الخميس، 27 يوليو 2017

الوجود - مع - الآخرين بين الوجود الزائف والوجود الأصيل عند هايدغر؛ الدكتور زكريا ابراهيم.




أنشر هنا هذا العنوان من قراءة الدكتور زكريا ابراهيم لكتاب "الوجود والزمان" لـ هايدغر، لما وجدته من أهميته ووضوحه. مع الإشارة إلى أن البحث بكامله منشور على المدونة في مكان آخر.


 الوجود - مع - الآخرين: (Metsein).

 إن الإنسان "موجود في العالم"، ولكن عالم الإنسان أيضاً عالم بشري يجد فيه المرء نفسَه جنباً إلى جنب مع موجوداتٍ أخرى بشرية مثله. ولا يعنى هايدغر بإثبات وجود "الآخر"، بل هو يمضي مباشرةً إلى وصف ذلك النسيج الاجتماعي للموجود البشري بوصفه موجوداً يحيا دائماً مع الآخرين.
و"الآخرون" أو "الغير" إنما هم أؤلئك الذين "أوجد" معهم، و"يوجدون" معي سواءٌ بسواء. وكما أن "الوجود في العالم" هو من مقومات الوجود الإنساني، فكذلك "الوجود مع الآخرين" هو أيضاً من مقومات هذا الوجود. ومعنى هذا أن الذات لا تجد نفسها مهجورةً قد خُلي بينها وبين وجودها الخاص فحسب، وإنما هي تجد نفسها أيضاً في عالم الآخر الذي لا بد من أن تتعامل معه وتعيش إلى جواره.
هنا نرى أن نظرية هايدغر التي قد تبدو لأول وهلة ذات نزعة فردية خالصة إنما هي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن الفلسفات الذاتية المتطرفة، نظراً لأنها تؤكد علاقتَنا الجوهرية بالغير، فلا تجعل من الوجود البشري مجرد "انطواءٍ على الذات"، بل تجعل منه "وجوداً مع الآخرين". بل إن هيدغر لَيذهب إلى أن شعورنا الفردي نفسه.. وهو ذلك الشعور الذي قد يوهمنا بأننا موجودون وحدنا دون الآخرين ـ إنما يبرز فوق "أرضية" من الشعور الجماعي، وهذا ما يعبر عنه هايدغر بقوله: "إن الوجود بدون الآخرين، هو نفسه صورة من صور الوجود مع الآخرين". ولكن لما كان كثير من الفلاسفة قد أهملوا طابع "المعيّة" الذي تتسم به علاقات الأفراد، فقد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى اصطناع الكثير من التأويلات من أجل تفسير أصل الجماعات وتحديد طبيعة الشعور الجماعي. ومثل هذه النظريات قد لا تقل تهافتاً عن تلك المناقشات الميتافيزيقية التي طالما أثارها الفلاسفة حول حقيقة وجود العالم الخارجي.
بيد أن إنسان العصر الحديث ـ فيما يقول هايدغر ـ قد أصبح يعيش في حالة جماعية زائفة، لأنه قد اتخذ من "الوجود مع الآخرين" ذريعة للتنازل عن وجوده الخاص، فلم يعد وجودُه سوى مجرد انغماس في عالم "الجمهور". وهكذا فقدَ إنسان العصر الحديث إنسانيته وحريته، وصار مجرد موضوع ينطق بلسان الآخرين، ويتحرك في مجال ذلك الوسط الاجتماعي الغفل!
وهنا يتحدث هايدغر عن ضربين من الوجود البشري: فيفرق بين وجود حقيقي أصيل ووجود زائف غير مشروع، على أساس التمييز بين ذاتٍ حرةٍ تأخذ على عاتقها مسؤولية وجودها، وذاتٍ غريبة على ذاتها فقدت حريتها فأصبحت تحيا على حساب الآخرين!
و"الوجود الأصيل" في نظر هايدغر إنما هو ذلك الوجود الحقيقي الذي تشعر معه الذاتُ بأنها قائمةٌ بنفسها، مسؤولة عن ذاتها، وأنه قد خلِّيَ بينها وبين حريتها، وأنه لا بد لها من أن تأخذ على عاتقها تبعة وجودها. وأما "الوجود الزائف" فهو ذلك الوجود العيني الذي تهبط فيه الذات بنفسها إلى مستوى الموضوع، فتميل إلى الانغماس في المجموع، آملةً من وراء ذلك التهربَ من حريتها، والتنصل من مسؤوليتها، والتخلص من شعورها بالقلق.
وحينما يتحدث هايدغر عن "الناس" فإنه يعني حقيقة جمعية غير شخصية تملك من السلطة ما قد تستطيع معه أن تسلب "الذات" شعورها بالمسؤولية. وهنا يجد الإنسان نفسه مدفوعاً إلى التخلي عن التزامه الشخصي، فيأخذ بأحكام الناس، ويتمسك بمعيار التوسط في الأمور، ويدين بكل ما يدين به الجمهور. وعندئذٍ سرعان ما تصبح حياتُه الشخصية صورةً من صور "المجموع"، وسرعان ما يتحول وجوده الذاتي الشخصي إلى وجود غفلٍ عديم الشخصية. وحينما يهبط الوجود الذاتي الخاص إلى هذه الدرجة العامية المبتذلة، فهنالك لا يعود "المرء" يعلق أدنى أهمية على مسؤوليته الشخصية، بل يوجّه كل اهتمامه نحو تلك المشاغل العادية التي قد تعينه على الانصراف نهائياً عن التفكير في مصيره الحقيقي.
وإن هايدغر لَيسخر سخريةً لاذعةً من تلك الحياة الجمعية المبتذلة التي تستحيل فيها "اللغة" إلى "ثرثرة"، ويتحول "حب الاستطلاع" إلى "فضول"!
و"الرجل الفضولي" ـ كما يصوره هايدغر ـ هو إنسان عصري لا يكف عن التنقل من موضوع إلى آخر، دون أن تكون لديه أية مقدرة على التوقف عند أي موضوع، من أجل الاهتمام ببحثه وإنعام النظر فيه، بدلاً من الاقتصار على النظر إليه بطريقة سريعة مهوّشة. ولهذا فإن "الرجل الفضولي" هو في العادة إنسان مشتت الذهن، موزع الخاطر، يظن في نفسه أنه صاحب نشاطٍ عقلي جبار، ولكنه في الحقيقة عاجز تماماً عن أن يديم النظر في أي موضوع. وقد يرضى "الفضولي" عن نفسه كل الرضىى، ولكنه في الواقع إنما يحيا حياةً مبتذلةً رخيصة، قوامُها التشتت الذهني، ورائدُها الغموض والالتباس، وشعارها الانتقال من مكان إلى مكان، دون التواجد في أي مكان!

وأما إذا أردنا لأنفسنا أن نصل إلى مرتبة "الوجود الأصيل"، فلا بد لنا من أن نرتد إلى ذواتنا، لكي نأخذ على عاتقنا مسؤولية وجودنا. حقاً إن "إمكانية التهرب" لهي إمكانية بشرية تدخل ضمن إمكانيات ارتباط الإنسان بالوجود، ولكنها في الحقيقة إمكانية تقضي على شعورنا بذواتنا، وإدراكنا لمعنى وجودنا. فلا بد للإنسان من أن يجد نفسَه مضطراً إلى مواجهة هذا الاختيار الأصلي الحاسم: فإما اغتراب عن الذات، وانحدار إلى مستوى "الشيئية"، وتنازل عن الوجود الحققي الأصيل، وإما استمساك بالذات الحقيقية، والتزام بالحرية والمسؤولية، وتسامٍ إلى مستوى الوجود الحقيقي الأصيل. ولَئِن كان الموجود البشري بطبيعته موجوداً واقعياً، عرضياً، معرّضاً في كل لحظةٍ لخطر السقوط، بمعنى أنه قد قُذف به إلى عالم الأشياء وسط غيره من الحقائق الواقعية، فهو مهدّد بالتالي بخطر الاغتراب عن الذات والسقوط في عالم الموضوعات، إلا أن في وسعه ـ عن طريق الحرية ـ أن يسترد ذاته الحقيقية، وأن يعمل على تحقيق وجوده الأصيل.

ليست هناك تعليقات: