الجمعة، 5 يوليو 2019

من تصدير يمنى الخولي لكتاب كارل بوبر "أسطورة الإطار"



من تصدير يمنى الخولي لكتاب كارل بوبر "أسطورة الإطار"



كان بوبر نقطةَ تحوّلٍ في مسار فلسفة العلم، أجل، ولكن المسارات تنامت وتطوّرت في اتجاهاتٍ شتى، ومنها تيراتٌ التحمت بما يُعرَف بقيم ما بعد الحداثة. وهذا ما استوقف بوبر ليتصدى لمثل ه1ه التيارات دفاعاً عن العلم وعن العقلانية.
حرّر بوبر فلسفة العلم من هيلمان الوضعية بنظرتها التجريبية المتطرفة الصلدة الضيّقة النابذة للميتافيزيقا، وعلمنا أن ننظر إلى العلم كفاعلية إنسانية حميمة ذات طبيعة تقدمية مطردة، يتبلور فيها المعنى الأمثل للثورة، بمعنى بدء دورةٍ جديدة أكثر تقدماً. وفتح الباب للنظر إلى ظاهرة العلم في ضوء تطورها عبر التاريخ. فجاءت أبرز تطورات فلسفة العلم التالية مع توماس كون (1922ـ 1996) الذي التقط جمانة الثورة من كارل بوبر، وأقام تفسيره لتاريخ العلم على أساس من مفهوم الثورة التي هي انتقال من "براديم" أو نموذج قياسي إرشادي إلى آخر. فتح توماس كون بدوره الباب على مصراعيه لمبحث علم اجتماع المعرفة وسوسيولوجيا العلم، كرافد أساسي من روافد فلسفة العلوم. مما يوطد النظرة إلى العلم في ضوء ظروفٍ اجتماعية نسبية.
ثم يأتي بول فييرابند (1924ـ 1994) ليتكرس لتأكيد النسباوية والتعددية المنهجية، واللامقايسة بمعنى عدم قابلية النظريات العلمية المتتالية للمقارنة والخضوع للمعايير نفسها والحكم عليها بالمقاييس نفسها، كل نظريةٍ لها دورُها ومكانها في تاريخ العلم، والحكم عليها يكون بالنسبة لظروفها وتحدياتها.
هكذا دخلت مقولات من قبيل "البراديم" وسوسيولوجيا العلم والنسباوية واللامقايسة. نعم أثبتت ذاتها في فلسفة العلوم الآن وباتت لها مردودات وحصائلُ إيجابية وفتحت آفاقاً مستجدة. لكنها من ناحية أخرى وطدت من دعائم توجهات ما بعد الحداثة ومدت لها جسوراً إلى فلسفة العلم وهو تاج العقلانية ونجيب العقل الأثير. (11)
إن توجهات ما بعد الحداثة، على تعددها واتساع مداها واتسامها بشيءٍ من الهلامية، لا تتفق فيما بينها على قيمةٍ إيجابية واحدة، بل تتفق فقط على قيم السلب ورفض فروض ومنجزات الحداثة، فتسحب الثقة من قيم الموضوعية والعقلانية والواقعية ومفهوم الصدق.. إلخ، وتشكك في منجزات الحداثة حتى درتها الأثيرة وهي العلم الحديث، فتسرف في لوم سطوة التكنولوجيا وتهاجم المجتمع الصناعي وترفض المجتمع الليبرالي وتزعزع مفاهيم التقدم.
وبوبر من جانبه يظل دائماً حاملاً لرسالة التنوير وقيمِ التنوير وروحِ التنوير وتفاؤليتِه، ويؤكد أنه آخر التنويريين العظام المؤمنين بالعلم والعقلانية وما يكفلانه من طريق للتقدم ممتد أمامهما، بل وأيضاً أنه أسعد التنويريين والفلاسفة جميعاً، لأنه عاش الحضارة التي حققت أعلى قدرٍ شهده الإنسان من التقدم، من قهر الجوع والفقر والمرض والجهل والقمع، وتبدو دائماً واعدةً بالمزيد.
هكذا يناهض بوبر اتجاهات ما بعد الحداثة، ويرفض أن تلقي بأي ظلال لها على فلسفة العلوم، يرفض بحسم وقطع النسباوية واللامقايسة وسوسيولوجيا العلم. ويبيّن أن معالجة الإبستمولوجيا العلمية، أي نظرية المعرفة العلمية، لا تتأتى إلا في إطار الموضوعية والعقلانية النقدية، لا بد أن تنطلق جميعُها من معاقل العقلانية. يهاجم بوبر أيضاً معاداة المجتمع الصناعي ورفض المحتمع الغربي والزعم بأفوله وانهياره، ويرفض بشدةٍ التشكيك في مقولة التقدم وأي تخوّف من تطورات التقانة (التكنولوجيا) وبالتالي من تقدم العلم.
من هنا أخرج هذا الكتاب دفاعاً عن العلم والعقلانية. (12)
إن بوبر بوصفه آخر التنويريين العظام لا يبرأ ـ للأسف الشديد ـ من وصمة الفكر الاستعماري، ويناقش أحياناً حق الدول المتقدمة بل واجبَها، في فرض وصايتها على الدول المتخلّفة، ولتفكرَ ملياًك هل تعطيها الحريّة أم ليس بعد!!
في المقابل نجد ما بعد الحداثة قد حملت أيضاً ما بعد الفكر الاستعماري والتعددية الثقافية وقبول الآخر والاعتراف به، وهي قيمٌ إيجابيةٌ ومنشودة. بل وبصفةٍ أكثر خصوصيةً وتعييناً، يمكن الرد على بوبر بأن سوسيولوجيا العلم بالذات مبحث تطور كثيراً، ويكشف عن زوايا مهمّةٍ لظاهرة العلم، وليس مجدياً أن تصرف فلسفة العلم بالاً عنه كما ينصحنا بوبر تخوّفاً من شبهة النسباوية، بل إن مفاهيم النسباوية واللامقايسة أحياناً تفيد فلسفة العلم في التنظيرات التاريخية واسعة النطاق. (13)
.. ولكن هل هي مفارقة؟ إن بوبر فيلسوف النقد ثم النقد ثم النقد. ويأتي العنوان الفرعي لرسالته الأخيرة "دفاعاً عن العلم والعقلانية" ضد تيارات ما بعد الحداثة، وهي تيارات نقدية للحضارة الغربية ولواقع المجتمع الليبرالي والرأسمالي وسطوة التكنولوجيا وهيمنة الدولة ووسائل الإعلام.. وجميعها بالضرورة جديرة حقاً بالنقد. بل إن بعضاً من عناصرها حقيق بالتعرية والفضح والرفض. ودع عنك الموقف النقدي الواجب على أبناء الحضارات والثقافات الأخرى التي تعاني هذه السلبيات، من دون أن تغنم كثيراً من إيجابياتها. وبوبر بدوره لا يريد منهم تسليماً أعمى، بل يحذرهم من هذا كما سبق. إنه يدعو دائماً إلى النقد، ثم يصبّ جام غضبه على تياراتِ ما بعد الحداثة، وهي تيارات نقدية متّقدة. فهل هذه مفارقة؟!
لا مفارقة. ولعل بوبر يعيش القول المأثور: أن توقد شمعةً خيرٌ من أن تلعن الظلام. والمطلوب هو النقد العقلاني الذي يعين مواطن الخطأ ويفتح الطريق لتصويبها. وليس الرفض السلبي، ناهيك عن العويل الرومانتيكي والتشاؤم العبثي غير المسؤول على نهج الفلسفة الوجودية، أشهر فلسفات الحرية، والتي يسرف بوبر ـ وهو فيلسوف اللاحتمية والحرية ـ في صبّ جام غضبه عليها. وأيضاً لا مفارقة، فاللاحتمية علمية والحرية عقلانية موضوعية تنويرية، ولا حاجة لنا إلى حرية اللامعقول والعبث والخلف المحال والتناهي والاغتراب والإثم والعدم والتشاؤم والهم والغم الوجودي.
هكذا نتفهّم مثلاً فصلاً قصيراً ولافتاً في هذا الكتاب بعنوان "العقل أم الثورة؟". ومرةً أخرى لا مفارقة في هذا الطرح الانفصالي بين العقل والثورة، في حين أن بوبر هو العقلاني الذي جعل الثورة من الفاهيم الأساسية لفلسفة العلم. هذا الفصل مكرّس للرد العاصف على مدرسة فرانكفورت صاحبة واحدة من أشهر النظريات النقدية.
نشأت هذه المدرسة العام 1923 عن معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي، على يد حفنةٍ من علماء الاجتماع والاقتصاد والفلاسفة الماركسيين ليعملوا المنهاج الماركسي في نقد المجتمع الرأسمالي وإبراز عيوبه. تجسّد هذه المدرسة قيَم ما بعد الحداثة، تجسد فقدان الثقة بقيم الحداثة، بالتنوير والعقلانية والحرية وبفعاليات المنهج العلمي، وتسرف في نقد عيوب المجتمع الحديث، وتراه مجتمع القمع والتسلط وقهر فردانية الإنسان باسم العلم وباسم الدولة وبأسماءٍ أخرى، وتساهم في رفع لواء العبثية والتشاؤم والشكّية والنسباوية. لم تسفر المدرسة عن إيجابيات ملموسة في علم الاجتماع ذاته، لكن كان لها دورُها في كشف مساوئ المجتمع الصناعي، وتقدمت بمنهاج نقدي أفاد عدة مجالات. منها مثلاً علم الجمال (فلسفة الفن)، وأيضاً علوم الاتصال والإعلام، خصوصاً عن طريق يورجين هابرماس في المجال العام. على أيّ حال، يرى بوبر من جانبه أنها قد تلخصت في استعراض قبح العالم وصبّ اللعنات على قوى القمع والقهر فيه، خصوصاً البروجوازية، ولا شيء لديهم إيجابي يستحق المتابعة البتّة. هذا رأيه المتسق مع فلسفته.
وهاهنا يمكن أن نتوقف بإزاء شدّ ما يعنينا ويقض مضاجعنا ويؤرّقنا نحن العرب، بإزاء أخطر الدلالات لكن الكامنة بين السطور، سطور هذا الكتاب وسطور بوبر جميعِها.
الرجال الذين تشكلت منهم مدرسة فرانكفورت ـ خصوصاً في مراحلها الأولى ـ جميعهم يهود، يبزّهم تيودور أدورنو (1903ـ 1969) الذي أسفر بوضوح عن وجهه القبيح كصهيوني متعصّب، يسرف في التلاعب بمسألة الهولوكوست ومحارق اليهود المزعومة في معسكرات أوشفيتز، حتى ينتهي إلى أها جوهر العصر الذي قمع الإنسان بآليات العلم الوضعي التجريبي الرياضي. هكذا؟!
سوف نرى كيف يهاجم بوبر مدرسة فرانكفورت بضراوةٍ عاتية، ويخص بالهجوم أدورنو بالذات، وإلى درجة قد تثير الدهشة. ولا شك عندي في أن صهيونية أدورنو ساهمت في حدّة رفض بوبر له. (15)
إن المتابع لكتابات بوبر القرئ إياها بعمقٍ وتروٍّ يجد الرفض الجذري العميق للصهيونية كامناً بعمق ورسوخ في الزوايا كافةٍ من فلسفة بوبر الذي وُلِد في فيينا في الثامن والعشرين من يوليو العام 1902 لأبوين يهوديين اعتنقا البروتستانتية فور زواجهما، فقط ليخرجا من وضع الأقليّة ويندمجا في المجتمع النمساوي.
ودائماً نجد أروع ما في فلسفة بوبر هو قدرتها على تعيين وتنضيد إيجابيات المنهج العلمي وإمكاناته التقدمية وطرحها كفعالية مفطورة في صلب الحضارة الإنسانية، بل وفي صلب الحياة على سطح الأرض، وعلينا الآن أن نلاحظ كيف تأتي هذه الفعاليات عاصفةً بأصول الصهيونية.
إن إيجابيات المنهج العلمي، منهج المحاولة والخطأ، منهج طرح الفروض الجريئة وتعريضها لأعنف نقد ممكن، قد ارتدَت مع بوبر في صورة المجتمع المفتوح للرأي والرأي الآخر، للانتقال من المشكلات إلى محاولات حلولها ليفوز الحل الأقدر والرأي الأرجح، في إطارٍ ديموقراطي. لا أحد معصومٌ من الخطأ مما يعني أن أحداً لا يمكنه الزعم بامتلاك الحقيقة، ليصبَّ المجتمعَ داخل إطارها ويقود الآخرين كالقطيع. لا بدّ من الإفساح في كل مجال للرأي والرأي الآخر، ليتغلّب الرأي الأقدر على حلّ المشكلة. وهذا يستلزم الديموقراطية والتعدّدية والإصلاح عن طريق الهندسة الجزئية والمناقشات النقدية والعقلانية والتسامح. باختصار المجتمع المفتوح. وهكذا يكون التمثيل العيني لتطبيق منهج العلم العقلاني النقدي على مشكلات السياسة والاجتماع.. حيث ممارسة العقلانية النقدية في الفلسفة السياسية كي تكفل للمجتمع طريقاً للتقدم مثلما تكفل للعلم تقدماً مطرداً. أليس الدفاع دائماً هو عن العلم والعقلانية؟! (15)
ولم يُعنَ بوبر بالدفاع عن أسانيد المجتمع المفتوح قدر عنايته بتقويض حجج خصومه أو أعدائه دعاة المجتمع المغلق، دعاة صب المجتع داخل الإطار الشمولي والنسق الموحّد الذي يؤدي إلى الدكتاتورية والانفراد بالرأي والتعصب والتطرف، سواءٌ أكان هذا النسق الشمولي الموحد هو الماركسية أو سواها.
والآن إذا كانت أصول المجتمع المفتوح ديموقراطية، فإن أصول المجتمع المغلق صهيونية.
بتفصيلاتٍ مسهبة أوضح بوبر أن دعاة المجتمع المغلق، عبر مسار الحضارة الطويل وصولاً إلى المراحل المعاصرة، يرتكزون على النزعة التاريخانية أي الزعم بإيقاعات أو أنماطٍ أو مراحلَ لا بدّ حتما أن تحدث. الزعم بمسارٍ محتوم للتاريخ يمكن التنبؤ به، وبالتالي قولبة المجتمع والدولة والسياسة في إطاره، فيكون المجتمع المغلق.
شنّ بوبر حربَه الضروس الشهيرة ضد النزعة التاريخانية، مفنّداً كل حججها سواءٌ متشحةً بسمةٍ علميةٍ أو لاعلمية، وضد أمضى صورها مع هيغل والماركسية.. ضد أصول المجتمع المغلق، التاريخانية، منذ ما قبل ماركس وأستاذه هيغل، بل وما قبل أرسطو وأفلاطون، حيث يجاهر بوبر بأن أولى صور التاريخانية هي الزعم بحتمية إياب اليهود إلى أرض الميعاد، هي أصول الصهيونية.
هكذا يحمّل بوبر الصهيونية بجدارة مغبّة إلقاء الأسس الغائرة للتاريخانية، وتغدو بدورها إطاراً لمجتمع مغلق. وفلسفة بوبر ضد أسطورة الإطار في كل صورها. وطبيعي أن يحمل آخر كتابٍ أصدره عنوان "أسطورة الإطار" حيث يحذّرنا من مغبّة الأطر المغلقة في كل صورها، حتى باراديم توماس كون اعتبره إطاراً وهاجمه. وبديهي أن النزعات العنصرية أشر الأطر المغلقة ما دامت من أقصر الطرق لمجتمع مغلقٍ رافضٍ للآخر، فضلاً عن الرأي الآخر.
لا غروَ إذاً أن يقول بوبر قولته الصريحة البليغة الرائعة: "كل الدعاوى العرقية والعنصرية شرٌ مستطير، والصهيونية لا تُستَثنى من هذا"، شاهداً ومصدقاً على أن الصهيونية ليست إلا دعوى عنصرية وإن أنكرت الأمم المتحدة ذاتها هذا، خضوعاً لضغط القوى الإمبريالية المعروفة. (16)
الخلاصة أن بوبر فيلسوف المجتع المفتوح المناهض للتاريخانية، والصهيونية مجتمع مغلق ألقى أصول التاريخانية.
وليس بوبر فريداً في هذا. إنه عضوٌ في كوكبة من النبلاء الذين أوتوا ذكاء العقل وذكاء القلب فكانوا صادقين مع النفس ومع الضمير ومع أبسط قيم التفلسف، إنهم فلاسفة القرن العشرين من اليهود الرافضين للصهيونية.
ونحن نجأر ليلاً ونهاراً من سيطرة الصهيونية على الإعلام العالمي ...
وبدلاً من أن نكتفي بالشكوى من سيطرة الإعلام الصهيوني، لا بدّ أن تُستثار الهمم ونُعنى العناية اللائقة بعملة قابلة للتداول العالمي، شاهد من أهلهم، وهي رؤى فلاسفة ومفكري القرن العشرين من اليهود المناهضين للصهيونية، أمثال النجم الساطع الآن الذي لا يخشى في قول الحق لومةَ لائم، وهو نعوم تشومسكي عبقري النحو التوليدي. ومن قبله أرنست بلوخ في بحثه عن مبدأ الأمل، مؤكداً أن الصهيونية لن تحل مشكلة اليهود ولا أيَّ مشكلة، وكل ما ستفعله هو بلقنة الشرق الأوسط، أي تحويلَه إلى منطقة تطحنها وتفتتها النزاعات، وجورج لوكاتش وآرثر كوستلر، وآينشتين نفسه وموقفه في أيامه الأخيرة الرافض لرئاسة إسرائيل أو مجرد الانتقال إليها.. وآخرين.
ولا يتسع المجال الآن إلا لمقارنة سريعةٍ ذات دلالة بين بوبر ومواطنه ومعاصره آرثر كوستلر (1905ـ 1983). (17)
كلاهما نتاجُ ظروفٍ متشابهة. وكان كوستلر ـ كناقد محترف ـ متابعاً جيداً لأعمال بوبر، يعرف حق قدرِها. وكوستلر من أعلاهم صوتاً في مهاجمة الصهيونية ودولة إسرائيل ومبررات وجودها الآثم، بينما نجد بوبر بحكم منزعه العلمي التجريبي يكثر في كتاباته الاجتماعية والسياسية من الاستشهاد بالوقائع والأمثلة الحيّة والحالات الدالة، ولكن لا يتطرق إلى دولة إسرائيل بذاتها أبداً، لا سلباً ولا إيجاباً، مما دعا إلى طرح السؤال: لماذا تمثل إسرائيل المسكوتَ عنه في الخطاب البوبري؟ ولعل المقارنة بينه وبين المقابل الأعلى صوتاً تطرح إجابةً عن هذا السؤال.
ولِد بوبر في فيينا عاصمة النمسا، وولِد كوستلر في بودابست عاصمة المجر، وذلك في عصر الأمبراطورية النمساوية/ المجرية، وشهدا معاً أفولَها وتفككها وهما في شباب العمر (وسوف نلاحظ من مطلع الفصل الأخير كيف تركت هذه الخبرة مرارةً عميقة في نفس بوبر انعكست في فلسفته). كلاهما درس في جامعة فيينا، ولكن لم يواصل كوستلر دراستَه ليحصل على شهادةً تخصصية، بينما واصل بوبر دراساتِه حتى حصل على درجة الدكتوراه من جامعة فيينا في الفلسفة العام 1928 برسالةٍ حول المنهج. كلاهما آمن بالشيوعية لفترةٍ من الزمن ثم انقلب عليها، اعتنقها بوبر في مراهقته لمدة ثلاثة أشهر، واعتنقها كوستلر في صدر رجولته لبضعة أعوام. كلاهما هاجر في أواسط العمر بسبب الغزو النازي والخوف من بطش النازية بذوي الأصول اليهودية، وكلاهما استقر في إنجلترا حتى وافته المنيّة.
على أن كوستلر، بعكس بوبر، استهوته الصهيونية وهو في أوج صباه. كان لا يزال في التاسعة عشرة من عمره حين عمل سكرتيراً لإمام الصهيونية المتطرّف جابوتنسكي أستاذ مناحم بيجن الذي علّمه أصول الإرهاب. ومن فرط إيمان كوستلر بالصهيونية سافر إلى فلسطين العام 1926 ليشهد ويشارك عن  كثب في تأسيس المشروع الصهيوني الأثيم. أقام كوستلر في مستوطنةٍ يهودية بوادي الأردن. وشهد ما شهده عن كثبٍ لمدة عامٍ واحد؛ كان كافياً ليكفر بالصهيونية كفراً بائناً. وفرّ منها قافلاً إلى أوروبا. الخبرة التي مرّ بها في فلسطين انعكست في روايته "لصوص الليل" التي أثارت حنق اليهود لصراحتها وفجاجة القسوة التي تعرِضُها.
انقلب كوستلر بحماسٍ إلى الشيوعية التي بدت له طريق اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) الموعودة. وف العام 1936 انخرط عضواً نشطاً في الحزب الشيوعي، ومرةً أخرى كفر بالشيوعية كفراً بائناً في العام 1938، بعد أن زار الاتحاد السوفييتي ولمس قهر الفردية وصخب الدعاية الجوفاء. وشارك زملاءه الآبقين من الشيوعية الماركسية في تأليف كتاب "المعبود الذي هوى". وأيضاً انعكست خبرة كوستلر بزيف الشيوعية في رواياته "المصارعون" و"ظلام في الظهيرة" و"وصول ورحيل".
على أن أهمّ ما ينبغي أن يستوقفَنا حقاً هو الكتاب الذي أخرجه كوستلر العام 1976 بعنوان "القبيلة الثالثة عشرة" حيث يثبت أن يهود شرق أوروبا لا يتحدرون عن أصولٍ سامية، بل هم نسل جماعاتٍ تركية كانت تعيش في غرب آسيا ثم اعتنقت اليهودية فقط إبان العصور الوسطى. وبالطبع ثارت ثائرة اليهود عليه، فهل لهذا مات منتحراً هو وزوجتُه (الثالثة) في مارس العام 1983؟! (أحب بوبر زميلته في الجامعة زوجته الوحيدة، تزوجا العام 1930 حتى توفيت العام 1985 وظل دائماً ينوّه بفضلها وبفضل حبهما العظيم).
بوبر بلا شكٍ رافضٌ للصهيونية، بيد أنه لم يهاجمْها هجوماً موجّهاً وتفصيلياً وجهاراً نهاراً على هذا النحو الذي يكاد يداني عطاء الشيخ المناضل غارودي. وهذا لأن بوبر لم يؤمن بها لحظةً واحدة ولا تفوّه بكلمةٍ واحدةٍ دفاعاً عنها أو حتى في صالحها. لم يبدر عنه شيءٌ كي يندفع فيما بعد لينقضه بحماس كما فعل كوستلر بشخصيته المندفعة المتقلبة تكفيراً عن خطيئة الصهيونية في زمان الصبا.
أما بوبر بشخصيته العقلانية التنويرية ذات التوجهات التي لا تتغير ابداً، فكفاه الرفض الهدئ العميق الراسخ للصهيونية يشع ن جنبات فلسفته العقلانية بالثقة المعهودة منه في توجهاته الفكرية. فيلسوف المجتمع المفتوح يثبت لنا أن الصهيونية أصلُ التاريخانية وإطارٌ مغلق وعنصرية وعلى الإجمال شر مستطير، فماذا ننتظر منه سوى السكوت على ما هو أوضح من أن يقال أو يناقَش، تماماً كما سكت عن النازية وهتلر في كتابه "المجتمع المفتوح وخصومه" لأن الكتاب يحارب النازية بما هو أوضح وأعمق من أن يقال.
ماذا يمكن أن يقال بعد أن أكد في سيرته الذاتية على أنه باستثناء الحقبة النازية، كان اليهود في أوروبا لهم الوضع العادي للأقليات، ولا مشكلة حقيقية، بل حتى لا هويّة. ينظر بوبر إلى العبرانية بأسرها على أنها مجرد مرحلة تاريخية سحيقة ومنقضية من الثقافة الغربية وليس لها وجود معاصر، ولم تكن إيجابية تماماً.


ليست هناك تعليقات: