الأربعاء، 26 يونيو 2019

ذات صيف فوق جبل الريحان؛ حسن بزيع.



حدث في مثل هذا اليوم ... وفي مثل هذه الساعات ... ذات صيف
فوق جبل الريحان 
(حسن بزيع)
.......

توارت شمس ذلك النهار خلف التلال ولم يبقَ الا لمعانُ النحاس على منحدرات "نيحا" النازلة صوب جزين ...
غبشُ الغروب يزحف نحو الوادي المعلّق على خاصرة الريحان ...
بئرُ ماءٍ واجرانٌ حجرية و ثغاءات 
وشجرة خروب عالية يستريح في ظلالها الرعيان ...
رأيتهم في طريق الذهاب ...
ولم المح في طريق العودة سوى رنين أجراسهم تبتعد عند آحر الدرب
سحرني المكان ... فاستسلمتُ لسأسأةِ الندى على شغاف الروح
فجأة انهمر الرصاص ... فملت بجسدي ناحية التراب ... ورحت أزحف مقوّسَ الظهر على غير دراية بعلم الحروب ...
دمٌ طازجٌ ... وحارٌ ... يتدفقُ من سلسلة الظهر
كأنه دمي ....!!!!!!!!!
وهذا أنا
يا الهي ....!! !!!
إنه ليس خبراً اقرأه في "فلسطين الثورة" ... أو بلاغا من بلاغات "العاصفة "
................
في دارة على طريق الغيم بين "جباع" و"حيطورة" خلَتْ او أُخلِيت من سكانها ... أسكنونا
انا ...ومنير.... وصبايا من عرب الهيْب ذوات الوجوه المسروقة من عتم الليل والقسمات الموشومة بوجع مخيمات البؤس والغربة
منير ... المقاتل الفلسطيني الأسمر ... الفولاذيّ الملامح ... المسؤول العسكري للناحية
وأنا ... العاشق لفلسطين من بوابة أغاني فيروز ... وشعراء الارض المحتلة ..... وأغاني العاصفة 
الحالم بتغيير العالم ... محمولا على توليفة من اللينينة والجيفارية والتروتسكية والماوية التي مهدت الدرب لإسلامٍ يساريٍّ على نكهة "ابي ذر"
كلما غادر "منير" في مهمةٍ قال لي ... خوّي "لؤي" خوذ بالك من الأٌختات ...
هذا الصباح ... على غير عادته قال "منير" ... ان الحاج أشرف يريدني في مهمة استطلاع على مشارف جزين ...
جزين التي كانت تلوح لي من بعيد كلما طفتُ على قمم الريحان تزهو بخضرتها وشلالها وقرميد بيوتها الأحمر
...................
من أين يأتي الرصاص ليمزق هذا السكون الاثيري
أَوَيكون قد أشكل الأمر على رفيقيّ من القوات المشتركة الذين أمّنت طريق عودتهم وصارا خيالا بعيداً على رأس الجبل
ناديت "بكلتا اذناي" ...لا تطلقوا النار
قذفت بما أوتيت من عزم بالفيلد العسكري الذي أهداني اياه ضابط في جيش لبنان العربي على حاجز "بئر السلاسل" ... إلى الأعلى .... لعلهم يعرفونني
استمر الرصاص ..تتبعه قذائف مدفعية ... وصوت ارتطام الشظايا على الصخور مثل زخّ المطر
عندها ايقنت بأنه رصاص "عدو" ....!!!!؟؟؟؟
دمي ينزف ... وأصواتهم تقترب ...وصرت على قاب قوسين أو أدنى من الأسر أو الموت
وحدَها اصوات القذائف تنسيني الوجع الذي صار يتعاظم مع مرور الوقت 
أغيب عن الوعي تارة ثم أستعيدُه على وقع قذيفةٍ أو شظية متطايرة ...
خربشت حفرة في التراب ودفنت رأسي
......................
-
يا حادي العيس سلملي على أمي
واحكيلها ما جرى واشكيلها همي
بين الغيبوبة والصحو .... تتداخل الرؤى والتذكار
-
صوري على الجدران
-
حشود المشيعين تتماوج على إيقاع قصيدة "شوقي" التي ترتج لقوافيه حسينيات الجنوب
-
صوت ابي سهيل وهو يصعد من أودية العزيّة
"
غيرك مين للثورة يا ياسر 
يا معلم درس للأمة يا ياسر
لحد الشمس وصلنا يا ياسر
لنكتب عالسما فتح العرب"
-
رفاقي في التنظيم الشعبي اللبناني لحركة فتح ونحن نتحزّر ... من سيكون شهيدَنا الأول الذي سنسمي الفصيل باسمه...؟
-
وجهها القمري وبريق عيونها الخضراء وشعرها المتماوج في فضاء الروح مثل "شباشيل الذرة"
لماذا وقع عليّ الاختيار لأكون الموجّه السياسي لفصيل الطوارىء ...
والفصيل نخبة من خيرة شباب وزهرات الجنوب ... ورياحين جنته ..
سنتان ونحن نهدر مثل موج البحر على طرقات الجنوب و في ساحات القرى ...
نحمل الطحين والغاز ونضعه قبيل الفجر على أبواب البيوت التي ضاق عليها الحصار ...
تستفيق قرى القطاع الاوسط على رندحة مواويلنا في الصباح ... وتغفو على نشيج حداءاتنا في الليل
..............
تناهت إليّ أصواتُ الرفاق تنده لي من خلف الصخور ... استطاعوا الوصول رغم انكشاف الطريق وصعوبة تحديد المكان الذي أنا فيه ...
بعد ست ساعات انتشلني الرفاق من فم الذئب وحملوني "بطلوع الروح" إلى أعلى الجبل .. كان ذلك حوالي منتصف الليل ... هنالك كان بلال قائد الأوسط ... ونعيم أسطورة العرقوب الذي كنت أتشوّق للقائه والتعرف إليه 
....
في مستشفى النبطية وأنا ممدّد على سرير العمليات .. قال الطبيب بأن ما حصل يشبه المعجزة ... شعرة واحدة تفصل بين الرصاصة والعمود الفقري
وبصوت متقطع رحت أهذي بما أحفظه من الشعر
"
تطلعت الى المطلق في ثقة ... كان أبو ذر خلف زجاج الشباك المقفل يزرع فيَّ شجاعته فرفضتُ ....
وكانت أمي واقفةً قدام الشعب بصمت صابرة فرفضتُ رفضتُ"
يهمس الطبيب لبلال ونعيم ...ويتضاحكون ...
........
بعد أيامٍ قصفت قوات الأسد الأب "دارتنا على طريق الغيم" ...فجعلَتْها أثراً بعد عين ... واستشهد منير.
دارت الحرب دورتها ...اشتد الحصار والكثير من الرفاق مضَوْا في ذلك الصيف
نعيم ابتلعه البحر اثناء توجهه لفك الحصار عن طرابلس
محمود قواس، عادل وطفا ونزيه دياب "وكان يجب أن أكون رابعَهم" .... مضَوْا على بوابات عين إبل ...
وانا ما زلت هنا ... لان احدا في ذلك الصيف لم يحسن التصويب...
ولأن ... إخوتي ... استبسلوا رغم استحالة الظروف كي لا يعودوا بقميصي إلى أبي ويقولون أكله الذئب..
تحية لغصوب بزيع العميد المتقاعد في الجيش اللبناني ...
موسى حمود الذي لم أره منذ ذلك الحين
حسن شمس الدين وكل الأسماء الحسنى ... الذين أدين لهم بكل هذه السنوات الفائضة

ليست هناك تعليقات: