الثلاثاء، 14 مايو 2019

انفعالات النفس، القسم الأول؛ رينيه ديكارت؛ ترجمة جورج زيناتي



رينيه ديكارت: انفعالات النفس
ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيناتي
دار المنتخب العربي. بيروت. 1993.
تقديم:
إن مكانة رينيه ديكارت العلمية والفلسفية داخل الحضارة الغربية لا تحتاج بعدُ إلى شرحٍ طويل، فهو أحد أهم علماء الغرب قاطبةً، استنبط الهندسة التحليلية، وكان من أوائل واضعي الفيزياء الرياضية، وهو رائد العقلانية الغربية الحديثة، ومكتشف الكوجيتو ويقين الذاتية على الصعيد الفلسفي، عاش في العصر الكلاسيكي بين سنة 1596م. وسنة 1650م. وطبع القرن السابع عشر بفكره، فعُدّ معظم كبار فلاسفة ذلك القرن مثل سبينوزا وليبنز من تلامذته. حاول أن يطبق الشك المنهجي على شتى ميادين المعرفة فاصطدم بكل الظلاميين الذين يخيفهم نور العقل الإنساني، وقوةُ المعرفة العلمية والتقدم التقني.
وجدَت فيه فرنسا فيلسوفَها الأول بمطالبته بالوضوح الفكري والتمييز الدقيق للأمور، وفصلها عن بعضها البعض لئلا يلج التشويش إلى الفكر. وفي هذا الصدد يذهب الفيلسوف الشاب أندريه جلوكسمان بعيداً جداً، حين يساوي بين ديكارت وفرنسا، في كتاب عنوانه مثير لم يعجب كل الناس. صدر الكتاب في باريس سنة 1987م يحمل عنوان "ديكارت هو فرنسا". وفرنسا التي يقصدها الباحث هنا ليست بالطبع بموقع جغرافي مميّز، ولا هي بروح شعبٍ وقد تجسّدت في فلسفة معيّنة كما ظن الكثيرون، وحاولوا أن يقيموا البراهين على صدق ما ذهبوا إليه. فرنسا هي في داخل أوروبا موقف معيّن متميّز، وهذا الموقف الفكري الروحي بالمعنى الأوسع والأشمل للكلمة هو الذي عبّر عنه ديكارت أفضل تعبير، فكان هناك تطابق بين الفيلسوف وبلده.
ديكارت هو الشك، النقد الممنهجي المستمر لا النقد الذي يحاول أن يصل إلى اليقين، كما حاول مفسروه أن يصوروه. الشك عند ديكارت ليس بتكتيك مؤقت للوصول إلى هدفٍ أبعد، الشك عنده هو استراتيجية دائمة تُلقى على كل المعتقدات والظواهر، على كل إيديولوجية وكل حقيقة. (ص 5)
ديكارت هو إذاً، في نظر جلوكسمان، النفي المطلق، السلبي المطلق، إنه المفكر الذي يلقي بنار الشك على كل مسلّمات محيطه فيزعزع القيم الثابتة واليقين. وفرنسا أيضاً تتلاقى هنا مع كبير فلاسفتها، فمن وراء كل تكتيك كانت تقوم به، كانت في الواقع تدافع عن استراتيجية فكريّةٍ داخل أوروبا (إنّ ما يقوله جلوكسمان حول فرنسا يذكّرنا ولو من بعيد، بما قاله الفيلسوف الألماني الشهير إدموند هوسرل في آخر كتبه حول أزمة العلوم، عن الصورة الروحية لأوروبا). فرنسا كانت دوماً تطبق الشك بأن تحوله إلى نقدٍ منهجي، وحين كانت تزرع الشك كانت في الوقت عينه تزعزع اليقين الإيديولوجي، ومثل هذه الجرعة من الموقف الشكاك كانت تكفي لتمنع الثورة من تكملة مسيرتها لتنتصر في الدكتاتورية والفاشية والتوتاليتارية. وفي عصر غربيٍّ حديث طغت عليه موجة انهيار يقين الإيديولوجيات والأحلام الكبرى والقيم يبقى الموقف الديكارتي الفرنسي المنطلِقَ من سلبية الشك والنقد هو السر المنيع في وجه الاستسلام للدكتاتورية، والضمان الوحيد لئلاّ تذهب الجمهورية إلى الفاشية.
لقد ثار ديكارت ضد عصره، وهاجم الفلسفة النظرية التأملية التي كانت تعلَّم في المدارس لعقمها وعدم نفعها في فهم أية ظاهرةٍ تعترضنا، ونادى باللجوء إلى فلسفة أخرى عملية أنفع للحياة تستمد مثلَها من الفيزياء الحديثة المرتبِطة بالرياضيات، كما يتجلى ذلك في القسم الأخير من كتابه "خطاب المنهج".
واليوم يبدو لي أننا نستطيع أن نقول بأن هناك فلسفةً ديارتية نظرية تنتمي إلى ما يسمى "الفلسفة الدائمة" تعلّم في الجامعات حول براهينه عن وجود الله، وخلود النفس، وعلاقة النفس بالجسد، واكتشاف الكوجيتو، ويقينية الذات، ونظرية المعرفة، أي إن الديكارتية أصبحت كالسكولائية في أيامه، فلسفةً نظريّة تأملية وتعلم في المدارس. غير أننا نستطيع أن نقول بأنه إلى جانب ديكارت منظّر الذاتية هناك ديكارت آخر أُبقِيَ في الظل هو ديكارت المنظّر للتقدم التقني، المؤمن بأن هذا التقدم هو بلا حدود، والمنادي بمعاملة الطبيعة كالكتاب المفتوح الذي لا يملك سراً ولا لغزاً إلا ويستطيع العقل أن يقرأه، ويحل رموزه ويجد له صيغه العلمية، وبذا يستطيع العالم أن يخضِع الطبيعةَ بكل ظواهرها لمشيئة الفرد ومنفعته المادية الآنية، من أجل حياةٍ أفضل يحسّنها العلم كلما تقدّم.
إن اكتشاف الكوجيتو وتنظير الذاتية ويقينية الأنا تظل كلّها ناقصةً دون هذا الفرد الذي يتمتّع بثمرات الأرض وخيراتِها، وينعم بالصحة والعافية لأنه أصبح المالكَ الحقيقيَّ للطبيعة عن طريق معرفة قوانينها وأوالياته يسخّرها من أجل خدمته ورفاهيته ومنفعته اليومية.
إن هذا الفرد الذي تريد كل الفلسفة الديكارتية أن تخدمه لتجعله يعيش سعيداً هو الذي يعطي للديكارتية كل بعدِها الحضاري الغربي، لأنّ أفكارَه الميتافيزيقية أي الفلسفية النظرية التأملية المحضة يمكن إرجاعُ الكثير منها إلى فلاسفة العصر الوسيط، أي أنه ليس من الصعب تفكيك العديد منها، وهذا ما فعله بالضبط بعض الباحثين، وعلى سبيل المثال فالقديس أوغسطين كان منذ القرن الخامس الميلادي قد كتب في مدينة الله: "إن أخطئ فأنا موجود". والصلة هنا مع الكوجيتو الديكارتي واضحة. هذا الفرد ومنفعته الحياتية المادية ومصلحته الصحية الجسدية هو الذي يجعل كل الديكارتية تنتمي إلى الحضارة الغربية وتشكل جزءتً هاماً منها. وخدمةُ هذا الفرد تتجلى في الكتاب الذي ننقله اليوم إلى العربية، فمعالجة موضوع الانفعالات همُّه الأخير فرح الفرد وتمتّعه بحياةٍ عاطفية هانئة، لذا فليس من قبيل الصدفة أن تننتهي الجملة الأخيرة فيه بإعلان انتصار الفرح على كلّ ما يقف في وجهه.
لقد عرف العالم العربي ديكارت، ومنذ مطلع هذا القرن حاول العديد من أنصار التيار الليبرالي المتحرر أن يتخذوا منه مفكرَّهم الأول ورائدَهم. ومنذ الثلاثينيات قام محمود محمد الخضيري بترجمة كتابه "خطاب المنهج" إلى العربية تحت عنوان "مقال عن المنهج"، ثمّ أعيدَ طبع هذا الكتاب سنة 1966م وسنة 1985م. وفي عام 1953 صدرت في منشورات الندوة اللبنانية لروائع اليونسكو ترجمةٌ جديدة لهذا الكتاب، قام بها الدكتور جميل صليبا تحمل عنوان "مقالة الطريقة" وصدرت للكتاب طبعةٌ ثانية سنة 1970 عن المكتبة الشرقية في بيروت. وكان الكتاب قد صدر بأصله الفرنسي سنة 1637م.
ولقد قام عثمان أمين بترجمة كتاب آخر لديكارت صدرت ترجمتُه في القاهرة عام 1960م، وهو كتاب "مبادئ الفلسفة"، وكان هذا الكتاب قد نُشِر باللاتينية، لغة العلم في أوروبا في ذلك الحين، عام 1644م.
أما كتاب ديكارت الأهم وهو كتاب "تأملات ميتافيزيقية، في الفلسفة الأولى" فلقد قام بتعريبه الدكتور كمال الحاج، وصدر في طبعته الأولى عام 1961م، وكان الكتاب قد صدر بالأصل اللاتيني سنة 1641م، وترجِم إلى الفرنسية ومؤلِّفه ما يزال على قيد الحياة.
***
كتاب ديكارت "رسالة في انفعالات النفس" أو بعنوانه المختصر "انفعالات النفس"  الذي ننقله اليوم إلى قرّاء العربية، هو آخر كتاب حرّرته يد الفيلسوف الفرنسسي، وقد كتبه بالفرنسية لا اللاتينية لأنه لا يريد حصر قراءته على فئةٍ قليلة من الناس، بل يريده للجمهرة التي تستطيع بسهولة أن تطّلع عليه بلغتِها، وتم نشر الكتاب أواخر عام 1649م. وقبل توزيعه كان مؤلفُه قد سافر إلى استوكهولم، عاصمة السويد في شهر أيلول (سبتمبر) تلبيةً لدعوة الملِكة كريستين التي دعته ليعلّمها الفلسفة، وليؤسس معهداً من أجل تقدم العلوم، غير أنّ المناخ هناك كان أقسى بكثير من صحة الفيلسوف البالغ الرابعة والخمسين من العمر، فتوفّيَ بعد خمسة أشهر فقط، في الحادي عشر من شهر شباط (فبراير) سنة 1650.
هذا الكتاب بقي في الظل فترةً طويلة ولكن الباحثين يكتشفون اليوم أنه من أهم وأعظم ما كتب ديكارت، وهو يلاقي رواجاً لم يعرفه في السابق وتنشره العديد من دور النشر الباريسية..
"انفعالات النفس" هو قبل كل شيء كتاب في علم النفس يحاول ديكارت فيه أن يحلل شتى الانفعالات والأهواء والعواطف ليلمّ بها ويفسّر آليتها، ليسمح بعد ذلك للعقل أن يسيطر عليها ويسخّرها لخدمة سعادة الفرد في حياته العاطفية. وهو كذلك كتاب في الأخلاق يكمل ما كان مؤلفه قد وضعه في علم الأخلاق المؤقت [؟]، ففي هذا الكتاب تلعب الإرادة دوراً هاماً لا من أجل اجتثاث الأهواء والانفعالات بل من أجل ترويضها وقيادتها نحو هذا النصر العظيم في حياة الفرد الاجتماعية، انتصار نبل القلب على كل بخلِ الخوف والتردد والجبن والحقارة. (8)
وهو كتابٌ حول علاقة النفس بالجسد وما لكلٍ منهما من انفعالات وملذات، النفس لها ملذاتُها العقلية والجسد له أيضاً ملذاتُه ومتعُه التي يجب ألاّ تُهمَل لصالح الأولى بحجة أولوية الروحي على الجسدي. فديكارت لا ينسى على الإطلاق هذا الإنسان الذي يحمل آلة الجسد، ويجب التمتع بما يبيحه له  هذا الجسد من خيرات ونِعَم. (9)
يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، والقسم الأول يتناول الانفعالات والعواطف في مظهرها العام، وهذا ما يقوده إلى مفهومٍ خاص لطبيعة الإنسان: الانفعالات تأتي إلى النفس بقوّة الجسد وما فيه من حركةٍ وديناميّة تحمل معها كل عنف الطبيعة والمفاجأة، وقد تبدو النفس ضعيفةً في مواجهتها، لذا كان لا بد لها من التزود بالمعرفة، غير أنّ النفس تخرج منتصرةً من خضمّ هذه المعركة. وهنا يتجلّى كل تفاؤلِ ديكارت وإيمانه بالإنسان، إذ يؤكد بأنه ليست هناك من نفسٍ ضعيفة إلى درجة أنها لا تستطيع أن تقف في وجه عواصف العواطف. وكأني به يقول لكل فرد: في داخلك قوةٌ ضخمة كامنة تنتظر أمرَ إرادتِك لتحلّق بك فوق كل ضعف؛ في آخر إنسان وفي أضعف واحدٍ منا، تكمن قوةٌ قادرة على الوقوف في وجه كل أنواء الانفعالات.
أما القسم الثاني فإنه يعالج النظام الذي تتبعه هذه الانفعالات والأحاسيس، ويميّز ستة انفعالات بدائية أصلية هي التعجب والحب والكره والرغبة والفرح والحزن، وعنها تنبثق شتى الانفعالات والمشاعر والأهواء الأخرى. وبعد أن يحلّل بالتفصيل كل هذه الانفعالات والرغبات التي يتوقف تحقيقها علينا وعلى الحظ وعلى إرادة غيرنا يؤكد بأن الخطر لا يدهم النفس من هياج الجسد فقط بل يأتيها أيضاً من داخلها، من عواطفها الخاصة بها. غير أنّ الإنسان يستطيع هنا أيضاً أن يخرج منتصراً من المعركة داخل النفس عن طريق ممارسة الفضيلة التي هي عمل الأشياء التي يحكم العقل بأنها الأفضل. إنّ هذه الممارسة الدائمة للفضيلة تجعل الإنسان في حالٍ من السعادة والكمال تصبح معها أعنفُ العواطفِ والأهواء أضعف من أن تنال من هذا الهدوء النفسي الذي يميّزه.
أما القسم الثالث وهو الأخير فقد أضافه ديكارت أثناء طبع الكتاب، وهو يتناول الانفعالات الخاصّة المنبثقة من الانفعالات الأساسية وهي عديدة تزيد على الثلاثين، إذ تناولت مختلف المشاعر التي يعرفها الإنسان في فترة أو أخرى من حياته، فقد انطلق التحليل من شعور الاحترام إلى الاحتقار، من التواضع الاحترام إلى الاحتقار، من التواضع لى التعجرف، من الرجاء إلى التخوّف، ومن الخوف إلى الجبن، ومن التردد إلى الشجاعة والإقدام، ومن الغيرة والحسَد إلى التأسف والندم وتأنيب الضمير، ومن الرأفة إلى الاعتراف بالجميل، ومن الامتعاض إلى الغضب، ومن المجد إلى العار إلى الابتهاج الذي يصاحب الشعور لدى الفرد بأنه كان أقوى من كل الصعاب التي عايشها، إلى ذلك الشعور الرائع الذي يعطي للإنسان كل معناه ويمده بكل كرامته، شعور النبل الحقيقي الذي يمنعنا من أن نحتقر أيَّ إنسان لأن آخر واحدٍ فينا يملك باستمرار هذا الخير الأعظم في الحياة، ألا وهو حرية الاختيار التي تُسبِغ معنى إلهياً على كل التجربة البشرية، لأنها تُدخِل بُعدَ اللامتناهي على كل الوضع الإنساني المحدود [في] الزمان والمكان. إن احترام الذات واحترام الآخر يصبحان الشرط الأساسيَ لكل عمل إنساني وبداية النبلِ المنفتح على الأفق اللامحدود لعمل الخير.
إن استعمال الحرّية الموضوعة تحت تصرّف الإرادة هي مفتاح الحل لكلّ الانفعالات، لا للسيطرة عليها من أجل إلغائها، بل لمعرفة قوانينِها وتحليل أوالياتها من أجل وضعها في تصرّف الفرد من أجل حياةٍ رغيدةٍ سعيدة ممتعة، فالحكمة تجاه الجسد وانفعالاته وعواطفه وأهوائه ليست بالكبح بل بالموقف العقلاني الذي عن طريق المعرفة يصل إلى القدرة والسيطرة. الانفعالات كلُّها جيدة وليس فيها من سيّء سوى طريقة استعمالنا، ومتعة الحياة الدنيا تتوقف على هذه الانفعالات والعواطف واللذات الحسّية، فليس في الحياة من عذوبةٍ بدونها، وكلما كان الإنسان أقدرَ على الانفعال والإحساس كلما زادت مقدرته على تذوّق السعادة اليومية المتحضّرة المرهَفة لأنّ البربريَّ وحدَه يدير ظهرَه للّذات الحسّية.
 إن موقفَ ديكارت الأخير من الانفعالات ومن الجسد بكل رغباتِه وأهوائه شبيه بموقفه من الطبيعة، فالعلم الفيزيائي يعلّمنا كيف نصبح أسياد الطبيعة والمالكين الحقيقيين لها نتمتّع بها كما يتمتّع المالكُ بما يملك. ليس في الطبيعة من عيبٍ سوى جهل قوانينها، وكذلك ليس في رغبات الجسد وانفعالات النفس أيُّ سوء، على العكس من ذلك، إنها رأسمال ضخم موضوع تحت تصرّف حرّية إرادتِنا، وتحليل كلِّ رغبةٍ وعاطفةٍ ومعرفةُ أدقِّ تفاصيلها وعلاقتِها بالنفس هو الطريق لوضعها في خدمة منفعتنا وحياتنا العذبة الهانئة، إذ ليس من سعادةٍ أرضيّة يوميّة بدون حسن استعمال عواطفنا ورغباتِنا. والحكمة لا تتوقّف عند عذوبة الحياة وصفائها بل تتعدّاها إلى تحدّي الصعاب والآلام والمشاقّ لتجعل من هذه حطباً لوقود فرحها.
في بدء العلاقة بين النفس والجسد، حسب ديكارت كان هناك فرح، وفي نهاية مطاف علاقتنا بانفعالاتنا ورغباتِنا وآمالِنا ومطامحِنا يعود الفرح الذي طرده جهلُنا لأنفسنا، وجهلُنا لقوانين حياتنا العاطفية، وبخلُ قلبِنا، ويصبح اللقاء الدائم مع هذا الفرح، عن طريق الذهاب إلى أقصى ما نستطيع في نبل القلب والعطاء والكرم واحترام الشخص الإنساني في ذاتِنا وعند الآخر هو المعنى الأخير لكل الوجود البشري.
وأخيراً، فإنه من غير الممكن أن ننهي هذا التقديم الموجز دون كلمة شكر تكون بمثابة اعترافٍ بالجميل لأستاذَتِنا جنفياف روديس ـ لويس التي عملَت في مدينة "رين" و"ليون" قبل أن تصبح أستاذةً في السوربون، فلقد استفدنا من طبعتها الفرنسية لـ "انفعالات النفس" المنشورة عند فران في باريس، لما فيها من ملاحظات وتعليقات، ومن معجمٍ للمفردات يتعلّق بخصوصيات لغةِ ديكارت، فالعديد من الكلمات والتعابير التي استعملها في زمانه لم يعد لها المعنى نفسُه في الفرنسية الحديثة. ولقد حاولنا نحن أنفسُنا عند التعريب أن نظل أمينين للتراث العلمي الفلسفي العربي، فلغةُ ديكارت، في كثيرٍ من الأحيان، ليست بعيدةً عن هذا التراث. (ص 11)
(انتهى تقديم زيناتي)


نص كتاب "انفعالات النفس

المقالة الأولى:
.. رغم أن كلّ إنسان يشعر بالانفعالات في ذاته، ولا يحتاج لاستعارة ملاحظة الآخرين ليعرف طبيعتها، فإن ما علمه الأقدمون حوله هو قليل جداً، وفي أغلب الأحيان يكاد لا يصدّق، حتى أني لا أستطيع أن آمل بالاقتراب من الحقيقة إلا بابتعادي عن الطرق التي ساروا عليها. لهذا فإني سأكون مضطراً أن أكتب هنا بأن كل شيءٍ يجري كما لو كنت في الواقع أعالج موضوعاً لم يسبق لأحدٍ أن تطرّق إليه.

bien que ce soit une matière dont la connaissance a toujours été fort recherchée, et qu’elle ne semble pas être des plus difficiles, à cause que chacun les sentant en soi-même on n’a point besoin d’emprunter d’ailleurs aucune observation pour en découvrir la nature, toutefois ce que les anciens en ont enseigné est si peu de chose, et pour la plupart si peu croyable, que je ne puis avoir (328) aucune espérance d’approcher de la vérité qu’en m’éloignant des chemins qu’ils ont suivis.

المقالة الثانية:
ثم إني أعتبر بأننا لا نلاحظ على الإطلاق بأن ليس من عامل يؤثر بطريقة مباشرة على النفس كما يؤثر الجسد الذي ترتبط به..

 Puis aussi je considère que nous ne remarquons point qu’il y ait aucun sujet qui agisse plus immédiatement contre notre âme que le corps auquel elle est jointe,

[ثم إني أعتبر بأننا لا نلاحظ على الإطلاق وجود أيِّ عاملٍ يؤثر مباشرةً في النفس أكثر من الجسد الذي ترتبط به.]
"..لمّا كنّا لا نستطيع أن نتصوّر على الإطلاق بأن الجسد يفكّر بأية طريقة من الطرق، كنّا محقّين بأن نعتقد بأنّ كلّ أنواع الأفكار التي فينا تنتمي إلى النفس.." (16)
المقالة الخامسة:
.. لقد كان الخطأ يتأتى من أننا لمّا كنا نرى بأن كل الأجساد الميتة محرومةٌ من الحرارة وتالياً من الحركة، فقد تصوّرنا بأنّ غياب النفس كان وراء توقّف الحركات وانقطاع الحرارة، وهكذا فقد اعتقدنا، على خطأ، بأن حرارتنا الطبيعية وكل حركات أجسادنا تتوقف على النفس، في حين أنه على العكس من ذلك، كان علينا أن نفكّر بأن النفس لا تغيب حين يطوينا الموتُ إلا لأنّ هذه الحرارة تتوقف، والأعضاء التي تُستَخدَم من أجل تحريك الجسد تفسد. (17)

المقالة السادسة: أيّ فرق هناك بين جسد حيّ وجسد ميت.
من أجل تجنّب مثل هذا الخطأ لنعتبر بأن الموت لا يأتي إطلاقاً بسبب هفوةٍ من النفس، ولكن فقط بسبب فساد أحد الأجزاء الرئيسية للجسم، ولنقرّر بعد ذلك بأن جسدَ إنسانٍ حيّ يختلف عن جسد إنسانٍ ميت، مثلما تختلف ساعةٌ أو أيّةُ آلة أوتوماتيكية (أيّ كل آلةٍ أخرى تتحرّك من تلقاء ذاتها) حين تكون معبّأةً وتحوي في ذاتها المبدأ الجسدي المادي للحركات التي صنِعت من أجلها، وكذلك كل ما يلزم لعملها، [تشبه الجسد الحيّ]. ونفس هذه الساعة أو الآلة حين تكسر ويتوقّف مبدأُ حركتِها عن العمل. [تشبه الجسد الميت]. (17)

المقالة السابعة:
.. جميع الحواس تعتمد على الأعصاب التي هي بمثابة شبكاتٍ صغيرة، أو قنواتٍ صغيرة تأتي كلُّها من الدماغ، وتحوي هي والدماغ معاً على هواءٍ معيّن أو ريحٍ رقيقٍ جداً يدعى الروح الحيواني. (18)

. Enfin on sait que tous ces mouvements des muscles, comme aussi tous les sens, dépendent des nerfs, qui sont comme de petits filets ou comme de petits tuyaux qui viennent tous du cerveau, et contiennent ainsi que lui un certain air ou vent très subtil qu’on nomme les esprits animaux.

هامش: إن كلمة روح قريبة من ريح، وهذا الخلط بينهما يعود في ميدان الطب، إلى جالينوس (القرن الثاني الميلادي). وفي المقالة العاشرة من هذا الكتاب [أي كتاب "انفعالات النفس] يقول ديكارت بأن أجزاء الدم الرقيقة جداً هي التي تؤلف الروح الحيواني. ولقد عرف العرب في طبهم مثل هذا المفهوم، إذ يقول ابن النفيس، على سبيل المثال، في كتابه "شرح التشريح": "إن القلبَ لمّا كان من أفعاله توليد الروح، وهي إنما تكون من دمٍ رقيقٍ جداً شديد المخالطة لجرم الهواء فلا بدّ وأن يجعل في القلب دم رقيق جداً وهواء ليمكن أن يحدث الروح من الجرم المختلط منهما، وذلك حيث تولد الروح" (جورج زيناتي)

المقالة الثامنة:
.. حين نكون على قيد الحياة فإن هناك حرارةً مستمرةً في قلب كل منا هي نوعٌ من النار يغذيها باستمرار دمُ الأوردة، وأن هذه النار هي المبدأ الجسدي لكل حركات أعضائنا.
المقالة التاسعة:
.. وبهذه الطريقة فإن الدم يحمل الحرارة التي يكتسبها في القلب إلى كل بقية أجزاء الجسم، ويكون بمثابة غذاء لها.
المقالة العاشرة:
.. إن كل الدم لا يستطيع أن يدخل إلى الدماغ، لأن ليس هناك سوى ممرات ضيقة جداً، لذا فإن أجزاء الدم الأكثر حركةً والأرق تمرّ وحدَها إلى الدماغ، في حين تنتشر بقية الأجزاء في شتى أنحاء الجسم. والواقع فإن هذه الأجزاء لا تحتاج إلى إجراء أيّ تغيير آخر في الدماغ، اللهم إلا أنها تنفصل هناك عن بقية أجزاء الدم الأقل لطفاً [خلخلةً]، لأن ما أسميه هنا أرواحاً ليس سوى أجسام، وليس لها من خصائص أخرى غير أنها أجسام صغيرة جداً تتحرك سريعاً جداً مثل ألسنة اللهيب المتصاعدة من مشغل، حتى أنها لا تتوقف في أي مكان معيّن، وبقدر ما يدخل منها في تجاويف الدماغ تخرج أجزاءٌ أخرى منها بواسطة المسام الموجودة في صلب جوهرها. إن هذه المسام توصل هذه الأجزاء إلى الأعصاب، ومن هناك إلى العضلات، ومن هذه الأخيرة تحرك الجسم بمختلف الطرق التي يمكنه أن يتحرك بها.

المقالة الحادية عشرة:
إن السبب الوحيد لجميع حركات الأعضاء هو أن بعض العضلات تنكمش في حين أن العضلات المقابلة لها تتمدّد.. وكذلك فإن السبب الوحيد الذي يجعل عضلةً ما تنكمش لا العضلة المقابلة لها، هو أنّ أرواحاً تأتي نحوها من الدماغ أكثر من تلك التي تأتي نحو الضعلة المقابلة..
المقالة الثانية عشرة:
[إن] الأسباب التي تجعل لأرواح لا تجري دوماً من الدماغ إلى العضلات بالطريقة ذاتها، والتي تجعل الأرواح تذهب نحو بعض العضلات لا بعضها الآخر، ذلك أنه بالإضافة إلى عمل النفس الذي هو حقاً أحد الأسباب، كما سأبيّن لاحقاً، هناك سببان آخران لا يتعلقان إلا بالجسم..
ثمة ثلاثة أشياء يجب أخذها بعين الاعتبار في الأعصاب، أولها نخاعها أو قوامها الداخلي الذي يمتد في صورة شباكٍ صغيرة منطلقاً من الدماغ حيث يستقي مصدره، وصولاً إلى أطراف الأعضاء المرتبطة بهذه الشباك، ثم تأتي الجلود المحيطة بها، وهي متصلة بالجلود التي تغلّف الدماغ، لذا فإنها تؤلف قنواتٍ صغيرةً تنحصر داخلها هذه الشباك الصغيرة، وتأتي أخيراً الأرواح الحيوانية التي تحملها هذه القنوات من الدماغ إلى العضلات، وتتسبب في إبقاء هذه الشباك حرة تماماً وممتدة بشكل يجعل أصغر شيءٍ يحرك جزء الجسم، حيث يصل أحد أطراف هذه الشباك، يحرك بالوسيلة ذاتها جزءَ الدماغ الذي تصدر منه هذه الشبكة. وذلك بالطريقة نفسها التي تحصل حين نشدّ أحد طرفيّ الخيط فإننا نحرّك الطرف الآخر. (21)
المقالة الثالثة عشرة:
إن الحركات المباشرة التي تحصل في العين ليست هي التي تمثّل للنفس البشرية هذه الأغراض [الموضوعات]، بل الحركات التي تحصل في الدماغ. [لاحظ أن التمثّل يتم للنفس]. وقياساً على ما تقدّم يصبح من السهل أن نتصوّر بأن أغراض بقيّة حواسنا الخارجية أو نزوعاتنا الداخلية تثير أيضاً حركة معيّنة في أعصابنا تمر بفضل هذه الأخيرة إلى الدماغ. إن هذه الحركات المتنوّعة للدماغ تثير داخل النفس البشرية شتى الأحاسيس،
أضف إلى ذلك أنها تستطيع أن تقوم بعملها بعيداً عن النفس، فتجعل الأرواح تأخد مجراها نحو بعض العضلات لا نحو غيرها، وهكذا فإنها تحرك أعضاءنا. وهذا ما سأبرهن عليه هنا بمثال: إذا قدّم أحد الناس يده بسرعة أمام عينينا، كما لو كان يريد أن يصفعنا، فإننا سنجد صعوبةً بأن نمنع أنفسنا عن إغماضهما، رغم معرفتنا بأنه صديقنا، وأنه لا يقوم بهذا إلا من قبيل اللعب، وأنه يحرص جيداً على ألا يصيبنا بأذيّة. إن هذا يبرهن بأن عينينا لم تغمضا بفضل نفسنا  notre âme، لأن الإغماض كان ضد إرادتنا، والإرادة هي العمل الوحيد، أو على الأقل العمل الأساسي للنفس. إن الإغماض حصل بسبب أن آلة جسدنا مركّبة بطريقة تجعل حركة اليد نحو عنينينا تثير حركة أخرى في دماغنا، حركةٌ تقود الأرواح الحيوانية في العضلات التي تجعل الرموش تنخفض. (22)

Et outre que ces divers mouvements du cerveau font avoir à notre âme divers sentiments, ils peuvent aussi faire sans elle que les esprits prennent leur cours vers certains muscles plutôt que vers d’autres, et ainsi qu’ils meuvent nos membres.

المقالة السابعة عشرة:
بعد أن تفحّصنا جميع الوظائف التي تنتمي للجسم وحده، يصبح من السهل أن نعرف بأنه لا يبقى فينا مما يجب أن ننسبه إلى النفس سوى أفكارنا، وهذه هي بشكل أساسي على نوعين، أي أنّ بعضها هي أفعال النفس وبعضها الآخر هي انفعالاتها. إنّ ما أسميه أفعالها هو كل إرادتنا، ذلك أننا نختبر في ذاتنا أنها تأتي مباشرةً من النفس، ويبدو أنها لا تتوقف إلا عليها. وعلى العكس من ذلك فإنه يمكننا على العموم أن نسمي انفعالاتها كل أنواع الإدراكات [الحسّية] أو المعارف التي توجد فينا، لأنه في الغالب ليست نفسُنا هي التي جعلتها على ما هي عليه، وهي تتلقاها دوماً من الأشياء التي تمثل [تتمثلها] هذه الأنواع من الإدراكات والمعارف. (24)

Art. 17. Quelles sont les fonctions de l’âme
Après avoir ainsi considéré toutes les fonctions qui appartiennent au corps seul, il est aisé de connaître qu’il ne reste rien en nous que nous devions attribuer à notre âme, sinon nos pensées, lesquelles sont principalement de deux genres, à savoir : les unes sont les actions de l’âme, les autres sont ses passions. Celles que je nomme ses actions sont toutes nos volontés, à cause que nous expérimentons qu’elles viennent directement de notre âme, et semblent ne dépendre que d’elle. Comme, au contraire, on peut généralement nommer ses passions toutes les sortes de perceptions ou connaissances qui se trouvent en nous, à cause que souvent ce n’est pas notre âme qui les fait telles qu’elles sont, et que toujours elle les reçoit des choses qui sont représentées par elles.

المقالة الثامنة عشرة:
مرةً أخرى إن إرادتنا على صنفين لأن بعضها هي أفعال للنفس تنتهي في النفس ذاتها، كما حين نودّ أن نحبّ الله، أو بشكلٍ عام أن نشغل فكرنا بموضوع غير مادي على الإطلاق. أما البعض الآخر فهو أفعال تنتهي في جسمنا كما حين تكون كلُّ إرادتِنا أن نتنزّه فإنه يتبع ذلك أن سيقاننا تتحرك وأننا نسير.

[ملء الثغرات: يحاول ديكارت تفسير كل آليات السلوك والحركة وحتى حالات الوعي من خلال التفاعل بين أعضاء الجسد والدماغ، ويشبه ذلك بطرفيّ خيط: إذا حركت طرفه الأول تحرك الطرف الآخر.
وحين يستنفد قدرة تلك الآلية على تفسير بعض ظواهر الوعي، يعيدها إلى فعل "النفس"، مثل أفعال الإرادة التي يجعلها مقتصرةً على فعل الإرادة وحدها، وكذلك بعض أفعال التفكير المجرد.
هل هي فرضيّةٌ مؤقتة، كلما استطعنا تفسير ظواهر الوعي جسدياً، وسّعنا من دور الجسد وقلّصنا من دورٍ مفترضٍ لنفس مفارقة؟
هل يمكن أن تكون هذه الإرادة الحرة التي هي الفعل النوعي لتلك النفس المفارقة نتيجةً لعوامل جسدية أكثر تعقيداً؟
الإرادة الحرة هي فرضية لسنا بقادرين ـ حتى الآن على الأقل ـ أن نثبت "حرّيتها" ولا أن ننفيه.
في كل الأحوال، هي فرضية جاهزةٌ عند ديكارت لملء الفراغ.
والفرضية ذات الطابع الميتافيزيقي كانت حاضرةً دائماً في تاريخ البشرية في محاولتها تفسير ظواهر الكون، وكانت تستحوذ على المساحة الأكبر من "النصّ" الذي خطّته البشرية، لملء الثغرات أو الفراغ الموجود في ذلك النصّ. ثم كانت المساحة تضيق مع إيجاد الأجوبة والأسباب المناسبة الطبيعية للتفسير، لكن هذه الأجوبة لم تملأ في يومٍ من الأيام كامل سطور ذلك النص.
كان الإنسان أمام خيارات، منها أن يسلّم بقدرته على ملء تلك الثغرات بأسباب طبيعية سيجدها حتماً، أو أن يدعي ملأها بفرضيات ميتافيزيقية. وفي كلتا الحالتين، ما هي إلا فرضيات..]
المقالة التاسعة عشرة:
إن إدراكاتنا هي أيضاً على صنفين، فبعضها سببها النفس، وبعضها الآخر يسببها الجسم. الإدراكات التي سببها النفس هي إدراكات إراداتِنا وكل الخيالات والأفكار المتعلقة بها، لأنه من المؤكد أننا لا نستطيع أن نريد شيئاً، دون أن نلاحظ في نفس الوقت أننا نريده، إن إرادة أيِّ شيءٍ بالنسبة إلى النفس، هو عمل، ومع ذلك فإننا نستطيع أن نقول أيضاً بأنه انفعال حين تلاحظ النفس بأنها تريد. غير أنها لمّا كان هذا الإدراك وهذه الإرادة ليسا سوى شيءٍ واحد كان لا بدّ من إطلاق التسمية دوماً حسب ما هو أسمى وأنبل، وهكذا فلم تجرِ العادة على تسمية الإرادة انفعالاً بل سمّيت فعلاً. (25)


Art. 19. De la perception.[modifier]

Nos perceptions sont aussi de deux sortes, et les unes ont l’âme pour cause, les autres le corps. Celles qui ont l’âme pour cause sont les perceptions de nos volontés et de toutes les imaginations ou autres pensées qui en dépendent. Car il est certain que nous ne saurions vouloir aucune chose que nous n’apercevions par même moyen que nous la voulons ; et bien qu’au regard de notre âme ce soit une action de vouloir quelque chose, on peut dire que c’est aussi en elle une passion d’apercevoir qu’elle veut. Toutefois, à cause que cette perception et cette volonté ne sont en effet qu’une même chose, la dénomination se fait toujours par ce qui est le plus noble, et ainsi on n’a point coutume de la nommer une passion, mais seulement une action. (344)


المقالة العشرون:
حين تجتهد نفسُنا لتتخيّل شيئاً لا وجود له.. فإن الإدراكات التي تحصل عليها لهذه الأشياء تتوقف بشكلٍ أساسيّ على الإرادة التي كات وراء ملاحظة النفس لهذه الأمور، فلهذا فقد جرت العادة على اعتبار هذه الإدراكات كأفعال لا كانفعالات. (25)
المقالة الحادية والعشرون:
إن معظم الإدراكات التي يسببّها الجسم تعتمد على الأعصاب. غير أنّ بعضها لا يتوقف إطلاقاً على هذه الأخيرة ويسمى خيالات، وكذلك الإدراكات التي تكلمت عنها لتوّي [يقصد الخيالات الإرادية]، غير أن الخيالات [ربما الأصح القول: ومع ذلك néanmoins  فإن هذه الخيالات] تختلف عنها في أنّ إرادتَنا لا تدخل في تشكيلها، ولهذا فإنها لا يمكن أن تحسب في عداد أفعال النفس. وهي تتأتى من أنّ الأرواح التي تهتاج بطرق متنوّعة، وتلتقي آثار انطباعات متعددة سبق وكانت في الدماغ [هذا يذكر بالحديث عن العادات المكتسبة والآثار التي تتركها في الدماغ مما يجعل تكرارها سهلاً]، تأخذ مجراها عشوائياً من خلال مسام معيّنة لا مسامّ أخرى. فهذا هو مجال أوهام أحلامنا [الليلية]، وكذلك حال أحلام أحلام اليقظة التي تمرّ بنا ونحن في حالة اليقظة، حين يشرد فكرُنا باسترخاء دون أن يركّز على أيّ شيءٍ من ذاته. وبالرغم من أنّ بعض هذه الخيالات هي انفعالات للنفس، حين نأخذ هذه الكلمة بمعناها المحدّد والخاص جداً، وبالرغم من أنه يمكننا تسميتها جميعاً بانفعالات للنفس، حين نأخذ هذا التعبير بمعناه العام، إلا أه يجب أن نعرف بأنه ليس لها من سبب شهير ومعيّن، كالإدراكات التي تتلقاها النفس بواسطة الأعصاب، ويبدو أنها ليست سوى ظل ورسمٍ لها، ومن هنا كان لا بد، قبل أن نميّز هذه الخيالات جيداً، من أن نرى الاختلاف القائم بين الإدراكات.
[أظن أن هذه الفقرة تريد القول بأن هناك خيالات لا هي ناتجة عن الإرادة (التخيل الإرادي)، ولا هي ناتجة عن الإدراك الحسي المباشر التي تعتمد على إثارة الأعصاب بمثيرات خارجية. هي عبارة عن خيالات تلقائية يفسرها ديكارت بالأرواح الهائجة بشكل عشوائي دون رقابة عليها، فتحرّض الآثار السابقة المتروكة في الدماغ بسبب من حالات الوعي السابقة، مثل حالات الإدراك الحسي أو التخيلات الإرادية. وذلك ما يحصل خلال الأحلام الليلية أو أحلام اليقظة.]

المقالة الثانية والعشرون:
كل الإدراكات التي لم أفسرها بعد تأتي إلى النفس بواسطة الأعصاب، وهناك بينها هذا الخلاف وهو أننا ننسب بعضها إلى الأغراض الخارجية التي تصدم حواسَّنا، وبعضها الآخر إلى جسمنا أو إلى بعض أجزائه، وأخيراً فإن بعضها المتبقي ننسبه إلى النفس.

المقالة الثالثة والعشرون:
إن الإدراكات التي ننسبها إلى أشياءَ خارجةٍ عنّا أي إلى أغراضِ حواسِّنا تسببها في الواقع، (على الأقل حين لا يكون رأيُنا خاطئاً)، هذه الأغراض نفسها، حين تثير بعض الحركات في أعضاء الحواس الخارجية، فتثير في الوقت نفسه بفضل الأعصاب، بعض الحركات في الدماغ، وهذه بدورها تجعل النفسَ تحسّ.
ويحصل هذا حين نرى نورَ مشعلٍ أو نسمع صوت جرس، فهذا الصوت وهذا النور هما فعلان متباينان وبفضل إثارتهما فقط لحركتين متنوعتين في بعض أعصابنا، وبالتالي في الدماغ، فإنهما يعطيان للنفس إحساسين مختلفين، ننسبهما تماماً إلى الموضوعين اللذين نفترض أنهما كانا سببيهما، حتى إننا نعتقد أننا نرى المشعل نفسه ونسمع الجرس، أي إننا لا نحس بحركاتٍ آتية منهما فقط. (26)
[هل هذا يعني إصدار أحكامٍ عقلية؟]
المقالة الرابعة والعشرون:
إن الإدراكات التي ننسبها إلى جسمنا أو إلى بعض أجزائه هي تلك التي تأتينا من الجوع أو العطش وبقية نزعاتنا الطبيعية، ويمكن أن نلحق بها الألم والحمى وبقية التأثيرات التي نحس بها في أعضائنا، وليس في أغراضٍ خارجةٍ عنا..
المقالة الخامسة والعشرون:
إن الإدراكات التي تنسب إلى النفس فقط هي تلك التي نحس بآثارها في نفسنا ذاتها والتي لا نعرف لها بشكل عام أي سبب مباشر يمكن أن ننسبها له. وهذا هو حال مشاعر الفرح والغضب وأمثالهما التي تثيرها أحياناً في داخلنا الأغراض التي تحرّك أعصابنا، وأحياناً أسبابٌ أخرى. هذا مع العلم أن جميع إدراكاتِنا، أكانت تلك التي ننسبها إلى الأغراض الخارجة عنا أم كانت تلك التي تنسب إلى مختلف تأثيرات جسمنا، هي في الواغع انفعالات بالنسبة إلى نفسنا، حين نأخذ هذه الكلمة بمعناها الأعم والأشمل. إلا أن العادة جرت على حصر كلمة انفعالات لتعني فقط تلك التي تنسب إلى النفس عينها. وهذه الأخيرة وحدَها هي التي باشرت هنا بتفسيرها تحت اسم انفعالات النفس.
[يقسم ديكارت الإدراكات المنفعلة إلى ثلاثة أقسام: قسم يتعلق بموضوعات العالم الخارجي: مثل الأصوات والألوان والحرارة. وقسم يتعلق بالجسد مثل الجوع والعطش والألم. وقسم يتعلق بالنفس، مثل الحزن والفرح والغضب.]
المقالة السادسة والعشرون:
.. إن جميع الأشياء التي تدركها النفس عن طريق الأعصاب، يمكن للنفس أن تتصوّرها بفضل الجريان الفجائي للأرواح، دون أن يكون هناك من اختلاف سوى أن الانطباعات التي تحصل في الدماغ بسبب الأعصاب هي في العادة أكثر حيويةً واندفاعاً من تلك التي تثيرها الأرواح في الدماغ [هذا يشبه ما سيقول به هيوم حول الفروقات الكمّية بين أشكال الوعي: الفرق بين الإدراك والخيال، أن الأول وعي واضح بينما الثاني وعي ضعيف، أو أثر باهت للإدراك الحسي]، وهذا ما حملني على القول في المقالة الحادية والعشرين بأن هذه الأخيرة تبدو كظلٍّ ورسمٍ للأولى. ويجب أن نلاحظ أيضاً بأنه قد يحصل أحياناً بأن يشابِه الرسمُ الشيءَ الذي يمثله إلى درجةٍ تخدعنا، فلا نعود نميّز بين الإدراكات التي تُنسَب إلى الأغراض الخارجة عنا والإدراكات التي تُنسَب إلى بعض أجزاء جسمنا [وهذ أيضاً يشبه ما تقول به المدرسة التجريبية، ومشهور الحوار الذي تم (أو اختُرِع) بين آلان وصديقه التجريبي الذي يدعي بأن تخيّله لمبنى البانتيون قويّ لدرجة أنه يشبه الإدراك الحسي، ويقول بأنه يتخيل المبنى وكأنه يراه أمامه]، غير أنّ مثل هذا الأمر غير ممكن حين يتعلق بالانفعالات، خاصةً وأنها جدُّ قريبة وجدّ متداخلة بالنفس، مما يجعل من المستحيل أن تشعر هذه بالانفعالات دون أن تكون هذه الأخيرة بالضبط كما تحسّ بها النفس. وهكذا فإننا حين ننام أو حتى أحياناً ونحن في حالة اليقظة، غالباً ما نتخيّل بعض الأشياء بطريقة حادةٍ جداً تجعلنا نعتقد بأننا نراها ماثلةً أمامنا، أو نحسّها في جسمنا، رغم أن الأمر ليس كذلك. ولكن وحتى لو كنا نائمين ونحلم فلا يمكننا أن نشعر بأننا حزينون أو متأثرون بأي انفعال آخر، دون أن يكون صحيحاً تماماً بأن النفس تحوي في ذاتها هذا الانفعال.
المقالة السابعة والعشرون:
بعد أن رأينا بماذا تختلف انفعالات النفس عن بقية جميع أفكارها، يبدو لي أننا نستطيع أن نحدّد بشكل عام الانفعالات فنقول بأنها إدراكاتٌ أو إحساساتٌ أو تأثراتٌ للنفس ou des sentiments, ou des émotions de l’âme، وتُنسَب بشكل خاص للنفس لا لغيرها، تسببها وتغذيها وتقوّيها حركةٌ معيّنة للأرواح.
المقالة الثامنة والعشرون:
يمكننا أن نسمي الانفعالات إدراكاتٍ حين نستعمل هذه الكلمة الأخيرة بوجه عام لنعني جميع الأفكار التي ليست أفعالاً للنفس ولا بإرادات. ولكن لا يمكننا ذلك حين نستعمل كلمة إدراكات لنعني بها المعارف البيّنة الجليّة، إذ إن التجربة ترينا بأن الذين تهيّجهم الانفعالات أكثر من غيرهم ليسوا هم الذين يعرفون هذه الانفعالات أفضل من غيرهم، أضف إلى ذلك أن الانفعالات هي في عداد الإدراكات التي تجعلها الرابطة الوثيقة بين النفس والجسد مضطربةً وغامضة.
المقالة التاسعة والعشرون:
أضيف فأقول بأن الانفعالات تُنسَب بشكل خاص للنفس كي نميّزها عن بقيّة الإحساسات التي يُنسَب بعضها إلى الأغراض الخارجية كالروائح والأصوات والألوان، وينسَب بعضُها الآخر إلى جسمنا كالجوع والعطش والألم، وأضيف إلى ذلك بأن الانفعالات تسببها وتغذيها وتقويها حركةٌ معيّنة للأرواح كي نميّزها عن إرادتِنا التي يمكن أن نسميها تأثيرات [تأثرات] émotions  للنفس تنسَب للنفس وتسببّها النفس ذاتها، ولكي نفسر كذلك السبب الأخير والأقرب للانفعالات، هذا السبب الذي يميّزها من جديد عن بقية الإحساسات.

المقالة الثلاثون: في أن النفس متحدة بكل أجزاء الجسم مجتمعةً.
.. من الواجب أن نعلم بأن النفس متصلة حقاً بكل الجسم، وأنه لا يمكننا أن نقول بأنها حقاً في أحد الأجزاء دون غيره، بسبب أن الجسم واحد وبمعنى ما غير منقسم بسبب وضع أعضائه، إذ يرتبط كل واحدٍ منها بالآخر حتى إنه لو انتزع واحدٌ منه الأصبح الجسم كلُّه ناقصاً وعاجزاً. والسبب الآخر لذلك هو أن النفس ذات طبيعةٍ لا علاقة لها مع الامتداد أو الأبعاد أو كل خصائص المادة التي يتألف منها الجسم، بل إن علاقتها هي فقط مع التجمع الحاصل لجميع أعضاء الجسم. وهذا الأمر يبدو واضحاً، إذ لا يمكننا بأي شكل أن نتصوّر نصف نفس أو ثلثها أو أي امتداد أو فراغ تشغله، وكذلك نحن نعلم بأنها لا تصبح أصغر حين نقتلع جزءاً من الجسم، بل إنها تفارق الجسم كلّية حين يتحلل تجمع أعضائه.
المقالة الحادية والثلاثون:
.. بدا لي أني عرفت بأن الجزء من الجسم الذي تمارس النفس فيه وظائفها مباشرةً ليس القلب على الإطلاق ولا الدماغ بأكمله، ولكن القسم الداخلي تماماً منه، وهي غدّة معينة صغيرة جداً تقع في وسط مادة هذا الجزء ومعلّقة فوق المجرى الذي تتصل بواسطته أرواح التجاويف الأمامية بأرواح التجويف الحسي. بطريقة تجعل أقل حركة تحصل في داخلها تؤثر كثيراً من أجل تغيير مسار هذه الأرواح، والعكس بالعكس، فإنّ أقل تغيير يحصل لمسار الأرواح يؤثّر الكثير في تغيير حركات هذه الغدة.
المقالة الثانية والثلاثون:
إن السبب الذي يقنعني بأن النفس لا يمكن أن يكون لها في كل الجسم مكان آخر غير هذه الغدة تمارس منه شتى وظائفِها، هو أنني أعتبر أن كل بقية أجزاء دماغنا مزدوجةٌ تماماً كما أنّ لنا عينين ويدين اثنتين وأذنين، وأخيراً فإن جميع أعضاء حواسِّنا الخارجية مزدوجة. ولما كنا لا نملك عن شيء واحد في آن واحد سوى فكرة واحدة بسيطة وجب أن يكون هناك مكان ليجتمع فيه الرسمان الآتيان من العينين الاثنتين ليصبحا واحداً، وكذلك الانطباعان الآتيان من غرضٍ واحدٍ إلى العضوين المزدوجين لبقية حواسنا ليصبحا واحداً أيضاً، وذلك قبل أن يصلا إلى النفس كيلا يمثلا أمامها غرضين بدلاً من غرضٍ واحد. ويمكننا بسهولة أن نتصوّر بأن هذه الرسوم والانطباعات الأخرى تجتمع في هذه الغدّة عن طريق الأرواح التي تملأ تجاويف الدماغ. غير أنه ليس من مكان في الجسم يمكن لها أن تكون متحدة هكذا إلا بعد أن تكون قد توحدت لهذه الغاية.
المقالة الثالثة والثلاثون: في أن مركز الانفعالات ليس في القلب.
إننا لا يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار رأي الذين يعتقدون بأن النفس تتلقى انفعالاتها في القلب إذ إن هذا الرأي لا أساس له من الصحة سوى أنّ الانفعالات تجعلنا نشعر ببعض التغيير في القلب، ولكن من السهل ملاحظة أن هذا التغيير لا نشعر به كما لو كان حاصلاً في القلب إلا بفضل عصبٍ صغير ينزل من الدماغ نحو القلب، تماماً كالألم الذي نشعر به يحصل كما لو كان في القدم بفضل أعصاب القدم. وكذلك فإننا نشاهد الكواكب كما لو كانت في السماء، بفضل نورها والعصب البصري. وهكذا ليس من الضروري أن تمارِس نفسُنا وظائفها مباشرةً في القلب كي نشعر بأن انفعالاتها تحصل هناك، تماماً كما أنه ليس من الضروري أن تكونَ في السماء كي تشاهِدَ الكواكب هناك.
المقالة الأربعون:
إن من الضروري أن نلاحظ بأن النتيجة الرئيسية للانفعالات على البشر هي أنها تحثّ النفس وتعدها لتقبّل الأشياء التي كانت قد حضرت الجسم لها، وهكذا فإن الشعور بالخوف يحث النفس على أن تريد الهرب، أما الشعور بالإقدام فيحثّها على أن تريد أن تقاتل، وهكذا مع بقيّة الانفعالات.
[يمكن وصف السياق الذي يتحدث عنه ديكارت على الشكل التالي: الانفعالاتُ "تحثُّ" النفسَ. النفسُ تقرّر (بإرادتها مطلقة الحرية طبعاً، بحسب ديكارت. يقول ديكارت في المقالة الحادية والأربعين بأن "الإرادة حرّة بطبيعتها حتى إنه لا يمكن لأحد أن يمارس معها الإكراه على الإطلاق."). الجسدُ ينفّذ ما قرّرته النفسُ.
أما كيف ينفّذ الجسد ما تقرّره النفس، فيتم ذلك بسياق معاكس: النفس (المفارقة) تقرّر، تتماوج الغدّة الصغيرة في وسط الدماغ محرّكة تيارات من الأرواح داخل الدماغ، يدفع الدماغ بدوره أرواحاً أضافية متموضعةً في مناطق الجسد من خلال الأعصاب، مما يؤدي إلى تقلصات وتمددات العضلات التي تجعل الجسد يتحرك وينفذ ما وصل إليه من الدماغ.
هذه كلها تفاصيل.
السؤال الحقيقي هو التالي: إذا كانت الانفعالات "تحثُّ" النفس، فهل يبقى للنفس من هامش للقرار يتجاوز ويتخطى عملية التحريض هذه التي تقوم بها الانفعالات؟
بمعنىً آخر، هل يمكن للنفس أن تعارض تحريض الانفعالات وتتخذ قراراً مستقلاً معارضاً لها؟
ألا يمكن القول بأن النفس حين تتخذ قرراً "حراً" يعارض ما يقترحه انفعالٌ ما، أو يحثّ عليه، فإنها بذلك تخضع لتحريض انفعالٍ آخر؟
هل الإرادة الحرة أو قرار النفس الحر بإطلاق إلا قرارً خاضعاً لتحفيز الانفعال الأقوى؟
حين يقرّر جنديٌّ "بحرّية إرادة" أن يهرب من المعركة بعد أن "حثَّ" انفعالُ الخوفِ النفسَ على هذا القرار.
وحين يقرّر جنديٌّ آخر أن يواجه ويقاوم، بعد أن حثّ انفعال الشجاعة عنده النفس على هذا القرار أيضاً، ألم يكن ذلك لأنّ انفعال الخوف عند الأول كان أقوى من انفعال الشجاعة، بينما كان انفعال الشجاعة عند الثاني أقوى من انفعال الخوف؟
أليس من المحتمل أننا حين نتحدث عن قرار الإرادة الحرة، فإننا في الواقع نتحدث عن القرار الحتمي لتحفيز الانفعال الأقوى؟]

المقالة الحادية والأربعون:
غير أن الإرادة حرّة بطبيعتها حتى إنه لا يمكن لأحد أن يمارس معها الإكراه على الإطلاق. (إن هذه القدرة اللامتناهية للإرادة البشرية جعلت منها نوعاً من الأمبراطورية المستقلة داخل أمبراطورية العقلانية التي أشادها ديكارت. (جورج زيناتي))
أما إذا نظرنا إلى نوعي الأفكار القائمة في النفس والتي ميّزتُ بينها وقلتُ إن بعضها هي الأفعال أي إراداتُ النفس، وبعضها الآخر انفعالاتها بالمعنى الأعم لهذا التعبير، أي بالمعنى الذي يشمل مختلف أنواع الإدراكات، فإننا نرى بأن الأفعال هي تماماً تحت سلطة النفس، ولا يمكن أن يغيّرها الجسم إلا بطريقة غير مباشرة. أما الانفعالات فإنها تتوقف كلّياً على الأفعال التي تنتجها، ولا يمكن للنفس أن تغيّرها إلا بطريقة غير مباشرة، إلا إذا كانت النفس عينُها سببَها. وكل عمل النفس هو التالي: لمجرد أن تريد شيئاً فإنها تعرف بأن الغدّة الصغيرة المرتبطة بها بشكلٍ وثيق، تتحرك بالطريقة المطلوبة من أجل حصول النتيجة المرتبطة بهذه الإرادة.
المقالة الثانية والأربعون: كيف نجد في ذاكرتنا الأشياء التي نريد أن نتذكّرها.
وهكذا فحين تريد النفس أن تتذكر شيئاً معيّناً، فإن الإرادة تعمل بطريقة تجعل الغدّة التي تنحني بالتتالي نحو جهات مختلفة تدفع الأرواح نحو جهات عدّة للدماغ، إلى أن تلتقي بالمكان حيث ما تزال الآثار التي خلّفها الغرض [الموضوع] الذي تريد أن نتذكره، إذ إن هذه الآثار ليست سوى مسامّ الدماغ حيث بدأت في السابق الأرواحُ مجراها، بسبب وجود هذا الغرض [الموضوع]، ولهذا فإن المسام قد اكتسبت سهولةً ليست عند غيرها، بأن تنفتح من جديد بالطريقة عينها، كلما أتت الأرواح نحوها، حتى إن هذه الأرواح حين تلتقي هذه المسام تلج إلى داخلها بسهولة أكثر مما يمكنها مع غيرها، وبهذه الوسيلة تثير هذه الأرواح حركةً خاصةً في الغدّة، وهذه الحركة تمثل للنفس الغرض [الموضوع] عينه، وتجعلها تعرف أنه الغرض الذي أرادت أن تتذكّره.
[اللافت في حديث ديكارت عن التذكر أنه يشبه إلى حدٍّ بعيد ما ستقول به المدرسة التجريبية، نقيضة ديكارت، وبالتحديد الفيلسوف دايفيد هيوم (وكنت أشرت إلى هذه الملاحظة في منشور سابق) الذي يعتبر بأن الذكريات هي الآثار المادية التي تتركها الإدراكات الحسية في الدماغ.
بالمقابل فإن برغسون سيتحدث عن الذاكرة بطريقة روحانية خالصة. فالذكريات عنده أفكار من طبيعة روحية ولا تحفظ في الدماغ الذي ينتمي إلى عالم المادة.]

المقالة الثالثة والأربعون: كيف تستطيع النفس أن تتخيّل، وأن تكون متنبّهة، وأن تحرّك الجسد.
وهكذا فعندما نريد أن نتخيّل شيئاً معيّناً لم نرَه في السابق على الإطلاق، فإن هذه الإرادة تملك من القوّة ما يجعل الغدّة تتحرّك بالطريقة المطلوبة، من أجل دفع الأرواح الحيوانية نحو مسام الدماغ، وفتحُ هذه المسام يجعل هذا الشيء المعيّن ممكناً.
أما حين نريد أن نركز انتباهنا على غرضٍ واحدٍ خلال فترة زمنية معيّنة، فإن هذه الإرادة تبقي الغدّة خلال هذه الفترة منحنية نحو جهةٍ واحدة. أذا شئنا أخيراً أن نسير على القدمين، أو أن نحرّك جسمنا بطريقة أخرى، فإن هذه الإرادة تجعل الغدة تدفع الأرواح نحو العضلات التي تستخدم لهذه الغاية.
[لا أجد هذا التفسير كافياً عند ديكارت الذي عرف عنه التدقيق وتقليب الأمور على احتمالاتها..
كيف تقوم الغدة التي يتحدث عنها، أو الأرواح التي تحرضها تلك الغدة بعملية تركيب الصورة الجديدة من المعطيات القديمة؟]
[ثانياً، كيف تستطيع النفس أن "تريد" تخيّل ما لم نرَه في السابق؟ كيف استطاعت أن تكوّن صورةً عن هذا الذي تريده؟
يمكن أن نتوقّع إجابة ديكارتية عن هذا التساؤل بالقول بأن إدراكات النفس منها ما هو من أفعال النفس، ومنها ما هو من انفعالاتها.
وهذا النوع ينتمي إلى أفعال النفس التي تضم "إدركات إرادتنا وكل الخيالات والأفكار المتعلقة بها" (المقالة 19)
لكن هنا أيضاً يمكن أن يُطرَح سؤالٌ إضافيّ: إذا حصل الإدراك في النفس، وهو هنا أنها تخيّلت ما لم ترَه في السابق، فما حاجتها بعد ذلك إلى حصول عمليات بيولوجية وعصبية في الدماغ، لم تكن وظيفتها في الأساس إلا تمكين النفس من الإدراك؟
لنا أن نتوقع هنا أيضاً بأن الغدة الصغيرة التي يعتبرها ديكارت حلقة الوصل بين النفس والدماغ، تنقل الرسائل والتأثيرات بشكل تلقائي من الدماغ إلى النفس ومن النفس إلى الدماغ.]

المقالة السادسة والأربعون: السبب الذي يمنع النفس أن تتحكم كلّية في انفعالاتها.
.. كما أن النفس حين ينشغل انتباهها كثيراً بشيءٍ ما يمكن أن تمنع نفسها من سماع ضجّة قليلة أو أن تحسّ بألمٍ صغير، ولكن لا يمكن لها أن تمنع نفسها بالطريقة عينها من سماع صوت الرعد، أو من الإحساس بالنار التي تحرق اليد، كذلك فإنها تستطيع بسهولةٍ أن تتخطّى الانفعالات الخفيفة ولكنها لا تستطيع ذلك مع الانفعالات العنيفة والقوية، إلا بعد أن يهدأ تأثر الدم والأرواح. إنّ أقصى ما تستطيع الإرادة أن تفعله حين يكون الانفعال في عنفوانه هو عدم الاستسلام لنتائجه وإيقاف العديد من الحركات التي هيّأ الانفعال الجسم لها. فمثلاً لو أن الغضب جعلها نرفع اليد لنضرب فإن الإرادة تستطيع عادةً أن توقف اليد عن الضرب، ولو حثّ الخوف الساقين على الهرب فإن الإرادة تستطيع أن توقفهما، وهكذا مع بقية الانفعالات.
المقالة السابعة والأربعون:
Et ce n’est qu’en la répugnance qui est entre les mouvements que le corps par ses esprits et l’âme par sa volonté tendent à exciter en même temps dans la glande, que consistent tous les combats qu’on a coutume d’imaginer entre la partie inférieure de l’âme qu’on nomme sensitive et la supérieure, qui est raisonnable, ou bien entre les appétits naturels et la volonté.

وحدَه التعارض القائم بين الحركات التي يميل الجسم إلى إثارتها من خلال أرواحه، وبين الحركات التي تميل الإرادة إلى إثارتها داخل الغدّة، في وقتٍ واحد، ما يسبّب كل المعارك التي اعتدنا أن نتخيّلها بين الجزء الأسفل من النفس المسمّى الحسّي، والجزء الأعلى أي الجزء العاقل، أو بين الرغبات الطبيعية والإرادة. لأن الواقع أنه ليس فينا سوى نفسٍ واحدة، وهذه النفس ليس لها في ذاتها أيُّ تعدّد للأجزاء. فالنفس الحاسّة هي النفس العاقلة، وكل رغباتها هي إرادات. إن الخطأ الذي ارتكبه البعض حين جعل النفس تلعب دور شخصيات متعدّدة، متناقضة في العادة في ما بينها، لم يأتِ إلا من عدم التمييز القاطع بين اوظائف النفس ووظائف الجسد الذي يجب أن ننسب إليه كل ما يمكن أن نلاحظه فينا مما يتعارض مع عقلنا، وهكذا لا تعود هناك من معركة داخل جسدنا سوى أن الغدة الصغيرة الموجودة وسط الدماغ يمكن أن تدفعها الفس إلى جهة، في حين تدفعها إلى جهةٍ أخرى الأرواح الحيوانية التي ليست سوى أجسام، كما قلت سابقاً. ويحصل في كثيرٍ من الأحوال أن تكون هاتان الدفعتان متناقضتين، وأن تمنع الأقوى ظهور نتيجة الأخرى، هذا ويمكننا أن نميّز بين نوعين من الحركات التي تثيرها الأرواح في الغدة، النوع الأول يمثل للنفس الأغراض التي تحرك الحواس أو الانطباعات التي تلتقي في الدماع، وهذه الحركات لا تترك أي أثر هام على الإرادة. أما الحركات الأخرى فإنها تترك أثراً قوياً، وهذه الحركات هي تلك التي تسبب الانفعالات أو حركات الجسم التي تصاحبها. حركات النوع الأول رغم أنها تمنع في كثير من الأحيان أفعال النفس أو أنّ هذه تمنعها من الظهور، فإننا مع ذلك لا نلاحظ وجود صراع بينها، والسبب في ذلك أنها ليست متناقضة بشكلٍ مباشر. غير أننا نلاحظ نزاعاً بين النوع الثاني من الحركات والإرادات التي تناقضها، فمثلاً هناك نزاع قائم بين الأثر الذي تتركه الأرواح حين تدفع الغدّةَ لتسبب في النفس الرغبةَ في شيءٍ ما، وذلك الذي تحاول النفس أن تبعد الغدة عنه عن طريق إرادتها في أن تهرب من الشيء عينه.  والشيء الأساسي الذي يجعل هذا النزاع يظهر هو أن الإرادة لا تملك القدرة على إثارة الانفعالات مباشرةً، كما سبق وقلنا، لذا فإنها مضطرة أن تلجأ إلى الحيلة، وأن تواظب على تفحص أشياءَ عدةٍ، الواحد بعد الآخر، فإذا حصل أنّ أحدَها كان قادراً على تغيير مجرى الأرواح لفترة فمن المحتمل أن يكون الذي يليه غيرَ قادر، وبالتالي فإن الأرواح تعود رأساً إلى مجراها السابق، لأن الاستعداد الذي كان سابقاً في الأعصاب وفي القلب، وفي الدم لم يتغيّر، وهذا ما يجعل النفس تحس بأنها مندفعةٌ، في نفس الوقت تقريباً، لأن ترغب وألا ترغب الشيء عينه. وكانت هذه الواقعة فرصةً ليتخيّل الناس أن للنفس قوتين تتصارعان. هذا وما يزال من الممكن أيضاً أن نتصوّر وجود نزاع ما، ذلك أنه في كثير من الأحيان، يحصل أنّ السبب نفسَه الذي يثير في النفس انفعالاً معيّناً يثير أيضاً بعض الحركات في الجسم دون أن تشارك النفس في إحداثها، بل توقفها أو تحاول ذلك ما إن تلمحها فنشعر بما نشعر به حين يكون هناك ما يثير الخوف، فيجعل الأرواح تدخل في العضلات التي تستخدم في تحريك الساقين للهرب في حين أنَّ إرادتَنا بأن نكون جريئين توقفهما. (38)
المقالة الثامنة والأربعون:
إن كل فردً يعرف ضعف نفسه أو قوتها من خلال نجاح هذه النزاعات. لأن من استطاعت إرادتهم أن تتغلب بشكلٍ طبيعي وبسهولة على الانفعالات، وأن توقف حركات الجسم التي تصاحبها كانوا يملكون دون شكٍ النفوس الأقوى، ولكن هناك من لا يستطيعون أن يحسوا بقوتهم لأنهم لا يجعلون إطلاقاً إرادتهم تصارع بأسلحتها الخاصة بها بل بالأسلحة التي تمدها بها بعض الانفاعلات من أجل مقاومة انفعالات أخرى. وما أسميه اسلحتها الخاصة بها هو الأحكام القاطعة والحازمة المتعلقة بمرفة الخير والشر التي كانت النفس قد صممت على اتباعها في أعمال حياتها. أما الأنفس الأضعف من الجميع فهي تلك التي لم تصمم إرادتها على اتباع أحكامٍ معيّنة، ولكنها تترك نفسها تنجرف باستمرار مع الانفعالات الحاضرة. ولكن لما كانت هذه في معظم الأحيان ناقضةً لبعضها البعض فإنها تجذبها إلى جانبها الواحدة بعد الأخرى، وتستعملها لمحاربة ذاتها، فتضع النفس في أسوأ حال يمكن أن تكون عليه. وهكذا فحين يصور الخوفُ الموتَ كشرٍّ مستطير لا يمكن تجنبه إلا بالهرب، بينما من جهةٍ ثانية يصور الطموح عار هذا الهرب كشرٍّ أسوأ من الموت، فإن هذين الانفعالين يهيجان الإرادة بطرق مختلفة، فتطيع مرةً هذا الانفعال، ومرةً ذلك الآخر، فتعارض باستمرار ذاتها، وهكذا تجعل النفسَ عبدةً وتعيسة.
المقالة التاسعة والأربعون:
الحقيقة هي أن القليل جداً من الناس يبلغ بهم الضعف وعدم التصميم حداً يجعلهم لا يريدون شيئاً إلا ما تمليه عليهم انفعالاتُهم. أما غالبية الناس فلهم أحكام حازمةٌ يسيرون حسبها في قسم من أعمالهم. وبالرغم من أنّ هذه الأحكام هي في الغالب خاطئة، بل حتى مبنيةٌ على بعض الانفعالات التي تركتها الإرادة تتغلب عليها أو تستهويها، إلا أننا  ـ بسبب استمرارية التمشي حسبها حين لم يعد الانفعال الذي سبّبها حاضراً ـ نستطيع أن نعتبرها كأسلحتها الخاصة بها، ونعتقد بأن الأسلحة تقوى أو تضعف بقدر ما تستطيع ـ قليلاً أو كثيراً ـ أن تتبع هذه الأحكام وأن تقاوم الانفعالات الحاضرة المناقضة لها. غير أن هناك فرقاً كبيراً بين القرارات المنبثقة من رأيٍ خاطئ، وتلك التي لا تستند إلا على معرفة الحقيقة، خصوصاً وأننا حين نتبع هذه الأخيرة فإننا نضمن ألا نأسف أو نندم على ذلك إطلاقاً، في حين أن الأسف والندم سيكونان مصيرنا لو اتبعنا الأولى، وذلك حين نكتشف خطأها.
المقالة الخمسون: في أنه ليس هناك من نفسٍ ضغيفة إلى درجة أنها لا تستطيع أن تكتسب سلطةً مطلقةً على الانفعالات لو تصرفت تصرفاً جيداً.
إنه لمن النافع هنا أن نعرّف ما كنا قلناه سابقاً، وهو أن كل حركة من حركات الغدة قد ربطتها الطبيعة، على ما يبدو، بكل واحدةٍ من أفكارنا، وذلك منذ بداية حياتنا، إلا أنه بالرغم من ذلك يمكننا ربط هذه الحركات بأفكار أخرى بفضل العادة، كما نرى في تجربة الكلمات، إذ إن هذه تثير لدى الغدة حركات لا تمثّل لدى النفس، حسب ما رسمته الطبيعة، سوى أصواتٍ حين يتفوّه بها لساننا، وأشكال حروف حين نكتبها، ومع ذلك فإن الكلمات بسبب العادة التي اكتسبناها في التفكير في ما تعنيه حين نسمع أصواتِها أو نرى أحرفَها تجعلنا في العادة نتصوّر معناها، وليس شكل أحرفها أو صوت مقاطعها.
إنه لمن النافع أيضاً أن نعرف أنّ حركات الغدة والأرواح الحيوانية والدماغ التي تمثل للنفس بعض الأغراض هي مرتبطةٌ بشكلٍ طبيعي بالحركات التي تثير لديها بعض الانفعالات، إلا أنها بالرغم من ذلك يمكن فصلها عن بعض، بفضل العادة، وربطها بأخرى مختلفة تماماً عنها. بل إن هذه العادة يمكن أن تكتسب بعمل واحد فقط ولا تتطلب تمرساً طويلاً، فمثلاً لو صادفنا بغتةً شيئاً قذراً جداً في طعامٍ نتناوله بشهية فإن مفاجأة هذه اللقاء تستطيع أن تغير استعداد الدماغ بطريقةٍ تجعلنا لا نعود نشاهد مثل هذا الطعام إلا وينتابنا الهلع، في حين كنا نأكله سابقاً بلذّة. هذا ويمكننا ملاحظة الشيء ذاته لدى الحيوانات، فبالرغم من أنها لا تملك أيّ عقل، وربما كانت لا تملك أيّ فكر (إن هذا التحفظ الذي يبديه ديكارت هنا يتناقض ولو ظاهرياً، مع نظريته التي تؤكد بأن الحيوانات ليست سوى آلات. (زيناتي)) فإن جميع حركات الأرواح والغدة التي تثير فينا الانفعالات موجودةٌ باستمرار لديها، وتستخدم في تغذية وتقوية لا الانفعالات كما هو الحال معنا، ولكن حركات الأعصاب والعضلات التي تصاحبها عادة. وهكذا فلو رأى كلبٌ طائرَ الحجل فإنه يميل بشكل طبيعي لأن يركض نحوه، وحين يسمع صوت إطلاق نار بندقية فمن الطبيعي أن يحثه هذا الصوت على الهرب، إلا أنّ الكلاب الزاحفة قد دربت بشكل يجعلها تتوقف حين ترى طائر الحجل، وتركض نحوه بعد ذلك، حين تسمع ضجيج طلقة النار التي أطلِقت في اتجاهه.
إن هذه الأشياء معرفتها نافعة كي تمد كل واحد منا بالشجاعة الكافية ليدرس كيف يضبط انفعالاته، فلما كنا نستطيع بقليل من المهارة والجهد أن نغير حركات الدماغ لدى الحيوانات المحرومة من العقل، فمن الوضح أننا نستطيع التغيير أكثر لدى البشر، وحتى أولئك الذين يملكون أضعف النفوس يستطيعون أن يكتسبوا سيطرةً مطلقةً تماماً على كل انفعالاتهم، لو بذلوا الجهد الكافي لترويضها وقيادتها.






ليست هناك تعليقات: