الأحد، 23 يونيو 2019

عن المقالع والكسّارات؛ الدكتور أنطوان الديري.




المقالع والكسارات

تهميش الكفاءات وأصحاب الفكر.
مقالة نشرها الدكتور أنطوان الديري على صفحته على الفيسبوك. وأنشرها لأنها تشكل نموذجاً لطريقة تعامل السلطة السياسية مع المبدعين أصحاب الأفكار والابتكارات الجدّيين.

يقول الدكتور أنطوان:
أنا أكره الكلام عن الفساد لأن الفساد كائنٌ غيرُ ملموس، لكني أحب لو نتحاور حول الفاسدين بعينهم فهؤلاء كائنات ملموسة ويمكن زجهم في السجن إذا كنتم صادقين .
سوف نجد تطابقاً بين الفاسدين وبين الفاشلين ونبني إسقاطا رياضياً من الفئة الأولى على الثانية وبالعكس. إن الفاسدين في سلطاتنا هم دائماً فاشلون في إداراتنا. منحوا تراخيصَ لمقالعَ وكساراتٍ غيرِ مكتفيةِ الشروط، ولم يستتبعوها بالمراقبة على القليل من الشروط التي فرضوها ورخصوا لبعضِها، وبعضُها مخالفٌ تماماً، ودفعوا تعويضاتٍ لبعض النافذين أذهلت المراقبين، كما باعوا الشواطئ البحرية بغير حقّ، وغضوا النظر عن المرافئ وعن المطار وعن الجمارك وعن الدوائر العقارية والمالية والضريبية وعن الكازينو، وفشلوا في كل مكان إلى أن طمرونا بزبالتهم، وغضّوا الطرف عن التشبيح وكأن هذه الأموال لا تخص العامة بل هي حق موروث لهم فأوصلوا البلد إلى الإفلاس. هذا المصير الذي صرنا إليه نتج عن سببيةٍ هم في أساسها فأثرَوْا، ثم نسمعهم اليوم يطالبون الشعب بتسديد ما أفسدت أياديهم "الماهرة". 

في العام 1996 ، ربما، علت ضجتان في الاعلام تناولت موضوعين :
الموضوع الأول تناوَلَ مقالع الكسارات المرخَّصة عشوائياً، لأن التشوه الذي أحدثته هذه المقالع في تضاريس القشرة الخضراء كان كارثياً فنشأ الدافع إلى تلك الضجة. لم يكن يومها الخطرُ الصحيُّ على حياة الإنسان الحيوان والنبات خصوصاً ظاهراً ومعروفاً محدداً كما هو الآن.
والموضوع الثاني كان القرار بإنشاء كلية للفنون تخرج راقصين ومسرحيين ... إلخ بينما كان يقول المعترضون بأن الجامعة اللبنانية تواجه مشاكلَ أكثرَ إلحاحاً ما يستدعي أوليةً في معالجتها قبل إنشاء كلية للفنون .
كنت يومها مقتنعاً ولا أزال بضرورة إنماء الصناعة وتيسير عجلة الاقتصاد، ولكن مع حرصي الشديد على ألا ندمر الحياة .
كتبت مسودة مشروع يتعلق بإنشاء مدرسة مقالع نلحقها بكلية الهندسة في الجامعة اللبنانية ينتسب إليها الخريجون في برنامج استكمالي لمدة سنتين إضافيتين نغني فيها المتخصصين بالجيولوجيا المتقدمة وبميكانيك الأرض وبالتعمق في دراسات الأساس والجسور على غرار ((école des mines في فرنسا مهمتها إعداد مهندسين محترفين يديرون مقالع جوفية تحافظ على القشرة الخضراء من تضاريسِ أرضِنا وما عليها من حياة، وتمنع أو تقلل من التلوث الغباري والغازي الذي تنشره المقالعُ المكشوفة في الهواء، وتسعى للكشف عن الكنوز المختزنة في جوف الأرض وخصوصاً المياه الجوفية التي تذهب هدراً وتمكن المستثمر من استثمار مكوّنات الصخور على أن تسلم هذه الأنفاق للدولة فيما بعد تستعملها مكبات للنفايات أو لمعالجتها أو لأي استثمار آخر.
ففي شمالي لبنان وفي منطقة رأس مسقا وفي الأرض التي تقع خلف الأبنية الجامعية الجديدة مباشرة توجَد مقالع "الجارور" الجوفية التي يزيد عمرُها عن ثلاث مائة سنة، كانت تدخل إليها قافلة من الجمال لتحمّل الحجر الرملي الممتاز الذي استُخدِم في بناء مدينة طرابلس والميناء في ذلك الزمان، ولا تزال موجودةً حتى الآن، فهي الآن سلاسل من المغاور الهائلة ولو أن أكثرها أصبح متهدماً نتيجةً لقلة سماكة القشرة التي بقيت فوقها.
كان قاطعو الصخور الأشداء من مناطقنا يعملون في الداخل في عز الظهر على ضوء سراج الزيت .

زار على إثر تلك الضجة وزيرُ الثقافة فوزي حبيش ، يومها ، يرافقه رئيس الجامعة اللبنانية المرحوم أسعد دياب، وكانت الزيارةُ مناسبةً لشرح الأسباب الموجبة لإنشاء كلية الفنون الشعبية فدعوا إلى لقاء مع أساتذة الفروع وطلابهم في كلية الآداب. في هذا اللقاء ألقى معالي الوزير خطاباً قال قيه :(هو اقترح وأنا وافقت.... ثم أكمل: مش هيك يا أسعد ؟). وصفق له الحاضرون .
أما أنا الذي كنت متحمساً لمسودة مشروعي في ذلك الزمن فقد تجرأت في نهاية هذا اللقاء وقدمت الملف الذي أحمله للوزير فتطلع إليّ بطرف من عينه وأتبعها بحركة من يده فهمت منها أني تطاولت على معاليه وتجاوزت المراتب.
فما كان من المرحوم أسعد دياب الذي كانت تجمعني به محبة وا حترام ( فأنا كنت مديرا لكلية العلوم -3 ) أن ابتسم وأخذ مني الملف ولم أسأله عنه فيما بعد .
مات الرئيس أسعد دياب رحمه الله فيما بعد ومات مشروعي معه ولكني ما زلت مقتنعاً بمنافعه فهو يعطي كلية الهندسة دفعاً ودافعاً لتكون بمستوى الكبار فأدعو إلى إعادة إحيائه من جديد.


(عن صفحة الدكتور أنطوان الديري)

ليست هناك تعليقات: