الجمعة، 31 مايو 2019

في أهمّية وسائل التواصل الاجتماعي. الشذرة الجادة. [عن الأستاذ الجامعي]. (الدكتور جمال نعيم)


في أهمِّيَّة وسائل التَّواصل الاجتماعيّ

-الشَّذرة الجادَّة- [عن الأستاذ الجامعي]
(الدكتور جمال نعيم)


أكثرُ ما يحزُّ في نفسي ويُحزنني، عندما أقرأ نصًّا لأستاذٍ جامعيٍّ، هو ركاكةُ هذا النّص، مبنًى ومعنًى، أسلوبًا ومضمونًا. ويزداد حزني وأسفي عندما أقرأ له نصًّا بالعامّيَّة من دون أيِّ احترامٍ لقواعد اللُّغة وبلاغتِها وجمالِها، نصًّا يخجلُ أن يكتُبَه تلميذٌ في الخامس-أساسي، أو عندما يملأ حسابَه بصورٍ وبوزاتٍ شخصيَّةٍ، وهو يحتلُّ منصبًا رفيعًا في الجامعة، أو عندما يدعو إلى مناسبةٍ فكريَّةٍ له من دون أن يكتبَ أيَّ شذرةٍ عن فكرتِها، لا قبل عقدها ولا بعد عقدِها، خوفًا من سرقة أفكاره العظيمة!!! التي يودُّ أن ينشرَها في كتابٍ مستقلٍّ له، كأنَّ النَّاس يقرأون الكتُبَ ويعزِفون عن قراءة الشَّذرات أو كأنَّه، في حال كونِه مشهورًا، يصبح مشهورًا أكثر ومقروءًا أكثر في حال بيع كتابُه!!! كم من كُتُبٍ تُبتَاعُ فقط للزِّينة والدِّيكور وليس للقراءة والمطالعة؟!
ولعلَّ ما سبق عائقٌ أساسيٌّ من عوائق التَّنوير، فإذا كان هذا هو حال المفكِّر والأستاذ الجامعيّ والأستاذ (البروفسّور) الذي يحتلُّ منصِبًا رفيعًا في الجامعة، فماذا عساه يكون حال غيرهم من عشَّاق الفكر والثَّقافة؟!!
لقد آن الأوان لنعترفَ بتقصيرنا جميعًا، ولنَكُفَّ عن رميِ مسؤوليَّة التَّخلُّف على السِّياسيّ وعلى الإنسان العاميّ. لسنَا، للأسف، مناراتٍ إشعاعيَّةٍ. ولا نقوم بدورنا مع أنَّنا نقبض معاشاتٍ جيِّدة. كم من كتابٍ يُؤلَّف، سنويًّا، في الجامعات اللبنانيَّة؟ كم من بحثٍ جادٍّ يصدر عن هذه الصُّروح الفكريّة العريقة؟ كم من روايةٍ متميِّزةٍ، أسلوبًا ومضمونًا، يُبدعها أساتذة الآداب في لبنان؟ وما أكثرهم؟
وما يحزُّ في النَّفس أكثر عندما نجد الأستاذ الجامعيَّ الأكاديميَّ يقف على باب السِّياسيِّ ليحصل على منصبٍ هنا أو منصبٍ هناك (مدير كلّيّة، عميد كلّيّة، رئيس الجامعة،... وحتى رئيس القِسم) من دون أن يكون له أيُّ رؤيةٍ ثقافيَّةٍ أو فنِّيَّةٍ أو فكريَّةٍ أو علميَّة، كأنَّ من خصائص الباحثَ الأكاديميَّ الجادَّ أن يتلهَّى بالمناصب الإداريَّة الرُّوتينيّة التي تُضيِّع وقتَه في العمل الإداريّ اليوميّ المتشابه والمتماثل على مدار السَّنة. إنَّهم يركضون ويلهثون وراء المناصب الأكاديميّة من أجل الوَجاهة والبرستيج وليس من أجل البحث العلميّ.
نُطالبُ باستقلال الجامعة اللبنانيّة، وهو مطلبٌ محقٌّ. لكنَّنا لا نعمل، على المستوى الفرديّ والجَمَاعيّ، من أجل استقلالها. ونلُوم الشَّعبَ الذي يُجدِّد ويعيدُ انتخاب الطَّبقة السِّياسيَّة ذاتَها، التي هي، في أدبيَّاتِنا، مسؤولةٌ عن كل هذا الفساد والخراب اللذين نعاني منهما، لكنَّنا، للأسف، نمارس الفعل ذاته.
لا استقلالَ ولا مكانةَ للجامعة اللبنانيّة إنْ لم يترفَّع الأستاذ الجامعيُّ نفسُه وإنْ لم يفكّ تبعيَّته للسِّياسيّ. دائمًا، نرى أنفسنا في منزلةٍ أدنى من منزلة السِّياسيّ وتستهوينا السُّلطة التي تُسيطر علينا وتتحكَّم بنا.
لقد آن الأوان لننْهمَّ بمستوانا الجامعيّ والثَّفافيّ والعلميّ الذي، وحده، يُعبِّد الطَّريق أمام استقلال الجامعة ورفع مكانتها. وشرط شروط هذا الاستقلال هو الانفكاك عن السِّياسيّ.
إنَّ الباحث الأكاديميَّ الجدِّيَّ لا يقبل أن يكون تابعًا للسِّياسيِّ، كما لا يسعى وراء المناصب الإداريَّة، لا بل يرفضها حتى لو فُرِضت عليه. وهو يُعرف بأبحاثه ومنجزاتِه العلميَّة لا بولائه السِّياسيّ أو منصبه الوظيفيّ.
وفي مسيرتي الجامعيَّة، تتَلمذْتُ على أيدي ثلاثة أساتذةٍ كبار: موسى وهبه وجورج زيناتي وعلي زيعور. لم يتولَّ أيُّ واحدٍ منهم أيَّ منصبٍ إداريٍّ، بل كانوا يتجنَّبون ذلك. ولم ينتمِ أيُّ واحدٍ منهم إلى أيِّ تيَّارٍ سياسيٍّ. كان انتماؤهم للفلسفة. ونشاطهم الفلسفيُّ والفكريُّ هو الذي رَفَعَهم إلى أعلى المستويات. وستبقى أسماؤهم مضيئةً في سماء العرب أكثر من أيِّ عميدٍ أو رئيسٍ للجامعة اللبنانيّة، وضَعَتْه السِّياسةُ في المكان غير المناسب له.
كان ماركس لاجئًا من بلدٍ إلى آخر. وكان مضطهَدًا من السُّلطات أينما حلَّ إلى أن استقبله صديقه ورفيق دربه إنجلز في بريطانيا، فشعر بنوعٍ من الحماية والسَّلام. ولم يُعرف عن نيتشه الذي أثَّر التَّأثير الأكبر في أجيالٍ من الفلاسفة وعلماء النّفس والكتَّاب أيُّ سعيٍ وراء أيِّ منصب. وأكبر حماقةٍ ارتكبها هيدغر في حياته هو قبوله بمنصب رئاسة الجامعة في العهد النَّازيّ. لقد ألحق العار به وبالفلسفة إلى الأبد. عن هذه الحادثة المشؤومة يقول دولوز: "لم يفعلْها فنَّانٌ كبيرٌ، لكنَّ فيلسوفًا كبيرًا فعلها!!!".
هذه نماذجُ ممّا يجب على المفكِّر أو العالِم أو الفنَّان أن يتطلَّعَ إليه أو يقتدي به. ما يحصل عندنا هو العكس في غالبيّة الأحيان. فبدلًا من أن تبدأ المسيرة العلميَّة بعد شهادة الدكتوراه، فإذا بها تكتمل وتنتهي مع هذه الشَّهادة، فلا نعود نرى أيَّ إنتاجٍ ذي قيمة. وهكذا نتوه في حمأةِ السِّياسة وندور في فلك السِّياسيّ. وبسبب ذلك، لن تقوم للجامعة قائمة.
في الفلسفة، لا ينفصل المعنى عن المبنى ولا المضمون عن الأسلوب. وكلُّ مضمونٍ يجب أن يتجسَّد في أسلوب. لذا، علينا أن نهتمَّ بالأسلوب. وإذا اتفقنا أنَّ الأسلوب المناسب، اليومَ، هو أسلوب الشَّذرات، فيكون علينا، إذًا، الاهتمام بالشَّذرة. والشَّذرة يجب أن تُنحتَ كما تُنحت المنحوتة الصَّخريّة. ويجب أن تُرسمَ كما تُرسم اللوحةُ الفنِّيَّة. لذا، تتطلَّب كثيرًا من العناية والاهتمام بالأسلوب الذي تُكتبُ به حيث يجب أن يكون بالفصحى وخاليًا من الأخطاء ومشكَّلًا ويحترم علامات الوقف، وبالمضمون الذي يجب أن يكون غنيًّا وعميقًا ومكثَّفًا ويُعبِّر عن فكرةٍ فلسفيّةٍ أو علميَّةٍ جديدةٍ أو يصوغ مشكلةً ويطرحها للمعالجة. لذا، فإنَّ الشَّذرةَ تتطلَّب كثيرًا من العناية ومهارةً عاليةً وتمرينًا طويلًا وشاقًّا حتى تأتيَ عميقةً وغنيَّةً ومكثَّفةً ومكتفيةً بذاتها ومعبِّرةً بكلماتٍ قليلةٍ عن فكر صاحبها وعن المشكلة التي يطرحها ويُعالجها.
من هنا، علينا أن نربِّي أجيالًا جديدةً من الكتَّاب على هذا الأسلوب من الكتابة، الذي نراه صالحًا ومناسبًا للعصر الافتراضيّ.


(31/5/2019) 

ليست هناك تعليقات: