الاثنين، 14 يناير 2019

المثقف والفيلسوف؛ الدكتور جمال نعيم.




المثقف والفيلسوف
الدكتور جمال نعيم

بين المثقَّف والفيلسوف -١-
أو في المثقَّف اليوم
لنتَّفقْ، منذ البداية، على أنَّ المثقَّف غير الفيلسوف. فالمثقَّف مناضلٌ ويسعى دائمًا إلى تغيير الأوضاع السَّائدة نحو الأفضل في رأيه. وغالبًا ما يكون هذا السَّعي إلى التَّغيير مباشِرًا عبر التَّعاطي في الشَّأن العام وفي السِّياسة. ما يُحرِّك المثقَّف هو إرادة التَّغيير، هو إرادة العمل، هو إرادة العَمَلان.
والمثقَّف هو، بهذا المعنى، ملتزمٌ ومعارضٌ. ملتزمٌ بمشروعٍ سياسيٍّ وثقافيٍّ يتضمَّن قيمًا، ويحاول المثقَّف أن يكون المدافعَ الأوَّل عن هذه القيم. وهو معارضٌ دائمٌ للسُّلُطاتِ القائمة.
الفيلسوف مناضلٌ من طرازٍ آخر. فالنَّشاطُ الفلسفيُّ لا يسعى إلى التَّغيير مباشرةً، أي عبر التَّعاطي في الشَّأن العام مباشرةً. ما يُحرِّك الفيلسوف هو إرادة العِلمان، هو إرادة المعرفة. والفلسفة نشاطٌ منزَّهٌ عن الغرض، هو نظرٌ للنَّظر، هو فنٌّ للفنّ. ولا يبتغي أيَّ منفعةٍ عمليَّةٍ، أو على الأقل لا يبتغي منفعةً عمليَّةً مباشِرةً.

ما الفلسفة؟
الفلسفة محبَّةُ الحكمة. ولحسن الحظِّ ليست بحكمة. فالفيلسوف عاشقٌ للحكمةِ أو صديقٌ لها أو طامحٌ إليها أو طالبٌ يدها، لكنَّه، ومنذ البداية، لا يطمع بامتلاكها. ويكفيه أن ينالَ الحظوةَ في عينيْ صوفيا، في عينيِ الحكمة.
الفيلسوف باحثٌ عن الحقيقة. لكنَّه، ومنذ البداية، يعترف بأنَّه عاجزٌ عن إدراكها، أو بالأحرى عاجزٌ عن إدراكها بكلِّيَّتِها. لكنَّ هذا لا يُثنيه عن السَّعي، بلا كللٍ ولا مللٍ، وراءها. لذا، لا معنى للقول بأنَّ هناك فلسفةً تختمُ الفلسفةَ وبأنَّ هناك فيلسوفًا يُمكن وصفُهُ بـ "خاتم الفلاسفة"، مع أنَّه لدى كلِّ فلسفةٍ كبيرةٍ هذا الادّعاء، ولدى كلِّ فيلسوفٍ كبيرٍ هذا الميْل وهذا النُّزوع، إذْ ما تلبث الأحداث تكشف زيفَ هذا الادِّعاء؛ لأنَّ المشكلاتِ الفلسفيَّةَ تتغيَّرُ باستمرار، وبالتَّالي فإنَّ الفلسفاتِ تتغيَّر باستمرارٍ. وأيُّ فلسفةٍ لا تعي أنَّها موقَّتة وتتحوَّلُ إلى نوعٍ من العقيدة والآراءِ النِّهائيَّةِ الثابتةِ، تحكم على نفسها بالموت والزَّوال. [ستكتشف هذه الفلسفة، أو سنكتشف نحن لاحقاً أنها لن تكون الأخيرة ولا الثابتة، لكن هذا لا يعني أنها ستزول]
الفلسفةُ هي هذا القولُ الكلِّيُّ اليونيفرساليُّ الذي يتوجَّه إلى البشريَّة جمعاء، إلى الجميع، إلى كلِّ إنسانٍ بما هو إنسانٌ عاقلٌ، يطرحَ أسئلةً ومشكلاتٍ بموجبِ طبيعةِ عقلِه بالذَّات، ولا ينفكُّ يطرح هذه الأسئلةَ والمشكلاتِ ويعيدُ طرحَها، وإن كان يُحسُّ بالعجز عن الإجابةِ عنها، أو على الأقل، يعرف أنَّ إجابتَه موقَّتةٌ ولا يمكن أن تكون نهائيَّةً.(يتبع)

بين المثقَّف والفيلسوف-٢-
أو في المثقَّف اليوم
العجز عن الإجابة أو لانهائيَّة الإجابة لا يدفعان العقل البشريّ إلى الاستسلام والكف عن طرح الأسئلة. فهو سوف يبقى يتنطَّح للمطلق، وذلك طلبًا لراحته. لذا، نقول إنَّ الفلسفة لن تنتهيَ ولن تموتَ ما دامت طبيعة العقل البشريّ هي هي.
هذا النَّشاط المنزَّه عن الغرض والذي لا يبتغي أيَّ منفعةٍ عمليَّةٍ، والذي ليس رأيًا بأيِّ شكلٍ من الأشكال، والذي ليس خبَرًا عن العالم كما كان يقول دائمًا الفيلسوف الرَّاحل موسى وهبه، يجب أن يعبِّر عن وجهة نظرٍ فلسفيَّةٍ تطال كافّة شؤون الحياة. فالفلسفة تُفكِّر الحياة والكون والإنسان. لكنَّها تفكِّر ذلك عبر أدواتٍ خاصَّةٍ بها، نصطلح على تسميتها بالأفاهيم. من هنا، فإنَّ الفلسفة هي فنُّ إبداع الأفاهيم. وهذه الأفاهيم تُجسِّد طريقةً جديدةً ومختلفةً في التفكير، كما تتضمَّن صورةً مختلفةً عن الفكر، أو تتضمَّن إجابةً مختلفةً عن السُّؤال الأوَّل في الفلسفة، وأعني به ما التفكير؟ أو ما الفكر؟ أو بالأحرى ماذا يعني أن نفكِّر اليوم؟ وكلُّ فيلسوفٍ كبيرٍ يشتهر بطريقته المختلفة في التَّفكير. لذا، قال فوكو إنَّ الفلسفة هي التَّفكير بشكلٍ مختلف. وعند دولوز، يبقى الإنسان أحمقَ ولا يبدأ بالتَّفكير إلَّا عندما يطرح مشكلةً جديدةً أو عندما يعيد طرح مشكلةً قديمةً بطريقةٍ جديدة.
إذًا، إنَّ النَّشاط الفلسفيَّ هو التَّفكير عبر أفاهيم. فالفلسفة أو محبَّة الحكمة تُفكِّر الكون والحياة والإنسان عبر الأفاهيم، في حين أنَّ الحكمة تُفكِّر الكون والحياة والإنسان عبر الصُّور، أي عبر الأمثال وجوامع الكلِم والقصص القصيرة والرُّموز. من هنا، كان القرآن الكريم كتابًا في الحكمة وليس كتابًا في الفلسفة.
ولا يمكن أن يكون للأفهوم معنًى إذا لم نفهم طبيعته الإبداعيَّة، أي علينا أن نفهمه في إطار مجموعةٍ من العناصر. ولو أخذنا الكوجيتو كمثال. فالكوجيتو أو الأنا أفكِّر لا قيمة له ولا معنًى له إذا لم نرَ إليه في إطار ما يُلازمه وما يرتبط به.
الكوجيتو: أنا أفكِّر إذًا أنا أكون.
الصيغة الكاملة: أنا أشكُّ، يعني أنا أفكِّر، إذًا أنا أكون، أي أنا أكون شيئًا يفكِّر.
هذا الكوجيتو يجيب عن مشكلةٍ فلسفيَّةٍ جديدةٍ، هي: كيف يمكن لما هو ذاتيٌّ أن يقوِّمَ ما هو موضوعيٌّ؟ وبعبارةٍ أخرى: كيف يمكن لي أن أصلَ إلى الحقيقة عبر النُّور الطبيعيّ، عبر النُّور الفطريّ الموجود في كلِّ واحدٍ فينا؟
مَنْ يطرح الكوجيتو؟ الأبله هو الشَّخصيَّة القلقة الرّئيسيّة التي تكتشف الحقل الفلسفيَّ الجديد وتطرح المشكلة الفلسفيَّة الجديدة وتُبدع الأفاهيمَ المناسبة. وهو تلك الشَّخصيَّة التي تريد أن تصلَ إلى الحقيقة انطلاقًا من ذاتها، انطلاقًا من النُّور الفطريّ الذي تمتلكه.
وما هو الحقل الفلسفيُّ الجديد الذي اكتشفه ديكارت؟ إنَّه حقلُ الذاتيَّة. عبره يُنهي ديكارت ألف سنةٍ من القرون الوسطى ويفتتح فضاءً فكريًّا جديدًا.
لكنَّ الأفهوم لا معنًى له أيضًا إن لم يرتبط ترابطًا ضروريًّا بمجموعةٍ من الأفاهيم التي تُجيب عن المشكلة ذاتها وتُزرع وتُسْتَنْبَت في الحقل الجديد ذاته وتُبدعها تلك الشَّخصيَّةُ الأفهوميَّة التي تطرح الكوجيتو.
ماذا ينقص الكوجيتو أيضًا حتى يكون له معنًى؟ إنَّه صورةٌ معيَّنةٌ عن الفكر تتمثَّل في مجموعةٍ من المسلَّمات أو المفترضات قبل-الفلسفيَّة، مثل الشَّك يساوي التَّفكير والتَّفكير يساوي الكون، والجميع يعلمون ذلك، كما أنَّ الجميع لديهم القدرة على التَّفكير. وكُلُّنا يتذكَّر مسلَّمة الفلسفة الحديثة التي يفتتح بها ديكارت القسم الأوّل من كتابه: العقل هو أعدل الأشياء توزُّعًا بين النَّاس.
هذه المجموعة من العناصر تجعل للكوجيتو معنًى وتَسِمُ أيَّ قولٍ فلسفيٍّ.
والفيلسوف لا يصير فيلسوفًا إلَّا إذا فكَّر بطريقةٍ مختلفةٍ عمَّن سبقه وعمَّن يُعاصره [..]. ويتجسَّد ذلك عبر بناء عمارةٍ فلسفيَّةٍ أو عبر بناء سستامٍ فلسفيٍّ حتى لو كان سستامًا مفتوحًا. إذًا، الفيلسوف يبني سستامًا فلسفيًّا يشتهر به. ولا بدَّ لهذا السِّستام أن يكون له مؤيِّدون ومريدون خارج دائرة الإقليم الذي يعيش الفيلسوف فيه.
يشتهر الفيلسوف إذًا، ببناء السِّستام في حين أنَّ المثقَّفَ لا سستامَ له. فهو يُغلِّبُ إرادةَ العَمَلان على إرادةِ العِلْمَان، على إرادة الحقيقة والمعرفة.(يتبع)

بين المثقَّف والفيلسوف-٣-
أو في المثقَّف اليوم
المثقَّف ملتزمٌ ومعارضٌ. لكنَّ هذا الالتزام وهذه المعارضة يختلفان من مثقَّفٍ إلى آخر. فيكون لدينا أنواعٌ مختلفةٌ من المثقَّفين. فالمثقَّف مناضلٌ ونهضويٌّ دائمًا، وينهمُّ بسؤال ما العمل؟ أي ما العمل لننهض بالمجتمع ونسير به نحو الأفضل؟ لذا، يحمل المثقَّف مشروعًا تغييريًّا نحو الأفضل.
وأرى أنَّ لفظَ المثقَّف يثير التباسًا بالعربيَّة. فقد يظنّ القارىء أنَّه مَنْ يتحلَّى بالثَّقافة، أو يكون متمكِّنًا منها، ويكون بذلك قريبًا من العلّامة. فالأديب والمفكِّر والمؤرِّخ مثلًا هم مثقَّفون. والأستاذ الجامعيُّ في مادةٍ علميَّةٍ مثلًا، يبقى أستاذًا جامعيًّا ولا يُصبح مثقَّفًا إلَّا إذا تعاطى في الفكر والأدب والسِّياسة. لكن لا الأستاذ الجامعيّ ولا الأديب ولا المفكِّر ولا المؤرِّخ هم مثقَّفون بما هم كذلك، أي إذا لم يصيروا ملتزمين ومعارضين.
تاريخيًّا، بدأت ولادة المثقَّف مع الفيلسوف والأديب الفرنسيّ ڤولتير. فهو أوَّل مثقَّف بالمعنى المتداول للكلمة، لا لأنَّه أديبٌ ومفكِّرٌ، بل لأنَّه استعمل أدبه وفكره وشهرته في سبيل قضيَّةٍ اجتماعيَّةٍ لها علاقةٌ بالعدالة والتَّسامح في المجتمع. وكان من الممكن لڤولتير أو لغيره أن يبقى أديبًا أو مفكِّرًا أو مؤرِّخًا أو حتى فيلسوفًا من دون أن يصير مثقَّفًا، وذلك إذا لم يتدخَّل في ما لا يعنيه وإذا لم يحمل مشروعًا تغييريًّا للمجتمع.
هذا المثقَّف الذي بدأ مع ڤولتير تَتَابَع مع إميل زولا وبلَغَ الأوْجَ مع جان بول سارتر. ومن ثمَّ مات لاسيَّما بعد الثَّورة الطُّلَّابيَّة في العام ١٩٦٨
المثقَّف الذي مات بعد العام ١٩٦٨ هو المثقَّف الكلِّيُّ أو اليونيفرساليُّ أو العموميُّ الذي مثَّله سارتر بامتيازٍ وكان خيرَ تجسيدٍ له. وقد انتبه فوكو إلى ذلك، فقال بولادة نوعٍ جديدٍ من المثقَّف هو المثقَّف النَّوعيُّ أو الخصوصيُّ.
وقد كان للفيلسوف الماركسيّ الإيطاليّ مساهمةٌ لافتةٌ في هذا المجال، وذلك عندما نظَّر للمثقَّف العضويّ، أي المثقَّف الثوريّ الذي يلتزم ويعارض انطلاقًا من انتمائه إلى جماعةٍ معيَّنةٍ، يحمل همومها ويناضل من أجل قضاياها ويُنظِّر لها.
في مقابل هؤلاء جميعًا، يقف المثقَّف اللامنتميُّ أو الهامشيُّ الذي مثَّله موسى وهبه بعد انفصاله عن الحزب الشُّيوعيّ اللبنانيّ. وكان علي حرب نادى بمثقّفٍ من نوعٍ جديدٍ، وذلك بوصفه وسيطًا فاعلًا أو عميلًا معرفيًّا كما هو علي حرب في كتاباته. والآن، في اعتقادي. يولدُ مثقَّفٌ من نوعٍ آخر، لا هو بالمثقَّف الكلّيّ الذي يمثِّلُ ضمير الإنسانيَّة ويطالب بقيم العدالة والحريَّة والمساواة للبشريَّة جمعاء، ولا هو المثقَّف النَّوعيّ الذي يتعاطى في الشَّأن العام انطلاقًا من اختصاصه بالذات، ولا هو المثقَّف العضويّ الذي يلتزم ببرنامج عمل جماعةٍ معيَّنةٍ قد تكون طبقةً أو حزبًا أو طائفةً دينيَّةً، ولا هو المثقَّف الهامشيُّ الذي يعيش في مدينته الأمثُليَّة، ولا هو الوسيط الفاعل أو العميل المعرفيّ الذي نادى به علي حرب.(يتبع)

بين المثقَّف والفيلسوف-٤-
أو في المثقَّف اليوم
نقل لنا أنجلس مقولة ماركس الشَّهيرة: "إنَّ الفلاسفة لم يفعلوا غير أنْ فسَّروا العالَم بطُرُقٍ مختلفةٍ، لكنَّ المَهمَّة الآن تتقوَّم في تغييره".
ماذا يعني هذا؟ هل يعني أنَّ أوان التَّفسير قد انتهى مع التَّفسير الأخير، وأعني به التَّفسير الهيغليّ للعالم؟ هل يعني أنَّ هيغل هو خَاتَم الفلاسفة وأنَّ لا فلاسفةَ من بعده؟ هل يعني أنَّ الفلسفة قد ماتت أو على الأقل قد انتهت؟
ينتمي ماركس إلى اليسار الهيغليّ الذي يعتبر أنَّ هيغل قد أنجز كلَّ شيءٍ على مستوى النَّظريَّة، أنَّ الهيغليَّة هي نهاية الحِكمة، والمطلوب الآن هو تجسيد هذه الحكمة في الواقع، وذلك عبر البراكسيس، أي عبر الفعل في العالم، أي عبر السِّياسة.
هل هذا يشير إلى المثقَّف العضويُّ كما نظَّر له فيما بعد أنطونيو غرامشي؟ فالمثقَّف يسعى إلى تغيير العالم عبر نضاله السِّياسي. وهو يلتزم قضايا الطَّبقة العاملة ويعارض السُّلطات، وذلك عبر الفعل السِّياسيّ، عبر إنشاء الأحزاب الشُّيوعيَّة التي تلتزم ببرنامجِ عملٍ محدَّدٍ، يسعى إلى تطبيق الاشتراكيَّة أوَّلًا، وصولًا إلى المرحلة الأخيرة من الاجتماع البشريّ، وأعني بها مرحلة الشُّيوعيَّة حيث تزول الطَّبقات وتتفكَّك الدَّولة ونعيش في مجتمع الأحرار.
بناءً على ما سبق، هل الفلسفة تغييرٌ أم تفسيرٌ؟ وهل كنط مثلًا كان فيلسوف تغييرٍ أم تفسيرٍ وهو المشهور عنه أنَّه لم يغادر مدينته قطُّ، ولم يشتغل مباشَرةً في السِّياسة؟ وهل المطلوب من الفيلسوف أن يتحوَّل إلى مثقَّفٍ فيكفّ عن فهم العالم ليعمل على تغييره أمَّ عليه أن يقدِّمَ فهمًا جديدًا للعالم، يُساهم في تغيير طريقة تعاملنا من العالم؟
في اعتقادي أنَّ الفيلسوف كان ومايزال يسعى إلى تغيير العالم، وذلك عبر تغيير طريقة التَّفكير، عبر إبداع الأفاهيم المناسبة. وهو بذلك، يتعاطى في الشَّأن العامَّ حتى لو بقي ملازمًا لبيته كما كان حال كنط الذي كان المؤسِّسَ الحقيقيَّ للحداثة، فقد كانت السُّلطاتُ تخشى من أفكاره. لذا، نقول إنَّه ليس ضروريًّا أن يشتغل الفيلسوف مباشَرةً في السِّياسة، في الشَّأن العام، إذ يكفي أن يتابع عمله في عالم الأفكار والأفاهيم، ويكون بذلك قد ساهم بقسطه من التَّغيير. لذا، نرى كيف تهاب السُّلُطاتُ الفيلسوفَ الثَّمانيني حتى لو بقي ملازمًا بيته. يكفي أن يفكِّر ويكتب حتى يشكِّلَ أكبرَ خطرٍ على السُّلُطات القائمة.
إذًا، يمكن القولُ إنَّ الفيلسوفَ، بمعنًى من المعاني، هو مثقَّفٌ نهضويٌّ تغييريٌّ وملتزمٌ، وإن كان يسعى إلى طريقة تفكيرنا، إلى جعلنا نفكِّرنا بطريقةٍ مختلفةٍ؛ لأنَّه متى تغيَّرت طريقة التَّفكير يتغيَّر معها كلُّ شيءٍ، يتغيَّر معها طريقة تعاملنا مع العالم وأشياء العالم والعلاقات القائمة بينها.
يُغيِّر الفيلسوف العالم عندما يطرح مشكلاتٍ جديدة ويبدع الأفاهيم المناسبة لها. وهو إذ ينشغل ببناء السِّستام ليُغنيَ القول الفلسفيّ العالميَّ يُساهم، وإنْ بشكلٍ غير مباشِر، بتغيير العالم، يساهم بإبقاء النَّهر الفلسفيّ جاريًا، فيغْتَرف منه مَنْ يشاء لاسيَّما المثقَّف.(يتبع)

بين المثقَّف والفيلسوف-٥-
أو في المثقَّف اليوم
مع ڤولتير (١٦٩٤-١٧٧٨)، مع قضيَّة كالاس التي سُمِّيت قضيَّة ڤولتير، بدأت ولادة المثقَّف التي ستعرف ولادتَها النِّهائيَّة مع الكاتب الفرنسي إميل زولا (١٨٤٠-١٩٠٢) في قضيَّة دريفوس الشَّهيرة.
ومُلخَّص قضيَّة كالاس أنَّ تاجرًا بروتستنتيًّا يعيش في بيئةٍ كاثوليكيَّةٍ ادَّعى بعدما وجد ابنه منتحِرًا، أنَّ القضيَّة تتعلَّق بجريمة قتلٍ خوفًا من إقدام الكاثوليك على إحراق ابنه بسبب مخالفته تعاليم المسيح بانتحاره. لكنَّ برلمان تولوز حاكم الأبَ واتَّهمه بأنَّه هو الذي قتل ابنه منعًا لانتقاله إلى الكاثوليكيَّة، فتمَّ إعدامُ الأب ومصادرة أملاكه. لكنَّ عائلته لم تستسلم وأقنعت ڤولتير بالدِّفاع عنها، فكتب كتابه "محاولة في التَّسامح" وأعاد فتح ملف القضيَّة حيث أعلن برلمان باريس براءة المتهم وأوصى الملك بدفع تعويضٍ لذويه عمَّا لحق بالأبِ من ظلمٍ دينيٍّ.
هذه القضيَّة صارت تقليدًا عند مثقّفي فرنسا الذين باتوا يمثِّلون ضمير الأمَّة الفرنسيَّة، لا بل ضمير أوروبا، ومن ورائها ضمير الإنسانيَّة جمعاء.
وفي نهاية القرن التَّاسع عشر، أدانت إحدى المحاكم الفرنسيَّة ضابطًا فرنسيًّا يهوديًّا بالتَّجسُّس لصالح ألمانيا، فتمَّت إهانته أمام الملأ ونفيه إلى جزيرةٍ نائيةٍ. وانبرى للدفاع عنه إميل زولا الذي كان ككاتبٍ، ملتزمًا بالقضايا الكونيَّة. فوجَّه رسالة إلى رئيس الجمهوريَّة بتاريخ ١٢ كانون الثَّاني ١٨٩٨، بعنوان: "إنِّي أتَّهم...". وممَّا جاء فيها: "ولأنَّهم تجرَّأوا، فإنَّني سأتجرَّأ، أنا الحقيقة سأقولها، لأنّني وعدت بقولها إذا تخلَّى القضاء، رغم معرفته بها، عن قولها كاملةً غير منقوصةٍ. فواجبي يكمن في أن أتكلَّم. إنَّني لا أريد أن أكون متواطئًا، وإلَّا فإنَّ لياليَّ ستصبح مهووسةً بشبح البريء الذي يقف هناك، وسط أفظع أشكال العذاب، عقوبةً عن جريمةٍ لم يرتكبها".
وقد نجح زولا في الدِّفاع عن الضَّابط الفرنسيّ دريفوس وتمَّ إعلان براءته. ومن وقتها صار المثقَّف ضمير الإنسانيَّة. وهو يتدخل في ما لا يعنيه، فيدافع عن قيم العدالة والمساواة والحرّيّة. لكنَّه لا يتحوَّل إلى رجل سياسةٍ إذ يبقى في موقعه كأديبٍ أو مفكِّرٍ، يجد من حقِّه، لا بل من واجبه، أن يستعمل مهابته وسلطته الأدبيَّة ليرفع الظُّلم عن المظلومين.
فارس العدالة، ضمير الإنسانيَّة، المدافع عن البشريَّة جمعاء وعن القيم الإنسانيَّة اليونيفرساليَّة كالعدالة والحرّيّة والمساواة. هذا هو المثقَّف الكلِّيُّ الذي كان سارتر أكبر ممثِّلٍ له.
هذا المثقَّف الذي كان يمثِّل ضمير الإنسانيَّة والذي كان يقبض على الحقيقة ويقولها للنَّاس، قد مات بعد ثورة الطُّلاب في العام ١٩٦٨. ونشأ مكانه المثقَّف النَّوعيّ أو الخصوصيّ بحسب تعبير فوكو الذي أعلن ولادته بعدما رفع العلماء النَّوويُّون الصوت عاليًا انطلاقًا من اختصاصهم بالذَّات ليحذروا النَّاس من مخاطر السِّلاح النَّووي.
وبالإمكان إعطاء أمثلةٍ أخرى، كأن نعتبر أنَّ اختصاصيَّة التغذية يجب أن ترفع الصَّوت عاليًا إذا ما تبيَّن لها أنَّ هناك خطرًا على السَّلامة العامَّة للمواطنين. وهكذا، فإنَّ المثقَّف الخصوصي لا يدافع عن العدالة والحريّة والمساواة كقيمٍ متعاليةٍ ولا يتعاطى في الشَّأن العام بوصفه القابض على الحقيقة وبوصفه ضمير الإنسانيَّة، بل ممَّا وجده في اختصاصه بالذَّات ويشكِّل قضيَّة يجب الإعلان عنها أمام الرَّأي العام.
أمَّا المثقَّف العضويُّ فهو المثقَّف المنتمي أو الثوريّ الذي ينطق باسم جماعةٍ معيَّنةٍ كحزبٍ معيَّنٍ أو طبقةٍ معيَّنة، ويتبنَّى أفكارها ويلتزم بمشروعها للتَّغيير. لكنَّه يتمايز من أفرادها.
والمثقَّف العضويُّ يشبه المثقَّف الدينيّ، كما كان حال مرتضى مطهَّري، الذي ينطق باسم جماعته ويخترع الوسائل النَّظريَّة للتغيير.
إذًا، المثقَّف لا يمثِّل ضمير الإنسانيَّة، ولا يتدخَّل في كلِّ ما لا يعنيه، بل في ما يخصُّ قضايا جماعته. وقد قسَّم غرامشي أجهزة الدَّولة إلى أجهزةٍ أيديولوجيَّةٍ كالمدرسة والإعلام والجامعة... وأجهزةٍ قمعيَّة كالشّرطة والجيش...
أمَّا المثقَّف الهامشيُّ فهو مثقَّفٌ لا منتمٍ، والذي يمارس هامشيّته لتصبح الحياةَ أفضل أو يمكن أن تُعاش. لا ينتمي إلى أيِّ جماعةٍ ولا أيِّ حزبٍ ويمارس ثقافته كما لو كان في مدينته الأمثليَّة، مع أنَّه بممارسته هذه يلتزم ويعارض ولو بشكلٍ غير مباشر.
وهناك المثقَّف كوسيطٍ فاعلٍ أو كعميلٍ معرفيٍّ كما أعلنه علي حرب عندما تكلَّم على أوهام المثقَّفين الخمسة: أي وهم النُّخبة ووهم الحرّيّة ووهم الهويّة ووهم المطابقة ووهم الحداثة.
والدّور الرَّئيسيُّ لهذا المثقَّف الذي تخلَّى عن رسوليَّته ونخبويّته وطلبعيَّته، هو الخلق للغاتٍ أفهوميَّةٍ ومناخاتٍ حواريَّةٍ تسمح ببلورة قيمٍ مشتركةٍ تتيح اللقاء بين فردٍ وآخر، بين حزبٍ وآخر.(يتبع)

بين المثقَّف والفيلسوف-٦-
أو في المثقَّف اليوم
(
المثقَّف الافتراضي)
مات المثقَّفُ الكُلِّيُّ مع مصافحة سارتر لآرون على درج الإليزيه في العام ١٩٧٨. ولحِقه المثقَّفُ النَّوعيُّ والخبير التِّقني بعدما تمَّ انغماسهما في حاشية السُّلطان. أمَّا المثقَّف العضويُّ فهو، أصلًا، أقرب إلى المثقَّف الأيديولوجيّ الذي لا يكون فاعلًا إلّا بتحرره من جماعته ومن أيديولوجيَّته [..]. والمثقَّف الهامشيُّ يعيش أمثُليَّته ويعارض السُّلطان ويلتزم مبادىء جمهوريَّته الأمثُليَّة، لكنَّه لا يغيِّر إلّا بشكلٍ غير مباشِرٍ وعلى المدى الطَّويل جدًّا.
وبعدما وجَّه نقده القاسي للمثقَّف الذي فقد امتلاكه للحقيقة وفقد كلِّيَّة ثقافته ونسبيَّتها ونسبيَّة قيمها الإنسانيَّة، كالمساواة والحرّيّة والعدالة، فإنَّ علي حرب نادى بالوسيط الفاعل أو الوسيط المعرفيّ والعميل العقليّ أو المعرفيّ الذي يشتغل على اللغة الأفهوميّة والرَّمزيَّة معتقِدًا أنَّه قد تحرَّر من نبَوِيَّتِه ومن رسوليَّتِه، ليُمارِس دوره في التَّغيير.
وإذا اتفقنا أنَّ المثقَّف ليس العلّامة وليس الأديب أو المفكِّر أو المؤرِّخ أو الفيلسوف أو الفنَّان...الخ، بل هو أيُّ واحدٍ من هؤلاء، بل وأيُّ إنسانٍ عاديٍّ لديه فكرة عن التَّغيير ويطالب به بوصفه عضوًا في المدينة، ومن حقِّه أن يُمارِسَ حقوقه كاملةً، فإنّنا نرى أنَّ هناك نوعًا جديدًا من المثقَّفين أقلَّ ادِّعاءً يولد حاليًّا من رَحِم وسائل التَّواصل الاجتماعيّ. وبإمكاننا أن نُسمِّي بعض الأصدقاء على سبيل المثال لا الحصر، من أمثال: محمد الحجيري، وحسن ملاط، و AboMalik Masry، و Alia Jraij و Jaafar Ali Dia، و Mehdi Harb و Majid Majd و Mohamad Al-Houjairi
و مريم ميرزاده، و هبة طاهر، إلى ما هنالك من أسماءٍ لامِعةٍ وناشِطةٍ على وسائل التَّواصل الاجتماعي. لكن ما هي ميزات هذا النّوع الجديد الذي نصطلح عليه ب المثقَّف الافتراضيّ؟
بإمكاننا أن نُحدِّد عدَّةَ ميزاتٍ له:
١-إنَّه ملتزِمٌ ومعارضٌ. لكنَّه ملتزِمٌ ببرنامجِه الخاص وليس ببرنامجِ حزبٍ معيَّنٍ أو جماعةٍ معيَّنةٍ. وهو معارضٌ للسُّلطة كما للأحزاب التي تتناوب على السُّلطة.
٢-إنَّه مثقَّفٌ لامنتمٍ. لكنَّ لاانتماءه ليس على شاكلة المثقَّف الهامشيِّ الذي لا يتوجَّه مباشرةً للرَّأي العام.
٣-ليس شرطًا فيه أن يكون أديبًا أو مفكِّرًا أو مؤرِّخًا أو حتى عالِمًا وفيلسوفًا مشهورًا وذا نفوذٍ وهيبةٍ على طريقة ڤولتير وزولا وسارتر، وإنْ كان يمكنه ذلك، فقد يكون إنسانًا عاديًّا، لكنَّه يحمل همَّ التَّغيير بعد أن تواطأ الجميع مع السُّلطان وأصبحوا من أجهزته الأيديولوجيَّة.
٤-ليست لديه أوهامٌ كبيرةٌ. فهو لا يدعي امتلاك الحقيقة ولا ينطق باسم مبادىء كلّيَّةٍ عامَّةٍ جدًّا ولا يريد تغيير العالَم بأسره.
٥-يتوجَّه هذا المثقَّف الافتراضيُّ بشكلٍ شبهِ يوميٍّ إلى الرَّأي العامّ، ويتناول موضوعاتٍ شديدةِ التَّنوّع.
٦-لا يشكِّلُ طبقةً ولا جماعةً يمكن السَّيطرة عليها بسهولة.
٧-ليس لدى هؤلاء المثقَّفين الافتراضيِّين هرَميَّةٌ معيَّنة. فهم فئةٌ عَرَضَانيّةٌ إذا جاز التَّعبير، إذ تشتغل في كلِّ الاتجاهات وليس لديها مركز تنويرٍ واحد.
٨-يستفيد المثقَّف الافتراضيُّ من الثَّورة التكنولوجيّة وهو لا يعيش من دونها، إذْ بوساطتها صار له منبرٌ خاصٌّ ودائمٌ. وهذا يعني أنَّ ولادة هذا المثقَّف كانت غير ممكنةٍ قبل ثورة التكنولوجيا.
٩-ينشط هذا المثقَّف بعد أن تقاعس الجميع.
١٠-يعمل من أجل التَّنوير. لكنَّه متواضعٌ في تنويريَّتِه. وهو يعمل بشكلٍ موضعيٍّ، فلا يمتد نشاطُه، على الأقل حاليًّا، ليشمل الكرة الأرضيَّة بأكملها.
هذه أهمُّ ميزات هذا المثقَّف الجديد. ويمكن إضافةُ ميزاتٍ أخرى. وفي كلِّ الأحوال، فإنَّ التَّغيير سيجد حكمًا مَنْ يُطالب به مهما قويَ السُّلطان ومهما توحَّشت الرَّأسماليَّة. ولعلَّ مظاهرات السِّترات الصَّفراء في فرنسا خيرُ دليلٍ على ذلك.
(جمال نعيم؛ عن الفيسبوك)



ليست هناك تعليقات: