الخميس، 10 يناير 2019

نقد العقل البياني العربي؛ (فصل من كتاب العقل المستقيل للباحث عيسى الحجيري)




نقد العقل البياني العربي

أنهى الباحث [= الجابري] دراسته لمكوّنات العقل العربي داخل الثقافة العربية بالتمييز بين ثلاثة نظم معرفية لكلٍ منها آليتُه الخاصة في إنتاج المعرفة ومفاهيمُه ورؤاه الخاصة، ولكن أسئلة كثيرةً بقيت على بساط البحث ومنها: لماذا اختنقت التجربة الأندلسية التي كانت مؤهلة لطرق آفاقٍ جديدة ولم يتردد لها صىدى داخل الثقافة العربية؟ هذه الثقافة التي انتهى زمنها أيضاً إلى الركود؛ لقد تسلمت الحضارة العربية الإسلامية زمام القيادة "العالمية" على أنقاض نهاية العصر الهلينستي، عصرالانحطاط في تاريخ الفكر البشري فكانت بداية البداية للنهضة الأوروبية التي بدورها انطلقت مع لحظة اختناق التجربة الحضارية العربية.
فلماذا فشلت هذه التجربة الثقافية العربية في تجاوز بداية البداية، ولم تنجح في ما نجحت فيه التجربة الأوروبية؟
ها هو الجابري يعيد صوغ السؤال كما يلي: لماذا لم تتطور أدوات المعرفة (مفاهيم، مناهج، رؤى) في الثقافة العربية خلال نهضتها في القرون "الوسطى" إلى ما يجعلها قادرة على إنجاز نهضة فكرية وعلمية مطردة التقدم على غرار ما حدث في أوروبا ابتداءً من القرن الخامس عشر؟
ومرةً جديدة يكون السؤال مطروحاً في إطار المقارنة مع النهضة الأوروبية الحديثة، لكن وبما أن هذه النهضة متمسكة بارتباطها المباشر بالتجربة اليونانية القديمة ونهضتها، فالمقارنة سترتد إلى التجربة اليونانية والتجربة الأوروبية الحديثة معاً؛ وفي مساءلة التجربة اليونانية عن عنصر التقدم فيها وجديدها الفلسفة، يجده الباحث في العلم، فتقدم الفلسفة ارتبط بتقدم العلم ارتباطاً سببياً، ارتباط العلة بالمعلول. والسؤال يبقى مع ذلك: ولماذا لم يواصل العلم تقدمه عند اليونان إذاً؟ ولماذا دخلت الفلسفة والعلم بعد أرسطو مرحلة الانحلال والتراجع؟
 يعرض الجابري رأي فيستوجيير القائل بأن العقل اليوناني "التهم نفسه" بسبب فقدان الثقة بالعقل، والركون إلى مصادر للمعرفة أجنبية عنه (الإلهام والعرفان)، ويا لَلمفارقة العجيبةّ! مرةً أخرى المتهم نفسه والداء نفسه، إنه الشرق وتأثيراته اللاعقلانية من جهة، والانفجار الداخلي الذي أصاب العقل اليوناني بسبب اعتماده على ديالكتيك الفكر وإعراضه عن التجربة واحتقاره للمعرفة الحسّية.
فهل يمكن تفسير ما حدث للعقل البياني العربي بالطريقة نفسها؟؛ إن تسرب الغنوص إلى دائرة البيان العربي، من خلال ما يُعرَف "بالتصوف السنّي"، كان إيذاناً بأن العقل العربي يتجه إلى تقديم استقالته. أكيد أن العوامل السياسية والاجتماعية والتاريخية كان لها دور في تثبيت وتكريس وضعية العقل المستقيل، إلى جانب احتلال العقل المستقيل والهرمسية مواقع أساسية لهما في الثقافة العربية، وإلى جانب الطبيعة الخاصة بالعقل البياني العربي، وهي طبيعته التي لا تقبل التجربة أصلاً، وهي نقطة ضعفه الأساسية والخطيرة، فقد كان الموضوع الذي تعامل معه العقل البياني العربي ولا يزال هو النصوص، والتعامل مع النصوص غير العامل مع الطبيعة وظواهرها، فبما أن العقل البشري يجد في مجال الطبيعة من إمكانيات التقدم وإطراده ما لا حد له، ما يسمح له ـ أي العقل ـ بالتالي في خلق أزمنة ثقافية جديدة، إذ يقوم الزمن الثقافي الجديد ـ حسب منهجية الجابري ـ كلما استطاع العقل أن يقطع مع مفاهيمه وأجهزته النظرية السابقة، غير أن ما يمكن استخراجه واستنباطه من قواعد تحكم النص اللغوي، أو من تشريعات تستقى من النص الديني محدودة جداً، ولا بد أن يأتي بالتالي اليوم الذي يستنفد البحث كل إمكانية للتقدم ولا يعود ثمة من إمكانية للعمل سوى المراجعة وإعادة التنظيم، وهذا بالفعل ما جرى في مجال العلوم العربية الإسلامية، التي انتهى كل شيء فيها في مرحلة تأسيسها أي "عصر التدوين".
فماذ بقيى للنحاة بعد كتاب سيبويه؟ وللغويين بعد كتاب "العين" للخليل بن أحمد؟ وللأصوليين بعد رسالة الشافعي؟..
فبعد أن استُنفِدت إمكانيات الموضوع (النصوص)، لم يبق سوى التفريعات والنظر في (طرق النظر) و"آداب" المناظرات والجدل، وكان ذلك يتم داخل دائرة مغلقة تحكمها حركةٌ دائريةٌ ضرورةً، تكرس التكرار والرتابة وتلتهم ما تنتج، وصار الزمن فيها زمناً مكروراً معاداً، زمناً ميتاً أو هو بالحيّ ـ الميت أشبه.
والأهم هو ما ينتج من التعامل مع النصوص وحدها لا بالهدف من هذا التعامل نفسه. فإذا كان الوضع الطبيعي أن يأتي تقنين اللغة تتويجاً لتطور آدابها، فإنه سيكون من الطبيعي أيضاً أن يأتي تقنين العقل نتيجة لتطور منتجاته أيضاً، ولكن ما حصل في التجربة الثقافية العربية الإسلامية بالتشريع للمشرع، أي تحديد مجال حركة العقل البياني العربي وطريقة عمله في المجالات التي تحرك داخلها (فقه ـ كلام ـ تفسير ـ حديث ـ بلاغة)؛ فلم يكن في إمكان العقل البياني العربي أن يتقدم أكثر مما فعل، فما أنجزه في مجال اللغة والفقه لم يكن عبارة عن قوانين اللغة والتشريع التي يقتضي التقيد بها فقط، بل أيضاً قيوداً للعقل وتأطيراً له، "فلم يكن من الركود مناص ولا من التقليد مفر"؛ ولا بإمكان، ولا من طبيعة علوم "البيان" أن تضمن للعقل العربي وبالتالي للفكر والثقافة العربية إطراد التقدم.
كان الصراع في الفكر العربي بين نظامين معرفيّين يؤسس كل منهما أيدلولوجيا معينة: النظام البياني والأيديولجيا السنّية من جهة، والنظام العرفاني والإيديولوجيا الشيعية (الإسماعيلية بخاصة من جهة أخرى)؛ وعندما دخل النظام البرهاني طرفاً ثالثاً كان دخوله للقيام بوظيفةٍ في ذلك الصراع، وأصبح موجهاً منذ اللحظة الأولى بذلك الصراع ومحكوماً به. أما العلم، بمعنى الكلمة، فقد بقي على هامش المنظومات الفكرية والأيديولوجية المتصارعة، ولم تُتَح له فرصة الإسهام في تكوين العقل العربي (عن تكوين العقل العربي)؛ فلقد ظل العلم العربي خارج مسرح الحركة في الثقافة العربية، ولم يشارك في تغذية العقل العربي ولا في تجديد قوالبه، ولا في فحص قبلياته ومسبقاته؛ فبقي الزمن الثقافي العربي هو هو، ممتداً على بساط واحد من عصر التدوين إلى عصر ابن خلدون، وركد هذا الزمن وتخشبت موجاته منذ عصر ابن خلدون إلى "النهضة" العربية الحديثة التي لم تتحقق بعد.
ويقدم الجابري في هذا الإطار جوابه عن السؤال: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرُهم؟؛ أو لماذا لم تتطور الأوضاع الاجتماعية ـ الاقتصادية العربية في (القرون الوسطى) إلى نظام رأسمالي رغم ما عرفته تلك الأوضاع من اقتصاد بضاعي واسع ومتطور؟ ويقول: هذا السؤال سيظل ناقصاً ومحدود الآفاق ما لم يطرح على الصعيد الإيبستيمولوجي، وما لم يتجه إلى العقل العربي نفسه، مباشرة؛ ذلك أن العرب "إنما بدأو يتأخرون حينما [قدّم] العقل عندهم استقالته، حينما أخذوا يتلمسون المشروعية الدينية لهذه الاستقاله، في حين بدأ الأوروبيون يتقدمون حينما بدأ العقل عندهم يستيقظ ويسائل نفسه. أما الرأسمالية فهي بنت العقلانية. 

(عيسى الحجيري؛ العقل المستقيل؛ ص 157)

ليست هناك تعليقات: