الأحد، 16 سبتمبر 2018

عرض ومناقشة نَصّ للدكتور جورج زيناتي؛ محمد الحجيري.



عرض ومناقشة نَصّ للدكتور جورج زيناتي
محمد الحجيري

استمتعت بما قرأتُ من كتاب أستاذي الدكتور جورج زيناتي "الحرية والعنف" أيّما استمتاع، إلى أن وصلت إلى عنوان اسمه: "أصل المادة".
لم أجده بسلاسة وترابط ما اعتدته من كتابات زيناتي، ربما لقصور في التقاط ما يريد قوله في مواضيع تعود بنا إلى ميتافيزيقا الحدوث والقدم التي شغلت التفكير الفلسفي، وربما قبل ذلك: ألا وهو سؤال الأصل، الذي أدلى أرسطو فيه بقول مشهود، ثم وضع كانط في القرن الثامن عشر نهايةً له، أو هو حاول ذلك.
سأنشر النصّ بحرفيته للدكتور زيناتي، ثم أتبِعُه بتعليق ونقاش.

نص الدكتور زيناتي:
أصل المادّة:
"..
يمكننا باختصار أن نقول: بما أن الوجود حاصل، لا يمكننا أن نفكر العدم، إن كيان الوجود سابق ولا يمكن هدمه. ليس العدم هو الأصل الذي نبحث عنه، لكن هل معنى هذا أن المادة هي أصل نفسها؟هل كيان الكتلة الكونية هو الكتلة الكونيّة عينها ومن العبث تالياً البحث عنها خارجها؟ هل علينا أن نوافق أرسطو على ضرورة وجود مادة (هيولي) قديمة، أبديّة؟
لا يمكن أن تكون المادة أساس نفسها، أي لا يمكنها أن تستمد أصلها من ذاتها عينه، لسببين:
ـ القول إن المادة قديمة، غير مخلوقة، أزلية لا بدء لها، يعني تأكيد تناقض فاضح هو أن مفهوم القدم، أو الأزلية، يناقض مفهوم الزمان. أزليٌّ هو كل ما لا يبدأ في زمان وكل ما لا يمكن أن يحويه زمان. والأزليّ القديم الموجود هو ما يتضمّن عدم البدء المطلق النهائي. الأزلي لا يمكنه أن يبدأ بزمان، لأن هذا البدء يهدمه كأزلي. بين مفهوم الزمان ومفهوم الأزلية (البدء غير الكائن خارج الزمان) ثمة تعارض تام، وتضاد شامل. فالمادة الزمنية لها عمر، تتقدم في السن وتتغيّر وتتحول؛ حتى الانفجار الكبير حصل في تاريخ معيّن ـ منذ نحو 13،4 مليار عام ـ أي إن له عمراً محدداً. والسؤال هو دوماً: ماذا قبله؟
ـ يعلمنا علم الأحياء (البيولوجيا) أن المادة غيرَ الحيّة، أي البروتين، استغرقت ملايين السنوات من التطور كي تصل إلى دماغ الإنسان وهو ذروة إنجازها، ولا يتمتع هذا الإنجاز إلا بقدر محدودٍ من القدرة على الخلق والإبداع، فكيف يمكن أن تكون المادة مبدعةً نفسَها، أي أن تكون القدرةَ الإبداعية عينَها أي الخلق المطلق؟ إن القدرة على إيجاد الذات تنتمي إلى المادة، فهي إذاً حادثة.
أما العدم المطلَق، أي الفراغ المطلق، فقد قاسه العلم الحديث ودعاه الصفر المطلق، وهو عبارةٌ عن أقصى درجات البرودة وهي -273.16 درجة مئوية؛ إنها الصقيع الشامل الذي لا يحتمل وجود أيِّ مادة. العدم هو أقصى درجات اللاحرارة ولا يمكن قولُ أيِّ شيءٍ عنه." (ص 37) (انتهى النصّ)
**

تتضمن الفقرة الأولى الإشكالية التي يحاول فيلسوفنا الإجابة عنها، والتي تتلخص بتساؤله: 
"هل معنى هذا أن المادة هي أصلُ نفسها؟" ثم يردفها بسؤالٍ ثانٍ: "هل علينا أن نوافق أرسطو على ضرورة وجود مادة (هيولي) قديمة، أبدية؟"
ثم يجيب: "لا يمكن أن تكون المادة أساس نفسها... لسببين"، بعد ذلك يشرح وجهة نظره التي تبيّن السببين اللذين يمنعا المادة من أن تكون أساس نفسها، أو خالقة نفسها من عدم.
قبل مناقشة فكرة الدكتور زيناتي ومنافحته عن الأسباب التي تجعله يعتقد بأن المادة لا يمكن أن تكون خالقة نفسها، أودّ أن أبدأ بشرح فهمي لهذه الإشكالية.
لقد توصّل كانط في كتاب نقد العقل المحض إلى القول بأن العقل البشري غير مؤهل للإجابة عن هذا السؤال. وأنا أتبنى هذه النتيجة. وللصراحة أقول، ليس ذلك بسبب اقتناعي بالحجج المنطقية التي يسوقها كانط للدفاع عن مقولته التي شكلت منعطفاً كبيراً في تاريخ الفلسفة، بل ربما بسببٍ من "كسلٍ فلسفيٍّ" أدى بي إلى استحسان هذا الحلّ.
أما أكثر الإجابات تماسكاً منطقياً حول هذا الموضوع فأظنها الإجابة التي قدّمها أرسطو، وهي قوله بقِدم العالم وسرمديته. وهي الإجابة التي يبدو أن الدكتور زيناتي لم يقبل بها، فهو يقول:
"القول إن المادة قديمة، غير مخلوقة، أزلية لا بدء لها، يعني تأكيد تناقض فاضح هو أن مفهوم القدم، أو الأزلية، يناقض مفهوم الزمان."
حسناً. لنعد إلى التساؤل الذي يطرحه زيناتي والإجابة الأولية عنه: هل يمكن للمادة أن تكون أصل نفسها؟
ثم يجيب بالنفي: لا يمكن..
من الواضح بأن رفض القول بقدم العالم يؤدي إلى القول بحدوث المادة.
والقول بحدوث المادة يوصل إلى احتمالين: إما أن المادة أصل نفسها، وهي الفكرة التي يناقشها زيناتي ويثبت بطلانها، وإما أن تكون مخلوقة.
برأيي إن القول بأن المادة أصل نفسها واضحة البطلان، وما كانت بحاجة إلى الأسباب التي تم اللجوء إليها للبرهان على ذلك.
إن القول بأن المادة أصل نفسها أو أنها خلقت نفسها يتساوى تماماً مع القول بأن العدم أوجد المادة.
المادة خلقت نفسها، تعني أن المادة لم تكن، ثم كانت، أو أوجدت كيانها. لكنها حين لم تكن، يعني أنها كانت عدماً. فالقول بعد ذلك بأنـ(ـها) خلقـ(ـت) نفسـ(ـها).. ففي الحقيقة إن هذه الضمائر تعود إلى العدم ذاته. إلى اللاوجود الذي سبق وجود المادة. إن كانت هذه الضمائر تعود إلى مادةٍ موجودة، فهذا يعني أننا لسنا بحاجة إلى الخلق، لأن المادة موجودةٌ أصلاً، وإذا لم تكن كذلك، فهذا يعني أننا نتساءل إن كان هذا العدم يمكن أن يخلق شيئاً نسميه المادة. ثم نقول: هل يمكن للمادة أن تخلق نفسها. وفي ذلك نوع من التناقض في القول أو عبثية فيه.
وهذا يؤدي بنا إلى الاحتمال الأخير، وهو أن المادة حادثة (بعد أن رفضنا القول بقدم العالم عند أرسطو)، وبالتالي فهناك خالق لهذه المادة.
وهذا يؤدي بنا أسئلةٍ تفصيلية عن عملية الخلق هذه، لكن الأهم أنها تعيدنا إلى السؤال الأساس: سؤال يتعلق بأصل الخالق ذاته، ويكون علينا أن نواجه من جديد ما رفضناه بداية عن قدم المادة، لنقبله على قدم الخالق.
هل الأول (كما يسميه أرسطو) أصل ذاته؟
القبول بفكرة القديم تسمح بإيجاد حل للمشكلة، وهو ما اعتمده أرسطو.
والقول بأن العقل البشري ليس الأداة الصالحة للإجابة على هذا السؤال تحل المشكلة. أو تلغي التفكير فيها أو تؤجله.
أما رفض القول بالقدم فستضع فرضية الخلق في مأزق وتعيدنا إلى نقطة البداية: رفض مبدأ القدم، ورفض مبدأ الخلق الذاتي، ونكون أمام عالم غير موجود بالأصل، يكون ليس ثمة إلا العدم المطلق.
بالعودة إلى النص، نجده يقول:
"القول إن المادة قديمة، غير مخلوقة، أزلية لا بدء لها، يعني تأكيد تناقض فاضح هو أن مفهوم القدم، أو الأزلية، يناقض مفهوم الزمان."
هل حقاً إن مفهوم القدم يناقض مفهوم الزمان؟
يقول زيناتي: 
"أزليٌّ هو كل ما لا يبدأ في زمان وكل ما لا يمكن أن يحويه زمان."
الأزلي أو القديم هو ما لا يبدأ في زمان، أو ما لا يسبقه زمان. فإذا كانت المادة والزمان قديمين، لماذا يكون هناك تناقض؟ أين التناقض في القول بأن المادة القديمة مساوقة وشريكة للزمان في القدم وعدم وجود بداية لهما.. وهذا ما ذهب إليه أرسطو.
أنا أظن أن التناقض يكمن في القول بحدوث المادة. أي أن المادة وُجدَت في الزمان، أو يسبقها زمان.
ما معنى الحديث عن الزمان قبل وجود المادة؟ مع أن زيناتي يعتبر في صفحات سابقة بأن الزمان ما هو إلا تجريد للمكان والمسافة والحركة التي تقطع تلك المسافة. فلو لم يكن هناك مكان ومادة ومسافة، وكان هناك عدم مطلق وسكون مطلق، ما معنى الحديث عن الزمان؟
نتذكر بأن أرسطو كان قد عرّف الزمان بأنه عدد الحركة.
أما الحديث عن عمر الكون والانفجار الكبير، فهو سؤال علمي وليس فلسفياً، وكان زيناتي قد أشار إلى ذلك سابقاً، كونه سؤال لا يطرح مشكلة الأصل: أي من أين جاءت المادة؟
في الحجة الثانية التي يعتمدها الدكتور زيناتي لإثبات أن المادة لا يمكن أن تكون أصل ذاتها، ونحن متفقون معه في ذلك كما ورد أعلاه. يقول بعبارة مثيرة:

 "إن المادة غيرَ الحيّة، أي البروتين، استغرقت ملايين السنوات من التطور كي تصل إلى دماغ الإنسان وهو ذروة إنجازها، ولا يتمتع هذا الإنجاز إلا بقدر محدودٍ من القدرة على الخلق والإبداع، فكيف يمكن أن تكون المادة مبدعةً نفسَها، أي أن تكون القدرةَ الإبداعية عينَها أي الخلق المطلق؟"

هذا يعني أن المادة استغرقت ملايين السنوات حتى تحولت من مادة غير حية حتى وصلت إلى مرتبة الإنسان. وخلق المادة نفسها من عدم أصعب عليها بكثير من تحولها من مادة خام إلى مرتبة الإنسان.
لو أن الأمر يتعلق بنسبة الصعوبة، لافترضنا أن المادة التي احتاجت إلى ملايين السنين حتى تحولت من مادةٍ حية إلى مرتبة الإنسان، هي بحاجة إلى أكثر من ذلك بكثير لتخلق ذاتها من العدم..
لكن الأمر ليس كذلك. هناك فرق نوعي بين تحولات المادة والأشكال التي يمكن أن تأخذها، وبين القول بالخلق الذاتي من العدم.
نتفق مع زيناتي في عدم إمكانية الخلق من العدم، لكن لا نجد أن هذه الحجة موفقة للبرهان على ذلك.
هل في هذا النقاش نوعٌ من الدونكيشوتية و"محاربة" أفكار لم يقلها زيناتي.
هل قوّلته ما لم يقل؟ لست أدري، لكن هذا ما فهمته من النصّ.

16/9/2018 

ليست هناك تعليقات: