الأحد، 11 مارس 2018

في الأخلاق؛ سبونفيل، ترجمة حسن أوزال.




في الأخلاق
أندريه كومت سبونفيل
ترجمة حسن أوزال

http://mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82-2495

"أن تَكُون سقراطًا غير مُشبع أفضل من أن تَكُون خنزيرًا مُشبعًا: أن تكون سقراطًا غير مشبع أفضل من أن تكون غبيًا مشبعًا. وإذا كان للغبي أو للخنزير رأي مخالف، فذلك ليس إلا لأنهما لا يُدْرِكان سوى جانبٍ واحدٍ من القضية: جانبهما هما الاثنين. أما الطرف الآخر، على سبيل المقارنة، فهو يدرك الجانبين معًا." (جون ستيوارت مِل).

إننا نسيء الظن فيما يتعلق بالأخلاق، فليست هُنا من أجل العقاب ولا من أجل القمع أو الاتهام، مادام أن لتلك الأمور محاكم وشرطة وسجونًا، ولا أحد يعتبرها أخلاقية في شيء. لقد مات سقراط في السجن، لكنه أكثر حرية من قضاته بالرغم من كل شيء، تبدأ الفلسفة هنا، مثلما تبدأ الأخلاق، فهي تبدأ دومًا حيث يستحيل كل عقاب، وحيث يستعصي كل قمع، وحيث لا نكون بحاجة لأي اتهام خارجي على أية حال. إن الأخلاق تبدأ حيثما نكون أحرارًا، فهي هذه الحرية ذاتها عندما تَحْكُم نفسَها وتُقاضي ذاتَها.
هب معي أنك تريد أن تسرق سلعة من المتجر، لكنك تخشى أن يتم ضبطك من لدن مرصد، أو نظام مراقبة إلكترونية، فتُعاقَب وتُتَّهَم، فهل نعتبر ذلك نزاهة؟ أبدًا، إنه مجرد احتياط، إنه ليس بأخلاق، بل احتراس، لذلك فالخوف من الدركي نقيض الفضيلة، إنْ لم نَقُل إنه فضيلة الاحتراس فحسب. لكن فلتتخيَّل خلافًا لذلك، أن بحوزتك هذا الخاتم الذي يتكلم عنه أفلاطون، أقصد خاتم "جيجيس" الشهير الذي بوسعه أن يجعلك لا مرئيًا، كُلَّما رغبتَ في ذلك، إنه بمثابة الخاتم السحري الذي عثر عليه أحد الرعاة بالصدفة، ويكفيك أن تُدِير حجره الكريم نحو باطن الكفّ لكي تصبح مَخْفِيًا كليًا، وأن تديره نحو الخارج لتصبح مرئيًا، والحال أن "جيجيس" الذي كان فيما مضى، رجلاً معروفًا بالنزاهة، هو مَنْ لم يَعُد يعرف كيف يصمد أمام إغراءات هذا الخاتم، لذلك فهو من أجاد في استغلال كل الإمكانات التي أتاحها له هذا الخاتم، بحيث أنه ما إن دخل إلى القصر حتى أغوى الملكة وقتل الملك، ليستولي هو نفسه على العرش ويستعمل كل السُّلطات لصالحه لا غير. إن الذي يروي الحكاية في الجمهورية، يستنتج أن ما يُميِّز الخَيِّر عن الشِّرِّير أو مَنْ نَعْتَبِرُهم كذلك، إنما هو الاحتراس أو النفاق ليس إلا، إن ما يميزهم بتعبير آخر إنما هو الأهمية المتفاوتة التي يُولونها لِنَظْرَةِ الآخر أو مقدرتهم على الاختفاء غير المتكافئة تقريبًا. أما حالما يمتلكان كليهما خاتم "جيجيس"، فلا شيء سيميز الواحد عن الآخر: "سيسعى كل منهما إلى نفس الهدف"، وهذا ما يجعل الأخلاق تبدو كما لو كانت مجرد أكذوبة وخدعة، إن لم نقل أنها مجرد خوف تَلَبَّس لُبوس الفضيلة. ويكفي المرء أن يكون قادرًا على أن يتوارى عن الأنظار، لكي يتخلص من كل منع، مثلما يكفي ذلك، لكي لا يضحى الشغل الشاغل بالنسبة لكل واحد إلا الذود عن متعته ومصلحته النرجسيتين.
هل هذا صحيح؟ إن أفلاطون بالتأكيد مقتنع بعكس ذلك، لكن لا أحد مجبر على أن يكون أفلاطونيًا، فالرد الوحيد والمناسب فيما يَخُصُّكَ، إنما يعود إليك، فلتتصور تجربة فكرية، أن الخاتم بحوزتك، ما الذي ستفعله؟ وما الذي ستمتنع عن فعله؟ هل ستظل محترِمًا لِمِلْكِيَّةِ الغير، كما لِحَمِيمِيَّتِه وأسراره، حريته وحياته؟ لا أحد يستطيع أن يجيب بدلاً منك، إن هذا السؤال لا يخص أحدًا غيرك، بل يخصك كليًا، فكل ما لا تفعله، لكنك مُستعدٌّ للإقدام عليه لو كُنتَ مخفيًا عن الأنظار، لا ينحدر من الأخلاق في شيء، أكثر مما ينحدر من الاحتراس أو النفاق. وخلافًا لذلك، فكل ما ستبقى مصرًا على الإقدام عليه أو الامتناع عن إتيانه لا من أجل منفعة بل واجبًا، حتى لو كُنْتَ مخفيًا، هو وحده ما يُعتَبَرُ أخلاقًا صِرفة. إنَّ على نفسك حجة مثلما لأخلاقك مقياس، إذ به تُقاضي نفسك بنفسك، لكن ما تكون أخلاقك بالضبط؟ إنها ما تَفْرِضُه على نفسك، لا أخدًا بعين الاعتبار، لنظرة الآخرين، أو مخافة هذا التهديد الخارجي أو ذاك، بل باسم تَمَثُّلٍ مُعَيَّنٍ للخير والشر، كما للواجب والممنوع، وللمقبول وغير المقبول، وذلك من أجل الإنسانية ومن أجْلِك. إنها بالضبط جملة من القواعد التي ستَقْبَلُ بها حتى ولو كُنْتَ مخفيًا ولا تُهزَم.
لكن هل سيجْعلُكَ هذا تُقْدِم على كثير من الأمور؟ أم على القليل منها؟ لعلك أنتَ مَنْ يُقَرِّر في هذا الشأن. فهل ستقبل مثلاً، لو كُنتَ قادرًا على أن تبقى مخفيًا، أن تَتَّهِم بريئًا؟ وهل سَتَقْبَلُ أن تخون صديقًا، وأن تغتال طفلاً، وأن تسرق، وأن تُعذِّب، وأن تَقْتُل؟ لا يتوقف الجواب إلا عليك، ولستَ مرهونًا أخلاقيًا إلا بجوابك، لكن ماذا لو كنتَ لا تَمْلِك الخاتم؟ لعل ذلك لن يُثنِيك عن التفكير واتخاذ القرار والتصرف. وإذا صح القول بأن ثمة فَرْقًا شاسعًا ما بين إنسان غبي وآخر نزيه، فهذا الفرق هو ما يعود إلى كون نظرة الآخرين ليست هي كل شيء، وإلى كون الاحتراس ليس هو كل شيء.
هذا هو رهان الأخلاق وفَرَادَتُها القصوى، ذلك أن كل أخلاق هي علاقة بالآخر، بدءًا مِنَ الذات وصلاً إليها، فأن تتصرف أخلاقيًا يعني أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخر، لكن "بِغَضِّ النظر عن الآلهة والناس" كما قال أفلاطون؛ أي دونما انتظار جزاء ولا شكور، ودونما حاجة في ذلك لنظرة أخرى عدا نظرتك الخاصة. هل قُلتُ رهانًا؟ لقد أسأتُ التعبير، مادام أن الجواب ليس يتوقف إلا عليك، إنها ليست رهانًا بل اختيارًا، فأنتَ وحدك تعرف ما الذي يلزمك فعله، ولا أحد يستطيع أن يتخذ القرار بدلاً منك، أما فرادة وعظمة الأخلاق، فأنتَ لا قيمة لك إلا من خلال ما تفعله من خير، وما تَمتَنِع عن الإقدام عليه من شر، وذلك ليس طلبًا لمنفعة بل لاقتناعك، حتى ولو أن لا أحد على علم بذلك أبدًا، بضرورة حُسن التصرف.
إنها عقلية "سبينوزا" الذي كان يقول: "أَحْسِنِ التصرف و ابقَ فرحًا"، إنها العقل فحسب، إذ كيف بك أن تَفْرَح دون أن تُعِير قيمة لذاتك ولو قليلاً؟ وكيف لك أن تُعِير قيمة لذاتك دون أن تتحكم في نفسك ودون أن تَتَسَيَّد ذاتك ودون أن تتجاوز نفسك؟ لَكَ أن تَلعبَ دَ وْرَك كما يقال، لكن الأمر ليس لا بلعبة ولا بفرجة، إنه حياتك عينها، فأنتَ هنا والآن ما تَفْعَلُه. ومن التفاهة أخلاقيًا أن تَخال نفسَك إنسانًا آخر، ذلك أنه بِوُسْعِنا أن نتمنى الغنى والصحة والجمال والسعادة...الخ، لكن من الغرابة بمكان أن نتمنى الفضيلة، فأن تكون غبيًا أو إنسانًا فاضلاً أمرٌ يتوقَّف عليك، وأنتَ وحدك من يختار هذا أو ذاك، وقيمتُكَ بالضبط هي فيما تُريده.
ما الأخلاق إذن؟ إنها بمثابة كل ما يَفْرِضُه شخصٌ ما، على نفسه أو يَرفُضُه، وذلك ليس أوَّلاً، بغاية الزيادة من قدر سعادته أو تحسين عيشه، لأن ذلك سيغدو مجرد أنانية، بل اعتبارًا منه لمصالح الغير وحقوقه، وحتى لا يُعَدَّ أيضًا من الأغبياء، بل يبقى كذلك، وفيًا لتصور خاص للإنسانية كما لتصور خاص عن ذاته. وبدهي أن الأخلاق هي ما يُجيب عن سؤال "ما الذي عليَّ أن أفعله؟" فهي جملة من الواجبات، إن لم نقل من الأوامر، التي أعتبِرُها معقولة، حتى لو حصل لي أن أخللتُ بها، كما قد يُخِلُّ بها أيّ شخص.
إنها القانون الذي أُلْزِم به نفسي، بِغضِّ النظر عن رأي الغير ودونما انتظار جزاء أو شكور.
لعل الأمر هنا يتعلق ب "ما الذي عليَّ أن أفعله؟" وليس ب "ما الذي على الآخرين أن يفعلوه؟" ذلك لأن الأخلاق، على حد تعبير "ألان"، "ليست على الإطلاق بشأن مرصود للجار"، وكل من ينشغل بواجبات الجار لا يُعتبَر أخلاقيًا في شيء، بل واعظًا، لكن هل من أنموذج أخبث من هذا الأنموذج؟ وهل من خطاب أتفه من هذا الخطاب؟
لا تكون الأخلاق معقولة إلا إذا صِيغَتْ بضمير المتكلم، فليس دليلاً على الجسارة، فأن تقول مثلاً لأحد ما: "إن عليك أن تكون جسورًا" مثلما ليس برهانًا على الشجاعة أن تتوجه إليه بالقول: "يجب عليك أن تكون شجاعًا"، وذلك لأن الأخلاق لا قيمة لها إلا بالنسبة للذات، مثلما أن الواجبات لا شأن لها إلا بالنسبة للنفس، أما الآخرين فتكفيهم الشفقة والقانون. عدا ذلك، مَنْ ذا الذي يستطيع أن يَعْلَم مقاصد الآخرين، ومن ذا الذي بوسعه أن يدرك أعذارهم أو مَزاياهم؟ فلا أحد يمكنه أن يُحاكَم أخلاقيًا إلا من لدن الله، أو من لدن نفسه، وهو أمر يُغْنينا عن كل شيء. فهل كنْتَ أنانيًا؟ وهل كنتَ تافهًا؟ وهل كنتَ تَستَغِلُّ ضُعف الآخر، قَلقَه وبراءته؟ وهل سبقَ لكَ أن كذبتَ أو سرقتَ واغتصبتَ؟ إنك على علم بذلك، وهذا العلم الذي لكَ عن نفسك هو ما ندعوه بالوعي، وهو القاضي الوحيد، أو لنقل بالأحرى، أنه الأمر الوحيد الذي يَهُمُّنا أخلاقيًا، لكن ماذا عن محاكمة ما؟ وغرامة ما؟ وعقوبة سجنية ما؟ إنها لا تُمَثِّل إلا عدالة البشر، إنها ليست إلا القانون والشرطة، إذ كم من مُجرِم حر؟ وكم من أناس أخيار في السجن؟ ولئن كان بوسعك أن تكون في علاقة جيدة مع المجتمع، وهو بلا شك أمر ضروري، فذلك ليس يعفيك، من أن تكون في انسجام تام مع ذاتك ومع وعيك، وتلكم هي القاعدة الوحيدة في الحقيقة.
لكن هل يوجد مِن الأخلاق قدر ما يوجد من الأشخاص؟ لا، وتلكم هي أكبر مفارقة في الأخلاق، فالأخلاق لا جدوى منها إلا إذا جاءت في صيغة الضمير المتكلم، لكن على نحو كوني، مما يعني أنها تَخُصُّ كل كائن إنساني على حدة، مادام أن كل كائن إنساني هو "أنا"، ولاريب أننا على هذا النحو، نعيشها على الأقل، وفضلاً عن ذلك، فنحن نعرف جِدَّ المعرفة، وبشكل عملي، أن ثمة أخلاقًا متباينة، ترتبط بالتربية التي تَلَقَّيْناها، كما بالمجتمع أو العصر الذي فيه نحيا، وبالأوساط التي نرتادها كما بالثقافة التي نَجِدُ فيها ذواتنا، فليس ثمة من أخلاق مطلقة ولا أحد يستطيع أن يصل إليها أبدًا. لكني مع ذلك، عندما أرفضُ العنف والعنصرية والقتل، فإني أعرف أيضًا أن ذلك ليس مجرد مسألة اختيار، تتوقف على ميولات كل واحد على حدة، إن هذا الرفض هو أوّلاً، وقبل كل شيء، شرطٌ أساسي، ليس لبقاء المجتمع وصيانة كرامته فحسب، بل لبقاء كل المجتمعات، إنه شرط أساسي لبقاء الإنسانية والحضارة.
فلَوْ كان الكل يَكْذِبُ، لما استطاع أحد أن يُصَدِّق أحدًا، بل ربما غدا حتى الكذب أمرًا مستحيلاً، لأن الكذب يفترض مسبقًا وجود الثقة التي يَنْتَهِكُ حُرمتَها، وأضحى كل تواصل عبثيًا أو تافهًا. ولَوْ كان الكل يَسْرقُ لغدا العيش على نحو اجتماعي أمرًا مستحيلاً أو بئيسًا، لن تجد أي أثر يذكر للمِلكية، وستندثر ثروة كل شخص ولن يبقى ما يستوجب السرقة. ولَوْ كان الكلّ يَقْتُلُ، لزالت الإنسانية والحضارة، ولن يتبقى غير العنف والرعب، لنغدو كلنا ضحايا المجرمين الذين صار كل منا واحدًا منهم.
إنها مجرد افتراضات تَضَعُنا في قلب القضية الأخلاقية، أما إن أردتَ أن تعرفَ ما إذا كان هذا الفعل أو ذاك محمودًا أو مذمومًا؟ فما عليك إلا أن تسأل نفسك عما سيطرأ لو تصرف الجميع على نحو ما تتصرف؟ تَصوَّرْ معي، على سبيل المثال لا الحصر، طفلاً يرمي بِمُضْغَته على الرصيف، "تَخيَّلْ يقول له والداه، لو أقْدَمَ كل واحد على مِثْلِ ما أقْدَمتَ عليه، إلى أي حد ستنتشر النفايات في كل الأرجاء؟ وكم من إزعاج سَيَطالُك مثلما سيطال غيرَك ؟" تَخيَّلْ لو كان الجميع يَسْرق ويَغتصِب ويُعَنِّف ويُعذِّب، فهل ستَرضَى بهذا الأنموذج الإنساني؟ وهل ستَتَمَنّاهُ لأبنائك؟ ولأي سبب ستستثني نفسك مما تُريدُه؟ يَجِبُ عليك إذن أن تَمْتَنِع عما تُؤاخِذ به الآخرين،أو أنْ تَتَخَلَّى عن الاحتكام لِمَا هُوّ كَوْنِي، أيْ أن تَكُفَّ عن الاحتكام إلى العقل أو القانون. إنها النقطة الحاسمة، إذ إنه ينبغي علينا أن نَخْضَعَ بوصفنا أشخاصًا إلى قانون نَعْتبِرُه يَستحِقّ أو ينبغي له أن يكون بمثابة قانون يَحْكُمُ الجميع.
ذلكم هو المعنى الشهير للعبارة الكانطية الخاصة بالأمر القطعي الواردة في "أسس ميتافزيقا الأخلاق" كالتالي: "تَصرَّف فقط وِفق القاعدة التي بِوُسْعِكَ القُبُول بها في الآن ذاته كقانون كَوْنِي". وهو ما يعني أن تَتَصَرَّفَ وفق الإنسانية بدلاً منه وفق "الأنا الأصغر الأكثر عزة"، وأن تَنْصاع لِعقلكَ بدلاً من الانصياع لنزوعاتك ومصالحك. إنَّ فعلاً ما لا يضحى محمودًا إلا إذا كان المبدأ الذي عليه يقوم يَصْلُحُ لأنْ يَكُونَ قانونًا للجميع، فأنْ تَتصرَّف أخلاقيًا هوّ ما يعني أن تَتصرَّف على نحوِ يَجعلُكَ تُريدُ، دونما تناقض، لكلِّ فرد أن يَتصرَّفَ وفق مبادئكَ نفسها. إنَّ هذا هوّ ما يَلتقي مع روح الأناجيل أو مع روح الإنسانية، ونَجِدُ صِيَّغًا مشابهة في باقي الديانات، التي تَوَفَّقَ روسو في حَبْكِ "قاعدتها السامية" كالتالي: "تَصرَّفْ مع الآخرين على نحو ما تُريد أنْ يتصرَّ فوا مَعكَ"، وهذا ما يلتقي أيضًا، بشكل أكثر بساطة ووضوحًا مع روح الشفقة، التي جاءت صياغتها على لسان روسو مرة أخرى، وبالرغم من أنها عبارة أقل روعة من الأولى، فربما تكون أكثر أهمية، كالتالي: "اسعَ وراء مَنْفعَتِكَ، بِأَقَلّ ضَرَرٍ مُمْكِنٍ لِغَيْرِكَ". وهذا ما يعني أن تَعيشَ جزْءًا مُنسجمًا مع الآخر أو بالأحرى مع ذاتِكَ، لكن على نحو نُبْقِي فيه على أنفسنا حُكَّامًا وعقلانيين. مما يعني أن أكون "وحيدًا على حد تعبير "ألان"، وكَوْنِيًا..." وهذه هي الأخلاق بحذافيرها.
لكن هل نحن بحاجة إلى أساس لِتَبْرِيرِ هذه الأخلاق؟ ليس ضروريًا ولا ممكنًا بالتأكيد، فهل أنتَ بحاجة إلى مُبرِّر لإنقاذ طفلٍ يَغْرَق؟ وهل أنتَ بحاجة إلى مبدأ لمحاربة جَبَرُوتٍ يَقْتُل ويَقْمَع ويُعَذِّب؟ على هذا النحو يتبدى أنَّ الأساس سيغدو بمثابة حقيقة غير قابلة للدحض، تَصْلُحُ ضمانةً لقيمة قِ يَّمِنا، وهذا ما سيسمح لنا بأن نُبَرْهِنَ لِمَنْ لا يُشاطرنا القيم نفسها، بأننا على حق بينما هو على ضلال، لكن ينبغي تَوَخِّيا لذلك، أن نَبْحَث عن أساس للعقل، وهو ما لا نَقْدِرُ عليه. فأيّ بُرهان لا يقوم على مبدأ قبلي، يستوجب أوَّلاً أن نُبَرْهِنَ عليه؟ وأيّ أساس، ما دمنا نتكلم عن القيم، لا يقوم على الأخلاق ذاتها، التي يَزْعُم أنه يُؤسِّس لها؟ كيف لنا أن نُبرهنَ لشخص يجعل النرجسية أسمى من التضحية، والكذب أرفعَ من النزاهة، والعنفَ أو القسوةَ أرفعَ من اللطف أو الشفقة، كيف لنا أن نُبرهنَ له على أنه على ضلال، وفيما سَيُجْدِيه ذلك؟ وما أهمية الفكر بالنسبة لِمَنْ لا يُفَكِّر إلا في نفسه؟ وما أهمية الكونية بالنسبة لمن لا يعيش إلا من أجل ذاته؟ وما حاجة من يُبَخِّس حرية الغير، ولا يحترم كرامة الآخر وحياتَه، إلى احترام مبدأ عدم التناقض؟ ولماذا
يجب علينا من أجل القضاء عليه أن نتوفر مسبقًا على الأدوات الكفيلة بدحضه؟ إن الرعب لا يَقْبَل
الدحض، وإن الشر لا يَقْبَل الدحض، نحن أحوج ما نكون إلى الشجاعة أساسًا نعتمد عليه، ونحن أحوج ما
نكون، حتى إزاء أنفسنا، إلى الصرامة والوفاء أساسًا نعتمد عليه. لعلّ الأمر هنا هو ما يقتضي منا ألا نُبَخِّس ما صَنَعَتْهُ الإنسانية بنفسها وبِنَا، فلماذا سنكون بحاجة إلى أساس ما أو ضمانة ما؟ وكيف سيغدو ذلك ممكنًا؟ إنَّ الإرادة تكفي.
إن الأخلاق هي ما يقتضي على حدّ ما كتَبَهُ "ألان"، "الإدراك العقلي للذات، والذي هو بهذا الشكل ضروريٌّ كُلِّيًا، لأنَّ النُّبْلَ ضروري. حيث ألا شيء آخر يوجد في الأخلاق غير الشعور بالكرامة، "إنها ما يعني أن تَحترِمَ الإنسانية فيكَ وفي الآخر، وهذا ما لا يمكن دونما رفض، وهذا ما لا يمكن دونما مجهودات، وهذا ما لا يمكن دونما صراع". ولعل الأمر والحالة هاته، هو ما يستدعي أن تَرْ فُضَ ذلك الجزء مِنْك، الذي لا يُفكِّرُ، أو الذي لا يُفكِّر إلا فيكَ. يستدعي الأمر أن تَرفُضَ أو على أية حال أن تَتَجاوزَ عُنْفَكَ الخاص ونَرجسيَّتَكَ ودناءتكَ. وهو ما يعني أنك تريد أن تكون رجلاً أو امرأةً، وأنكَ فخور بذلك.
لكن هل نُجاري "دوستويفسكي" الذي يقول على لسان إحدى شخصياته "إذا كان الله غير موجود، فإن كل شيء مباح"؟ أبدًا، مادام أنكَ لن تَسمَحَ لنفسكَ سواء أكنتَ مؤمنا أم غير مؤمن، بفعل أيٍّ كان، إنكَ لستَ جديرًا بفعل كل شيء بما في ذلك الأسوأ. يمكننا تبعًا لذلك القول إن المؤمن الذي لا يحترم الأخلاق إلا طمعًا في الجنة وخوفًا من النار، لن يغدو فاضلاً البتة، إنه لن يغدو إلا أنانيًا واحتراسيًا. إن الذي لا يُقْدِم على فعل الخير إلا من أجل خَلاصه الفردي، يُوَضِّح "كانط"، لا يفعل الخير وليس من أهل النجاة، وهذا ما يعني، أنَّ فعلاً ما، لا يكون محمودًا أخلاقيًا إلا إذا أقدَمْنا عليه، كما قال "كانط "مرة أخرى، "دونما طمع من وراء ذلك". ونَلِجُ الحداثة أخلاقيًا هنا، أي أننا نَلِجُ العلمانية، بالمعنى المناسب للفظة، بالمعنى الذي يمكن فيه لمؤمن ما أن يكون لائكيًا مثل الملحد على حد سواء، إنها روح الأنوار وروح "بايل" و"فولتير" و"كانط". فليس الدين هو الذي يُؤَسِّسُ للأخلاق بل الأخلاق هي بالأحرى ما يُؤَسِّسُ للدين، ويُبَرِّرُ وجودَه. إنَّ وجود الله ليس هو ما يَجْعلُني مُلزَمًا بأن أتصرَّفَ على نحوٍ جيِّد، بل كَوْنِي مُلْزَمٌ بأنْ أَتصرفَ على نحو جيِّد هو ما قد يجعلني بحاجة لأنْ أؤمن بالله، وذلك ليس من أجل أن أكون فاضلاً بل من أجل الانفلات من اليأس، ذلك أنّ الأشياء لا تكون محمودة لأنّ الله يأمُرُنِي بها، بل كَوْنُها محمودةٌ أخلاقيًا هو ما يجعلني أعْزُوها إلى الله. وهكذا يتبدى أن الأخلاق لا تَمْنَعُنا من الإيمان بالدين، بل هي ما يَدْفعنا إليه بحسب كانط، لكنها لا تَتوقَّفُ عليه ولا يُمْكِنها أن تُختزَل فيه، فحتى لوْ لم يكن الله موجودًا، وحتى ولَوْ كان
لا شيء يُوجد بَعدَ الموت، كل ذلك لا يُعْفيك من أن تَقُومَ بواجبكَ، أي أنه لا يُعْفيك بتعبير آخر من أن تتصرَّفَ على نحوٍ إنساني. "فلا شيء أجمل وأكثر مشروعية، يَكْتُبُ "مونتيني"، من أنْ يَلْعَبَ المرء دوره إنسانًا وعلى نَحوٍ أصيل"، على اعتبار أنَّ واجبنا الوحيد، إنما هو أن نكون إنسانيين، مادام أن الإنسانية ليست فقط جنسًا حيوانيًا بل هي إرث حضاري، مثلما أنَّ الفضيلة الوحيدة، إنما هي أن نكون إنسانيين، لأنه لا أحد يمكنه أن يقوم مَقامنا في هذا الباب.
إن ذلك كله، لا يمكنه أن يقوم مقام السعادة، مما يدفعنا إلى عدم اعتبار الأخلاق بمثابة كل شيء، مثلما أن ذلك لا يقوم أيضًا مقام الحب، وهو ما يَحُولُ دون اعتبار أنَّ الأخلاقَ هيَّ الأهم، لكن ما من سعادة تُغْنِينا عن الأخلاق، وما من حُبّ يُعْفِينا من الأخلاق، وهو ما يفيد بأن الأخلاق ضروريةٌ على الدوام. فهي ما يَسْمح لكَ، باعتباركَ إنسانًا حرًا عِوَضَ أن تبقى عبدًا لغرائزكَ وهواجسكَ، بأنْ تحيا حُرًّا بِمَعِيَّة الآخرين. إنّ الأخلاق هي هذه الضرورة الكونية، أو لِنَقُل على كل حال، أنها الضرورة القابلة لأنْ تكون كونية، والمُهداة إليكَ شخصيًا. ونؤكد تبعًا لذلك على أنّ قيام كُلٍّ منا بِدَوْرِه رجلاً أو امرأةً، وعلى أحسن وجه، هو ما يُساعد الإنسانية على النشوء، فالإنسانية بحاجة إليكَ مثلما أنك بحاجة إليها.

المرجع:

André Comte-Sponville,Présentations de la philosophie,Ed.Albin Michel
S.A.,2000,de la page 15 à la page 27



ليست هناك تعليقات: