الأربعاء، 19 يوليو 2017

ما الفلسفة؟ جيل دولوز؛ ترجمة الدكتور جمال نعيم.




جيل دولوز/ فليكس غتاري
ما الفلسفة؟*
ترجمة جمال نعيم

الفلسفة، في نظر دولوز، هي فن اختراع الأفاهيم وابتكارها وصنعها، أو بالأحرى هي فن إبداع الأفاهيم. والأفهوم هو فعل فكري محض، يعبِّر عن فكر ضروري، ويكون بمثابة إجابة عن مسألة جديدة يتم ابتداعها في الفلسفة. وهو، بهذا المعنى، منشِئ للمعرفة أكثر ممّا هو حصيلة لها. لذا نقول إن الفلسفة ليست بحثاً عن الحقيقة، والحقيقة الفلسفية ليست مطابقة القول للواقع، لأن لكل أفهوم حقيقة خاصة به بالنسبة إلى الأفق المتحرك الذي ينشأ فيه، أو بالأحرى بالنسبة إلى الحدس الأساسي لدى الفيلسوف.
الفلسفة فن إبداع الأفاهيم. إذاً، إنها نشاط منتِج لكيانات خاصة بها، وبالتالي ليست تأملاً لحقائق أزلية ولا تفكراً في العلوم أو الفنون ولا تواصلاً لإنتاج تسويات أو توافقات بين الآراء المتنافسة. فالأفهوم ليس رأياً بأي شكل من الأشكال ولا حتى رأياً أصلياً، لأنَّ الرأي اعتباطي وتعسفي. وبذلك تتميز الفلسفة من العلوم والفنون التي ليست بحاجة إلى الفلسفة لتقوم والتي تهتم بإبداعاتها الخاصة بها، والتي من خلالها تفكر الإنسان والحياة والكون. ومع ذلك هناك صلاتٌ يمكن أن تنشأ بين الفلسفة والعلوم والفنون.
في ما يلي ترجمة عن الفرنسية لنص أساسي في أثر دولوز الفلسفي، وهو مقدمة كتاب ما الفلسفة؟ الذي ألَّفه دولوز مع صديقه فليكس غتاري. وهو نص فلسفي مكثَّف جداً يختصر كتاب ما الفلسفة؟ وبإمكانه الإضاءة على كل أثر دولوز. وقد نُشِر هذا النص بتوقيع دولوز منفرداً في المجلة الفصلية "Chimères" التي كان يصدرها دولوز وغتاري، في عددها الثامن، في شهر أيار من سنة 1990، أي قبل عشرة أشهر تقريباً من صدور ما الفلسفة؟ وقد أشرنا في الهامش إلى أهم ما كان موجوداً في النص الأول ولم يرد في المقدمة.
ومن الجدير بالذكر أن هذا النص قد تُرجم مرتين إلى العربيَّة، في إطار ترجمة ما الفلسفة؟ وفقاً لما يلي:
Ø     دولوز، جيل/غتاري، فليكس: ما هي الفلسفة؟، ت. جورج سعد، دار عويدات الدولية، بيروت ـ باريس، ط1، 1993.
Ø     دولوز، جيل/غتاري، فليكس: ما هي الفلسفة؟، ت. مطاع صفدي وفريق مركز الإنماء القومي، مركز الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي، ط1، 1997.
ونحن نرى أنه لا بد من إعادة ترجمة ما الفلسفة؟ مرةً ثالثةً في ضوء ما توصلنا إليه في دراستنا التي كانت تحت عنوان: جيل دولوز وتجديد الفلسفة، والتي بيَّنت أن هاتين الترجمتين كانتا في عجلة من أمرهما. وعلينا أن نهتم، عند ترجمة دولوز، بالأسلوب الذي يكتب به بقدرما نهتم بالمضمون؛ لأن دولوز هو من الفلاسفة الكبار الذين ابتدعوا لغة غريبة داخل اللغة ذاتها. فالمضمون والأسلوب يعملان بالمنطق ذاته، وعلى الأسلوب أن يعكس المضمون ويجسِّده.


مقدمة
هكذا إذاً السؤال...

        ربما لا نستطيع طرح سؤال ما الفلسفة؟ إلا آجلاً، عندما تحين الشيخوخة، وساعةُ الكلام عينيَّاً. فمراجع البحث، في الواقع، جدّ قليلة. وهو سؤال نطرحه باضطراب مكتوم، في منتصف الليل، عندما لا يعود لدينا ما نتساءل عنه*. وكنا نطرحه، في السابق، ولم نتوقف عن طرحه، لكن بطريقة جد ملتوية أو غير مباشرة تماماً، جد مصطنعة وجد مجرّدة، وكنا نعرضه، ونسيطر عليه بشكل عابر أكثر مما كنا مفتونين١ به. فنحن لم نكن قنوعين بما يكفي٢. وكان لدينا رغبة قوية للإشتغال بالفلسفة، ولم نكن نتساءل عمَّا هي إلا عبر تمرين في الأسلوب٣؛ لم نكن قد وصلنا إلى هذا المستوى من اللاـأسلوب حيث بإمكان المرء أن يقول أخيراً: ما الذي عملته طيلة حياتي؟ فهناك حالات تمنح فيها الشيخوخةُ لا شباباً أبدياً، بل على العكس حريةً سيدةً ووجوباً محضاً حيث نتمتع بأوان نعمة بين الحياة والموت، فتتنسَّق كل أجزاء الآلة لترسل إلى المستقبل خطاً يجتاز العصور: لوتيتيان**، تورنر، مونيه1. فقد اكتسب تورنر العجوز أو انتزع حق توجيه الرسم على طريق مقفرة بلا رجعة، لم تعد تتميز عن سؤال أخير. وربما تطبع حياة رانسي شيخوخة شاتوبريان وبداية الأدب الحديث2 معاً. وتقدم لنا السينما أيضاً مواهبها للعصر الثالث، حيث يمزج إيڤانس مثلاً ضَحِكَه بضَحِكِ الساحرة في الريح العاصفة. وكذلك الأمر في الفلسفة، فإن نقد الحاكمة لكنط هو مؤلَّف شيخوخة٤، ومؤلَّف متفلِّت لن يتوقف خلفاؤه عن الجري وراءه:[ ففيه ] تجتاز كل ملكات الذهن حدودها، هذه الحدود نفسها التي كان كنط قد ثبتها بعناية شديدة في كتبه خلال مرحلة نضجه.
        نحن لا نستطيع أن نطمح إلى نصاب كهذا. فبكل بساطة قد حانت الساعة بالنسبة إلينا لنسأل ما الفلسفة. ولم نكن قد توقَّفنا عن فعل ذلك في السابق، وسبق أن كان لدينا جوابٌ لم يتغير: الفلسفة هي فن تكوين الأفاهيم١ واختراعها وصنعها. ولكن ما كان يجب أن يستجمع الجوابُ السؤالَ وحسب، [بل] كان يجب أيضاً أن يحدد ساعة السؤال ومناسبته، ظروفه، مشاهده وشخصياته، شروطه ومجاهيله٢. كان يجب أن نستطيع طرحه "بين أصدقاء" كبوح أو وثوق، أو بوجه العدوّ كتحدّ، والوصول في الوقت نفسه، إلى تلك الساعة، بين الكلب والذئب٣، التي نرتاب فيها حتى من الصديق. إنها ساعة نقول فيها: " كان ذلك، لكني لا أعرف ما إذا أحسنتُ القول ولا ما إذا كنتُ مقنعاً كفاية". ونكتشف أنه قلَّما يهمّ إن كنَّا أحسنَّا القول أو كنَّا مقنعين، إذ على أي حال، إنَّ الأمر هو كذلك الآن.
        الأفاهيم، كما سنرى ذلك، بحاجة إلى شخصيات أفهومية تسهم في تعريفها. والصديق٤ هو تلك الشخصية التي يُقال عنها إنّها تشهد على أصل٥ يوناني للفلسفة: فقد كان لدى بقية الحضارات حكماؤها، في حين يقدم الإغريق هؤلاء "الأصدقاء" الذين ليسوا مجرد حكماء أكثر تواضعاً. قد يكون الإغريق هم الذين صَادَقوا على موت الحكيم، واستبدلوه بالفلاسفة، أصدقاء الحكمة٦، هؤلاء الذين يبحثون عن الحكمة، لكنَّهم لا يملكونها بشكل قاطع*[1]. ولكن قد لا يوجد بين الفيلسوف والحكيم فرق في الدرجة فقط ، كما لو كان الأمر يتعلق بسلَّم: فالحكيم العجوز الآتي من الشرق يفكر ربما عبر "الصورة"١، في حين يخترع الفيلسوفُ الأفهومَ ويفكِّره. لقد تغيّرت الحكمة كثيراً. وبالمثل أصبح من الصعب بمكان معرفة ما يعنيه "الصديق"، حتى لدى الإغريق وخصوصاً لديهم. هل كان الصديق يعني نوعاً من الحميمية القديرة، نوعاً من الذوق المادي، وإمكاناً ما، كما هو حال النجار مع الخشب: فالنجار الماهر [ بوصفه نجاراً ] هو خشب بالقوة، إنه صديق الخشب؟ السؤال مهم، لأن الصديق كما ظهر في الفلسفة لم يعد يعني شخصية برّانيّة، مَثَلاً أو ظرفاً أمبيرياً، بل حضوراً جوّانياً في الفكر ، شرطاً لإمكان الفكر نفسه، مقولةً حيةً، ومعيشاً مجاوِزا*ً٢. يُنْزِل الإغريق، مع الفلسفة ضربة قوية بالصديق الذي لم يعد على صلة بآخر، بل بـ كيان، بـ أوضوعة**، بـ ماهية***. [يُقال] صديق أفلاطون، وأكثر من ذلك صديق الحكمة، صديقُ الحق أو الأفهوم، صديقُ الحقيقة وصديقُ الله... فالفيلسوف خبير بالأفاهيم، يعرف أيها غير قابل للحياة، اعتباطي أو قلق، لا يصمد لحظة واحدة، وأيها على العكس جيد الصنع ويشهد على إبداعٍٍ وإن كان مقلِقاً أو خطِراً.
        ماذا يعني الصديق، عندما يصبح شخصية أفهومية، أو شرطاً لممارسة الفكر؟ أو عاشقاً٣، أليس هو بالأحرى عاشقاً؟ ألن يُدخِل الصديق من جديد، حتى في الفكر، صلة حيوية مع الآخر الذي كنا قد ظننَّا أننا استبعدناه من الفكر المحض؟ أوليس المقصود أيضاً شخصاً آخر غير الصديق أو العاشق؟ لأنه إنْ كان الفيلسوف صديق الحكمة أو عاشقها، أليس هذا لأنه يسعى جاهداً إلى التقرب منها بالقوة بدلاً من امتلاكها بالفعل؟ إذاً قد يكون الصديق أيضاً الطامح [الخاطب]٤ ، وما يُقال عنه إنه صديقه، هو الشيء الذي يقع عليه الطلب، وليس الشخص الثالث الذي قد يصبح على العكس منافساً؟ فقد تحتوي الصداقة على ريبة تنافسية تجاه المنافس بقدر ما تحتوي على نزوع عشقي تجاه موضوع الرغبة. وعندما تستدير الصداقة نحو الماهية، يصبح الصديقان مثل الخاطب والمنافس (لكن من يميزهما؟). وبناءً على هذه السمة الأولى تبدو الفلسفة شيئاً يونانياً يتفق مع إسهام المدن : كونها كوّنت مجتمعات أصدقاء أو متساوين، لكن أيضاً كونها أكدت فيما بينها وفي كل واحد منها، صلات تنافسية، حيث يتقابل طامحون [خاطبون] في كل الميادين، في الحب، في الألعاب والمحاكم والقضاء والسياسة، وحتى في الفكر الذي قد لا يجد شرطه في الصديق وحسب، بل في الخاطب والمنافس (الديالكتيك الذي يعرفه أفلاطون بـ المشادة l’amphisbetesis). تنافسُ الرجال  الأحرار هو ألعابُ قوىً معممة: الآغون1. وعلى الصداقة أن توفّق بين كمال الماهية وتنافس الخاطبين. أوليست هذه مهمة كبيرة جداً؟
        الصديق والعاشق والطامح والمنافس هم تعيّنات مجاوزة لا تفقد لهذا وجودها الشديد والمتحرك، في شخصية بعينها أو في عدة شخصيات. والآن، عندما يستعيد موريس بلانشو، الذي ينتسب إلى المفكرين القلائل الذين يهتمون بإعادة الإعتبار لمعنى كلمة "صديق" في الفلسفة، هذه المسألةَ الداخليةَ لشروط الفكر بما هو كذلك، ألا يدخل هو أيضاً شخصيات أفهومية جديدة إلى داخل المفكَّر الأكثر نقاءً، شخصيات قليلة الإنتماء إلى الإغريق هذه المرة، وآتية من مكان آخر كما لو كانت قد مرت بكارثة تجرها نحو علاقات حية مرفوعة إلى مستوى الميزات القبلية١: تغيير مسار، نوع من التعب، نوع من الضّيق بين الأصدقاء يبدّل الصداقة نفسها إلى فكر الأفهوم بما هو ريبة وصبر لامتناهيان2؟ إنَّ لائحة الشخصيات الأفهومية غير مغلقة أبداً، ولهذا تلعب دوراً مهماً في تطور الفلسفة أو تحولاتها؛ وعلينا أن نفهم تنوعها من دون اختزالها إلى وحدة الفيلسوف اليوناني المعقدة سلفاً.
        الفيلسوف صديقُ الأفهوم، إنه أفهوم بالقوة٢: هذا يعني أن الفلسفة ليست مجرد فن تشكيل الأفاهيم واختراعها، أو صنعها، لأن الأفاهيم ليست بالضرورة أشكالاً واكتشافات أو منتَجات. الفلسفة بشكل أكثر دقة، هي الفرع المعرفي٣ الذي يقوم على إبداع الأفاهيم. فهل يصبح الصديقُ صديقَ إبداعاته الخاصة؟ أَوَلا يحيل فعلُ الأفهوم إلى قدرة الصديق في وحدة المبِدع وصنوِه؟ إبداع أفاهيم جديدة دائماً، هذا هو موضوع الفلسفة. ذلك لأنَّ الأفهومَ يجب أن يُبدع فإنه يَرْجعُ إلى الفيلسوف بما هو ذلك الشخصُ الذي يمتلكه بالقوة، أو لديه القدرة والصلاحية على ذلك. ولا يمكن الإعتراض [على ذلك] بأن الإبداع يقال بالأحرى عن المحسوس والفنون، ما دام الفن يُوجِد كيانات روحية، وما دامت الأفاهيم الفلسفية هي أيضاً "احساسات". العلوم والفنون والفلسفات هي، حقيقةً، مبدعةٌ بشكل متساوٍ، مع أنه يعود إلى الفلسفة وحدها إبداعُ الأفاهيم بالمعنى الدقيق. فالأفاهيم لا تنتظرنا جاهزة سلفاً، كأجرام سماوية. وليس هناك من سماء للأفاهيم. فهي يجب أن تخترع، أن تصنع، أو بالأحرى تبدع، وهي ليست شيئاً من دون توقيع من يبدعها. جدد نيتشه مهمة الفلسفة عندما كتب: " على الفلاسفة أن لا يعودوا يكتفون بتقبُّل الأفاهيم التي تعطى لهم، لتنظيفها وتلميعها وحسب بل أن يبدأوا بصنعها وإبداعها وطرحها وإقناع البشر باللجوء إليها. يثق كل واحد، حتى الآن وبالإجمال، بأفاهيمه كما لو تعلق الأمر بأُعطيةٍ إعجازيةٍ آتيةٍ من عالَم ما إعجازي بالدرجة ذاتها"، لكن يجب استبدال الثقة بالشك، وعلى الفيلسوف أن يرتاب أيَّما ريبة، من الأفاهيم ما دام لم يبدعها بنفسه (كان أفلاطون يعلم ذلك جيداً، مع أنّه علّم عكس ذلك)1. وكان يقول بأنه كان يجب تأمل الأماثيل١، لكن يجب أولاً إبداع أفهوم الأمثول. ما قيمة فيلسوف يمكن أن يقال عنه: إنه لم يبدع أفهوماً، لم يبدع أفاهيمه؟
        نرى على الأقل ما ليست عليه الفلسفة: إنها ليست تأملاً ولا تفكّراً ولا تواصلاً، حتى لو اعتقدت أنها هذا [الأمر] تارة، وذاك [الأمر] تارة أخرى، بسبب من مقدرة كل فرع معرفي على توليد أوهامه الخاصة، والإختباء خلف ضباب يبثُّه خصيصاً [لهذه الغاية]. ليست تأملاً٢، لأن التأملات هي الأشياء نفسُها بما هي مرئية في إبداع أفاهيمها الخاصة. وليست تفكّراً٣ لأنَّ أحداً ليس به حاجة إلى الفلسفة ليتفكّر في أي شيء كان: نعتقد بأننا نقدم الكثير إلى الفلسفة عندما نجعل منها فن التفكر، لكننا نسحب منها كلَّ شيء، لأن الرياضيين بما هم كذلك لم ينتظروا قط الفلسفة، للتفكُّر في الرياضيات، ولا الفنانين [للتفكر] في الرسم أو الموسيقى؛ والقول إنهم يصيرون عندئذٍ فلاسفة، هو مزحة سيئة، ما دام تفكرهم ينتمي إلى [مجال] إبداعهم الخاص. ولا تجد الفلسفة أي ملجأ أخير في التواصل١، الذي لا يُعالج بالقوة إلا آراءً، لإبداع "توافق" وليس لإبداع أفهوم. ففكرة محادثة ديمقراطية غربية بين أصدقاء لم تنتج قط أدنى أفهوم؛ وقد أتت [هذه الفكرة] ربما من الإغريق، لكنَّ هؤلاء كانوا يرتابون منها كثيراً، ويخضعونها لمعالجة جد قاسية، بحيث كان الأفهوم بالأحرى كالعصفور المناجي نفسه والساخر الذي يعلو أرض معركة الآراء المتنافسة والمدمَّرة. (ضيوف المأدبة السكارى). لا تتأمل الفلسفة ولا تتفكر ولا تتواصل، مع أن عليها أن تبدع أفاهيم لهذه الأفعال أو الإنفعالات.  فالتأمل والتفكّر والتواصل ليست فروعاً معرفية، بل آلات لتكوين كليات [أفكار عامة] في كل الفروع المعرفية. إن كليات التأمل، ومن ثم [كليات] التفكر، هما بمثابة الوهميْن اللذين عبرَتْهما الفلسفة سابقاً في حُلُمها للسيطرة على بقية الفروع المعرفية (المثالية الموضوعية والمثالية الذاتية) ، ولا تتشرف الفلسفة أكثر وهي تقدِّم نفسها كأثينا جديدة وترتدّ إلى كليات التواصل التي قد تؤمن قواعد سيطرة خيالية للأسواق ووسائل الإعلام (المثالية البيْذوية). كل إبداعٍ فريدٌ، والأفهوم بوصفه إبداعاً فلسفياً خاصاً هو فرادة دائماً. فالمبدأ الأول للفلسفة هو أن الكليات لا تشرح شيئاً، وعليها نفسِها أن تُشرح.
        أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه ـ أن يتعلم التفكيرـ أن يتصرف كما لو لم يكن هناك من شيء بديهي ـ أن يندهش ـ "أن يندهش من أنّ الكائن يكون"، تعيُّنات الفلسفة هذه وغيرها الكثير تشكّل مواقف مهمة، وإن كانت مملة على المدى الطويل، لكنها لا تؤلِّف انشغالاً محدداً تحديداً جيداً، ولا نشاطاً دقيقاً، حتى من وجهة نظر تربوية. وعلى العكس، فإن تعريف الفلسفة التالي: المعرفة بأفاهيم محضة يمكن اعتباره حاسماً. وليس هناك من تعارض بين المعرفة بأفاهيم [والمعرفة] ببناء الأفاهيم في التجربة الممكنة أو الحدس. لأنه، وفقاً للقرار النيتشوي، لن تعرفوا شيئاً بالأفاهيم ما لم تبدعوها*، أولاً بمعنى أن تبنوها في حدس خاص بها: حقل، مسطح٢، أرضيّة لا تختلط بها، لكنها تحتضن رشيماتها والشخصيات التي تحرثها. فالبنائية تتطلب من كل إبداع أن يكون بناء على مسطح يعطيه وجوداً مستقلاً. أن نبدع أفاهيم نكون، على الأقل، قد فعلنا شيئاً ما. فتتعدّل من جرّاء ذلك مسألة استخدام الفلسفة أو منفعتها، أو حتى مضرتها (تضرّ بمن؟).
        تتراكم كثير من المسائل أمام عينّي الرجل العجوز المهلوستيْن وهو يرى المواجهة بين كل أنواع الأفاهيم الفلسفية والشخصيات الأفهومية. فالأفاهيم الفلسفية هي أولاً موقَّعة وتبقى [كذلك]، جوهر أرسطو، كوجيتو ديكارت، مونادة لايبنتس، شرط كنط ، قوة شيلنغ وديمومة برغسون ... غير أن بعضها يتطلب أيضاً كلمة غير عادية، وأحياناً بربرية أو صادمة، عليها أن تشير إليها، بينما يكتفي بعضها الآخر بكلمة شائعة جد عادية تنضح بنغمات متوافقة جد بعيدة بحيث لا تدركها أُذن غير فلسفية. يتوسل البعض كلمات مهجورة، والبعض الآخر ألفاظاً مبتكرة، خاضعة لتمارين اشتقاقية شبه مجنونة: الإشتقاق بوصفه ألعاب قوى محض فلسفية. يجب أن يوجد في كل حالة ضرورة غريبة لهذه الكلمات ولاختيارها كعنصر [من عناصر] الأسلوب. فتعميد الأفهوم يتطلب ذوقاً فلسفياً خاصاً يعمل بعنف أو بالتلميح، ويشكل في اللغة لغة للفلسفة١، وليس مجرد مفردات [خاصة بها] ، بل تركيباً نحوياً يرقى إلى السامي أو إلى جمال عظيم. الأفاهيم، والحالة هذه، وإن كانت مؤرخة، موقعة ومنحوتة، لها طريقتها في البقاء، لأجل ذلك فهي تخضع لمقتضيات التجدد والإستبدال والتحوّل التي تعطي الفلسفة تاريخاً وجغرافيا أيضاً، مضطربيْن حيث يُحفظ كل أوان ومطرح، لكن في الزمان، ويمضيان، لكن خارج الزمان. إذا لم تتوقف الأفاهيم عن التغيّر، فإننا سنسأل أي وحدة تبقى للفلسفات؟ وهل الأمر هو نفسه بالنسبة إلى العلوم، وبالنسبة إلى الفنون التي لا تعمل بوساطة أفاهيم؟ وماذا عن تاريخها الخاص؟ إذا كانت الفلسفة هي هذا الإبداعَ المستمر للأفاهيم، سنسأل طبعاً ما الأفهوم كـ أمثول فلسفي، لكن علامَ تقوم أيضاً الأماثيل الإبداعية الأخرى التي ليست بأفاهيم، والتي تعود إلى العلوم والفنون، ولها تاريخها الخاص وصيرورتها الخاصة، وصلاتها الخاصة المتغيرة مع الفلسفة وفيما بينها. فحصرية إبداع الأفاهيم تضمن للفلسفة دوراً، لكنَّها لا تعطيها أي تفوّق، أي امتياز، ما دام هناك طرق أخرى للتفكير والإبداع، وأنماط أخرى للأمْثَلة٢، ليس لها أن تمرّ بالأفاهيم، مثل الفكر العلمي. وسنعود دائماً إلى مسألة معرفة ما الجدوى من نشاط إبداع الأفاهيم، بما هو [نشاط] يتمايز من النشاط العلمي أوالفني: لمَ يجب إبداع الأفاهيم، أفاهيم جديدة دائماً، بناءً على أي ضرورة، ولأي استخدام؟ لمَ نعمل؟ إن الجواب الذي يقول إن عظمة الفلسفة هي بالضبط في عدم جدواها لشيء هو دلالٌ لم يعد يسلي حتى الشبّان. على أي حال، لم يكن لدينا قط مسألة تتعلق بموت الميتافيزيقا أو تجاوز الفلسفة: فهاتان ثرثرتان عديمتا النَّفع، ومتعبتان. وإنَّنا نتكلم الآن على إفلاس السساتيم، في حين أن ما تغيّر هو أفهوم السستام وحسب. وإذا كان هناك من مطرح وزمان لإبداع الأفاهيم، فإن العملية التي تقوم بذلك ستسمى دائماً فلسفة، أو قد لا تتميز منها حتى لو أعطيناها اسماً آخر*.
        نعلم مع ذلك أن الصديق [المحبّ] أو العاشق [الحبيب] كخاطب لا يتقدم من دون منَافسين. فالفلسفة إذا كان لها من أصل اغريقي مثلما نريد التعبير عن ذلك جيداً، فهذا لأن المدينة، على خلاف الإمبراطوريات أو الدول، تخترع الآغون كقاعدة لمجتمع "الأصدقاء"، [أي] جماعة الرجال الأحرار بما هم متنافسون (مواطنون). إنه الوضع الثابت الذي يصفه أفلاطون: إنْ طمح كل مواطن إلى شيء ما، فهو يلتقي بالضرورة منافسين، بحيث يجب أن نستطيع الحكم على مشروعية الطموحات. يطمح النجار إلى الخشب، لكنه يصطدم بحارس الغابة والحطاب وصانع الهياكل [الخشبية] الذين يقولون: أنا، أنا صديق [محب ] الخشب. وإذا تعلق الأمر بالعناية بالبشر، فهناك العديد من الطامحين يقدمون أنفسهم كصديق للإنسان، الفلاح الذي يغذِّيه والحايك الذي يُلبسه، والطبيب الذي يداويه، والمحارب الذي يحميه1. وإذا كان الإصطفاء، في كل هذه الحالات يتمّ رغم ذلك في دائرة ضيقة نوعاً ما، فليس الأمر كذلك في السياسة حيث يمكن لأي شخص كان أن يطمح إلى أي شيء، في الديمقراطية الأثينية كما يراها أفلاطون. من هنا وجوب إعادة التنظيم في نظر أفلاطون، بحيث تُبدع المراتب التي يُحكم بفضلها على صوابية الطموحات:  هذه هي الأماثيل كأفاهيم فلسفية. لكن حتى هنا، ألن نلقى  كل أنواع الطامحين يقولون : الفيلسوف الحقيقي، هو أنا، أنا صديق الحكمة أو الصوابية؟ ويبلغ التنافس ذروته مع تنافس الفيلسوف والسفسطائي، اللذين يتنازعان أشلاء الحكيم القديم، لكن كيف نميز الصديق الزائف من الحقيقي، والأفهوم من الشِّبْه؟ المتشبِّه والصديق : إنه مسرح أفلاطوني بالكامل، يُكثِر من الشخصيات الأفهومية مزوِّداً إياها بقدرات الهزلي والمأساوي.
التقت الفلسفة في زمان ليس ببعيد عنّا، كثيراً من المنافسين الجدد. هذا ما كانته أولاً علوم الإنسان التي كانت، وخصوصاً علم الاجتماع، تريد أن تحلّ محلها. لكن بما أن الفلسفة كانت قد تنكرت أكثر فأكثر لدعوتها إلى إبداع الأفاهيم، والتجأت إلى الكليات، فإننا لم نعد نعرف جيداً ما المقصود من هذه المسألة. هل كان المقصود هو التخلي عن كل إبداع للأفهوم لصالح علم دقيق عن الإنسان، أو على العكس تحويل طبيعة الأفاهيم لنجعل منها تصورات جماعية تارة، ومفاهيم عن العالم تارة أخرى تبدعها الشعوب، وقواها الحية، التاريخية والروحية؟ ثم كان دور الإبستمولوجيا، والألسنيات، أو حتى التحليل النفسي ـ والتحليل المنطقي. فقد واجهت الفلسفة، من محنة إلى أخرى، منافسين أكثر وقاحة، وأكثر شؤماً بكثير مما تخيّله أفلاطون نفسه في أوقاته الأكثر هزلاً. وأخيراً بلغ العار مداه الأقصى عندما استحوذت المعلوماتية، والتسويق وفن التصميم، والدعاية، [باختصار] كل فروع التواصل المعرفية، على كلمة الأفهوم نفسها، وقالت: إنه قضيتنا، نحن المبدعين، نحن الفَيَاهمَة[2] ! نحن أصدقاء الأفهوم، ونحن نضعه في حواسيبنا. إعلام وإبداعية، أفهوم ومشروع: إلى الآن مراجع البحث غنية... فقد حفظ التسويق فكرة عن نوع ما من الصلة بين الأفهوم والحدث، لكن الأفهوم أصبح هكذا مجموع تقديمات منتَجٍ ما (تاريخي، علمي، فني، جنسي، برغماتي...) وأصبح الحدثُ، المعرضَ الذي يُخرج تقديمات متنوعة و"تبادلَ أفكار" من المفروض بالمعرض أن يقدم له مطرحاً. الأحداثُ الوحيدة معارضٌ، والأفاهيمُ الوحيدةُ، منتجاتٌ يمكن بيعها. لم يفت الحركة العامة التي استبدلت النقد بالتنمية التجارية، التأثير على الفلسفة. فأصبح الشِّبه، التشُّبهُ بعلبة معكرونة هو الأفهوم الحقيقي، وأصبح المقدِّم ـ عارضُ المنتَج، سلعة كان أم أثراً فنياً، هو الفيلسوف، هو الشخصية الأفهومية أو الفنان. كيف يمكن للفلسفة ذلك الشخص القديم، أن تتهيأ للمبارزة مع كوادر شابة في سباق نحو "كليات" التواصل لتعيين شكل سلعي للأفهوم MERZ؟ من المؤلم بالتأكيد، أن نعلم أن "الأفهوم" يعني شركة خدمات وهندسة معلوماتية. لكن بقدر ما تصطدم الفلسفة بمنافسين سفهاء وأغبياء، بقدر ما تلتقي بهم في داخلها، بقدر ما تشعر بحيوية أكبر لأداء المهمة، [أي] إبداع الأفاهيم، التي هي نيازك جوية بدلاً من سلع. وتصاب الفلسفة بضحكات مجنونة تجرف دموعها. هكذا إذاً فإن سؤال الفلسفة هو النقطة الفريدة حيث يتعلق الأفهومُ والإبداعُ الواحد بالآخر.
لم ينشغل الفلاسفة كفاية بطبيعة الأفهوم كواقع فلسفي. فقد فضلوا اعتباره معرفة أو تصوراً معطيين يتم شرحهما بملكات قادرة على تكوينه (تجريد أو تعميم) أو على استخدامه (حكم). لكن الأفهوم ليس معطىً، هو مبدَع، ويجب إبداعه؛ إنه لا يشكَّل بل يَطْرح نفسه بنفسه في نفسه؛ أي [له] طرح ـ ذاتي. يتلازم الإثنان، لأن ما هو مبدع حقيقة، من [الكائن] الحي إلى الأثر الفني، يتمتع بسبب من ذلك، بطرح ـ ذاتي "للذات"، أو بسمة إنشائية ذاتية نتعرف إليه من خلالها. وبقدر ما يُبدع الأفهوم، بقدر ما يطرح نفسه. وما يتعلق بنشاط إبداعي حر، هو أيضاً ما يطرح نفسه في نفسه،  بشكل مستمر وبالضرورة يصبح الأكثرُ ذاتيةً الأكثرَ موضوعية. اهتم فلاسفة ما بعد كنط أكثر من غيرهم بالأفهوم كواقع فلسفي بهذا المعنى،  خصوصاً شيلنغ وهيغل. فقد عرّف هيغل الأفهومَ بقوّة من خلالِ صور إبداعه وآونة طرحه الذاتي: فأصبحت الصور انتماءات للأفهوم،  لأنها تشكل الجانب الذي في ظلّه،  يُبدع الأفهوم،  في الوعي وبوساطته،  من خلال تتابع الأرواح،  بينما تشيد الآونة الجانب الآخر حيث يطرح الأفهوم تبعاً له،  نفسه بنفسه ويجمع الأرواح في مطلق "الذات"*. وهكذا يبيّن هيغل بأن لا علاقة للأفهوم إطلاقاً،  بفكرة عامة أو مجردة،  ولا أيضاً بحكمة غير مُبدعة قد لا ترتبط بالفلسفة نفسها. لكنَّ ثمن ذلك كان توسيعاً غير متعيّن للفلسفة التي لم تكد تُبقي على الحركة المستقلة للعلوم والفنون،  لأنها أعادت تشكيل كليات مع آونتها الخاصة،  ولم تعد تعالج شخصيات إبداعها الخاص إلا كأشباح نكرة. كان فلاسفة ما بعد كنط يدورون حول موسوعة شاملة للأفهوم،  تحيل إبداع هذا الأخير إلى ذاتية محضة،  بدلاً من الإضطلاع بمهمة أكثر تواضعاً،  أي تربية الأفهوم التي عليها أن تحلّل شروط الإبداع كعوامل للآونة التي تبقى فريدة.1
وإذا كانت عصور الأفهوم الثلاثة هي الموسوعة، والتربية والتكوين المهني التجاري،  فإنَّ الثاني وحده يستطيع أن يمنعنا من السقوط من قمم الأول إلى الكارثة المطلقة للثالث، الكارثة المطلقة بالنسبة إلى الفكر، مهما كانت، بطبيعة الحال،  المنافع المجتمعية من وجهة نظر الرأسمالية العالمية.     






* Deleuze Gilles/ Guattari Félix: Qu’est-ce que la philosophie? Éd. De Minuit, Paris, 1991.
*  ورد في النص الأول: "لكن يمكن لنتائجه أن تكون هامة".
١ حالنا في ذلك كحال من وقف أمام امرأة رائعة الجمال فأقر بسرعة بجمالها من دون أن يحدق فيها جيداً ويكتشف أسرار جمالها وخفاياه. (م)
٢ إذ كنّا نحاول التنطُّح لسؤال لم يحن أوانه بعد. لذا لم تكن الإجابة كافية.(م)
٣ يعبّر الأسلوب عن مضمون فكري معيَّن، إذ يعمل الأسلوب والمضمون بمنطق واحد. من هنا كانت الإجابة عن سؤال ما الفلسفة؟ في السابق تمريناً في الأسلوب حيث لم نكن قد وصلنا بعد إلى انعطاف حاسم في السستام، بإمكاننا أن نعبِّر عنه بأسلوب جديد، هو أقرب إلى اللاأسلوب. إذاً يعكس اللاأسلوب قفزة أو تحولاً في السستام. وهذا ما يحصل أحياناً لدى بعض أولي النعمة في مرحلة الشيخوخة. (م)
** ورد في النص الأول  Matisse بدل Le Titien.
1 Cf. L’oeuvre ultime, de Cézanne à Dubuffet, Fondation maeght, préface de Jean-Louis Prat .
2 Barbéris, Chateaubriand, Ed. Larousse:
" إن رانسي، كتاب حول الشيخوخة كقيمة مستحيلة، هو كتاب كُتب ضدّ الشيخوخة في السلطة: إنه كتاب الأنقاض الشاملة حيث تتأكد سلطة الكتابة وحدها"
٤ إن نقد الحاكمة ليس كتاباً مكمِّلاً لكتابي النقد الآخريْن وحسب، بل هو كتاب مؤسس لهما، حيث يكتشف كنط قعراً أعمق من قعرهما. (م)
١ الأفهوم هو فعل تفكير، إنّه منشئ للمعرفة أكثر مّما هو حصيلة للمعرفة. لذا ترجمنا كلمة Concept بأفهوم بدلاً من مفهوم. لذا، يمكن القول إن الحقيقة الفلسفية لا تقع خارج القول الفلسفي، لأن الأفاهيم الفلسفية بحصر المعنى، أي التي تُعنى بشؤون الفكر المحض، تُعطي الأشياء حقيقة جديدة. من هنا كانت الفلسفة أنطولوجيا لا أنتربولوجيا.(م)
٢  يشير دولوز هنا إلى التوجه الجديد في الفلسفة الذي يعود إلى الرواقيين الذين اهتموا بسؤال الحدث وأهملوا سؤال الماهية. لذا تأتي أسئلة متى؟ أين؟ من؟ في أي حالة؟ في الطليعة، ويصبح سؤال ما هو؟ ثانياً. (م)
٣  تعبير بالفرنسية يعني بداية الليل، أي الغسق.(م)
٤ من الضروري أن نشير هنا إلى أن ترجمة ami إلى العربية تحمل معنى الحب أيضاً، إذ إن الصداقة هنا تحمل معنى المودة والمحبة.(م)
٥ يحسم دولوز الأصل اليوناني للفلسفة. فالفلسفة يونانية وإن كان الفلاسفة الأوائل غرباء أو قريبين من الحكماء. الفلسفة محبَّة الحكمة، لكنّها ليست بحكمة. لذا تختلف الفلسفة اليونانية عن الحكمة المشرقية. وقد حدّد دولوز للفلسفة ثلاثة شروط مبدئية (الأفهوم والشخصية الأفهومية ومسطح المحايثة)، وثلاثة شروط واقعية (الصداقة والمحايثة وتبادل الآراء). و من الواضح أن هذه الشروط لم تكن توجد في المجتمعات الشرقية القديمة. لذا أنتجت هذه المجتمعات حكمة وليس فلسفة.(م)
٦ الفيلسوف صديق الحكمة وليس حكيماً. الحكمة شأن من شؤون الآلهة أو من ينوب عنها من رجال الدين أو رجال السياسة؛ أمّا الفلسفة فتمثل وجهات نظر لا يهم فيها الصواب والخطأ بقدر ما يهمُ طرحُها بحد ذاته. (م)
* ورد أيضاً في النص الأول: " ومع ذلك فإن قليلاً من المفكرين تساءلوا عمّا كان يعنيه "الصديق" حتى لدى الإغريق وخصوصاً لديهم."
1  Kojéve, “Tyrannie et sagesse”, p.235 (in Léo strauss, De la tyrannie, Gallimard)
١ يتميز التفكير من خلال "الصور" باستعماله للإستعارة والمجاز والأساطير والأمثال. وهذا ما تتميَّز به الحكمة الشرقية القديمة. وهو يختلف عن التفكير عبر الأفهوم الذي هو تفكير عقلاني صرف.(م)
*  ورد في النص الأول أيضاً: " وعنصراً منشئاً للفكر".
٢ يمثل المجاوِز الشروط الجوانية أو القبلية أو المبدئية للفكر بما هو كذلك بغض النظر عن موضوع المعرفة. وقد ابتدع كنط هذا الأفهوم مع أن الكلمة كانت موجودة قبله في القرون الوسطى، لكنّها كانت قريبة من لفظ المفارق أو المتعالي، كما أنها كانت نادرة الإستعمال. يقع المجاوز في مقابل الأمبيري أو الواقعي، بينما يقع المفارق في مقابل المحايث. تهتم الفلسفة بما هو مجاوز، بما هو مبدئي، وتُهمل ما هو واقعي، ما هو أمبيري. لذا نقول إن سؤال الوجود في الفلسفة هو سؤال ثانوي. من هنا لا يُمكن معارضة الفيلسوف بأمثلة أمبيرية، لكن بإمكاننا أن نوجه النقد إلى بنية المجاوز لديه، إلى المستوى المجاوز في فلسفته. وقد جاء في الآية 138 من سورة الأعراف في القرآن الكريم، ما يلي: "و جَاوَزْنا ببني إسرائيل البحرَ فَأَتَوْا على قومٍ يعكفُون على أصنامٍ لهم قالوا يا موسى اجْعل لنا إلهاً كما لهُم آلهةٌ قال إنَّكم قومٌ تجهلون". من هنا فإن الحقل المجاوِز يجاوز بنا إلى الموضوع ويتحكم به ويقوْلبه كما هو الحال لدى كنط الذي تكلّم على الأفاهيم الفاهمية المحضة وعلى حدسي الزمان والمكان بوصفها بنية الذهن القبلية أو المجاوٍزة التي تنشئ الموضوع فلا ترينا الأشياء إلا كظاهرات، أمَّا الأشياء في ذاتها فتبقى خارج دائرة المعرفة البشرية. ويتابع دولوز كنط، فيتكلم على توجهات الفكر واتجاهاته ومحاوره التي تتحكم في إبداع الأفاهيم المنشئة بدورها للمعرفة. (م)
**  استعمل دولوز في النص الأول مصطلح Objectivité بدلاً من Objectité.
***  أضاف دولوز في النص الأول: " هذا ما تعبِّر عنه حقاً العبارة التي لطالما استُشهد بها والتي يجب ترجمتها بـ أنا صديق بيار، صديق بولس، أو حتى صديق أفلاطون الفيلسوف. "
٣  هنا أيضاً تصحّ ترجمة amant  بحبيب.(م)
٤ ترجمنا كلمة prétendant  هنا بالخاطب لأنها تتضمن المودّة التي تؤدي إلى طلب اليد من المحبوب.(م)
1 Par exemple Xénophon, République des Lacédémoniens, IV,5. Detienne et Vernant ont particulièrement analysé ces aspects de la cité
١ يبقى الفيلسوف صديق الحكمة، لكن تتغير سمات الصداقة بعد الحروب الدموية والفظائع التي مرَّت بها أوروبا.(م)
2 حول علاقة الصداقة بإمكان التفكير في العالم الحديث انظر:
Blanchot, l’amitié et l’entretien infini, (le dialogue des deux fatigués), Gallimard. Et Mascolo, Autour d’un effort de mémoire. Ed. Nadeau
٢  لذا أمكن لدولوز أن يرسم بورتريهات أفهومية للفلاسفة الذين قرأهم، لاسيّما لفوكو في كتابه الذي سمّاه فوكو. وكان هذا الكتاب بمثابة صنو حقيقي له. (م)
٣ فضلنا ترجمة discipline بالفرع المعرفي لأن ترجمتها بالفن المعرفي كما ورد لدى ابن خلدون، تثير التباساً في هذا النص نظراً للتمييز الحاصل بين الفلسفة وكل من الفن والعلم.(م)
1 Nietzche, Posthumes 1884 – 1885, Œuvres philosophiques Xl, Gallimard, P. 215 – 216 (sur" l’art de la méfiance" )
١ ربما تصح ترجمة Idées  بأماثيل بدلاً من مُثل الشائعة في التقليد الفلسفي العربي. وبالتالي يمكن الإشتقاق فنترجم Idéel بـ أمثولي. وهذا الأمر أساسي في كتاب الفرق والتكرار.(م)
٢  لا تهدف الفلسفة إلى القبض على حقيقة الأشياء، مع أنها تعطي الأشياء حقيقة جديدة من خلال الأفاهيم التي تبدعها والمسألة الجديدة التي تطرحها.(م)
٣ لا يحصر دولوز مهمة الفلسفة في التفكير في اختصاصات قائمة مثل العلوم والفنون. فهي نشاط منتج وليست نشاطاً تابعاً للنشاط العلمي أو الفني.(م)
١ تمثل الفلسفة، كل فلسفة، وجهة نظر عدوانية بطبيعتها، لأنها تعبِّر عن فكر ضروري لا مجال فيه لإجراء تسويات كما هو الحال بين الآراء. لذا يأتي النقاش إما متقدماً جداً وإمّا متأخراً جدَّاً. فتبادل الآراء شرط واقعي من شروط قيام الفلسفة، لكنّه ليس شرطاً مجاوزاً.(م)
* ورد في النص الأول ما يلي: "التفلسف، هو إبداع الأفاهيم. إذاً الفلاسفة الكبار نادرون جداً".
٢ مسطح الفلسفة هو بمثابة الحدس الأساسي لدى الفيلسوف، بمثابة الخلفية قبل الفلسفية أو حتى اللافلسفية للفلسفة. تتطلب الفلسفة تشييد مسطح وإبداع أفاهيم. وقد سمَّى دولوز هذا المسطح مسطح المحايثة لأنّه لا يسمح بأي مفارقة أو نقص.(م)
١ يرمي كل فيلسوف، من خلال الفلسفة، إلى ابتداع لغة غريبة أو أجنبية داخل اللغة ذاتها، لا من حيث المفردات وحسب، بل من حيث التركيب النحوي أيضاً. لذا بإمكاننا القول إن الفيلسوف ليس غريباً في أُمته وحسب، بل وفي لغته أيضاً. (م)
٢  أي لإبداع الأماثيل التي تمثل أفكاراً فريدة لا عامة.(م)
*  ورد في النص الأول:" قد تخلي الفلسفةُ بطيبة خاطر الساحة إلى أي فرع معرفي آخر، قد يقوم بشكل أفضل بمُهمة إبداع الأفاهيم، لكن ما دامت المُهمة قائمة، فإنها تُسمى أيضاً فلسفة، دائماً فلسفة".
1 الفَياهِمة: جمع فَيهوم، أي المولِّد للأفهوم.(م)
* Soi
1 Frédéric Cossutta: Eléments pour la lecture des textes philosophiques, Ed. Bordas”
 حيث اقترح المؤلف بشكل مدرسي مقصود تربية للأفهوم مهمة جداً.

ليست هناك تعليقات: