحث أكسيوماتيكي، أي نسق استنباطي يستند إلى بدهيات. (242)
إن أرسطو لم يعرف مصطلح "المنطق"، وضع بحوثه المنطقية تحت عنوان "التحليلات" وأسماها تلامذته "الأورغانون"، أي الأداة أو آلة التفكير. وكان الإسكندر الأفروديسي في القرن الثاني الميلادي أول من استخدم مصطلح "logic" المشتق من اللفظة الإغريقية الشهيرة "لوغوس" ذات المعنى المزدوج: الكلمة/ العقل. (243)
قسّم الإسلاميون المنطق إلى التصوّر والتصديق: التصور هو إدراك جزئية أو مفردة، إنه بحث يتناول الألفاظ والتعريفات والحدود والكليات الخمس،       
الكليات الخمس: الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض العام، وعن طريقها يتم التعريف المنطقي للحدود.
وكان مناط إضافةٍ وإبداع ملحوظ عند العرب. أما التصديق فهو إدراك العلاقة بين التصورات بحيث يمكن وصف هذه التصورات بالسلب والإيجاب. بالنفي والإثبات. ومبحث التصديق يضم موضوعين هما القضايا والاستدلال. ميز العرب بين ثلاثة سبل للاستدلال، وهي القياس والاستقراء والتمثيل. الشكلان الأولان مرّا علينا فيما سبق، واتضح أن القياس هو الانتقال من الكليات إلى الجزئيات التي تلزم عنها، والاستقراء هو الانتقال من الجزئيات إلى الكلّي أو الحكم على الكلّي لثبوته في الجزئيات، أما التمثيل فهو الانتقال من جزئية إلى جزئيةٍ أخرى تماثلها. (244)
هيمنت الروح التجريبية [الاستقراء] بوصفها روح العصر ومنهج البحث، وتراجع المنطق إلى زوايا الإهمال والجمود لما يقرب من خمسمائة عام. حتى كانت الانبثاقة الكبرى للمنطق الحديث في منتصف القرن التاسع عشر. (245)
يسهب فون رايت في إيضاح أن المنطق الحديث جاء في منتصف القرن التاسع عشر نتيجةً لنشأة الرياضيات البحتة من جانب، وتطور الرياضيات التطبيقية كأداة للعلم من جانبٍ آخر، مما جعل السؤال عن الفحص النقدي لأصول الرياضيات والأسس التي تستند إليها سؤالاً ملحاً. ومن خلال الجهود المبذولة للإجابة عن هذا السؤال كانت نشأة ونماء المنطق الرياضي الحديث. وعلى هذا نستطيع أن نربط تماماً بينه وبين فلسفة العلم. أجل، كانت نشأة المنطق الرياضي الحديث مساوقةً تماماً لنشأة فلسفة العلم.(245)
[عمل البعض] على تطبيق الأدوات الرياضية على المنطق التقليدي، أي رد المنطق إلى الرياضيات، حتى خرج من بين أيديهم منطق رمزي أرومته من الرياضيات. (249)
وكما أوضحنا، انطلقت هذه الجهود بصفة مبدئية من هاجس الفحص النقدي لأصول الرياضيات. التقت معها جهود أخرى سلكت الطريق المخالف لتصل إلى المقصد نفسه، وبدلاً من رد المنطق إلى الرياضة حاولاوا العكس أي رد الرياضيات إلى المنطق، بغية تأمين أصولها. إنه الطريق الذي شقه فريجه وواصله وايتهد وراسل حتى أخرجا كتابهما الفذ "برنكبيا ماتيماتيكا" أي أصول الرياضيات الذي يفصح عن الخاصة التحليلية للرياضيات، وعن أن المنطق صبا الرياضيات والرياضيات رجولة المنطق. (249)
انطوى ترميز المنطق على قفزة عقلية هائلة طرحت إمكانات إيبستيمولوجية أبعد، بحيث يمكن أن نماثلها بالقفزة التي حدثت ممهدة لنشأة العلم الحديث من جراء استخدام رموز الأرقام الهندية ـ العربية بدلاً من الأرقام الرومانية القاصرة العقيمة، التي استمرت في أوروبا حتى القرن الثالث عشر أو بالتحديد العام 1202، عام عودة ليوناردو فيبوناسي إلى بيزا لينشر شروحاً للأرقام التي تعلمها من العرب. يكفي أن نقارن مثلاً العدد 988 في صورته العربية، وبين صورته بالأرقام الرومانية هكذا: DCCCCLXXXVIII أو بين إمكان إجراء عملية حسابية بسيطة مثل (113*8) بصورتها لعربية وبين إجرائها في الصورة الرومانية VIII*CXIII، حيث تحتاج إلى جهد خارق وعقيم. (251)

كان فتجنشتين نموذجاً لفئة المنطقي/ الفيلسوف، بل هو حادّ في الاتسام بالسمة المنطقية. الفلسفة في عرفه إما هي منطقية وإما أنها لا شيء وقول فارغ يخلو من المعنى، بل الجدوى. (255)
أوضحت "الرسالة المنطقية الفلسفية" [لفتغنشتين] أن المنطق ما هو إلا صورةً للفكر كما يتمثل في اللغة، إذاً فالمنطق ما هو إلا صورةٌ للغة، وكل ما يمكن التفكير فيه يمكن التعبير عنه بوضوح. يقول فتغنشتين: "تهدف الفلسفة إلى التوضيح المنطقي للأفكار. وليست الفلسفة علماً إنما هي نشاط. حصيلة الفلسفة ليست عبارات فلسفية وإنما توضيح للعبارات، يجب أن تعمل الفلسفة على توضيح الأفكار وتحديدها تحديداً قاطعاً، وإلا ظلت تلك الأفكار مبهمة وغامضة".
هكذا يؤكد على أن الفلسفة مجرد نشاط مهني لتوضيح الأفكار، وذلك عن طريق التحليل المنطقي للعبارات التي تصاغ فيها الأفكار وردها إلى عناصرها الأبسط، فتزداد وضوحاً ونتأكد من مطابقتها للواقع التجريبي وإلا اعتبرناها لغواً. رأى فتغنشتين أن معظم المشكلات الميتافيزيقية والفلسفية الكبرى، إذا خضعت لمجهر التحليل اتضح أنها تحيّر العقول لأنها بلا معنى وليست مشكلات على الإطلاق! الفلسفة بهذا المنظور التحليلي لا تحمل معرفة ولا تضيف جديداً، بل هي توضيح للأفكار ومعركة ضد البلبال الذي يحدث في عقولنا نتيجة سوء استخدام اللغة، معركةٌ سلاحُها المنطق الرياضي. (256)
لا يعرف المنطق الأرسطي التقليدي إلا قيمتيّ الصدق والكذب، القضية إما صادقة وإماكاذبة والقيمة الثالثة ممتنعة. أما المنطق الرياضي الحديث فلا بد أن يعمل بقيم متعددة، فهو تحليلي يرد القضية إلى مكوناتها، كل مكوّن صادق أو كاذب، أما القضية في حد ذاتها فقد لا يمكن الحكم عليها بهذا أو ذاك. إذاً ظهرت قيمة ثالثة، فضلاً عن القيم المتعددة لحساب الاحتمالات بين قيمتي الصدق والكذب. لا ينفصل هذا عن بعث وإحياء منطق الجهة، أي الحكم على القضية من جهة الضرورة أو الإمكان أو الامتناع. وهذا مبحث عني به أرسطو والمناطقة العرب خصوصاً الفارابي وابن رشد، ثم أهمله جورج بول وفريجه.
منذ أرسطو وحتى يومنا هذا، المنطق جزء لا يتجزأ من دراسة الفلسفة، وهو الجزء الأهم، سار المنطق التقليدي في سياق مختلف عن الرياضيات، أما المنطق الحديث فيحتل مكانته في أقسام الفلسفة وأقسام الرياضيات على السواء بمختلف الجامعات في شتى أنحاء العالم. (260)
"لمّا انتهيت من آخر امتحاناتي في الرياضيات عند نهاية سنتي الثالثة في كامبريدج، أقسمت ألا أنظر بعدها إلى الرياضيات وبعتُ كل كتبي الرياضية، وفي هذه الحالة النفسية والعقلية واجهتني الفلسفة بكل البهجة التي يبتهج بها الهارب من نفقٍ إلى وادٍ مزدهر فسيح" (261)
تأثير المنطق كقوّة جذب للعقول النابهة من رحاب الرياضيات إلى رحاب الفلسفة لا يقتصر على طبقة وايتهد وراسل وفتنجنشتين، بل حدث كثيراً حتى كان مألوفاً في ألمانيا، ـ كما يخبرنا فون رايت ـ أن يهجر الطلبة النابهون أقسام الرياضة ذاهبين إلى الفلسفة بفعل سحر المنطق. (262)
وفيما بعد خفّ هذا كثيراً.
ومن قبل ومن بعد، فإن المنطق الرياضي نهض على أكتافه عملاق القرن العشرين والقرون التالية [؟] ـ أي الكومبيوتر ـ في برمجياته أو جانبه المرن soft ware وفي عتاده أو جانبه الصلب hard ware على السواء.
وإذ يودعنا القرن العشرون، يبدو المنطق ـ كما يلاحظ فون رايت ـ وكأنه يلحق بمصير مباحث عدّة ـ بدءاً من الفيزياء ووصولاً إلى علم النفس ـ تنفصل عن الفلسفة وتصبح علوماً مستقلة. فلم يعد المنطق الآن مرتبطاً بالفلسفة كما كان طوال تاريخه، وبعد تطوراته المتتالية أصبح علماً مستقلاً ووثيق الصلة بالرياضيات وبعلوم أخرى استحدثت على مسرح القرن العشرين مثل علوم الكومبيوتر والدراسات المعرفية والسيبرناتيكا واللغويات العامة، وجميعها أصبحت مباحث تنحدر بشدة تجاه الرياضيات، إلا أن فون رايت يقول: "إن الفلسفة تزدهر في غسق الغموض، وستظل ثمّة جوانب غامضة في المنطق في حاجةٍ إلى جهود الفلاسفة، فلن ينفصل عن الفلسفة أبدً. وسيظل الفلاسفة يجدون في المنطق نسيجاً لأثوابٍ ميتافيزيقية قشيبة. ولكن لا أعتقد أن المنطق سوف يلعب مرةً أخرى دوراً جسيماً وهائلاً كهذا الذي لعبه في فلسفة القرن العشرين. فقد كان القرن العشرون العصر الذهبي للمنطق. (263)

برتراند راسل:
من العوامل التي جعلت القرن العشرين عصراً ذهبياً للمنطق أن شهد هذا القرنُ برتراند راسل (1872ـ 1970) الذي رأيناه عملاق الفلسفة وعملاق الرياضيات على السواء، فأينعت الثمار في المعامل الذي أضحى مشتركاً بينهما وهو المنطق. وقدّم لنا راسل فلسفةً عليمة بلغت الذروة في تسلحها بالمنطق الرياضي. والواقع أن راسل على وجه التحديد هو الذي علّم فلسفة القرن العشرين كيف يمكن أن تصبح التجريبية منطقية. (263)
ظلت رسالته الراسخة التي يصر عليها إصراراً أن تكون الفلسفة علميةً تصغي باهتمام لشهادات العلم. وتستفيد من مناهجه التجريبية والصورية معاً، وتتحلى بطبائعه. من هنا كان أكثر العقول تجريداً وتجسيداً لروح القرن العشرين، بآلام مخاضه ثم تطورات نمائه الثورية. (264)
.. الرسالة التي حملها باقتدار وامتياز وأجاد إبلاغها للقرن العشرين، وهي أن تكون الفلسفة علميةً، ومن أجل هذا لا بد أن تصبح التجريبية منطقيةً. (265)
انكبّ راسل على أعمال ليبنتز واكتشف أن أساس الميتافيزيقا المثالية الواحدية هو المنطق الأرسطي الحملي، منطق الجواهر وأعراضه الذي يعجز عن التعبير عن العلاقات الخارجية، أي علاقة تتحول إلى محمول يحصل على الموضوع فتغدو كيفية مباطنة للموضوع محايثةً فيه، من هنا كانت العلاقات داخلية والجوهر واحداً حاوياً للكل. هكذا كان المنطق الأرسطي وراء الخديعة المثالية بتصور العالم ككل، واحدي وإنكار المادة والتعددية والعلاقات الخارجية. أدرك راسل ضرورة الإطاحة به تماماً والأخذ بالمنطق الرياضي النامي حديثاً، وهو الذي علم أهمية العلاقات في الرياضة وفي الفلسفة على السواء.. (268)
كان المنطق هو الذي رسم لراسل العالم الواقعي المفرط في واقعيته حتى امتدت إلى فلسفته للرياضيات، فجعل كياناتها واقعية. عبّر راسل عن هذا بقصة طريفة تدور حول حلم تراءى لعالم رياضيات، لم تكن الأرقام فيه مجموعات جامدة كما كان يظنها من قبل، بل كائنات تنبض بالحياة، الأعداد الفردية مذكرة والزوجية مؤنثة، كلها تتراقص وتنشد:
"نحن الأعداد المتناهية... خامة هذا الكون.
تفعل الفوضى ما شاءا.. ونحن نحيل الأرض بسيطة.
ونبجل أستاذنا فيثاغورث... ونعِمنا بتكريم الخالد أفلاطون
نكره الحمقى والأفّاقين.. ويعرف كل الناس أنّا نبع الحكمة".
وتسير أحداث القصة بحيث يندفع في النهاية جيش الأعداد العرمرم صوب أستاذ الرياضة في ثورة عارمة، ويستبد به الرعب هنيهة، ما لبث بعدها أن تمالك نفسه وصاح بصوتٍ جهوري: ابتعدوا عني فما أنتم صوى رموز ملائمة. ثم استيقظ من نومه في إشارة إلى انقلابة راسل بعد ذلك على هذه الواقعية المفرطة. (270)
أخذ راسل عن وايتهد أن العالم مكوّن من أحداث، وبتطبيق تلك الأدوات المنطقية عليها أصبحت الأحداث محايدةً لا هي عقل ولا هي مادة، بل شيءٌ مختلف عن كليهما وأسبق منهما. إنها نظرة واحدية محايدة تقضي على الثنائية الديكارتية ثنائية العقل والمادة، وتختلف عن الواحدية المثالية التي تقر بجوهرية العقل فقط، وبالقدر نفسه تختلف عن الواحدية المادية التي تقر بجوهرية المادة فقط والتي اقترنت بالفيزياء الكلاسيكية. (271)
قام ماخ في كتابه "تحليل الإحساس" بتحليل الأشياء الفيزيقية إلى عناصر أسماها الإحساسات ما دمنا نكتشفها من الخبرة الحسية، وليست الإحساسات علامات على الأشياء بل الشيء هو الذي يعد رمزاً فكرياً لإحساسات ذات ثبات نسبي. والإحساسات ليست ذهنية ولا هي فيزيقية. إنهامحايدة وتشكل النسيج الذي يتألف منه العالم. وهذا الذي بلغه ماخ من خلال الفيزياء بلغه وليم جيمس من خلال علم النفس. فمن أجل تجريبيته الجذرية أراد جيمس الوصول إلى تصور للعالم لا يسمح بدخول أي عنصر غير تجريبي لا يقع في الخبرة، وبهذا تغدو الخبرة الخالصة هي الخامة الواحدة والوحيدة التي يتركب منها كل شيء في العالم، عقلي أو مادي. وهي مختلفة عن كليهما.
إحساسات ماخ أو خبرات جيمس أو أحداث راسل، خامة واحدة لا هي عقل ولا هي مادة بل محايدة بينهما، ويتشكل كلاهما منها، تلك هي الواحدية المحايدة، فلسفة العالم التعددي تعددية حداثه البالغة الكثرة والتي تمثل أساساً أنطولوجياً ملائماً للعلم التجريبي. (272)
يسير راسل في الاتجاه العام لفلسفة العلم في القرن العشرين ويعتبر الفيزياء أخطر العلوم وأهمها والبوصلة الموجهة للعقل العلمي ومحور فلسفة العلم.
الواقع أن النظرية النسبية هي التي جعلت راسل يقلع تماماً عن أي ثنائية للعقل والمادة ويأخذ بالتصور الواحدي المحايد للعالم. (273)
الجسم سلاسل من الحوادث. الجسم هو تاريخه وليس كياناً ميتافيزيقياً يحمل تلك الحوادث، تماماً كما أن العقل هو تاريخ سلاسل أحداث وليس كياناً ميتافيزيقياً. الكوانتم أيضاً تملي علينا هذا، فقد ارتدت الذرة إلى إشعاعات، إلى سلاسل من الأحداث، ولا سكون البتّة في قلب الذرّة، ولا وجود للشيء أو الجوهر المادي. ولعل المخّ أبعد منا عن المادة لأننا أكثر جهلاً به، وكل ما يعرفه عالم الفيزيولوجيا عن المخ ما هو إلا نتاج سلاسل أحداث محايدة، تكاتفت لتشييده أربعة علوم هي المنطق الرياضي والفيزياء، وعلم النفس والفيزيولوجيا. وكان انعكاساً لكشف العلم عن الطبيعة الذرية لكل شيء. وقد وجد صياغته الدقيقة العام 1918 في مذهب الذرية المنطقية الذي يعتز به راسل كثيراً، فيؤكد دائماً أنه لا يرتبط إلا ببطاقة فلسفية واحدة هي أنه ذري منطقي، عالم الأحداث المتكثر يتشكل في هيئة وقائع ترتبط بعلاقات، الواقعة هي شيء معيّن له كيفية معيّنة، أو أشياء معيّنة ترتبط بعلاقات معيّنة. الواقعة ترسمها القضية الذرية التي تعبر عن الشيء الواحد في نقطة معيّنة من المكان ولحظةٍ معيّنة من الزمان. أما إذا ارتبطت واقعتان أو أكثر فإن القضية التي تسميهما هي القضية الجزيئية. ويعترف راسل بأنه يدين في هذا المذهب كثيراً لتلميذه وصديقه فتجنشتين. فهو مذهب مشترك بينهما، طوّره كل منهما تطويراً خاصاً به بدا عند فتجنشتين أكثر تطرفاً (273، 274)

نحن لا نعلم شيئاً عن العالم إلا استدلالاً مما يقع في خبرتنا، فلا نستطيع القول إن العالم المادي خارج رؤوسنا يختلف أو لا يختلف عن  العالم العقلي داخلها، لأنه لا عالمين أصلاً، بل مجاميع أحداث ترتبط بروابط علّية مختلفة. يعقّب راسل على هذا وتأثيره في التجريبيين الخلّص بقوله:"قد أفزعت الفلاسفة بقولي إن أفكارهم في رؤوسهم، وراحوا يؤكدون في صوت واحد أن رؤوسهم ليس فيها أفكار قط. لكن الأدب يمنعني من قبول هذه القضية".
إننا إزاء ما يمكن وصفه ابتجريبية المثالية. وكان المنطق هو القادر على تطعيم التجريبية بعنصر مثالي، يحد من غلوّها الاستقرائي وتطرفها المغرور، ما دام المنطق في أصله علم قوانين الفكر. والرائع حقاً أن تطورات العلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين تبارك هذه التجريبية المثالية، من حيث تجعل الفرض قبل الملاحظة، والعقل قبل الواقع. (275)

تمسك راسل بالمنهج الفرضي الاستنباطي الذي يبدأ بفرض ثم نستنبط منه جزئيات تكون محل الاختبار التجريبي. (276)
أكد جورج إدوار مور (1873ـ 1958) أن الفلاسفة لو حاولوا اكتشاف المعنى الحقيقي للأسئلة التي يطرحونها ـ عن طريق تحليلها ـ قبل أن يشرعوا في الإجابة عنها، لكانت هذه المحاولة الحاسمة كافية في الغالب لضمان النجاح. وإذا تم هذا فسوف تختفي معظمالمشاكل الخادعة والخلافات الفلسفية. فغموض المعنىهو مصدر الاضطراب في البحث الفلسفي. ويتألف التحليل عند مور من ترجمة العبارة الغامضة المراد تحليلها، إلى عبارة أخرى مرادفة لها وأوضح منها، أي أقل إثارة للحيرة. إن التحليل عند مور يتعلق بشكل أو بآخر بالتعريف. أما راسل فقد رأى أن التحلل هو ترجمة العبارة مالصوغة في اللغة العادية إلى صيغ منطقية، وذلك لأن الصيغ النحوية مضللة يمكن أن نصب فيها أي شيء بغير معنى، وما هكذا المنطق. إذاً هناك اختلاف بينهما، مور يبغي الأوضح باللغة وراسل يريد الأدق بالمنطق. وثمة أيضاً اختلاف في الهدف، فبينما يهدف جهار راسل المنطقي إلى حل مشاكل فلسفية وميتافيزيقية فإن الحليل اللغة اليومية عند مور يهدف إلى إثبات وجهة نظر الذوق الفطري أو الحس المشترك. على هذا كان تحليل مور منصباً على اللغة، وتحليل راسل منصباً على المنطق. أما تحليل الرائد الثالث فتجنشتين فهو منصب على منطق اللغة، هكذا خلق هؤلاء الرواد الثلاثة التيار التحليلي الذي هو أقوى تشغيل واستثمار للمنطق الرياضي في فلسفة القرن العشرين في فلسفة للغة. (277)
في إصرارٍ على الانفراد بفلسفة العلم التي ينبغي أن تكون ينبغي أن تكون الفلسفة برمّتها، اتخذت الوضعية المنطقية اسم "التجريبية المنطقية" بـ "أل" التعريف، وكأن ما سواها من فلسفات للعلم لن تكون هكذا! اتخذت أيضاً أسماء أخرى مثل التجريبية العلمية والتجريبية المتسقة والوضعية الحديثة .. ولكن شاع اسم "الوضعية المنطقية" الذي صاغه بلومبرج وفيجل العام 1931. والواقع أن الاسم الأصلي لهذه المدرسة هو "دائرة فيينا". (282)
في العام 1895 قررت جامعة فيينا لأول مرة إيجاد كرسي لفلسفة العلوم التجريبية لتنمية وصقل هذا الفرع الفلسفة المهم النامي حديثاً، وكانوا يفضلون أن يشغله عالم طبيعي ذو ميول فلسفية قوية. أول من شغله إرنست ماخ. (282)
[بالنسبة للوضعية المنطقية] الفلسفة توضح ولا تضيف، إنها كما قال فتغنشتين علم البحث عن المعنى، معنى العبارات العلمية. بعض المصطلحات العلمية قد يكتنفها من اللبس والغموض ما يستطيع التحليل المنطقي أن يجلوَه، ومن ناحيةٍ ثانية قد تكون مقولة علمية مترتبة على أخرى أو متضمنة فيها أو متناقضة مع نفسها أو مع أخرى تم التسليم بها.. والتحليل المنطقي للعلم يتكفل بكل هذا ونكشف عنه. (285)
لكي يستطيع الوضعيون المنطقيون أن يعلمنوا الفلسفة.. ارتكزوا على حجة منطقية هي أن القضية إما تحليلية وإما تركيبية. فقد كانت الرياضيات عقبة كؤوداً في وجه التجريبيين، ما دام العقل الرياضي يستقل بنفسه عن التجربة ليصل إلى القضايا الرياضية الضرورية الصدق ذات اليقين المطلق. فكيف نفضل على هذا المنهج العقلي الخالص المستل عن التجربة ـ منهج الرياضة الذي تقتفيه الميتافيزيقا ـ منهجاً آخر يعتمد على التجربة، فتجيء نتائجه احتمالية؟! ولم يكن التجريبيون جميعاً بجرأة جون ستوارت مل وصلابته التجريبية كي يزعموا معه أن الرياضة أيضاً تستند إلى تعميماتٍ تجريبية. ربما كانت هذه العقبة الرياضية هي التي منعت التجريبيين خمسة وعشرين قرناً ـ هي عمر الفلسفة ـ من اتخاذ موقف شديد التطرف كموقف دائرة فيينا.
حتى كان كتاب "برنكبيا ماتيماتيكا" [لبرتراند راسل] والمدرسة المنطقية في أصول الرياضيات التي أثبتت أنها امتداد للمنطق ومثلُه تحصيل لحاصل لا تحمل خبراً جديداً عن الواقع. ثم أكدت رسالة فتغنشتين أن الصورة المنطقية للقضية الرياضية هي: أ هي أ، بينما تتخذ قضايا العلوم الطبيعية الإخبارية الصورة المنطقية: أ هي ب. من هذا المنطلق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات أو الجمل أو سائر ما يتمثل في الصور النحوية إلى فئتين هما:
1ـ العبارات ذات المعنى: وهي إما العبارات التحليلية، أي قضايا العلوم الصورية (المنطق والرياضة) وإما القضايا التركيبية التجريبية (قضايا العلوم الطبيعية الإخبارية).
2ـ العبارات الخالية من المعنى، وهي كل ما يخرج عن النوعين السابقين، وخصوصاً قضايا الميتافيزيقا. إن الوضعية المنطقية تطابق بين المعنى والعلم. وحيث لا علم لا معنى!!
ولكي يكون الحديث ذا معنى، لا بد أن يقتصر على نوعين من القضايا لا ثالث لهما. هما نوعا العبارة العلمية: القضايا التحليلية، والقضايا التركيبية.  (286)
القضية التحليلية هي قضايا العلوم الصورية حيث تنحصر قيمة القيمة داخل ذاتها، فهي تحصيل حاصل تكرارية، تكرر في الشق الثاني أي التالي عين ما قيل في الشق الأول أي المقدم، ليس لها محتوى معرفي أو مضمون إخباري عن الواقع، نصل إليها استنباطاً، ونعرف صدقها أو كذبها فقط بتحليلها تحليلاً منطقياً لغوياً، فإذا أوضح التحليل أن الشق الأول هو عينه الشق الثاني مثلاً: "الأرملة امرأة مات زوجُها" أو "للمربع أربعة أضلاع" كانت صادقة. لأن القضية التحليلية مجرد إثباتٍ للهوية.
.. أما القضايا التركيبية فهي قضايا العلوم الطبيعية وشتى المباحث التجريبية، التي تنقل خبراً عن العالم الواقع من حولنا.. إنها عرضية احتمالية يستحيل أن تكون ضرورية. والخلاصة أن القضايا التركيبية تجريبية استقرائية احتمالية عرَضية محك الصدق فيها هو خبرة الحواس.
هذان هما نوعا القضايا ذوات المعنى.
وعلى هذا الأساس يسهل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي لدائرة فيينا وهو إثبات أن الميتافيزيقا لغوٌ مادامت قضاياها لا هي تحليلية ولا هي تركيبية بذلك التحديد المنطقي الدقيق.
أجل، اتخذت النزعة الوضعية منذ أن شق بيكون طريقها موقف الرفض للميتافيزيقا وسبق أن رأينا ديفيد هيوم يدعو إلى إلقاء كتب الميتافيزيقا في النار، وهو في الواقع يعد أبهاهم الشرعي ورائداً لهم. إلا أن هذا الموقف قد تكاثف في فلسفة الوضعية المنطقية إلى درجةٍ رهيبة جعلت الهجوم على الميتافيزيقا هيكل فلسفتهم ومضمونها وغايتها. لقد حملوا تجريبية النزعة الاستقرائية في القرن التاسع عشر التي عززتها الفيزياء الكلاسيكية التجريبية المباشرة، ثم فاجأهم القرن العشرون بكارثة الأثير المطلق التي تصدع لها عرش الفيزياء الكلاسيكية، وكما أشار بريدجمان رأى الوضعيون المنطقيون أن الكارثة التي سببها الأثير راجعة إلى أنه مفهوم ميتافيزيقي لم يختبر تجريبياً بما يكفي وبالمثل تماماً مفهوم المطلق. من هنا أخذ الوضعيون المنطقيون على عاتقهم تأمين العلم من أمثال هذه الكوارث والأزمات التي لحقت بالفيزياء الكلاسيكية، عن طريق الحيلولة دون أي اختراق ميتافيزيقي للعلم مرة أخرى، أو أن يتسلل إليه مفهوم ليس تجريبياً بما يكفي. وإذ هم مضطلعون بهذه المهمة كانت فيزياء القرن العشرين توالي السير قدماً نحوم مزيد من الاقتراب من الرياضي والعقلي والمجرد ومزيد من الابتعاد عن العيني الشيئي المحسوس مباشرة، لتزداد مهمة الوضعيين المنطقيين صعوبة وتأزماً، وتزداد حساسيتُهم تجاه الميتافيزيقا وضراوة حروبهم المنطقية عليها. (287)
ماخ
يعدّ ماخ رائداً للأداتية وفي الوقت نفسه را>اً للوضعية المنطقية. إنه وضعيٌّ متطرف في فلسفته التي ترتكز على رد كل شيء إلى الإحساسات حتى إنه يرفض الصعود من الإحساسات إلى أي دلالة إخبارية للعبارات العلمية. من هنا رأى ماخ في النظرية العلمية محض أداة نافعة وإجراءٍ مفيد ليس أكثر، والقوانين العلمية مجرد وصف للعالم التجريبي وليست تفسيراً له، وصف لعلاقات بين الظواهر قابلة للملاحظة ولا مكان في العلم بغير هذا.
.. يقترن اسم بيير دوهيم برفيقه هنري بوانكاره (1854ـ 1912) بوصفهما مؤسسين للأداتية في فلسفة العلم في القرن العشرين في شكل الاصطلاحية. (300)
الأداتية:
الأداتية مثل كل الطروحات الفلسفية الكبرى، يمكن تتبع الأصول إلى مراحل تاريخية أسبق وتصل بنا الخطوة الأولى من نسق العلم الحديث في القرن السادس عشر، حين كتب اللاهوتي أوسياندر مقدمة لكتاب كوبرنيكوس (1473ـ 1543) "دوران الأجرام السماوية" كان يعبر عن هذا الموقف الأداتي، إذ يقول إن الفلكي يبدع فروضاً يمكن بواسطتها وطبقاً لمبادئ الهندسة أن نحسب بدقة حركة الأجرام السماوية، وليس من الضروري أن تكون هذه الفروض صادقة في الواقع، شيء واحد يكفي هو أن تمدنا بحسابات مطابقة للملاحظة. معنى هذا أن نظرية كوبرنيكوس ليس وصفاً صادقاً أو كاذباً للعالم بل مجرد "جهاز حسابي يسمح بربط مجموعة من مواقع الكواكب القابلة للملاحظة بمجموعة أخلى مماثلة. والحسابات تكون أيسر وأسهل إذا عوملت منظومة الكواكب وكأن الشمس تشغل مركزها".
وأمل أوسياندر أن ينجح هذا التفسير الأداتي في تمرير النظرية أمام رجال الدين، ما دامت مجرد أداة وليست خبراً عن الواقع يناقض أو يطابق ما هو مذكور في الكتب المقدسة. ثم تبناها بيير غاسندي وأعلنها نظرية للعالم في كتاب عام 1658. (302)
أما عن الأصول الفلسفية الصريحة، فقد أسهب كارل بوبر في أيضاح أن مؤسس الاتجاه الأداتي في فلسفة العلم هو الأسقف جورج باركلي، الذي رأيناه في "حوار الفلسفة والعلم الحديث" بالفصل الثالث من أعلام التجريبية الإنجليزية في القرن الثامن عشر، رهن الوجود بالإدراك الحسي له، ورأى أن النظريات العلمية كنظريات كوبرنيكوس وكبلر وغاليليو ونيوتن مجرد أدوات للحساب والتنبؤ بشأن الظواهر وشيكة الحدوث. إنها لا تصف العالم ولا أي جانب من جوانبه، ولا يمكنها أن تفعل هذا لأنها ببساطة خالية من المعنى، المصطلحات الواردة فيها من قبيل القوة والتثاقل والجذب والقصور لا معنى لها من حيث إنها لا تشير إلى وقائع مدركة أو ملاحظات حسية أو ظواهر طبيعية، بل تصف خصائص غير مرئية لعالم غير مرئي، إنها مفاهيم خفية غامضة، وبالتالي فإن نظرية نيوتن لا تعني شيئاً، وليست تفسيراً للعالم، بل هي ببساطة وهم رياضي وحيلة رياضية، لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبرة بل فقط مفيدة أو غير مفيدة. (303)
وفي أعقاب باركلي جاء شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط بنظريته في المعرفة التي تجعل العقل مزوّداً بمقولات معيّنة تنصب في إطارها المعطيات الحسية فتتشكل المعرفة. وهذا يعني: العقل هو الذي يفرض مقولاته وتصوراته على الطبيعة وليست الطبيعة هي التي تفرض صورتها على العقل، كما توحي النزعة الاتسقرائية التي تمثل التجريبية المتطرفة والمادية الخالصة.
ﻫﺪﻓﺖ ﺣﺮﻛﺔ ﻧﻘﺪ اﻟﻌﻠﻢ إﻟﻰ ﺠﻴﻢ اﺘﻤﻴﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻧﺘﺼﺎرا ﺮﻳﺔ اﻹﻧﺴﺎن. وﻛﺎﻧﺖ وﺳﻴﻠﺘﻬﻢ إﻟﻰ ﻫﺬا ﻫﻲ اﻟﺰﻋﻢ أن اﺘﻤـﻴـﺔ اﻟـﻌـﻠـﻤـﻴـﺔ ﻣﺠﺮد أداة إﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ ﻟﺘﻨﻈﻴﻢ المعرفة العلمية والمشروع العلمي، ولا ﺗﻨﻄﻮي اﻟﺒﺘﺔ ﻋﻠﻰ أي ﺗﺼﻮر ﻟﻠﻮﺟﻮد أو ﺧﺒﺮ أﻧﻄﻮﻟـﻮﺟـﻲ ﺑـﺸـﺄن اﻟـﻮاﻗـﻊ. وﻧﺬﻛﺮ ﻋﻠﻰ وﺟﻪ اﺼﻮص إﻣﻴﻞ ﺑﻮﺗﺮو ورﺳﺎﻟﺘﻪ »إﻣﻜﺎن قوانين اﻟﻄﺒﻴﻌـﺔ ـــ  1874 اﻟﺘﻲ ﺗﺆﻛﺪ أن اﺘﻤﻴﺔ واﻟﻀﺮورة ﻓﻜﺮة ﻋﻘﻠﻴﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ ﻻ ﺗﻮﺟﺪ إﻻ ﻓﻲ اﻷﻧﺴﺎق المنطقية والرياضية، وﻳﺤﺎول اﻟﻌﻘﻞ أن ﻳﻔﺮﺿﻬﺎ ﻗﺴﺮا ﻋﻠﻰ ﺗﺼﻮراﺗﻪ ﻟﻠﻮاﻗﻊ ﻷن ﻫﺬا ﻣﻔﻴﺪ ﻟﻠﺒﺤﺚ اﻟﻌﻠﻤﻲ، في حين أن الواقع خلو منها ويتسم بالتعددية والتداخل فهو احتمالي، وقوانين الطبيعة ممكنة وليست ضرورية.. الخلاصة أن حركة نقد العلم فسرت الحتمية العلمية تفسيراً أداتياً، ثم واصلت الفلسفة الفرنسية تعميم هذا التفسير على النسق العلمي بأسره.
.. وحين كشفت مبرهنة كورت جودل عن لااكتمال في الإنساق الرياضية، مثلت هي الأخرى سنداً قوياً، فهنالك صياغة غير قابلة للبت ولا يمكن إثباتها ولا إثبات نفيها، إذاً قبولها أو رفضها لن يتم إلا على أساس براغماتي ولاعتبارات المواءمة. (304)
[بين أوهام العلم وأوهام الأسطورة]
وضع فاينجر فلسفة الأوهام، الوهم يعني إهمال الواقع والانفصال عنه، لينصب الاهتمام على تشييد كيانات ذهنية تتصف بخصائص معيّنة. هكذا تشيد النظريات العلمية، بيد أنها أوهامٌ مفيدة وسليمة بخلاف الأوهام الأسطورية الفارغة. وأوضح الأمثلة على أن مفاهيم العلم كيانات وهمية هو اللامتناهي الرياضي سواءٌ في الصغر أو في الكبر، إنه منفصل عن الواقع، وتوهمه العقل ليفتح أمامه آفاقاً أوسع. إن الأبنية العلمية كياناتٌ وهمية ترشد العقل لتحقيق المهام المنوطة بالعلم، حتى إذا أدت دورها زالت وحلت محلها نظرياتٌ أكثر تقدماً، أي أوهامٌ مفيدةٌ أكثر. من هنا كانت الأوهام العلمية مؤقتة ومتطورة، بينما تتحجر الأوهام الأسطورية وتبقى دائماً. (311)
ﻳﺸﺒﻪ [ستيفن تولمان (1922ـ ..)  اﻟﻘﺎﻧﻮن اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺑﺎ ﻳﻄﺔ اـﻐـﺮاﻓـﻴـﺔ اﻟـﺘـﻲ ﺗﻮﺟﻪ اﻟﺴﺎﺋﺮ وﺗﺮﺷﺪه ﻓﻲ اﻟﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ اﻟﻮاﻗﻊ ﻣـﻦ دون اﻟـﺰﻋـﻢ أن اـﺮﻳـﻄـﺔ ﺻﻮرة ﻃﺒﻖ اﻷﺻﻞ ﻣﻦ اﻟﻮاﻗﻊ.

كارل بوبر
وﻛﺎن ﻛﺎرل ﺑﻮﺑﺮ أﻋﻈـﻢ ﻓـﻼﺳـﻔـﺔ اﻟـﻌـﻠـﻢ ﻓـﻲ اﻟـﻘـﺮن اﻟـﻌـﺸـﺮﻳـﻦ وأﻫـﻤـﻬـﻢ وأﺧﻄﺮﻫﻢ ﺗﺄﺛﻴﺮا2 ﻷﻧﻪ ﻛﺎن ﻗﺎدرا ﻋﻠﻰ ﻣﻮاﺟﻬـﺔ ﻛـﻞ ﻫـﺬا2 وإﺣـﺪاث اﻟـﺘـﻄـﻮر اﻮﻫﺮي ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻔﺔ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﺬي ﻳﻔﺘﺢ أﻣﺎﻣﻬﺎ آﻓﺎﻗﺎ ﻣﺴﺘﻘﺒـﻠـﻴـﺔ ﺑـﻼ ﺣـﺪود2 ﻣﺎدام ﻳﻨﺘﻘﻞ ﺑﻬﺎ ﻧﻘﻠﺔ ﺟﺬرﻳﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻖ ﺗﺒﺮﻳﺮ ا@ﻌﺮﻓـﺔ اﻟـﻌـﻠـﻤـﻴـﺔ إﻟـﻰ ﻣـﻨـﻄـﻖ اﻟﻜﺸﻒ اﻟﻌﻠﻤﻲ واﻟﺘﻘﺪم ا@ﻄﺮد.

لاحظ بوبر (1902ـ 1994) أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل، بل كل فلاسفة المعرفة التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى ماخ والوضعيين والأداتيين على السواء، ينظرون إلى المعرفة العلمية بوصفها حقائق مثبتة مؤسَّسة فينشغلون بتبريرها. وصمم بوبر على إحراز الخطوة الأبعد، وأكد أنه على عكسهم جميعاً لا يُعنَى البتّة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود صدقها وصحتها، بل يُعنى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها. فيصوّب الأنظار إلى منطق الكشف العلمي واللحظة الدراماتيكية الكبرى المتمخضة عن الجديد: لحظة التكذيب والتفنيد، في إطارٍ من معالجة منطقية منهجية بالغة الدقة والإحكام، بحيث كانت النظرة البوبرية أقدر من سواها على طرح المعرفة العلمية بوصفها قابلةً للاختبار البينذاتي، أي الموضوعي، كمعرفة ديناميكية متحركة لا ثبات ولا جمود فيها. يرى بوبر أن المعرفة على العموم والمعرفة العلمية على أخص الخصوص بناء صميم طبيعته الصيرورة، التقدم المستمر. (316)
تتفق الأطراف المعنيّة على أن كارل بوبر فيلسوف المنهج العلمي الأول وبغير منازع على هذه الأولوية.
يقول عالم الفلك الإنكليزي سير هيرمان بوندي: "إن العلم ببساطة ليس شيئاً أكثر من منهجه، وليس منهجُه شيئاً أكثر مما قاله بوبر" (317)
إن نظرية بوبر في المنهج العلمي امتدادٌ لنظريته في المعرفة، وكلتاهما تنطلق من أصول بيولوجية أولية منذ أن وجدت الحياة على سطح الأرض، ثم تنمو المعرفة العلمية وتتطور بتطور الحياة والحضارة. والمحصلة أن فلسفة بوبر للمنهج العلمي فلسفة دارونية تطورية. وفي عرضنا الآتي لنظريته في المنهج سوف نفهم حيثيات إصراره على قدرة هذا المنظور التطوري البيولوجي في تفسير النشاط المعرفي على قدرة هذا المنظور التطوري البيولوجي في تفسير النشاط المعرفي والعلم. والجدير ذكره أن بوبر بعد أن تجاوز الثمانين من عمره حاد بشدة في اتجاه الإيبستيمولوجيا التطورية حتى أعلن أن هدف نظرية المعرفة هو البحث عن أوجه التشابه والاختلاف بين معرفة الحيوان ومعرفة الإنسان، بمعنى إنشاء جهاز معرفي مقارن يكون منطلقاً للإيبستيمولوجيا. وقد أثار هذا الحيود تساؤلات حول ما إذا كان بوبر قد هجر الفيزياء إلى البيولوجيا.
وسوف نرى أنه ليس هناك حيود أو هجران، بل نماء عادي جداً لتوجهات فلسفة بوبر. ولما كانت فلسفة العلم في القرن الحادي والعشرين تنتظرها آفاق مستقبلية واسعة في اتجاه البيولوجيا والمنظورات البيولوجية. أدركنا منذ البداية كيف كان بوبر نقطة تحول، ودفع فلسفة العلم إلى آفاق مستقبلية متتالة. (318)
انعكست صياغة بوبر للمنهج العلمي في مجموعةٍ من الآليات والقيم، ترتد نهائياً في صورة مجتمع مفتوح للرأي والرأي الآخر، لكل محاولات حل المشاكل، ليفوز الحل الأقدر والرأي الأرجح فيكون الانتقال بهندسة اجتماعية جزئية من المشكلات إلى حلولها في إطار ديموقراطي، يستلزم التسامح وينقض كل دعاوى الديكتاتورية والانفراد بالرأي والتعصب والتطرف فضلاً عن الإرهاب. ويستحيل معه صب المجتمع داخل الإطار الشمولي الكلي والنسق الموحد، سواءٌ أكان النسق هو الماركسية أم سواها، لأن هذا مجافٍ لمنطق العلم ومنطق الواقع ومنطق التاريخ وإن استحقت الماركسية بالذات نقداً مكثفاً. هذا هو مضمون كتاب بوبر "المجتمع المفتوح وخصومه ـ 1945" في جزأين، حيث تعقب بوبر جذور الاتجاه الشمولي فيما قبل الماركسية والهيغلية حتى أرسطو وأفلاطون، بل وما قبل أفلاطون ليصل في النهاية إلى أقوى نقد وجه للماركسية. وعلى الرغم من أن بوبر، أساساً ودائماً، فيلسوف علم، فإنه حاز شهرته من هذا الكتاب الذي طبق الخافقين، وتوالت طبعاته منذ صدوره حتى الأن، وترجم إلى كثير من اللغات. وبمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي أتى مصداقاً لمضمون "المجتمع المفتوح"، صدرت ترجمته الروسية العام 1992 في خمسين ألف نسخة.
أعقب بوبر "المجتمع المفتوح" بكتابه "عقم النزعة التاريخية: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية ـ 1957" الذي يكاد يكون ملحقاً له لأن بوبر ينقض فيه كل حجج الاتجاه الفلسفي المعتقد في مسارٍ محتوم للتاريخ، يرى وظيفة العلوم الاجتماعية في النبؤ بهذا المسار. [يبدو أن هذه المعلومة ليست دقيقة، تشير المراجع إلى أن كتاب "بؤس التاريخانية" سبق في الصدور كتاب "المجتمع المفتوح بعام واحد، فهو قد صدر عام 1944] (319)
ألحق بوبر بالترجمة الإنكليزية "منطق الكشف العلمي" ملحقاً مطنباً بعنوان "بعد عشرين عاماً" أثبت فيه بضعة مستجدات منها محصلة لقائه بأينشتاين ومحاولات بوبر لكي يقنعه بالعدول عن الإيمان بالحتمية العلمية التي تبخرت. جرى هذا اللقاء العام 1950، حين ذهب بوبر إلى أمريكا تلبيةً لدعوةٍ تلقاها كي يلقي محاضرةً بجامعة هارفارد في ذكرى وليم جيمس.
ما زالت طبعات "منطق الكشف العلمي" تتوالى حتى يومنا هذا، وتُرجِم إلى سبع عشرة لغة منها العربية. كما ترجِمت أربعة كتب أخرى لبوبر إلى اللغة العربية. (323)
ليس بوبر من نمط الفلاسفة الذين يمرون بمراحل فكرية أو تتعرض فلسفاتُهم لتطورات وتعديلات، بل هو ـ على عكس راسل مثلاً ـ ظلت منطلقاتُه وتوجهاته الفلسفية ثابتة راسخة بطريقة غير عادية. ساعد هذا على أن يظل "منطق الكشف العلمي" دائماً مركز فلسفته.
ﺻﺪر ﺑﻌﺪﻫﺎ ﻛﺘﺎﺑﺎن ﺑﺎﻟﻠﻐﺔ اﻷ@ﺎﻧﻴﺔ ﻫﻤﺎ »ﺑﺤﺜﺎ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢ أﻓﻀﻞ ــ ٢٩٩١« و»اﻴﺎة ﺑﺄﺳﺮﻫﺎ ﺣﻠﻮل @ﺸـﺎﻛـﻞ ـــ ٤٩٩١« ﻳـﻀـﻤـﺎن ﻣﻘﺎﻻت ﻓﻠﺴﻔﻴﺔ ﻋﺎﻣﺔ2 ﻛﻼﻫﻤﺎ ﻣﺘﺮﺟﻢ إﻟﻰ اﻹﻠﻴﺰﻳﺔ وأﻳﻀﺎ إﻟﻰ اﻟﻌﺮﺑﻴـﺔ.
كان آخر ما صدر له قبيل رحيله كتاب "أسطورة الإطارـ 1994" وهو دفاع عن العلم وعن العقلانية التنويرية في مواجهة تيارات ما بعد الحداثة. التي تنقض مفاهيم عصر التنوير أو تتجاوزها. وفي هذا يعد بوبر نفسه آخر التنويريين العظام.
ولا مفر من الاعتراف بأنه بهذا المنظور كان أيضاً آخر الاستعماريين العظام. إنه شوفيني الإعجاب بالحضارة الغربية. يراها بما حققته من حرية وفردانية وتقليص للفقر والجهل والمرض أعلى مدّ بلغه الإنسان، والحضارات الأخرى في ناظريه بمنزلة أطفال نفكر ألف مرة قبل إعطائهم أي قدر من الحرية والاستقلال!. (324)
كان بوبر يدرس في جامعة فيينا، فيما بين العامين 1918 و 1928 في مكان وزمان نشأة دائرة فيينا. كان أعضاؤها هم أساتذته وزملاءه، وارتبط بصداقات شخصية حميمة مع بعضٍ منهم، خصوصاً كارناب وفيجل وفيزمان ومنجر وفيكتور كرافت وكورت جودل صاحب مبرهنة اللااكتمال. حضر بوبر اجتماعات فرعية للدائرة في منزل العضو إدغار تسيلزل، وألقى محاضرةً هي أساساً نقدٌ للوضعية المنطقية. كان بوبر مثلهم منطقياً وفيلسوف علم معنياً بتمييز المعرفة العلمية وبالأسس المنطقية للتجريب، وداعية لوحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والإنسانية.. لكنه ليس وضعياً ولا استقرائياً بحال. وقف وحيداً ليتخذ موقفاً معارضاً لهم، حتى أطلق نويراث على بوبر لقب "المعارض الرسمي". وفيما طرح مؤرخ الفلسفة جون باسمور سؤاله: من الذي قضى على الوضعية المنطقية؟ وبوبر يخشى أن يكون هو المسؤول. (325)
الوضعيون المنطقيون هم قادة الهجوم في القرن العشرين، وبوبر هو المدافع المستخَف به عن الفلسفة التقليدية، اﻟﺬي ﻳﺼﺮ ﻋﻠـﻰ أن ﻣـﺸـﺎﻛـﻠـﻬـﺎ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ. وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺷﻲء ﻋﻠﻰ وﺟﻪ اﻹﻃﻼق ــ ﻓﻲ ﻧﻈﺮ ﺑﻮﺑﺮ ــ ﻳـﻌـﺰ ﻋـﻠـﻰ اﻟﻨﻘﺪ أو ﺣﺘﻰ ﻳﺴﺘﻐﻨﻲ ﻋﻨﻪ. ولما ﻛﺎن ﺑﻮﺑﺮ ﻳـﺮى أن اﻟـﻔـﻠـﺴـﻔـﺔ ﻫـﻲ اﻟـﺪراﺳـﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳة، ﻟﻠﺨﺒﺮة اﺴﻴﺔ وﺳﻮاﻫﺎ، ﺑﺪا ﺑﻮﺿـﻮح لماذا ﻳـﻌـﺎدي ﺑـﺼـﺮاﺣـﺔ ﻫـﺬا اﻟﺘﻮﺟﻪ اﻟﺬي ﻳﻌﺎدي وﺟﻮد اﻟﻔﻠﺴﻔﺔ أﺻﻼ. اﻟﻨﻘﺪ داﺋﻤﺎ ﻫﻮ ﺣﺠﺮ اﻟﺰاوﻳﺔ ﻣﻦ أﻓﻜﺎر ﺑﻮﺑﺮ، وﻫﻮ اﻵن ﻳﺼﻮﺑﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻮﺿﻌﻴﺔ المنطقية.
وظائف اللغة:
إن اللغة في نظر بوبر أخطر مكوّنات العالم الإنساني. لكن لا ينبغي أن تدور في متاهات لفظية بل يجب أن تعمل على شرح الوظائف الأربع الأساسية للغة. وهي الوظيفة التعبيرية بمعنى التعبير عن النفس، والوظيفة الإشارية، والوظيفة الوصفية، والوظيفة الجدلية بمعنى النقاش. ويوضح بوبر أن اللغة ـ أياً كان مستواها ـ لن تكون لغةً إلا إذا كانت قادرةً على إثارة استجابة من كائن حيٍ آخر. لغات الحيوان أو وسائل تواصله من رقص أو تلامس أو إصدار أصوات أو غيره، قادرةٌ على أداء الوظيفتين التعبيرية والإشارية، ثم تتميز اللغة الإنسانية فقط بقدرتها على أداء الوظيفتين العلّيتين الوصفية والنقاشية. (327)
.. هكذا يعلي بوبر من قدر اللغة، بينما يحط من قدر الفلسفات اللغوية التحليلية المتطرفة .. [ومنها] الوضعية المنطقية، فلسفة العلم التي اقتصرت على التحليل المنطقي اللغوي وأرادت قصرالفلسفة عليه.
هذا هو الخلاف الأساسي بين بوبر والوضعية، إصراره على أن المشاكل اللغوية لم تكن أبداً مشكلة فلسفية، فضلاً عن أن تكون المشكلة الفلسفية الوحيدة. يؤكد بوبر أن المشكلة الفلسفية الوحيدة هي عينها المشكلة العلمية الوحيدة: المشكلة الكوزمولوجية، أي مشكلة فهم العالم بما في ذلك نحن أنفسنا كجزء من العالم. العلم والفلسفة معاً يساهمان في حل هذه المشكلة، إنهما ليفقدان كل روعتهما وجاذبيتهما إذا ما تحليا عنها. قد يساعدنا فهم وظيفة اللغة على الحل، أما أن نحيل المشكلة بأسرها إلى متاهات لغوية فإن هذا مرفوض.
.. لقد أخطأ الوضعيون المنطقيون حين حددوا الفلسفة بمشكلة معيّنة واحدة هي المشكلة اللغوية. (327)
بوبر يقسم الفلاسفة إلى فريقين متقابلين أحدهما يأتمّ بفتجنشتين والآخر يأتمّ بإيمانويل كانط الذي جعل العقل يفرض تصوراته على الطبيعة، الوضعيون المنطقيون في الفريق الأول، وبوبر ف الفريق الثاني الكانطي. (329)
أخرج بوبر مقالاً بعنوان "طبيعة المشكلات الفلسفية وجذورها في العلم"، يوضح فيه كيف أن المشاكل الفلسفية والميتافيزيقية دوماً ذات جذور علمية واجتماعية ودينية وسياسية، وإنها لتنهار وتتحول إلى لغوٍ إذا ما أنكرت عليها تلك الجذور أو استؤصلت منها. ويذهب بوبر إلى إثبات دعواه بشروح مسهبة لأمثلة عدة لمشكلات من أخص خصائص الفلسفة، كالمثل الأفلاطونية والعداد القيثاغورية والمقولات الكانطية.. ليثبت جذورها في حدود علم عصرها. (330)
كانت فلسفة دائرة فيينا [الوضعية المنطقية] معالجةً منطقية للنزعة الاستقرائية، ليبقى تبرير العلم على أساس ارتكازه على الوقائع التجريبية وخروجه منها.
وهنا نصل إلى حجر الزاوية ومفترق الطرق في فلسفة العلم. ولعل هجوم بوبر الضاري على الوضعية المنطقية انطلق من عزمه الأكيد على استئصال شأفة النزعة الاستقرائية من فلسفة العلم. وتلك هي معركة بوبر الكبرى، حتى لو أردنا تلخيص فلسفته التجريبية في كلمة واحدة لكانت: ضد الاستقراء أو "اللااستقراء". فما من محاضرةٍ يلقيها أو مقالة يكتبها إلا ويؤكد فيها أن الاستقراء خرافة، لا هو يصف ما يفعله العلماء في الواقع ولا ما يجب أن يفعلوه ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه، لأن البدء بالملاحظة الخالصة مستحيل ولن يفضي إلى شيء. ويدخل بوبر في مناقشات تفصيلية مسهبة ليوضح أن أياً من نظريات العلم يستحيل أن تكون قد أتت نتيجة للتعميمات الاستقرائية. (333)
طبعاً بوبر فيلسوف تجريبي، لكنه لا يرى الذهن يولد صفحةً بيضاء تخطها التجربة كما يدعي المتطرفون أمثال لوك وهيوم. ولا هو يرى الذهن يولد بأفكار فطرية كما يدعي المثاليون المتطرفون. لكنه يرى الذهن يولد مزوداً بمجموعةٍ من الاستعدادات السيكولوجية والنزعات والتوقعات الفطرية التي قد تتغير وتتعدل مع تطور الكائن الحي. ومنها النزوع إلى الحب والعطف وإلى مناظرة الحركات والأصوات، وأيضاً إلى توقع الاطراد في الطبيعة. والإطرادات ليست نتيجة الخبرات المتكررة، بل لوحظت في الحيوانات والأطفال الحاجة إلى إشباع هذا التوقع بأي شكل. (334)
ﻳﺴﺘﻌين ﺑﻮﺑﺮ ﺑﺄﺑﺤﺎث ﻣﻮاﻃﻨﻪ وﻣﻌﺎﺻﺮه ﻛﻮﻧﺮاد ﻟﻮرﻧﺘﺲ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﻧﻔﺲ اﻴﻮان اﻟﺘـﻲ أﺟـﺮاﻫـﺎ ﻋـﻠـﻰ اﻟـﺒـﻂ واﻷوز، وﺧـﺮج ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺄن اﻴﻮاﻧﺎت ﺗﻮﻟﺪ ﻣﺰودة ﺑﺂﻟﻴﺔ ﻓﻄﺮﻳـﺔ في القفز إﻟﻰ ﻧﺘﺎﺋﺞ وﻃﻴﺪة. ﻣﺜﻼ، ﻓﺮخ اﻷوز ﺣﺪﻳﺚ اوج ﻣﻦ اﻟـﺒـﻴـﻀـﺔ ﻳـﺘـﺨـﺬ أول ﺷﻲء ﻣﺘﺤﺮك ﻳﺮاه ﻋﻠﻰ أﻧﻪ أﻣﻪ، وﻫﺬه آﻟﻴﺔ ﻣﻼﺋـﻤـﺔ ﻓـﻲ اﻟـﻈـﺮوف اﻟـﻌـﺎدﻳـﺔ ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺧﻄﻴﺮة ﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﻈﺮوف إذا ﻛﺎن ﻫﺬا اﻟﺸﻲء اﻟﻜﺒﻴﺮ ﺛﻌﻠﺒﺎ ﻣﺜﻼ. واﻟﻄﻔﻞ ﺣﺪﻳﺚ اﻟﻮﻻدة ﻳﺘﻮﻗﻊ أن ﻳﺠﺪ ﻣﻦ ﻳﺤﺒﻪ وﻳﺤﻤﻴﻪ. ﻛﻞ ﻛﺎﺋﻦ ﺣﻲ ﻟﺪﻳﻪ ﺗﻮﻗﻌﺎت أو ﻧﺰوﻋﺎت ﻓﻄﺮﻳﺔ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﻣﺘﻜﻴﻔﺔ ﻣﻊ أﺣﺪاث وﺷﻴﻜﺔ اﻟﻮﻗﻮع. إﻧﻬﺎ ﻓﻄﺮﻳﺔ وﺳﺎﺑﻘﺔ زﻣﺎﻧﻴﺎ وﻣﻨﻄﻘﻴﺎ ﻋﻠﻰ أي ﺗﻌﺮف ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﺌﺔ أو ﺗﻠﻘﻲ ﺧﺒﺮة ﺣﺴﻴﺔ ﻋﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ، وﻗﺪ ﺗﻜﻮن ﺧﺎﻃﺌﺔ وﺧﻄﻴﺮة ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ اﻟﺜﻌﻠﺐ. واﻟﻮﻟﻴﺪ ﻗﺪ ﻳﻬﺠﺮ وﻳﺘﺮك ﻟﻴﻤﻮت ﺟﻮﻋﺎ. اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﻟﻴﺴﺖ ذات ﺻﺤﺔ أوﻟﻴﺔ، وﻫﻲ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﺘﻌﺪﻳﻞ واﻟﺘﺼﺤﻴﺢ. أﻣﺜﺎل ﻫﺬه اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت ﻫﻲ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﺒﺪء. ﻓﺘﻜﻮن أوﻟﻰ ﺣﻠﻘﺎت المعرفة اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﺼﺮ اـﺮي ﺗـﻮﻗـﻌـﺎ ﻓـﻄـﺮﻳـﺎ أﺧﻄﺄ ﻓﻲ ﻣﻮاﺟﻬﺘﻪ ﻟﻠﻮاﻗﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻲ. ﻓﺤﺎول اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺪاﺋﻲ ﺗﺼﻮﻳﺒﻪ ﺑﺘﻮﻗﻊ آﺧﺮ، ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻪ أوﺟﻪ ﻗﺼﻮره وﻣﺸﺎﻛﻠﻪ. ﻓﺘﻢ ﺗﺼﻮﻳﺒﻪ ﺑﻔﺮض ﺟـﺪﻳـﺪ، وﻫـﻜـﺬا دواﻟﻴﻚ وﺻﻮﻻ إﻟﻰ ﻧﺴﻖ اﻟﻌﻠﻢ اﻟﻴﻮم. وﻻ ﻳﻜﻮن ﺛﻤﺔ اﺳﺘﻘﺮاء ﻟﻮﻗﺎﺋـﻊ اـﺲ ﻣﻦ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺛﻢ ﺗﻌﻤﻴﻤﻬﺎ ﻓﻲ أي ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻋﻠﻰ وﺟﻪ اﻹﻃﻼق، اﻷﺳﺒﻘﻴﺔ داﺋﻤـﺎ ﻟﻠﻜﺎﺋﻦ ا وﻟﻠﻌﻘﻞ. ﻓﻴـﻤـﻜـﻦ اﺳـﺘـﺌـﺼـﺎل اﻻﺳـﺘـﻘـﺮاء أو اﻟـﺒـﺪء بالملاحظة اﺎﻟﺼﺔ ﻣﻦ أﻋﻤﻖ اور. (334)
[يسلم بوبر بوجود "الحقيقة" وإن كان لا يمكن الإمساك بها، لكن تاريخ العلم هو تاريخ الاقتراب منها، من خلال الاكتشاف المستمر والمتكرر للأخطاء السابقة، وذلك على العكس من الأداتية التي تستبعد الحقيقة الموضوعية، وتعتبر بأن النظريات ما هي إلا تفسيرات ملائمة للواقع. "ويكون الصدق [بالنسبة إليها] هو ما نستطيع تبرير الاعتقاد فيه أو قبوله" (336).]
ﻳﻀﻔﻲ ﺑﻮﺑﺮ ﻣﻨﺘﻬﻰ الموضوعية على المعرفة ﻟﺪرﺟﺔ اﻻﺳﺘﻘﻼل اﻟﺘﺎم ﻋﻦ أي ﺷﺨﺺ ﻳﻌﺮف أو ﻳﻌﺘﻘﺪ، ﺣﺘﻰ ﻳﺰﻋﻢ أﻧﻬﺎ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺑﻐﻴﺮ ذوات ﻋﺎرﻓﺔ أﺻﻼ. ﻣﺎدام ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ3، ﻓﻤﺎ ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ3؟ إﻧﻪ اﺑﺘﻜﺎر ﻣﺜﻴﺮ ﻟﺒﻮﺑﺮ حين ﻳﻘﻮل إن ﻫﻨﺎك ﺛﻼﺛﺔ ﻋﻮاﻟﻢ: اﻟﻌﺎﻟﻢ ١: ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻔﻴﺰﻳﻘﻲ المادي. اﻟﻌﺎﻟﻢ ٢: ﻫﻮ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﺬاﺗﻲ، ﻋﺎﻟﻢ اﻟﻮﻋﻲ واﻟﺸﻌﻮر والمعتقدات واﻹدراﻛﺎت واﺎﻻت اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ والميول اﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ. اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣: ﻋﺎﻟﻢ اﺘﻮى الموضوعي ﻟﻠﻔﻜﺮ ﻛﺎﻟـﻌـﻠـﻢ واﻟـﻔـﻠـﺴـﻔـﺔ واﻷﻋـﻤـﺎل اﻷدﺑـــﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴــﺔ واﻟﻨــﻈﻢ اﻟﺴﻴــﺎﺳﻴـــﺔ واﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ واﻟﻘﻴﻢ واﻷﻋﺮاف... ﻣﺤﺘﻮى ﻫﺬا اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻫﻮ ﻣﺤﺘﻮى اﻟﻜﺘﺐ واﻟﺼﺤﺎﺋﻒ وأﺟﻬﺰة اﻟـﻜـﻮﻣـﺒـﻴـﻮﺗـﺮ والمتاحف والمعارض.
واﻟﻌﻼﻗﺔ ﺑين اﻟﻌﻮاﻟﻢ اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻣﺘﺪاﺧﻠﺔ، ﻟﻜﻦ اﻟﻌﺎﻟﻢ2 ﻫﻮ اﻟﻮﺳـﻴـﻂ اﻟـﺬي ﻳﺮﺑﻂ ﺑين اﻟﻌﺎﻟﻢ ١ واﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﺑﻔﻀﻞ ﻋﻼﻗﺎﺗﻪ ﻣﻊ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ. ﻓﻬﻮ ﻳﺪرك اﻟﻌﺎﻟﻢ1 بالمفهوم  اﺮﻓﻲ ﻟﻺدراك، وﻳﺨﻠﻖ اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ وﻳﻈـﻞ ﻳـﺪرﺳـﻪ وﻳـﻀـﻴـﻒ إﻟـﻴـﻪ وﻳﺤﺬف ﻣﻨﻪ، ﺣﺘﻰ اﻟﻘﻮة اﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ تمارس ﺗﺄﺛﻴﺮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟﻢ ١ ﺑﻔﻀﻞ اﻟﻌﺎﻟﻢ٢.
ﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﻳﻔﺮق ﺑﻮﺑﺮ ﻓﻲ ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﺑ ا@ﻨﺘﺠﺎت ا@ﻘﺼـﻮدة اﻟـﺘـﻲ اﺟﺘﻤﻊ أﺷﺨﺎص ﻣﻌﻴﻨﻮن وﺑﺬﻟﻮا ﺟﻬﺪا ﻣﻮﺟﻬﺎ ﻠﻘﻬﺎ2 ﻣﺜﻞ ا@ﺆﺳﺴﺎت واﻷﻋﻤﺎل اﻟﻔﻨﻴﺔ واﻟﻌﻠﻤﻴﺔ واﻟﻘﻮاﻧ واﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ... وﺑ ا@ﻨﺘﺠﺎت اﺎﻧﺒﻴﺔ اﻟﺜﺎﻧﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺨﻠﻘﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎن ﺑﻘﺼﺪ2 ﺑﻞ اﻧﺒﺜﻘﺖ ﻣﻦ ﺗﻠﻘﺎء ذاﺗﻬﺎ. واﻟﻐﺮﻳﺐ أﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن أﻛﺜﺮ أﻫﻤﻴﺔ ﻣﻦ ا@ﻨﺘﺠﺎت ا@ﻘﺼﻮدة. ﻓﺄﻫﻢ ﻛﻴﺎﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﻃﺮا اﻟﻠﻐﺔ2 وﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺟﻤﺎﻋﺔ اﺟﺘﻤﻌﺖ ﻟﺘﺨﻄﻴﻄﻬﺎ2 ﺑﻞ ﺗﺒﺪأ ﺑﻨﺸﺎط أوﻟﻲ ﺗﻮﺟﻬﻪ اﺎﺟﺔ ﺛﻢ ﻳﺘﺴﻊ وﻳﺘﻄﻮر وﻳﺘﺤﺴﻦ ﺗﺪرﻳﺠﻴﺎ ﺑﻐﻴﺮ ﺧﻄﺔ ﺳﺎﺑﻘﺔ . إﻧﻬﺎ أﺷﻴﺎء ﺻﻨﻌﻬﺎ اﻟﻨﺎس ﺑﻐﻴﺮ أن ﻳﺼﻨﻌﻬﺎ واﺣﺪ ﻣﻨﻬﻢ2 وﺣ ﺗﺘﺒﺪى ﻓﺎﺋﺪﺗﻬﺎ ﺗﺘﻄﻮر وﺗﺘﺤﺴﻦ. اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ ﻫﻮ اﻟﺬي Iﻴﺰ اﻹﻧﺴﺎن ﻋﻦ اﻴﻮان. ﻣﻮﺿﻮع اﻹﺑﺴﺘــﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺎ ﻳﻘـﻄـﻦ ﻓـﻴـﻪ2 وﻻ ﺷﺄن ﻟﻬﺎ اﻟﺒﺘﺔ ﺑﺎﻟﻌﺎﻟﻢ ٢. وأﻫﻢ ﻣﻜﻮﻧﺎت اﻟﻌﺎﻟﻢ ٣ اﻟﻠﻐﺔ واﻟـﻨـﻘـﺪ وﺑـﻔـﻀـﻞ اﻟﻨﻘﺪ ﻳﻜﻮن ﺗﻄﻮره وkﺎؤه اﻟﺪاﺋﻢ ﻧﺤﻮ اﻷﻓﻀﻞ.
ﻳﺮى ﺑﻮﺑﺮ أن ﻛﻞ ﻣﻨﺠﺰات اﻀﺎرة اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ا@ﻌﺎﺻﺮة ﺗﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﻧﺸﺄﺗـﻬـﺎ إﻟﻰ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ اﻟـﺘـﻲ ﻛـﺎﻧـﺖ ا@ـﻠـﻬـﻢ اﻷﻋـﻈـﻢ ﻟـﻠـﺘـﻘـﺪم اـﻀـﺎري واﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ وﺑﻐﻴﺮ ﻧﻈﻴﺮ ﻳﻨﺎﻓﺴﻬﺎ ﻋﺒﺮ اﻟﺘﺎرﻳﺦ. وﻣﻊ ﻫﺬا ﻓﻬﻲ kﻮذج ﻟﻠﻔﻜﺮة . ﻓﻘﺪ ﺗﺮدت ﻓﻲ ﺧﻄﺄ ﻛﺒﻴﺮ ﻫﻮ اﻻﻋﺘﻘﺎد(١٢)اﺎﻃﺌﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻠﻬﻢ ﺑﺄﻓﻜﺎر راﺋﻌﺔ ﺑﺄن اﻘﻴﻘﺔ ﺑﻴﻨﺔ وأن ا@ﻌﺮﻓﺔ اﻟﻴﻘﻴﻨﻴﺔ ﺳﻬـﻠـﺔ ا@ـﻨـﺎل. واﻧـﻔـﻠـﻘـﺖ اﻟـﻌـﻘـﻼﻧـﻴـﺔ اﻟﻜﻼﺳﻴﻜﻴﺔ إﻟﻰ ﺗﻴﺎرﻳﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﺤﺎوﻟﺘﻬﺎ ﻟﺘﺒﺮﻳﺮ ﻫﺬا اﻟﻴﻘ وـﺪﻳـﺪ ا@ـﺼـﺪر اﻟﻨﻬﺎﺋﻲ @ﻌﺮﻓﺔ اﻘﻴﻘﺔ2 أﻫﻮ ااس أم اﻟﻌﻘﻞ? وﻫﺬا اﻟﻄﺮح ﺧﺎﻃﺊ أﺻﻼ2 ﻓﻼ ﻳﻬﻢ ﻣﺼﺪر ا@ﻌﺮﻓﺔ2 ا@ﻬﻢ ﻫﻮ ا@ﻌﺮﻓﺔ ذاﺗﻬﺎ2 ﻣـﺤـﺘـﻮاﻫـﺎ وﻣـﺪى ﺻـﺪﻗـﻬـﺎ وﻗﺪرﺗﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺣﻞ ا@ﺸﻜﻠﺔ ا@ﻄﺮوﺣﺔ ﻟﻠﺒﺤﺚ. إﻧﻬﻢ ﺑﺎﻟﺴﺆال ﻋﻦ ا@ﺼﺪر أﻫﻮ اﻟﻌﻘﻞ أم ااس2 ﻳﻜﺮرون اﻄﻴﺌﺔ اﻷرﺳﺘﻘﺮاﻃﻴـﺔ اﻟـﺘـﻲ ﺗـﻬـﺘـﻢ  ﺑـﺎـﺴـﺐ . وﻫﺬه اﻄﻴﺌﺔ ـﺪت ﻓـﻲ(١٣)واﻟﻨﺴﺐ وﺗﻐﻔﻞ ﻋﻦ ﺗﻘﻴﻴﻢ اﻟﺸـﺨـﺺ ذاﺗـﻪ اﻻﺳﺘﻘﺮاﺋﻴﺔ واﻟﻮﺿﻌﻴﺔ وﻫﻲ ﺗﻨﺸﻐﻞ ﺑﺘﺒﺮﻳﺮ ا@ﻌﺮﻓﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﺜﺒﺖ ﻣﻦ ردﻫﺎ إﻟﻰ أﺻﻮﻟﻬﺎ ﻓﻲ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ.
إن اﻟﺴﺆال اﻟﺬي ﻳﺤﺪد اﻟﺒﺤﻮث اﻹﺑﺴﺘﻤﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﻟـﻴـﺲ ﻋـﻦ ا@ـﺼـﺪر2 ﺑـﻞ ﻫﻮ: ﻛﻴﻒ ﻧﻜﺘﺸﻒ أﺧﻄﺎءﻧﺎ وﻧﺴﺘﺒﻌﺪﻫﺎ ﻟﻜﻲ ﺗﻨﻤـﻮ ا@ـﻌـﺮﻓـﺔ وﺗـﺘـﻄـﻮر وﻳـﻜـﻮن داﺋﻤﺎ اﻟﻜﺸﻒ واﻹﺿﺎﻓﺔ واﻟﺘﻘﺪم? وﻗﺪ أﺟﺎب ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا ﺑﺎﻟﻨﻘﺪ2 واﺗﺨـﺬ ﻣﻮﻗﻒ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴﺔ اﻟﻨﻘﺪﻳﺔ.
وﺑﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻮﺑﺮ2 ﻳﺼﺐ ﺟﺎم ﻧﻘﺪه ﻋﻠﻰ ﻫـﻴـﻮم2 ﻓـﻴـﺠـﺪه ﻗـﺪ اﻧـﺘـﻬـﻰ إﻟـﻰ أن اﻟﺘﻜﺮار ﻗﺪ ﺧﻠﻖ ﻓﻴﻨﺎ ﻋﺎدة اﻻﻋﺘﻘﺎد ﻓﻲ ﻗﺎﻧﻮن. ﻏﻴﺮ أن ﺑﻮﺑﺮ ﻳـﺆﻛـﺪ أن ﻫـﺬا ﺧﻄﺄ واﻟﻌﻜﺲ Fﺎﻣﺎ ﻫﻮ اﻟﺼﺤﻴﺢ2 ﻓﺎﻟﺘﻜﺮار ﻳﺤﻄﻢ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن وﻻ ﻳﺨﻠﻖ اﻋﺘﻘﺎدا ﻓﻴﻪ. ﻓﻤﺜﻼ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻋﺰف ﻗﻄﻌﺔ ﻣﻮﺳﻴﻘﻴﺔ ﺻﻌﺒﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻴﺎﻧﻮ2 ﻳﺒﺪأ ﻌﺰف ﺑﻼ اﻧﺘﺒـﺎهُاﻟﻌﺎزف ﻣﺮﻛﺰا وﻋﻴﻪ وﺷﻌﻮره2 وﺑﻌﺪ ﻗﺪر ﻛﺎف ﻣﻦ اﻟـﺘـﻜـﺮار ﻳ ﻟﻘﺎﻧﻮن. وﺣ اﻟﺒﺪء ﻓﻲ ﻗﻴﺎدة اﻟﺪراﺟﺔ ﻧﺘـﻌـﻠـﻢ أن ﻧـﺪﻳـﺮ اﻟـﺪﻓـﺔ ﻓـﻲ اﻻـﺎه اﻟﺬي ﻧﺨﺸﻰ اﻟﺴﻘﻮط ﻓﻴﻪ2 وﺗﺒﺪأ اوﻻت اﻷوﻟﻰ ﻟﻠﺮﻛﻮب وأذﻫﺎﻧﻨﺎ ﻣﺮﻛﺰة Fﺎﻣﺎ ﻋﻠﻰ ﻫﺬا اﻟﻘﺎﻧﻮن2 وﺑﻌﺪ ﻗﺪر ﻛﺎف ﻣﻦ اﻟﺘﻜﺮار ﻧﻨﺴﺎه Fﺎﻣﺎ. إذن ﻓﺎﻟﺘﻜﺮار ﻳﺤﻄﻢ اﻟﻮﻋﻲ ﺑﺎﻟﻘﺎﻧﻮن وﻻ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﻛﻤﺎ ذﻫﺐ ﻫﻴﻮم. ﻓﻨﺤﻦ ﻻ ﻧـﺸـﻌـﺮ ﺑـﺪﻗـﺎت اﻟﺴﺎﻋﺔ ا@ﻨﺰﻟﻴﺔ ﻟﻜﻦ ﻧﺸﻌﺮ ﺑﺄن اﻟﺴﺎﻋﺔ ﺗﻮﻗﻔﺖ. وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى ـﺪ أن اﻟﺴﻠﻮك ــ ﻛﺎﻷﻛﻞ أو اﻟﻨﻮم ﻓﻲ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ ــ ﻟﻜﻲ ﻳﻜﻮن ﻋﺎدة2 ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻨﺸﺄ أوﻻ ﺛﻢ ﻳﺘﻜﺮر ﺛﺎﻧﻴﺎ. ﻣﻌﻨﻰ ﻫﺬا  أن ﻧﺸﺄة اﻟﻌﺎدة ﻻ ﺗﺮﺟﻊ إﻟﻰ اﻟﺘﻜـﺮار ﻛـﻤـﺎ ذﻫـﺐ ﻫﻴﻮم. (341)
وﻛﺎن اﻟﺘﻜﺮار اﻟﺬي ﻋﻨﺎه ﻫﻴﻮم ﻗﺎﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻤﺎﺛﻞ بين اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ أو ﺗﺸﺎﺑﻬﻬﺎ. وﻓﻲ ﻫﺬا ﻳﺤﺮص ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻠﻰ ﺗﺒﻴﺎن أن اﻟﻌﻘﻞ اﻟﺒﺸﺮي ﻫﻮ اﻟـﺬي ﻳـﺤـﻜـﻢ ﻋـﻠـﻰ اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺘﺸﺎﺑﻬﺔ أو ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﺗﻜﺮارات. ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎك ﺗﻜﺮارات ﻓﻲ ﺻﻠﺐ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ، ﺑﻞ ﻫﻨﺎك وﻗﺎﺋﻊ ﻳﺤﻜﻢ اﻟﻌﻘﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺄﻧﻬﺎ ﻣﺘﻤﺎﺛﻠﺔ وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻣﺘﻜﺮرة، وﺗﺒﻌﺎ لمنظورٍ معيّن في اﻟﻌﻘﻞ ﺳﺎﺑﻖ ﻋﻠﻰ إدراك اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ذاﺗﻬﺎ. ﻫﻜﺬا ﺑﻮﺑﺮ ﻳﻠﻒ وﻳﺪور ﻓﻲ ﻧﻔﺲ ﻣﺤﻮر أﺳﺒﻘﻴﺔ اﻟﻔﺮض ﻋﻠﻰ الملاحظة واﻟﻌﻘﻞ ﻋﻠﻰ اﻟﻮاﻗﻊ.
وﻋﻠﻰ ﻫﺬا اﻷﺳﺎس ا@ﻮﺿﻮﻋﻲ ﻳﻄﺮح ﺑﻮﺑﺮ اﻟﺴﺆال: ﻫﻞ Iـﻜـﻦ ﻟـﻠـﻮﻗـﺎﺋـﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ أن ﺗﺒﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﺼﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ اﻟﺘـﻔـﺴـﻴـﺮﻳـﺔ? وأﺟـﺎب ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻦ ﻫﺬا إﺟﺎﺑﺔ ﻫﻴﻮم ﻧﻔﺴﻬﺎ2 أي ﺑﺎﻟﻨﻔﻲ ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎن ﻋﺪد اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻛﺒﻴﺮا. وﻫﻨﺎ ﻳﺼﻞ إﻟﻰ اﻟﺴﺆال اﻟﺜﺎﻧﻲ: ﻫﻞ Iﻜﻦ ﻟﻠـﻮﻗـﺎﺋـﻊ اﻟـﺘـﺠـﺮﻳـﺒـﻴـﺔ أن ﺗـﺒـﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﺄن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ ﻛﺎذﺑﺔ? وﺑﻮﺑﺮ ﻳﺮد ﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب ﻓﺎﻟﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ ﻻ ﺗﺒﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﺼﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ2 ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺒﺮر اﻟﺪﻋﻮى ﺑﻜﺬﺑﻬﺎ. (342)
ﻫﻞ يمكن ﻟﻠﻮﻗﺎﺋﻊ اﻟﺘﺠﺮﻳـﺒـﻴـﺔ أن ﺗـﺒـﺮر ﺗـﻔـﻀـﻴـﻞ ﺑـﻌـﺾ ﻣـﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ المتنافسة ﻣﻊ اﻷﺧﺮى? ﺑﻮﺑﺮ ﻳﺮد ﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﺑﺎﻹﻳﺠﺎب ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ فإذا ﺗﻮﺻﻠﻨﺎ إﻟﻰ إﺛـﺒـﺎت ﻛﺬب ﺑﻌﺾ ﻣﻦ اﻟﻔﺮوض المتنافسة، أي تمّ تفنيدها، أﺻـﺒـﺢ ﻣـﻦ اﻟـﻮاﺿـﺢ ﻣﻨﻄﻘﻴﺎ ﺗﻔﻀﻴﻞ اﻟﻔﺮوض اﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﻳﺘﻢ ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ ﺑﻌﺪ. وﻫﺬه ﻧﺘﻤﺴﻚ ﺑﻬﺎ ﻣﺆﻗﺘﺎ ﺑﻮﺻﻔﻬﺎ ﺣﺪ اﻟﺘﻘﺪم اﻟﻌﻠﻤﻲ ﺣﺘﻰ اﻟﻠﺤﻈﺔ اﻟﺮاﻫﻨﺔ. ﺛﻢ ﻧﺴﺘﺄﻧﻒ اﻬﻮد اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ الميسر منها ﺑﺄن ﻧﺤﺎول ﺗﻔﻨﻴﺪﻫﺎ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى، وﻧﺤﺎول أن ﻧﻀﻊ ﺑﺪﻻ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﺮوﺿﺎ أﻛﺜﺮ اﻗﺘﺮاﺑﺎ ﻣﻦ اﻟﺼﺪق، ﻧﺄﺧﺬ أﻓﻀﻠﻬﺎ ﻧﺴﺒﻴـﺎ وﻧـﺘـﻤـﺴـﻚ ﺑـﻬـﺎ ﻣﺆﻗﺘﺎ ﻓﻘﻂ ﻷﻧﻬﺎ أﻓﻀﻞ ﻣﺎ ﻟﺪﻳﻨﺎ ﺣﺘﻰ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ إﻟﻰ أن ﻳﺘﻢ ﺗﻔﻨـﻴـﺪﻫـﺎ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى واﻟﻮﺻﻮل إﻟﻰ ﻓﺮوض أﻓﻀﻞ، ﻧﺴﻠﻢ ﺑﻬﺎ ﺑﺼﻔﺔ ﻣﺆﻗﺘﺔ... وﻫـﻠـﻢ ﺟﺮا.
ﻳـﻌـﺎود اﻟـﺘـﺄﻛـﻴـﺪ  ﻋـﻠـﻰ أن اﻋﺘﻘﺎداﺗﻨﺎ اﻟﺴﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﻘﻮﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﺘﺼﺮف ﻋﻠﻰ أﺳﺎﺳﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ اﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﻟﻴﺴﺖ اﻟﺒﺘﺔ ﻧﺘﻴﺠﺔ اﻟﺘﻜﺮار ﻛﻤﺎ أوﺿﺢ ﻓﻲ ﻧﻘﺪه ﻟﻬﻴﻮم2 وأن اﻟﻌﻘﻞ ﻫﻮ اﻟـﺬي ﻳﻔﺮض ﻣﻔﻬﻮم اﻟﺘﻜﺮار ﻋﻠﻰ اﻟﻮاﻗﻊ ﺑﻨﺎء ﻋﻠﻰ ﺗﻮﻗﻌﺎﺗﻪ اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠـﻰ اﻟﺘﺠﺮﺑﺔ. ﻫﺬه اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت ﻛﻔﻴﻠﺔ ﺑﺄن ﺘﺚ اﻻﺳﺘﻘﺮاء ﻣﻦ أﻋﻤﻖ اور. ﻳﻘﻮل إن اﻴﻮان اﺎﺋﻊ ﻳﻘﺴﻢ اﻟـﺒـﻴـﺌـﺔ إﻟـﻰJ. Katzﻋﺎﻟﻢ اﻟﻨﻔﺲ ﺟـﻴـﺮوﻟـﺪ ﻛـﺎﺗـﺲ أﺷﻴﺎء ﺗﺆﻛﻞ وأﺷﻴﺎء ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺑﻠﺔ ﻟﻸﻛﻞ2 وﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺎﻄﺮ ﻻ ﻳﺮى أﻣـﺎﻣـﻪ إﻻ أﻣﺎﻛﻦ اﻻﺧﺘﺒﺎء وﻃﺮق اﻟﻬﺮوب2 ﻓﺎﺎﻟﺔ اﻟﺪاﺧﻠﻴﺔ ﻟﻠﻜﺎﺋﻦ ا واﻫﺘﻤﺎﻣﺎﺗﻪ اﻟﻌﻘﻠﻴﺔ ﻫﻲ اﻟﺘﻲ د ردود أﻓﻌﺎﻟﻪ إزاء اﻟﺒﻴﺌﺔ وﺗﺮﺳﻢ ﻟﻪ إﻃﺎرﻫﺎ أو ﺗﺼﻨﻒ وﻗﺎﺋﻌﻬﺎ اﻟﺘﺠﺮﻳﺒﻴﺔ. وإذا ﻛﺎن اﻴﻮان ﻣﻬﺘﻤـﺎ ﻓـﻘـﻂ ﺑـﺎﻟـﻄـﻌـﺎم واﻷﻣـﺎن2 ﻓـﺈن اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻬﺘﻢ ^ﺸﻜﻠﺔ ﻋﻠﻤﻴﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ2 وﻋﻘﻠﻪ ﻟﻴﺲ ﻣﻘﺼﻮرا ﺑﺎﻟﻄﺒﻊ ﻋﻠﻰ اﻟﺘﻮﻗﻌﺎت اﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ــ ﻛﺤﺎﻟﺔ اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺒﺪاﺋﻲ ــ ﻓﺜﻤﺔ أﻳﻀﺎ ﻋﻠﻤﻪ اﻟﺬي ﺟﻌﻠﻪ ﻋـﺎ@ـﺎ أي اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت اﻟﺘﻲ درﺳﻬﺎ وﻳﻘﺒﻠﻬﺎ ﻛﺨﻠﻔﻴﺔ ﻋﻠﻤـﻴـﺔ2 واﻻﻓـﺘـﺮاض اﻟـﺬي ﻳـﺘـﺼـﻮره ا@ﺸﻜﻠﺔ... ﺛﻢ  ﻳﻬﺒﻂ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻫﺬا إﻟـﻰ وﻗـﺎﺋـﻊ اﻟـﺘـﺠـﺮﻳـﺐ2 أﻣـﺎ اﻟـﺘـﺼـﻮر اﻻﺳﺘﻘﺮاﺋﻲ ﺑﺄن ﻫﺬه اﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﻫﻲ ﻧﻘﻄﺔ اﻟﺒﺪء اﻟﺘﻲ ﻧﺼﻌﺪ ﻣﻨﻬﺎ إﻟﻰ اﻟﻔﺮض2 ﻓﻘﺪ اﺗﻀﺢ أن ﻫﺬا ﻣﺴﺘﺤﻴﻞ ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺎ وﻣﻨﻄﻘﻴﺎ وﻣﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺎ )ﻣﻨﻬﺠﻴـﺎ( ﻋﻠﻰ اﻟﺴﻮاء. (344)
ﻓﺄkﺎط اﻟﺴﻠﻮك أﻳﺎ ﻛﺎﻧﺖ2 ﺳﻠﻮك اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻓﻲ ﻣﻌﻠﻤـﻪ2 أو ﺳـﻠـﻮك اﻟـﻜـﺎﺋـﻦ ا ﻓﻲ ﺻﺮاﻋﻪ ﻣﻊ اﻟﺒﻴﺌﺔ ﻣﻦ أﺟﻞ اﻟﺒﻘﺎء2 أو ﻣﺎ ﺑ ﻫﺬا وذاك2 أي ﺳﻠﻮك ﻟﻴﺲ إﻻ ﻣﺤﺎوﻟﺔ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻣﻌﻴﻨﺔ. وا@ﻌﺮﻓﺔ ﺑﺪورﻫﺎ ﻟﻴﺴﺖ إﻻ ﻧﺸﺎﻃﺎ ﻣﺸﺎﻛﻞ ﻣﻌﺮﻓﻴﺔ. (346)
اﻄﺄ داﺧﻞ ﻓﻲ ﺻﻤﻴﻢ ﻛﻞ ﻣﺤﺎوﻟﺔ وﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﻨﺒﻪ، وﻫﻮ ذاﺗﻪ ﻃﺮﻳﻖ اﻟﺘﻘﺪم المستمرّ ﻋﻦ ﻃﺮﻳﻖ اﺳﺘﺒﻌﺎده.
وإذا ﺳﺌﻞ ﺑﻮﺑﺮ ﻋﻦ ﻣﺴﺎر ا@ﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠـﻤـﻲ2 أﺻـﺒـﺤـﺖ اﻹﺟـﺎﺑـﺔ ﺳـﻬـﻠـﺔ ﻓـﻲ ﺻﻮرة اﻄﻮات أو ﺑﺎﻷﺣﺮى ا@ﺮاﺣﻞ اﻟﺘﺎﻟﻴﺔ: (: ﻳﺒﺪأ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺤﻮﺛﻪ ﻣﻦ ﻣﺸﻜﻠﺔ2 إﻣﺎ ﻣﺸﻜﻠﺔ ﻋﻤﻠﻴـﺔ ـﺮﻳـﺒـﻴـﺔ2 وإﻣـﺎ١)م ﻣﺸﻜﻠﺔ  ﻧﻈﺮﻳﺔ2 أي ﻓﺮض وﻗﻊ ﻓﻲ ﺻﻌﻮﺑﺎت. اﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺠﺪ ﻓـﻲ اﻟـﻌـﻠـﻢ داﺋـﻤـﺎ ﻣﻮاﻗﻒ ﻣﻌﻴﻨﺔ @ﺸﺎﻛﻞ2 ﻓﻴﺨﺘﺎر ﻣﻨﻬﺎ ا@ﺸﻜﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﺄﻣﻞ ﻓﻲ اﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻪ ﺣﻠﻬﺎ. اﻟﺒﺪء إذن ﻟﻴﺲ ﺑﺎ@ﻼﺣﻈﺔ ﺑﻞ ﺑﺎ@ﺸﻜﻠﺔ. وﻫﺬه ا@ﺸﻜﻠﺔ ﺑﺪورﻫﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﻟﻠﻤﻼﺣﻈﺔ أو ﺣﺘﻰ ﻟﻠﺘﺠﺮﻳﺐ2 ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﺄﺧﻮذة ﻣﻦ اﻟﺒﻨﺎء ا@ﻌﺮﻓﻲ اﻟﺴﺎﺑﻖ.  (347)
وأن اﻟﻌﺎﻟ ــ وﻻ أي ﻣﻨﻬﺞ آﺧﺮ ــ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺗﺒﺮﻳﺮ ﺻﺪق اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻟﻌﻠﻤﻴﺔ. وﻛﻴﻒ ﻧﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﺒﺮﻳﺮ اﻟﺼﺪق وﻧﺤﻦ ﻋﺎ@ﻮن أن اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻗﺪ ﺘﺎز ﺟﻤﻴﻊ اﺧﺘﺒﺎرات اﻟﻨﻘﺪ واﻟﺘﻜﺬﻳﺐ2 ﻓﻘﻂ ﻷن اﻟﻌﻠﻢ ﻟﻢ ﻳﺘﻮﺻﻞ ﺑﻌـﺪ إﻟـﻰ اﻻﺧـﺘـﺒـﺎر اـﺎﺳـﻢ ﻟـﻬـﺎ2 أي اﻟﻘﺎﻧﻮن ا@ﻔﻨﺪ.
ﻓﻲ ﺿﻮء ﻣﺎ ﺳﺒﻖ2 Iﻜﻦ أن ﺗﺮاﻋﻰ اﻟﺘﻘﺎﻟﻴﺪ ا@ﻴﺜﻮدوﻟﻮﺟﻴﺔ2 ﻓﻨﺴﺘﺨﻠـﺺ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺑﻮﺑﺮ ا@ﻨﻬﺠﻴﺔ2 اﻄﻮات اﻵﺗﻴﺔ ﻟﻠﻤﻨﻬﺞ اﻟﻌﻠﻤﻲ: ١ ــ ا@ﺸﻜﻠﺔ )وﻫﻲ ﻋﺎدة ﺗﻔﻨﻴﺪ ﻟﻨﻈﺮﻳﺔ ﻣﻮﺟﻮدة(. ٢ ــ ا ا@ﻘﺘﺮح )أي ﻧﻈﺮﻳﺔ ﺟﺪﻳﺪة(. ٣ ــ اﺳﺘﻨﺒﺎط اﻟﻘﻀﺎﻳﺎ اﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻼﺧﺘﺒﺎر ﻣﻦ اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﺪﻳﺪة. ٤ ــ اﻻﺧﺘﺒﺎر2 أي ﻣﺤﺎوﻟﺔ اﻟﺘﻔﻨﻴﺪ ﺑﻮاﺳﻄﺔ ا@ﻼﺣﻈﺔ واﻟﺘﺠﺮﻳﺐ2 ﻣﻦ ﺿﻤﻦ وﺳﺎﺋﻂ أﺧﺮى. ٥ ــ اﻷﺧﺬ ﺑﺄﻓﻀﻞ اﻠﻮل2 أي اﻟﻨﻈﺮﻳﺔ اﻷﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺑ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ اﻟﻨﻈﺮﻳﺎت ا@ﻘﺘﺮﺣﺔ ا@ﺘﻨﺎﻓﺴﺔ. (350)
ا@ﻌﺮﻓﺔ2 ﻓﻲ ﻫﺬا ا@ﺴﺎر اﻟﻄﻮﻳﻞ واﻟـﺒـﺎد ﻣـﻨـﺬ إﻧـﺴـﺎن ﻧـﻴـﺎﻧـﺪرﺗـﺎل ﺣـﺘـﻰ اﻟﻴﻮم2 Fﺮ ^ﺮﺣﻠﺘ2 ﻫﻤﺎ: ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﺪوﺟـﻤـﺎﻃـﻴـﻘـﻲ ﻗـﺒـﻞ اﻟـﻌـﻠـﻤـﻲ2 وﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻨﻘﺪي )اﻟﻌﻠﻤﻲ(.
المعرفة في هذا المسار الطويل والبادئ منذ إنسان نياندرتال حتى اليوم، تمر بمرحلتين، هما: مرحلة التفكير الدوغمائي قبل العلمي، ومرحلة التفكير النقدي (العلمي).
ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﺪوﺟﻤﺎﻃﻴﻘﻲ أي اﻟﻘﻄﻌﻲ اﺎﻣـﺪ اـﺎزم ﺗـﺘـﻤـﺜـﻞ ﻓـﻲ اﻀﺎرات اﻟﺒﺪاﺋﻴﺔ »اﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﻀﺎرة اﻹﻏـﺮﻳـﻖ« ﺑـﺘـﻌـﺒـﻴـﺮ ﺑـﻮﺑـﺮ!! ﻓـﻬـﻮ ﻳﺠﻬﻞ Fﺎﻣﺎ ا@ﻴﺮاث ا@ﺸﺮﻗﻲ اﻟﻌﻈﻴﻢ وﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺧﺎرج ﺣﺪوده اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﻨﻌﺖ اﻟﻌﻠﻢ اﺪﻳﺚ!! ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻤﻮم اﻀﺎرات ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺑﺪاﺋﻴﺔ ﻟﻬﺎ ﻣﻮﻗﻒ ﻣﻌﺮﻓﻲ ﻳﺘﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﺗﻔﺴﻴﺮ اﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﻮاﺳﻄﺔ اﻷﺳﺎﻃﻴﺮ وااﻓﺎت2 واﻟﺘـﻤـﺴـﻚ ﺑﻬﺎ ﻳﻜﻮن ﻗﻄﻌﻴﺎ ﺻﺎرﻣﺎ. ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺘﺒﺮ اﻟﺸﻚ أو اﻟﻨﻘﺪ ﺟﺮIﺔ. ﺑﻌﺒـﺎرة أﺧﺮى ﻻ (. و^ﺎ٢Fﺎرس اﻄﻮة )أأ( ﻻ ﺗﺴﺘﺒﻌﺪ اﻄﺄ وﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻻ ﺗﺨﺮج ﺑﺠﺪﻳﺪ2 )م أﻧﻪ ﻻ ﺗﻐﻴﻴﺮ ﻟﻼﻋﺘﻘﺎد اﺎﻃﺊ2 ﻓﺈن اﻟﻤﺨﻄﺊ ﻳﻬﻠﻚ ﺑﻬﻼك ﻋﻘﻴﺪﺗﻪ اﺎﻃﺌﺔ. ﻓﻜﺎن اﻟﺘﻘﺪم ــ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﻮل ﺑﻮﺑﺮ ــ ﻣﺄﺳﺎوﻳﺎ ﺧﻄﻴﺮا إن أﻣﻜﻦ أﺻﻼ وﻫﻨﺎ ﻧﺘﻮﻗﻒ ﻫﻨﻴﻬﺔ ﻟﻨﻘﻮل: ﻟﻮ ﻛﺎن ﺑﻮﺑﺮ ﻗﺪ اﻃﻠﻊ ﻣﺜﻼ ﻋﻠﻰ ﺷﻜﻮك ﻗﺪﻣﺎء ا@ﺼـﺮﻳـ ﻓـﻲ اﻵﻟﻬﺔ وﻧﻘﺪﻫﻢ ﻟﻠﺪﻳﺎﻧﺎت واﻷﻓﻜﺎر ا@ﻄﺮوﺣﺔ2 وﻋﻠﻰ ﺗﻘﺪﻣﻬﻢ اﻟﻌﻠﻤﻲ @ـﺎ ﻗـﺎل ﻫﺬا و@ﺎ ﺟﺮؤ ﻋﻠﻰ ﺿﻢ ﻫﺬه اﻀﺎرات إﻟﻰ ا@ﺮﺣﻠﺔ اﻟـﺒـﺪاﺋـﻴـﺔ2 و@ـﺎ واﺻـﻞ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﻟﻴﻌﺘﺒﺮ اﻹﻏﺮﻳﻖ ﻫﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺪأوا ﻣﺮﺣﻠﺔ اﻟﺘـﻔـﻜـﻴـﺮ اﻟـﻌـﻠـﻤـﻲ اﻟـﻨـﻘـﺪي2 واﻟﻨﻘﺪ ذاﺗﻪ ﻣﻦ اﻛﺘﺸﺎف ا@ﺪرﺳﺔ اﻷﻳﻮﻧﻴﺔ2 أول ﻣﺪرﺳﺔ ﻓﻠـﺴـﻔـﻴـﺔ إﻏـﺮﻳـﻘـﻴـﺔ ﺣﻴﺚ ﻳﻨﻘﺪ أﻧﻜﺴﻤﻨﺪر أﺳﺘﺎذه ﻃﺎﻟﻴﺲ وﻳﻄﺮح ﻓﺮﺿﺎ أﻓﻀﻞ.

المهم أن اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ اﻟﻌﻠﻤﻲ ﻫﻮ ذاﺗﻪ اﻟﺘﻔـﻜـﻴـﺮ اﻟـﻨـﻘـﺪي2 ر^ـﺎ ﻳـﺼـﻨـﻊ اﻟـﻌـﻠـﻢ أﺳﺎﻃﻴﺮ2 ﻟﻜﻦ اﻷﺳﺎﻃﻴﺮ  ﺗـﻈـﻞ ﺛـﺎﺑـﺘـﺔ ﻋـﻠـﻰ ﺣـﺎﻟـﻬـﺎ داﺋـﻤـﺎ ﺑـﺴـﺒـﺐ اﻟـﺘـﻔـﻜـﻴـﺮ اﻟﺪوﺟﻤﺎﻃﻴﻘﻲ2 أﻣﺎ اﻻه اﻟﻨﻘﺪي ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻓﻴﻐﻴﺮ اﻷﺳﺎﻃﻴﺮ ﻓﻲ اه اﻟﺘﻘﺪم واﻻﻗﺘﺮاب اﻷﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺼﺪق2 ﻷن اﻟﻨﻘﺪ ﻳﺤﺬف اﻄﺄ وﻳﻘﻠﻞ دوﻣﺎ ﻧﻄﺎﻗﻪ.
وﻟﻌﻠﻨﺎ ﻻﺣﻈﻨﺎ أن ﻣﻨﻬﺞ ﺗﻄﻮر اﻟﻌﻠﻢ ذاﺗﻪ Iﺎﺛﻞ إﻟﻰ ﺣﺪ ﻛﺒﻴﺮ ﻣـﺎ أﺳـﻤـﺎه دارون ﺑﺎﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ2 إﻧﻪ اﻻﻧﺘﺨﺎب اﻟﻄﺒﻴﻌﻲ ﺑ اﻟﻔﺮوض. اﻟﻌﻠﻢ ﻳﺘﻜﻮن داﺋﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺮوض اﻟﺘﻲ أوﺿﺤﺖ ﻣﻼءﻣﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻞ ا@ﺸﺎﻛﻞ وﺻﻤﻮدﻫﺎ أﻣﺎم اﻟﻨﻘﺪ2 إﻧﻬﺎ اﻟﻔﺮوض اﻟﺘﻲ ﻧﺎﺿﻠﺖ ﻟﻠﺒﻘﺎء ﺣﺘﻰ اﻟﻮﻗﺖ اﻟﺮاﻫﻦ2 ﻛﻤﺎ أﻧﻬﺎ اﺳﺘﺒﻌﺪت ﺗﻠﻚ اﻟﻔﺮوض اﻷﺿﻌﻒ ﻣﻨﻬﺎ2 أو اﻟﺘﻲ ﺣﺎول واﺿﻌﻮﻫﺎ أن ﻳﻌﺪﻟﻮﻫﺎ وﻳﻜﻴﻔﻮﻫﺎ2 ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﺗﻜﻴﻴﻔﺎ ﻣﻄﺎﺑﻘﺎ ﻟﻠﻤﻄﻠﻮب2 وﺣﻜﻤﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ اﻟﻔﺮوض اﻷﻗﻮى ﺑﺎﻟﻔﻨﺎء2 وﺑﻮﺑﺮ ﻓﻲ ﻫﺬا ﺗﻄﻮري داروﻧﻲ وﻟﻴﺲ ﻻﻣﺎرﻛﻴﺎ.
(352)



ليست هناك تعليقات: