الثلاثاء، 15 نوفمبر 2016

في تاريخ التأويليّة؛ فتحي إنفزّو.



أبريل 2016

بقلم فتحي إنفزّو

في تاريخ التأويليّـة*: المسائل والقراءات**



ليس الغرض من هذه المقالة أن ننظر في القراءات الفلسفية المختلفة لشلايرماخر وأن نستظهرها

لنبين أهمية هذا الرجل وميراثه في الفكر الفلسفي المعاصر، أو في المدارس التأويلية اللاحقة عليه، لمجرد

العرض التاريخي. وكأننا بذلك نبحث عن هذه الأهمية ونستدلّ عليها بمفعول رجعيّ، أي بحسب ما آل إليه

تلقّي هذا الفيلسوف لا بحسب ما تركه ودوّنه، وإنما على أساس سياق تأويلي مركّب من عناصر مختلفة

أو مُختلَف عليها في أفضل الأحوال. ذلك أنّ الدّافع إلى هذا الأمر يرجع إلى ما في مقام شلايرماخر نفسه

من الإشكال في تاريخ التأويلية، عند قرائه، وقبل ذلك عند أخلافه ممّن تابعوا مشروعه واستكملوه. حتى

أنّه يمكن القول بتعميم شديد إنّ منزلة شلايرماخر في تاريخ التأويلية إنما هي من منزلة هذا التاريخ نفسه

وحكمه الفلسفي ووجاهته: هل يستقلّ بنفسه، أم يتصل بتاريخ الفلسفة والأفكار والمفاهيم؟ هل هو تاريخ

فلسفي صرف، أم يحتاج إلى تواريخ ومجالات وصناعات أخرى، كاللاهوت، وفقه القانون، والفيلولوجيا،

 وسائر المعارف العلمية الصورية والتجريبيّة والإنسانية؟ 1 ليس السؤال عن كيفيات تقبل فلسفة شلايرماخر

 التأويلية هو طلبٌ لأمر في ذاته، وإنما هو استفسارٌ عن الدّور الذي اضطلع به صاحب هذه الفلسفة في تاريخ

التّأويليّة الحديثة: هل هو مؤسّس هذا التّاريخ ونقطة انطلاقه الفعليّة؟ أم هو أقصى حدّ بلغه واستكمل نفسه به

وختم سلسلة السّابقين عليه؟ على أننا في الحالتين نضعه بموقف لا نظير له: إمّا موقف البدء والتأسيس الذي

يحدّد مسار المستقبل ويطلقه، أو موقف الختام الذي يطوي الماضي ويستوقف الفكر والزّمان في حاضر

كأنه آنٌ مطلقٌ أبديٌّ.


1. تاريخ التأويليّة ومنزلة شلايرماخر.

 -1.1 ملاحظات أوليّة.

 لعله حريّ بنا أن نقف بادئ الأمر على تاريخ التأويلية نفسه 2 قبل أن نفحص وضع شلايرماخر في مسار

 هذا التاريخ أو في نظامه إن وُجد أصلاً. ذلك أنّ معنى هذا التاريخ ومفهومه أمرٌ مشكلٌ عند الفلاسفة وعند

القرّاء والباحثين سواءٌ بسواءٍ. فهو عند بعضهم لا يشمل إلاّ الفترة المتأخرة من تاريخ الفلسفة، أي القرنين

 19 و 20 ، ولا يزيد على ذلك إلا قليلاً، أي هو تاريخ مناسب للحقبة المعاصرة؛ ومن ثَمّ كان الحديث عن

 «العصر التأويلي للعقل »، أو كذلك عن «الأنموذج التأويلي للعقل »، وعن «الأفق التأويلي للفكر المعاصر ،»


-1 راجع بخصوص كتابة تاريخ التأويلية بحسب مختلف الفنون والمجالات:

 M. Böhl, W. Reinhardt & P. Walter: 2013.

 -2 في مختلف المقاربات والمراجعات لتاريخ التأويلية )فضلا عن النصوص الكلاسيكية التي أشرنا إليها منذ المقدمة(، راجع:

 J. Goebel, 1918: 602-612; J. Molino, 1985: 73-103; Id., 1997: 1-32; J.P. Resweber, 1988: 57-73; Id., 2002: 55-78;

J. Quillien, in Laks & Neschke (éds.), 1990: 69-117; 2° éd., 2008: 71-105; D. Thouard, 1997: 9-17; C. Berner,

« Eléments d’histoire de l’herméneutique » , in 2007: 35-121


في عناوين شهيرة 3... وكلها من الدلائل الشائعة على هذه المطابقة بين حدوث المعاصرة نفسها فكراً وزماناً

 وبين ظهور الفلسفة التأويلية لا كمجرد مدرسة من المدارس الرائجة وإنما كروح للزمان الحاضر وللفكر

الذي يتشكل منه أفقه وأنموذجه الأخص الأقرب إلى التعبير عنه. والحق أنه يمكن أن نعاين أشكالاً كثيرةً

للرّبط بين الفكر المعاصر وبين الأنموذج التأويلي لعلّ أهمها يرجع إلى:

- الخطّ الذي ينحدر من ديلتاي ويفضي إلى التأصيل الفينومينولوجي الأنطولوجي للتأويلية مثلما هو

الأمر عند هيدغر وغادامر وبولنو، وروّاد المنطق التأويلي مثل ليبس وميش وبلسنر، ويجد عند ريكور

تتمته القصوى وهو في مختلف وجوهه مبني على قراءة لهوسرل وتحويل لإشكاليته؛

- الخطّ الذي ينحدر من نيتشه ويقوم على نقد الثقافة والبنى الرمزية للحياة النفسية والجسدية ومنه

تطورت مختلف النزعات الجنيالوجية كالتحليل النفسي لفرويد وأركيولوجيا فوكو؛

- الخطّ الذي يمثل اللاهوت وفلسفة الدين منواله الرئيس كما عند بولتمان وكارل بارت وباول تيليش

ودي لوباك؛

- الخط الذي تمثله محاولات نقد الميتافيزيقا والتدبيرات المعاصرة لما بعد الحداثة بشقيها التحليلي

والقاري عند رورتي وديفيدسون وفاتيمو...

إن لهذه المسارات التأويلية وجاهة تخصها كلٌّ بحسب المعنى الذي اعتمدته للمشكل التأويلي ولطبيعة

العمل التأويلي نفسه وموضوعه ومنهجه، وكلّ بحسب المرجع الأقصى الذي قبلته أصلاً ومعياراً لهذا

العمل، منه تنبع المفاهيم والمشكلات الرئيسية. وقد لا يكون بين هذه النماذج– الفينومينولوجي والجنيالوجي

والثيولوجي –روابط مباشرة ولكنها تجتمع على الإقرار بسبق الهيئة التأويلية للمعنى على الهيئة المعرفية

سواءٌ أكانت في الوجود أم في النص، في الذات أم في التاريخ... وأن هذه الهيئة راجعة إلى تكوين لغوي أو

خطابيّ مشتقه منه غير مستقلة بنفسها.

بينٌ أنه لا يمكن أن يحصل إجماعٌ حول تاريخ التأويلية وبنيته ومحتواه ولا حول مختلف الطبقات التي

يتشكل منها لما بينها من الاختلاف والتفاوت في المنابع والوسائل والأشكال. يستوي في ذلك الفلاسفة أنفسهم

ممن اعتمدوا قراءات لهذا التاريخ متفاوتة الأهمية والمتانة، مثل ديلتاي وهيدغر وغادامر وإميليو بيتّي

وريكور وبيتر سوندي؛ والباحثون الذين لا تخلو دراساتهم من افتراضات نقدية حول منزلة هذا التاريخ

واتجاهاته الكبرى، مثل ريتشارد بالمر وجورج غوسدورف، وجان غرايش، وجان غروندان، وفيراريس،

 وماتياس يونغ 4... أمّا إذا تعلق الأمر بشلايرماخر وصلته بهذا التاريخ فإنّ الخصومة بين قرائه تبلغ أشدها

 وتكاد تنتقل في تقدير هذه الصلة من النقيض إلى النقيض. وذلك هو في الحقيقة انعكاسٌ لاختلاف القرّاء

حول منزلة فلسفته نفسها وموضع التأويلية منها بين منكر لهذه الفلسفة ولاستحقاق صاحبها لصفة الفيلسوف

أصلاً، وبين مختزل لها في غرض رئيس ووحيد هو الغرض التأويلي دون باقي الأغراض والقضايا،

كالجدلية والأخلاق والجماليات، فضلاً عن الأغراض اللاهوتية. وقد كان ديلتاي أول من نبّه على ضرورة

 الاحتياط من إدراج «النسق الهرمينوتيقي لشلايرماخر » ضمن «النسق الفلسفي لشلايرماخر 5» ؛ وربما

 يرجع ذلك إلى أن انتظام القول عند شلايرماخر يقتضي معنًى مخصوصاً للنسق، أو هو غير نسقي أصلاً

إن فهمنا منه الترتيب الذي يكون على الشاكلة المعمارية أو الجدلية التأملية وغير ذلك من أصناف التنسيق

 الفلسفي التي شاعت في القرن 19 وانتشرت 6.

 مهما يكن من أمر فإنّ الخلاف حول شلايرماخر إنما يرجع إلى أمرين متداخلين: تأويليته وحكمها

الفلسفي من جهة وتاريخ التأويلية وحكمه الفلسفي من جهة ثانية. وفي الحالتين فإننا لا نقرأ النصوص من

حيث هي وثائق موضوعية دالة على نظرية أو على قول مثبت فحسب، وإنما نأخذها من حيث هي ذات

دلالة أعمّ منها بضربٍ من التأمّل الإضافي أو التأمّل الذي من درجة ثانية، ولذا فلا مناص من الخلاف ولا

من تبعاته التأويلية كيفما قلبنا الأمر. ذلك أنه يمكن أن نشير، من قبل أن نقف على بعض اللحظات الأساسية

التي انبنى عليها استئناف الميراث التأويلي لشلايرماخر عند المعاصرين، إلى علامات هذا الخلاف وخلفياته

الكبرى من حيث تضمر إستراتيجيات متباينة في النظر إلى هذا الميراث وبنيته وأوجه راهنيته وكيفيات

استحضاره.


-2.1 من شلايرماخر إلى هومبولد.

 لاشكّ أنّ الخلاف حول تاريخ التأويليّة إنّما يقع، في تقديرنا، بين تصوّرين اثنين: أمّا التصور الأول 7 فهو

 الأكثر شيوعاً وتداولاً ويقوم على المتصل شلايرماخر–ديلتاي–هيدغر، وهو يبتني قراءةً تضع شلايرماخر


-4 راجع في مختلف أنماط كتابة تاريخ التأويلية:

 P. Szondi, 1989: 7-18; R. Palmer, 1969: 12-45; G. Gusdorf, 1988; J. Greisch, « La crise de l’herméneutique.

Réflexions métacritiques sur un débat actuel » , in J. Greisch, K. Neufeld & C. Theobald, 1973: 135-180; D. Jasper,

2004; J. Grondin, 1996; Id. 2006; M. Ferraris, 1998: 3-33; M. Jung, 2007: 28-70.

 -5 حول هذا التنبيه، راجع:

 W. Dilthey, GS XIV-2; C. Berner, 1995: 10, n.1.

 -6 راجع بخصوص نفور شلايرماخر من الشكل النسقي للتفلسف؛ وكذا بخصوص تصنيف الأنساق الفلسفية: "الأشكال الثلاثة الكبرى للأنساق في

النصف الأول من القرن 19 " لديلتاي:

 Dilthey & Jonas, 1858: I, 78; W. Dilthey,: « Die drei Grundformen der Systeme in der erste Hälfte des 19. Jahrhunderts

» , in GS IV, 1921: 528-554.

 -7 راجع بخصوص نقد هذا التصور: 82 - 71 : 2008 ; 85 - 69 : J. Quillien, 1990 )الاقتباسات الواردة في هذه الفقرة مأخوذة من هذه المقالة(.


في مقام التّأسيس، أي الاضطلاع بمهمة محددة هي «استخراج شروط إمكان تأويل صالح كليًّا »، يكون دور

ديلتاي بعده توسيع مداه ومقصده «من تأويل النّصوص المكتوبة إلى الفهم التاريخي بعامّة »؛ ويكون دور

هيدغر «إعادة تعريف المهمة التأويلية في اتجاه بحث أنطولوجي ». كلّ ذلك بناءً على اعتبار الشّكل الحديث

 من التأويليّة، إلى حد القرن 18 ، صادراً من منبعين: «التراث الفلسفي والتفسير الكتابي »، بحيث ينحدر

الأول من باري إرمينياس )كتاب العبارة( لأرسطو )التأويل هو إنتاج المعنى انطلاقاً مما يصدره الصّوت(،



ويتأتّى الثاني من الاعتماد على وجود نصّ يتعيّن كشف معناه الخفيّ ويقود إلى صياغة علم بقواعد الشرح

في منظومة مكتملة. ذلك ما يفضي إلى رصد موطن الأصالة في موقف شلايرماخر - الانطلاق من

«تعريف التأويليّة العامّة بوصفها منظومةً نسقيّةً توفّر أساساً صلباً للتأويليات الخاصة »، وذلك «لإجراء

الربط، ضمن سياق كانطي، بين تيارين منفصلين إلى ذلك الحين، الفيلولوجي والتفسيري ». وعلى غرار

الانقلاب الكانطي )من الموضوع إلى الذات( فإنّ شلايرماخر يعود من الموضوع، أي النصوص وهي مادة

 الفيلولوجيا والتفسير )أو الشّرح exegesis ( إلى «نشاط الرّوح الذي يؤسّس وحدة التأويلات المختلفة .»

 وإذاً فبناءً على هذا الاستيعاب المزدوج ينهض موقف ديلتاي، في تقدير كيليان صاحب هذه القراءة، على

«استيعاب » آخر يجعل المكتسب من موقف سلفه، أي «نظرية الصناعة التأويلية »، منخرطاً في إشكاليّة

أعمّ هي علوم الروح أوالإنسان بوصفها إشكاليّةً إبستمولوجيّةً قائمةً على أساس «نظرية المعرفة »؛ حيث

يرى ديلتاي أن موقف شلايرماخر قد استُكمل ولم يبقَ إلا تجويده بالمطالب العلمية والمنهجية اللازمة. أما

هيدغر فيتبع موقف «القطيعة »، لا الاستيعاب، إزاء فلسفة ديلتاي وبالذات من جهة انحرافها الإبستمولوجي:

فالأمر يقضي بالعودة بالإبستمولوجيا إلى أساسها أي الأنطولوجيا - من فقه العلم إلى فقه الوجود. من أجل

ذلك ينبغي استنقاذ العنصر الأصيل في موقف ديلتاي: «رفع «الحياة » إلى الفهم الفلسفي وتوفير الأساس

 التأويلي لهذا الفهم انطلاقاً من «الحياة عينها » كما قال في الوجود والزّمان ) 72 § (. وإذاً يجب العودة من

 المستوى المعرفي لعمل الفهم بوصفه نظرية منهجية إلى المستوى الأنطولوجي، أي مستوى الاستباق الذي

يتقدم على الفهم ويتصل بمعنى الوجود بما في ذلك الوجود التاريخي نفسه. إن الأسئلة الممكنة التي تطرح

أمام هذا المتصل الخطي شأنها أن تهز بداهته وتثير ما يكتنفه من الخلل والتفاوت: فهو يخفي دوراً بين مهمة

التأويل ومحتواه من جهة وتاريخه من جهة ثانية؛ وهو كذلك يخفي مبدأ تأويليًّا خطيراً يتم بمقتضاه استبدال

الترتيب الكرونولوجي الموضوعي بضرب من التجاوز ذاتي التشريع وتحكّمي يكون فيه الخَلَفُ أكثر فهْماً

لسلَفه منهُ لنَفْسِه... إضافة إلى الإحراج الذي يتولّد من هذا الرسم المصطنع لتاريخ التأويلية: هل قدرُه أن

يكون بين نظرية المعرفة ونظرية الوجود، بين المطلب الإبستمولوجي والمطلب الأنطولوجي؟ هل اعتبار

«الكانطية هي الأفق الفلسفي الأقرب إلى التأويلية » )ريكور( ضامنٌ للوحدة النظرية لهذه القراءة أي لتعاقب

اللّحظات الثلاث التي ذكرنا إذا كان شلايرماخر في الأصل أقرب إلى أفلاطون منه إلى كانط؟ فضلاً عن ذلك

فإن فيها شيئًا كثيراً من التنافر بين من تكوّن في الفيلولوجيا والشّرح مثل شلايرماخر ومن كان فيلسوفاً مثل

ديلتاي وهيدغر، الأمر الذي ينعكس على العلاقة بين النظرية والتطبيق في كل عمل تأويلي. كلّ هذه الحجج

التي أتينا على مفاصلها العامة دون تفصيل إنما ساقها صاحبها للدفاع عن تاريخ مختلف للتأويلية هو التصور

 الثاني أو الطرف الثاني في هذا الخلاف: فيه لحظة أولى من العصر القديم إلى القرن 18 ، أي «ممارسة

 متصلة للتأويل والشرح »، ثم «الفيلولوجيا » مع عصر النهضة بغير وحدة نظرية؛ إضافة إلى لحظة ثانية

يمثلها شلايرماخر الذي اصطنع من موقع التطبيق والممارسة نظرية جامعة للمجالين المذكورين ولكنها

نظرية صناعية ) Kunstlehre ( أي «من درجة أولى » وليست «نظرية علم ؛)Wissenschaftslehre( »

وثالثة في نهاية المطاف يمثلها ديلتاي وأتباعه )هيدغر، غادامر، ريكور( وهي لحظة قائمة على نظرية

جامعة بين الأثر التنظيري لشلايرماخر وبين العمل الفعلي للعلم التاريخي. هكذا، يستنتج صاحب المقال،

«إن قبلنا هذا التمييز صارت الأشياء أوضح وأبسط. فالمصاعب التي أثارها التحقيب التقليدي مأتاها من

كوننا نضع على نفس الخط نظريات ذات مستوى مختلف )ومن ذلك الجهود لرفع شلايرماخر إلى المستوى

الثاني(. » حينها يُفهم الاحتفاظ بشلايرماخر في موضع الأصل لغياب نظير له يضمن استمرار الحلقة أي

 ديلتاي وهيدغر. هذا النظير، أي الأصل النظري بمعنى المستوى الثاني، ليس إلا فون هومبولد 8.


-3.1 التأويلية الأدبيّة وتاريخ التأويليّة.

 من علامات هذا الخلاف الذي كنا نشير إليه حول تاريخ التأويلية ماهو انعكاسٌ لما سبق وتعبيرٌ عنه،

ولعلها ترجع إلى الخلاف حول شلايرماخر نفسه وكيفية فهم إسهامه في مجال التأويلية دون الرغبة في

استبداله أو تغيير موقعه في تاريخها. نجد في الطرف الأول أصحاب قراءة يمكن أن نسميها أنطولوجية

أو تاريخية-أنطولوجية تقتصر على المتصل الثلاثي المذكور )شلايرماخر/ديلتاي/هيدغر( لتقرّ بوحدته

وتنخرط ضمنه )غادامر/ريكور( فتصير جزءًا منه أي استكمالاً أخيراً له. ولا يقف الأمر عند هؤلاء

الفلاسفة ونمط فهمهم للإرث التأويلي وشكل انتسابهم إليه، بل يمتدّ إلى الدارسين والمؤرخين حيث يصبح

 تاريخ التأويلية مساقا غائيًّا يحتلّ فيه شلايرماخر موقعاً وسطاً بين «ما قبل تاريخ التأويلية 9» وما يتشكل

 منه من التحقّقات، وكأنها تخضع لنفس الدافع والمحرك: «كلية التأويلية » التي جعلها بعض مؤرخيها

 شعاراً لتاريخها؛ أو موقعاً تأسيسيًّا صريحاً هو بداية لهذا التاريخ 10 . أما في الطرف الثاني، فإنّ هذا البحث

 اللاّمشروط عن المعنى والتواصل في تاريخ التأويلية يجد نقيضاً له في قراءات تتناول أثر شلايرماخر

تناولاً مختلفاً عن القراءة التاريخية-الأنطولوجية التي تحدثنا عنها: ذلك هو مثلاً شأن بيتر سوندي في مقالته

 الشهيرة «تأويليّة شلايرماخر »، المنشورة في كتاب الشّعر والشعريّة في المثاليّة الألمانيّة 11 ، وفي كتابه


-8 راجع بخصوص فلهلم فون هومبولد وإسهامه الهرمينوتيقي:

G. Gusdorf, 1988: 169-186; J. Quillien, 1991; D. Thouard, 1998: 271-285; J. Simon, 2004: 113-131.

9- Cf. H. Jaeger, 1974: 35-84; J. Grondin, 1996: 2-50.

10- Cf. F. Mussner, 1972: 21-27.

-11 وقد نشرت أول الأمر باللغة الفرنسية قبل أن تنشر في لغتها الأصلية؛ راجع:

P. Szondi, « L’herméneutique de Schleiermacher » , in 1975: 291-315.


مدخل إلى التأويليّة الأدبيّة 12 ، إذ ينقلب الحال فلا نجد شلايرماخر في مبدإ تاريخ افتراضي مصطنع، وإنما

 في خاتمة مسار مركّب من أعلام اضطلعوا بالتأسيس الفعلي للعمل التأويلي: دانهاور-كلادنيوس-ماير-آست؛

فإشكالية شلايرماخر حاصلةٌ عن أسلافه، وهي لذلك مفصولةٌ بعناية عن كلّ ربطٍ تاريخيٍّ لاحق بديلتاي أو

 بالفينومينولوجيا، بل ينبغي تخليصه من قراءة ديلتاي 13 الذي بقي كسائر أخلاف شلايرماخر، مثل هيدغر

وغادامر، على قمّة فلسفة في الفهم دون النّزول إلى الممارسة المباشرة والفعلية للتّأويلات ولمناهجها 14 ،

حيث كثيراً ما تقع المبالغة في تقدير القيمة التاريخية لمقالة 1900 التي اشتهر بها وهي التي ترسم ضرباً

 مُشكلاً من «التقدّم المتواتر » غير مقنع حيث يرتبط بوضع المعرفة في زمن معيّن. يضيف سوندي:

«غير أنه يجوز لنا أن نسأل إن كان انتظام المسار الذي تم إثباته ]في مقالة ديلتاي[ لا يحذف التغير

التاريخي الذي يزعم الإحاطة به وذلك بالغفلة عن اللحظة التاريخية التي تقع عند عين المفهوم الذي للفهم

ولتاريخية القواعد. لقد كانت التأويليّة من قبل مجرد منظومة من القواعد وهي اليوم مجرد نظرية في الفهم؛

ولكن ذلك لا يعني أنّ مفهوماً غير متمفصل في الفهم لم يكن محايثا لقواعد مطبّقة من قبلُ ولا أن نظرية في

الفهم يجب عليها اليوم أن ترفض صوغها بنحو جديد أو أن تجيز لنفسها أن تفترض أنه مادامت قد جرت

 من قبلُ فإنها قد احتفظت بصحّتها. 15»

 لذلك ليس من الوجيه اختزال «التّغير التاريخي » لفائدة وجهة نظر الفهم كمنطلق للقاعدة أو للمعيار، من

أجل أنّ مفهوم الفهم هو مفهوم متحوّل تاريخيًّا )على غرار مفهوم الأثر الأدبي( وقواعده ينبغي أن تتحوّل

كذلك وأن تتمّ مراجعتها. إنّ استحالة التأويلية - في الرسم الذي قدمه ديلتاي - إلى «علم بالأسس » يغري

 بوضعها في رتبة أعلى مما كان في سابق العهود مهمتها أي «تعليم تعاطي التأويل وعُدّته 16» .

ولعله لمثل ذلك أيضاً تفضي قراءة كتاب جورج غوسدورف أصول التأويلية، وبخاصّة الفصل الخامس

منه «تأويليّة شلايرماخر 17» : إنّه شكلٌ من الكتابة لتاريخ التأويليّة لا أثر فيه لمسار يفضي إلى شيءٍ

 كالتأويلية الأنطولوجية المرسومة سلفاً في خط فكري متصل كالذي وصفنا أعلاه، بل رجوع بشلايرماخر


-12 راجع أيضاً الترجمة الإنغليزية للفصل الأول من هذا الكتاب:

 P. Szondi, 1989; « Introduction to Literary Hermeneutics » , 1978: 17-29.

 13- Szondi 1989: 116-117.

14- Szondi, 1975: 293.

15- Szondi 1989: 8-9.

-16 م.م.، 9. حول أعمال سوندي وإسهاماته، راجع:

M. Frank, R. Hannah & M. Hays, 1983; M. Bollack (éd.), 1985; C. Berner, 2013: 29-43; D. Thouard, 2002: 289-

308; Id., 2012: Herméneutique critique: Bollack, Szondi, Celan, Presses universitaires du Septentrion.

-17 راجع: 1988 ,Gusdorf :


إلى المناخ الروحي الذي تشكلت منه فلسفته في التأويل ولا سيما برافديه الرومنطيقي واللاهوتي 18 . أمّا

 القراءة الاتّصالية الكلاسيكية لتاريخ الهرمينوتيقا فلا مساغ لها أصلاً، إذ لو كان الخلفُ أكثراً فهماً لسلفه منه

 لنفسه لكان أوْلى بنا أن نستغني عن الأسلاف كلّ مرة 19 .



غير أن هذا الذي استبعدته قراءات لا تخلو من أهمية ووجاهة فلسفيتين إنما هو الذي يتشكل منه كلّ

تناول راهن لميراث شلايرماخر بالقبول أو بالنقد ولا يجوز استبعاده تماماً من أجل أنّ البعض بالغ في

تقدير هذا الشكل من التقبل والتصريف لأفكاره. بل يمكن القول إنه رغم التحريفات التي هي ضرورية

لتقدم الفكر فإنّ المصير الذي لقيه شلايرماخر في الفكر المعاصر ما كان له أن يرتفع إلى مستوى الحدث

الفكري الرئيس لولا أنه مرسوم في الأصل ضمن منطق إشكاليته التأويلية وروحها. من ديلتاي إلى غادامر

 مروراً بهيدغر وحتى جيل المتأخرين، مثل بول ريكور وجياني فاتيمو ومانفرد فرانك 20 ، أصبح شلايرماخر

 صاحب مقام فلسفيّ مقارن لمقام كبار الفلاسفة، معاصراً لهم ولنا، وليس مجرّد مفكر هامشي، أو لاهوتي

مغمور من عصر التّنوير، أو من مدرسة الرومنطيقية ذات المنزع الجمالي الأدبي؛ بل أصبحت نظريته في

التأويل موشوراً لمقاربة فلسفته كلها ولتوجيه الفلسفة المعاصرة توجيهاً حاسماً نحو قضايا مبتكرة، قضايا

المعنى واللغة والنص والقراءة والفهم والتواصل والترجمة والكتابة... أصبحت اليوم أنموذجاً قائماً بذاته بعد

نهاية الميتافيزيقا ونهاية الأنموذج الكانطي ومُثله الصورية العليا في المعرفة والأخلاق بخاصة.


2. قراءة ديلتاي: تأويلية المفرد.

 لقد أسهم فلهلم ديلتاي في رسم صورة لتاريخ الهرمينوتيقا ولمنزلة شلايرماخر منه بقيت راسخة في

أوساط الفلاسفة والباحثين، وبخاصة عند أتباعه والمنتمين إلى خطه الفكري منذ أوائل القرن العشرين.

 فقد كتب في منعطف هذا القرن، أي سنة 1900 تحديداً، نصًّا شهيراً شارك به في ذكرى الاحتفال بمولد

الفيلسوف سيغفارت عنوانه «نشأة الهرمينوتيقا 21» ، وهو في حقيقة الأمر استئنافٌ مكثّفٌ لنصّ مطوّل كان

قد تقدّم به لنيل جائزة مؤسسة شلايرماخر في 1860 وعنوانه: «النسق الهرمينوتيقي لشلايرماخر من خلال


-18 م.م.، 188 ، 326 . حول مراجعة لقراءة غوسدورف لتاريخ التأويلية، اُنظر:

B .Stevens.504-515 :1989 ,

-19 راجع: غوسدورف، م.م.، 188 : "إنّ الكتب الجيدة تلقي بظلالها؛ فهي تقترح بدايةً جديدةً، إذ تحجب ما جاء قبلها. فغادامر يعلن عن انتسابه إلى

هيدغر؛ وبفضل التأويلية الجديدة تحديداً، فإن غادامر قد فهم هيدغر أحسن مما كان هيدغر سيفهم نفسه. وإذاً فلا فائدة من الرجوع إلى هيدغر، إن شئنا

أن نعمل شيئا من تأويلية ذات شأن. بإمكاننا أن نكتفي بغادامر، مادمنا كذلك سنفهمه أحسن من فهمه لنفسه."

20- Cf. P. Ricoeur, 1987: 75-100; G. Vattimo, 1968; M. Frank, 1977.

21- نشر هذا النص بادئ الأمر ضمن أعمال تكريم سيغفارت ،ثم تم نشره ضمن المجلد الخامس من الأعمال الكاملة بتحقيق غيورغ ميش؛ ترجم إلى

 الفرنسية والإنغليزية في مناسبتين:

W. Dilthey, « Die Entstehung der Hermeneutik (1900) » , GS V, 1927: 316-338; « Genèse et développement de

 l’herméneutique » , Le monde de l’esprit, 1947: 319-340; « La naissance de l’herméneutique » , Ecrits d’esthétique,

OEuvres 7, 1995: 291-307; « The development of Hermeneutics » , in Selected Writings, 1976: 247-263; « The Rise

of Hermeneutics (1900) » , Hermeneutics and the Study of History, Selected Works, Vol. IV, 1996: 235-253.


المناظرة مع الهرمينوتيقا البروتستانتية المبكرة 22» . ولقد سبق لديلتاي أن شارك ل. يوناس L. Jonas في

نشر كتاب حياة شلايرماخر من خلال الرسائل سنة 1861 كما أعدّ أطروحته باللاتينية عن مبادئ الأخلاق

لدى شلايرماخر سنة 1864 ؛ وأخيراً عملُ حياته الأعظم أي كتابة سيرة الفيلسوف: حياة شلايرماخر نشر

المجلد الأول في حياته ) 1870 (، ونُشر الثاني من جملة نصوصه ومخطوطاته الباقية سنة 1966 . إن ديلتاي

 هو إذاً أكبر العارفين بميراث الرجل بلا منازع؛ وقد كان حريصاً على استخراج البعد النسقي في فلسفته

بمعنيي النسق اللّذيْن اشتغل عليهما: النّسق الفلسفي والنّسق اللاهوتي. ولذلك كان تأكيده كبيراً على المنزلة

العلميّة التي تنبغي للتأويليّة وعلى الأفق الكليّ الذي تقتضيه وتمتاز به عن المحاولات السابقة: في مقالة

 1860 كتب:

 «إنّ ماهيّة التأويل هي إعادة بناء الأثر بوصفه فعلا حيّا للمؤلف؛ وأمّا مهمّة نظريّة التأويل فهي تبعاً

لذلك التّأسيس العلمي لإعادة البناء هذه انطلاقاً من طبيعة الفعل المنتج وفي علاقته باللّغة وبالشكل الفنّي

 وكذلك في حدّ ذاته 23» .

الأمر الذي أعاد التأكيد عليه في مقالة 1900 :

 «...إن شلايرماخر قد عاد فيما وراء القواعد ]التي تعتمدها وظائف التأويل قبله[ إلى تحليل الفهم، وإذاً

إلى المعرفة بهذا الفعل الغائي ) Zweckhandlung ( نفسه وقد استنبط منها إمكان تأويل ) )Auslegung

يتمتع بصلاحية كلّية، وكذلك الوسائل والحدود والقواعد التي يختص بها. غير أنه لم يكن بمقدوره أن يبيّن أن

الفهم إنما يرجع إلى إعادة الإنتاج ) Nachbilden ( وإعادة البناء ) Nachkonstruieren ( إلا اعتماداً على

تحليل علاقته الحية بسيرورة الإنتاج الأدبي نفسها. ولقد أقرّ في الحدس الحيّ للسيرورة الخلاّقة، التي يتولّد

عنها الأثر الأدبي المتين، بالشرط الذي تتقوّم به معرفة هذه السيرورة الأخرى التي تستخلص، من جملة من

 العلامات المكتوبة، أثرا مكتملاً وتكشف ضمنه عن قصد مؤلّفه ومزاجه ) 24».)Geistesart .

 يتعلق الأمر إذاً في نصّ ديلتاي بتنزيل شلايرماخر ضمن تاريخ الممارسة التأويلية أي تاريخ صناعة

وقفت عند حدّ صياغة القواعد والتجويد الموضوعي لفاعليتها التّطبيقية بمصادرها الفيلولوجية والتاريخية


-22 بقي هذا النص غير معروف )عدا بعض المقاطع التي نقلها ديلتاي في مقالاته عن "النسق الطبيعي لعلوم الروح في القرن 17 " لسنتي - 1892

1893 (، ولم ينشر كاملاً إلا في المجلد الثاني من حياة شلايرماخر سنة 1966 :

 Dilthey, « Das hermeneutische System Schleiermachers in Auseinandersetzung mit der älteren protestantischen

Hermeneutik » , GS XIV, 597-689; trad. partielle: « L’herméneutique romantique dans le contexte de la philosophie

idéaliste (Kant, Schelling, Fichte) ( 1860) » , in D. Thouard, 1996: 331-363; « Schleiermacher’s Hermeneutical

System in relation to earlier protestant Hermeneutics (1860)”, tr. T. Nordenhaug, in SW IV, 1996: 34-131; « Die

natürliche System der Geisteswissenschaften im 17. Jahrhunderts » , in GS II, 1914: 115-136; « Le système naturel

des sciences de l’esprit au XVII° siècle » , 1999: 124-145.

 23- Cf. Dilthey, GS XIV, 689; SW IV, 130.

24- Cf. Dilthey, GS V, 327; 1947: 328-329; 1995: 302.


المختلفة، ليرفعه إلى مستوى الرهان الذي أصبح خاصّة الفكر الحديث: المعرفة بالمفرد معرفةً علميّةً،

 والإحاطة بشرط شروط هذه المعرفة أي اللّغة 25 . فالفهم في الأصل هو حاصل العمل الموضوعي لقواعد

 التّأويل الذي يعبّر عنه ديلتاي بمصطلح «المهارة الفيلولوجية »، ولكنه كذلك حاصل المقايسة بين «التجربة

الداخلية » التي لكلّ ذات بذاتها، وبين تجربة الغير، أي الالتقاء بخارج مّا تعبر عنه جملة من العلامات

 لها ما يناسبها في الوعي الذّاتي. ولذلك كان تعريف «الفهم » عنده أنّه «السّيرورة التي نعرفُ بواسطتها

˝باطناً ˝ عبر علامات مُدرَكة من الخارج بالحواسّ »؛ وكان تعريف «الشّرح أو التّأويل Auslegung( »

oder Interpretation ( هو «...ذلك الفهم الفنّي لتعابير الحياة التي تمّ تثبيتها بنحو دائم »؛ أي أنّ «فنّ

الفهم إنّما يدور على شرح أو تأويل شواهد الوجود البشري التي حفظتها الكتابة 26» ، وبعبارة أخرى كلّ

 ما حفظته اللّغة وثبّتته بنحو موضوعي قابل للإدراك. هذه التّعريفات هي في الحقيقة إعادة صياغة لما أقرّ

به شلايرماخر من سبق اللّغة في إنتاج كلّ أثر، ومن الطّابع المفرد لكلّ إبداع وخلق. فمن ذلك كان التّأويل

استئنافاً للمسار الحيّ لفعل الإنشاء والإبداع لمعاودته، وتداركاً لفرديّته اللاّمعلومة بنحو تامّ ونهائي كما هي

في أعماق نفس المؤلّف، وكان جوهره الحدس بهذا المسار الحيّ والتّعبير عنه تعبيراً موضوعيًّا، ولو أنّه

يصطدم بعائق هو كالحدّ الأقصى لكلّ فهمٍ وتأويلٍ: «... ونحن نرى أنّ الشّرح لا يمكنه أبداً الإيفاء بمهمته إلاّ

 إلى حدّ معين. وإذاً فكلّ فهم يبقى نسبيًّا وناقصاً دوماً: 27»Individuum est ineffabile أي عملاً مفتوحاً

 لانهائيًّا.

 لقد أثّرت هذه القراءة التي اختصرها ديلتاي في نص 1900 في تقبّل شلايرماخر طيلة عقود، رغم ما

شابها من عثرات ونقائص 28 ؛ وقد شدّت الانتباه إلى تأويليّته، التي كانت مغمورةً من قبلُ، غير معروفة إلاّ عند

 قلّة من المطّلعين من المقرّبين والمتخصّصين. بل يمكن القول إنّها أثّرت كذلك في صورة ديلتاي نفسه بوصفه

حاملاً للواء هذا الرجل، وهو الذي تلقّى تعليمه في مدرسة بوك Böckh وترندلنبرغ Trendelenberg

)وهما من تلامذة شلايرماخر( باعتباره وارث المشروع التأويلي الحديث، وخاصّةً من خلال فكرته عن

ضرورة تأسيس منظومةٍ مستقلّةٍ لعلوم الإنسان وفلسفةٍ في العالم التّاريخي.


-25 راجع في هذا المعنى:

 H. Anz, « Hermeneutik der Individualität. Wilhelm Dilthey hermeneutische Position und ihre Aporien » , in H.

Birus (hrsg.), 1982: 59 ss.

 26- Dilthey, 319/321: « Solches kunstmäßige Verstehen von dauernd fixierten Lebensaüßerungen nennen wir

Auslegung oder Interpretation»; « Daher hat die Kunst der Verstehen ihren Mittelpunkt in der Auslegung oder

 Interpretation der in der Schrift enthaltenen Reste menschlichen Daseins».

 -27 م.م.، 332 / 330 . وقد وضع ديلتاي هذه العبارة بحرفها اللاتيني في ديباجة عمله حياة شلايرماخر مقتبساً إياها من نص لغوته. ومعناها أن "المفرد

لا ينقال"؛ ولقد سبق أبو حيان كبير الشعراء الألمان في العصر الحديث حين قال في المقابسات: "وخواصّ الخواص معدومة الأسماء" .

28- Cf. H. Kimmerle, 1969: 113-128.


3. هيدغر: بين التأويلية وفلسفة الدّين.

 وفي كلّ الأحوال فإنّ قراءات شلايرماخر باتت رهن هذا الأفق سلباً أو إيجاباً: إمّا بالاستعاضة عنه، أي

باستيعاب اللّحظة التّأويليّة لفائدة حلّ بديل منها أو مكمّل لها هو الحلّ التّاريخي )ديلتاي(، أو تحويلها بحسب

إشكاليّةٍ مستحدثةٍ هي الإشكالية الأنطولوجيّة )هيدغر(؛ أو أخيراً بإحياء قراءة ديلتاي لفيلسوف برلين بوصفه

المؤسّس الفعلي لمشروع فلسفيّ قائم على تأويليّةٍ كلّيةٍ، أي للفلسفة بوصفها هذه التأويلية نظريةً عامّةً محرّرةً

من العناصر العقديّة غير الفلسفيّة العالقة بها )غادامر(. إنّ الطّريقة التي استنّها هيدغر في الاضطلاع

بمفهوم للتأويليّة مناسب لإشكاليته الفلسفية لا تتّصل رأساً بإرث شلايرماخر وتعاليمه، قدر اتّصالها بمسالك

فلسفية متحررة من روح العصر الرومنطيقي والتّنوير: ديلتاي وهوسّرل. فالجمع بين المطلب التاريخي

والمطلب الفينومينولوجي هو الذي انتظم مشروع هيدغر منذ أعلن عنه في عنوان طريف لدرس قدمه في

 سداسي صيف 1923 : أنطولوجيا )هرمينوتيقا الحدثيّة( صرّح فيه منذ المقدّمة:

 «إنّ شلايرماخر قد اختزل بعد ذلك فكرة التأويلية، التي وقع تحديدها بنحو شموليّ وحيّ )اُنظر

 أغسطينوس!(، إلى ˝فنّ )صناعة( لفهم ˝ ]التأويليّة والنقد، 1838 ، ص. 7[ قول الآخر، واعتبرها فنًّا

 متّصلاً بالنّحو والبلاغة، متعلّقاً بالجدل؛ إنّ هذه النظرية المنهجية صورية، وهي بوصفها ˝تأويلية عامة ˝

 )نظرية وصناعة لفهم أيّ قول غريب عموماً( تتضمن التأويليّات الخاصّة اللاهوتية والفيلولوجية. 29»

ليضيف بعد ذلك أن «...ديلتاي قد تبنّى المفهوم الشلايرماخري للتأويلية بوصفها ˝صياغة لقواعد الفهم ˝

)صناعةً لتأويل الشواهد المكتوبة( ]نشأة التأويليّة[ منافحاً عنها بتحليل للفهم بما هو كذلك ناظراً في تطوّر

التأويليّة ضمن سياق بحوثه حول تطوّر علوم الرّوح 30» ؛ ثم يقطع بما وقف ديلتاي دونه بفعل هذا الضّرب

 من البحث:

«ولكن هاهُنا يكمن بالتحديد ما ظهر بنفسه على أنه ˝قصورٌ خطير eine verhängnisvolle( ˝

Beschränkung ( في موقفه. فالعهود الحاسمة في تطور التأويليّة )أي البطركية Patristik ولوثر

Luther ( بقيت غائبةً عنه من أجل أنّه نظر في فكرة التأويليّة من جهة الغرض ) thematisch ( الذي

 يناسب الاتّجاه الذي اعتبره بنفسه أمراً جوهريّاً – منهجيّة لعلوم روح تأويليّة. 31»


-29 هيدغر 1988 : 13 , GA 63 ؛ الترجمة الفرنسية، 2012 : 32 .

-30 م.م.، 33 / 14 .

-31 م.م


ظاهرٌ إذاً أنّ موقف هيدغر، في زمن كانت فيه دروسه وكتاباته تستعدّ لمشروع أخذ يتشكل بالتّدريج،

 لا يرى في شلايرماخر مناظراً فعليًّا له شأنه أن يُسهم في التمهيد لهرمينوتيقا الحدثيّة 32 . فالتاريخ الموجز

الذي قدم به لدرسه هذا ) 2 § (، إنما يستخلص من التراث الغربي عنصرين حاسمين في الإعداد لهذه

 التأويلية – العنصر الفلسفي الإغريقي والعنصر اللاهوتي الحديث. أما العنصر الإغريقي فيشتقه من المعاني

الأصلية للإرمينيا ) hermènèia ( عند أفلاطون وأرسطو، أي العبارة الناطقة عن الوجود على شاكلةِ تأويليّةٍ

 فينومينولوجيّةٍ للوغوس بوصفه قولاً مُبيناً 33 ؛ في حين أن العنصر اللاهوتي يرجع مرة إلى أغسطينوس،

 ومرة إلى التقليد البطركي ولوثر، أي في كل الأحوال إلى المدلول ما قبل الصناعي للتأويل وما قبل العلمي

كتجربة مباشرة أقرب إلى معاينة الأشياء بالحدس من نظرية القواعد الحديثة وفنونها وتطبيقاتها. لذلك يبقى

شلايرماخر في وضع أدنى من أغسطينوس ويبقى ديلتاي، بفعل تعلقه به، أدنى من لوثر لتمسكه بتجديد

نظرية المنهج أساساً لمعقولية تأويلية علمية أجراها على علوم الروح. على أن المعنى الحقيقي والعميق

لموقف ديلتاي يظل غائباً عن قرائه– شأن تلميذه شبرانغر Spranger – محتجباً بفعل التزام حرفي مفرط

بتعاليمه.

 لمثل ذلك أيضاً فإنّ غياب شلايرماخر عن درس 1923 ، وتقدير هيدغر السّلبي لموقفه التأويلي، قد

يشفع له حضوره قبل ذلك في درس يرجع إلى 1918 - 1919 لم يقدمه هيدغر «عن الأسس الفلسفيّة

للتّصوّف في العصر الوسيط » عبر قراءة لبعض المقاطع من أحاديث في الدّين ومن العقيدة المسيحيّة 34 .

 فهل يكون موضع المناظرة مع شلايرماخر هو القراءة الفينومينولوجية لتجارب التصوف المسيحي الوسيط

واللاهوت بعامة لا التأويلية الفلسفية؟ قد يكون ذلك خاصة إذا علمنا أن المنبع اللاهوتي في فترة اعتمال

 مشروع الوجود والزمان لا يقلّ أهمية عن المنبع الفلسفي القديم منه )أرسطو( أو المحدث )هوسرل(. وإذاً

فإن كان شلايرماخر غير حاضر في كتاب 1927 تاركاً مكانه لديلتاي ولهوسّرل، فلأن هذا الكتاب لم

 يخصص موضعاً للمناظرة مع فينومينولوجيا الدّين التي اشتغل عليها في السنوات الأولى وإن لم ينقطع عنها

 تماماً في ذلك العهد. في الحوار الذي يرجع إلى 1953 - « 1954 حديث في اللغة بين ياباني وسائل »، والذي

نُشر في كتاب الطريق إلى اللغة، نجد إشارةً إلى شلايرماخر واستشهاداً بمقاطع من «المقدمة العامة » لكتاب

الهرمينوتيقا والنقد )المنشور سنة 1838 في نطاق الأعمال الكاملة للفيسلوف بتحقيق من لوكه :)Lücke

 في صفحات قليلة أشار هيدغر، ردّا على تساؤلات محاوره، إلى أمور ثلاثة:

 -32 هذا هو العنوان الفلسفي لجملة مباحث هيدغر في الفترة السابقة على نشر كتاب 1927 وقد انفرد درس 1923 بهذا العنوان Hermeneutik der

Faktizität الذي جاء بمحض مصادفة سعيدة، بعد أن أعلن عنه في بداية الأمر بعنوان "منطق". حول هذا الملف:

J .Greisch ;2002 ,Th. Kisiel, 1986-87: 91-120.

-33 راجع الفقرة 7 من كتاب 1927 : 37 : M. Heidegger, 2001 ؛ الترجمة العربية: مارتن هيدغر، 2012 : 103 .

34- Cf. M. Heidegger, « Der philosophischen Grundlagen der mittelalterlichen Mystik [1918-1919] » , in GA 60,

1995: 303-337; Phénoménologie de la vie religieuse, 2012: 345-381; S. Patriarca, 2002: 129-156; S. Camilleri,



2008: 321-342, 511-543.


1. أنّ المناخ اللاهوتي الذي تكوّن فيه إضافة إلى الفينومينولوجيا هما منذ 1923 بحسب إقراره المصدر

الرئيس للسبيل الذي شقه لنفسه نحو مشروعه الفلسفي، أي نحو الوجود والزّمان، بحثا عن «دليل » نحو

 مسألة العلاقة بين اللغة والوجود؛

 2. أنه وجد عند ديلتاي وضمن فلسفته في علوم الرّوح مصطلح «الهرمينوتيقا » كما اشتغل عليه انطلاقاً

 من المصدر الرّوحي نفسه، أي اللاّهوت، وبخاصّة انطلاقاً من عمل هذا الأخير على شلايرماخر؛

 3. أنّ مفهوم التّأويل الذي استصلحه في كتابه العمدة، الوجود والزّمان، لا علاقة له بالتصوّر المنهجي

لشلايرماخر، فهو استعمالٌ «أوسع بكثير noch weiteren( » ( من الاستعمال الصّناعي، ولا يعني ذلك

 حسب قوله: «... مجرّد توسيع صرف لنفس الدّلالة نحو مجال للصّلاحيّة أبعد مدى. ]لفظة[ ˝أوسع ˝

» weiter «( ( تعني: ما تأتّى من هذا الوسع ) Weite ( الذي يطلع خروجاً من الانبساط البدئي للوجود.

 الهرمينوتيقا، في الوجود والزمان، لا تعني مذهباً في فنّ الفهم ولا التأويل نفسه، بل بالأحرى محاولة تحديد

ما يكون التأويل قبل كلّ شيء انطلاقاً مما هو تأويليّ ) 35»)aus dem Hermeneutischen . هذا العنصر

 التأويليّ لعلّه سابق على كلّ منهج وكلّ فنّ؛ هو من سنخ حدثيّة الوجود التي تقضي أنّ التّأويل هو البُعد

الأنطولوجي الناطق عن تجربة الوجود عينها بصفتها تجربةً أصليّةً يتشكّل على أساسها كلّ فهم.

قد يكون هذا المآل الأنطولوجي غريباً عن شلايرماخر بل عن ديلتاي نفسه، وإن كان هيدغر يستفيد

منه البعد التاريخي ويستنقذه ضمن منظور الأنطولوجيا الأساسية لكتابه الرئيس الذي ينتهي الأمر بصاحبه

كما هو معلوم إلى التخلى التدريجي عن التأويلية نفسها إسماً وصفةً للفلسفة: «ولعلّك قد انتبهت إلى أنّي، في

 مؤلّفاتي اللاّحقة، لم أعد استعمل لفظة ˝هرمينوتيقا ˝، ولا الصّفة التي اشتُقّت منها 36» .


-35 راجع بخصوص هذا المقطع من الحوار وتحليله:

M. Heidegger, « Aus einem Gespräch von der Sprache. Zwischen einem Japaner und einem Fragenden » , in GA

 12, 1985: 93; Acheminement vers la parole, 1976: 96; J. De Caputo, 1987: 103-108.

-36 م.م.، 97 / 94 ؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفينومينولوجيا: 114 / 114

H. Anz, 1982: « Hermeneutik der Individualität. Wilhelm Dilthey hermeneutische Position und ihre

 D. Jasper, 2004: A short Introduction to Hermeneutics, Louisville/Kentucky: Westminster John Knox

Press.


M. Jung, 2007: Hermeneutik zur Einführung, Dresden: Junius Verlag.


J. Goebel, 1918: « Notes on the History and Principles of Hermeneutics » , The Journal of English and


Germanic Philology, Vol. 17, N° 4, 602-612.


J. Greisch, K. Neufeld & C. Theobald, 1973: La crise contemporaine: du modernisme à la crise des


herméneutiques, Paris: Beauchesne.


— 1985: L’Âge herméneutique de la raison, Paris: Cerf.


— 1993: (dir.), Comprendre et interpréter, Le paradigme herméneutique de la raison, Paris,




Beauchesne.


— 2002: J. Greisch, L’arbre de vie et l’arbre du savoir, Paris: Cerf.


J. Grondin, 1993: L’horizon herméneutique de la pensée contemporaine, Paris: Vrin.


— 1996: L’universalité de l’herméneutique, Paris: PUF.


— 2006: Herméneutique, Que sais-je ?, Paris: PUF.


G. Gusdorf, 1988: Les origines de l’herméneutique, Paris: Payot.


H. Kimmerle, 1969: « Nouvelle interprétation de l’herméneutique de Schleiermacher » , Archives de


Philosophie, t. XXXII, 113-128.




Th. Kisiel, 1986-87: « Das Entstehen des Beggrifsfeldes „Faktizität“ im Frühwerk Heideggers » ,


Dilthey-Jahrbuch, 4, 91-120.




J. Molino, 1985: « Pour une histoire de l’interprétation: les étapes de l’herméneutique » ,


Philosophiques, 12-1, 73-103.


— 1997: « Après l’herméneutique: analyse et interprétation des traces et des oeuvres » , Horizons


philosophiques, Vol. 7, N° 2, 1-32.


F. Mussner, 1972: Histoire de l’herméneutique: De Schleiermacher à nos jours, Paris: Cerf.


R. Palmer, 1969: Hermeneutics, Evanston: Northwestern University Press.




S. Patriarca, 2002: « Heidegger und Schleiermacher: Die Freiburger Aufzeichnungen zur


Phänomenologie des religiösen Lebens (1918-19) » , Heidegger-Studies, Vol. 18, 129-156.




J. Quillien, 1990 « Pour une autre scansion de l’histoire de l’herméneutique: les principes de


l’herméneutique de W. von Humboldt » , in A. Laks & A. Neschke (éds.), La naissance du paradigme


herméneutique, Presses Universitaires du Septentrion: 69-117 ; 2° éd., 2008: 71-105.


— 1991: L’anthropologie philosophique de G. de Humboldt, Lille: PUL.


P. Ricoeur, 1987: Du texte à l’action. Essais d’Herméneutique II, Paris: Seuil.


J.P. Resweber, 1988: Qu’est-ce qu’interpréter ?, Paris: Cerf.

2002: « Le champ de l’herméneutique: Trajectoires et carrefours » , Théologiques, 10-2, 55-78.


J. Simon, 2004: Signe et interprétation, tr. M. de Launay, Lille: PU du Septentrion.


B. Stevens, 1989: « Les deux sources de l’herméneutique » , Revue philosophique de Louvain, N° 75,




504-515.


P. Szondi, 1975: Poésie et poétique dans l’idéalisme allemand, tr. J. Bollack, Paris: Gallimard.


— 1978: « Introduction to Literary Hermeneutics » , New Literary History, Vol. 10, N° 1, 17-29.


— 1989: Introduction à l’herméneutique littéraire. De Chladenius à Schleiermacher, tr. M. Bollack,




Paris: Cerf.


D. Thouard, 1996: Critique et herméneutique dans le premier romantisme allemand, PU du




Septentrion.


— 1997: « Herméneutique: l’histoire problématisée » , in F. Rastier, J.M. Salanskis & R. Scheps (éds.),


Herméneutique: textes, sciences, Paris: PUF, 9-17.




— 1998: « Verstehen im Nichtverstehen. Zum Problem der Hermeneutik bei Humboldt » , Kodikas/


Code 21, Tübingen: 271-285.


— 2002: « Qu’est-ce qu’une ˝herméneutique critique˝ ? » , Methodos, N° 2, 289-308.


— 2012: Herméneutique critique: Bollack, Szondi, Celan, Presses universitaires du Septentrion.

G. Vattimo, 1968: Schleiermacher filosofo dell’ interpretazione, Milan: Mursia

ليست هناك تعليقات: