الخميس، 16 مايو 2019

النهضة كفعل تجاوز؛ محمد الحجيري.





النهضة كفعل تجاوز.
محمد الحجيري



في مقابلة حواريّة تلفزيونية يمكن القول إنها تعيد نقاش المسألة القديمة المتجددة عن سبب تقدم الغرب وتخلّف العرب. 
لفتتني عبارة تقول بأن الغرب حين أراد أن ينهض، حفر في تراثه اليوناني ليبنيَ عليه، أو ليستأنف نهضته انطلاقاً من ذلك التراث.
كلما يتم التطرق إلى هذا الموضوع أو إلى ما يرتبط به، أعود بالذاكرة إلى عقود خلت حيث كان أستاذنا جورج زيناتي يكرّر على أسماعنا القولَ بأن الحديث عن الأصول اليونانية للثقافة الغربية ما هو إلا كذبة كبيرة.
خلال تلك العقود كنت أرصد كل ما يتعلق بهذا الموضوع، وأجد بأن زيناتي كان على حق.
يتحدث مؤرّخو الحضارات عن نهضتين أو عن لحظتين نهضويتين في الغرب: الأولى تعود إلى القرن الثاني عشر والثانية تعود إلى القرن الخامس عشر والسادس عشر.
الأولى ارتبطت بالترجمة عن العربية، والثانية ترافقت مع الكثير من الأحداث التاريخية والاكتشافات العلمية والجغرافية.
حين ترجم الغرب عن العرب في القرن الثاني عشر، وهي في الواقع لحظة ازدهار الترجمة عن العربية التي (أي الترجمة) كانت قد بدأت قبل قرنين من الزمان، فقد ترجموا كل ما وجدوه لديهم، أو أهمَّ ما وجدوه، وليس فقط التراث اليوناني.
لقد أخذوا الأعداد الهندية وأسمَوْها "الأرقام العربية"، ومصدرُها هو كتاب "السدهنتا" أو "رسالة السند هند" كما أسماه العرب، وهو موسوعة رياضية وفلكيّة عظيمة.
لقد ترجم الغرب كتاب "السند هند" كما ترجموا كتاب "الأصول" لإقليدس، وكتاب "المجسطي" لبطليموس، وربما قبل هذا وذاك قاموا بترجمة كتاب "الجبر والمقابلة" للخوارزمي، ثم انتشرت بعد ذلك كلمة "جبر" في كل لغات العالم.
لقد ترجموا كتب أرسطو وشروحات ابن سينا عليها، ثم ترجموا بعد ذلك شروحات ابن رشد (الشارح الأكبر)، الذي كانت كتبُه تهرَّب إلى الغرب وتتم ترجمتُها، في الوقت الذي كانت تُجمع تلك الكتب وتحرق في الساحة العامة في قرطبة.
لقد ترجم الغرب كتاب "القانون في الطب" لابن سينا، واهتموا به أكثر مما اهتموا بكتب جالينوس أو أبقراط اليونانيَين، وتقول المراجع بأن كتاب "القانون" استمر مرجعاً طبياً في الجامعات الغربية (التي أنشئت في القرن الثاني عشر) لمدة تزيد عن سبعمائة سنة. أما أولى الترجمات في الطب فكانت ترجمة قسطنطين الإفريقي (1020ـ 1087م) للكثير من كتب الطب بما فيها كتاباً في طب العيون لحنَين بن إسحق. كما ترجموا ابن الهيثم وغيره من نتاجات العلماء في الحضارة العربية ـ الإسلامية، وهي علوم كانت مزدهرة أيّما ازدهار؛ بينما لم تزدهر هذه العلوم في بلاد اليونان، لأن اليونانيين كانوا يعطون أولوية اهتماماتهم للتأمل النظري، فازدهرت الفلسفة والرياضيات في ديارهم، رغم اهتمام أرسطو بالبيولوجيا وكانت له اهتمامات في الطبيعة، لكن تفسيراتِه كانت تنطلق من مسلماته أو فرضياته أو أفكاره الميتافيزيقية، فحركة أفلاك العالم السماوي دائرية لأن الدائرة أكمل الأشكال. بينما كانت علوم العرب تنطلق من المختبر، وهذا ما سيميّز العلوم في الغرب لاحقاً. لذلك نجد ثابت بن قرّة في القرن التاسع يقول بالمدارات الإهليلجية للكواكب، وهذا ما لم يتوصل إليه الغرب إلا في القرن السابع عشر مع كبلر في ألمانيا.
ـ النهضة الثانية في الغرب ابتدأت في القرن الخامس عشر، وارتبطت بالكثير من الأحداث. أهم ما يلفت الانتباه في محاولة تفسيرها هو زعم البعض بأنها ارتبطت بسقوط القسطنطينية بيد الأتراك عام 1453، وفرار العلماء منها إلى الغرب حاملين معهم علوم اليونان وفلسفاتهم. ما يلفت النظر في هذا الزعم هو البحث الإيديولوجي عن تأصيل لنهضتهم: البحث عن أصل "غربي" لتلك النهضة.
لقد أطلقوا على تلك النهضة، ولا أعلم متى أطلِقَت تلك التسمية عليها، لقد أطلقوا عليها اسم البعث أو الولادة الجديدة أو الإحياء الجديد: La renaissance.
تختصر هذه التسمية بشكل مضمَر أو معلَن الفرضية التالية: إن أصول الحضارة الغربية هي أصول يونانية، وإن ما يفصل تلك الأصول عن الإحياء الجديد أو الاستئناف على تلك الأصول هو حالة طارئة ومرحلية، حتى لو استمرت تلك المرحلة ألف عام اعتباراً من سيادة المسيحية كثقافة للعالم الغربي في القرن الرابع مع قسطنطين، أو استمرت لأكثر من أربعة قرون منذ بداية الترجمة عن الحضارة العربية.
المهم في الموضوع أن الغرب قد بدأ يشعر بهذه النهضة على كافة المستويات: فها هم ينجزون إجلاء العرب المسلمين من الديار الأسبانية في نفس العام الذي سـ"يكتشفون" فيه القارة الأميركية، أو "الهند" مع كولومبوس في العام 1492. سبق ذلك اختراعُ المطبعة، وتلا ذلك التمرّدُ على الكنيسة (لوثر في بداية القرن السادس عشر)، ثم التمرد على بطليموس وتالياً على تفسير النصوص المقدسة للعالم وذلك مع الثورة الكوبرنيكية في النصف الأول من القرن السادس عشر (توفي كوبرنيك عام 1543)، ثم التمرد على "المعلّم" الأكبر: أرسطو مع غاليليه وكبلر في القرن السابع عشر، ثم النصر النهائي عليه بالضربة القاضية مع نيوتن في القرن الثامن عشر.
يمكن القول هنا بأن ما يمكن أن يسمى الولادة الجديدة لم يكن على الإطلاق استئنافاً لما بدأه اليونان، بقدر ما كان تجاوزاً له. لقد بدأت فعلاً عملية التجاوز للمعلم الأكبر أرسطو مع كوبرنيك ثم مع كبلر وغاليليه، ثم مع نيوتن، وقبله حصل التجاوز والتمرد مع فرانسيس بيكون وديكارت الذي أظن بأن دعوته إلى الشك في كل مسلماتنا الماضية كانت تتناول بشكلٍ أساس الشك بالمسلمات الأرسطية.
ما يثير الاستغراب والتساؤل في هذا السياق هو أن الغرب الذي بدأ يضيق ذرعاً بأرسطو، سعى للّجوء إلى أفلاطون، وهو ما يسميه البعض بالردة الأفلاطونية. أنا أفترض بأن هذه العودة إلى أفلاطون ما هي إلا شكلٌ من أشكال إعلان التمرد على أرسطو، وليست عودةً حقيقية إلى أفلاطون، وربما لأن لبس ثوب أفلاطون الفضفاض الذي يسمح بالكثير من التأويل كان يناسب شكل النهضة التي تمظهرت في الفن في إيطاليا، تلك النهضة الفنية التي يناسبها أكثر التفلت من صرامة النسق الفكري النمطي لأرسطو، رغم أن أفلاطون كان يضع الفن في الدرجة الثالثة من حيث الأهمية: المثل أولاً، العالم المادي كمحاكاة لعالم المثل، ثم يأتي أخيراً الفن كمحاكاة للعالم المادي، وهذه مفارقة بحاجة إلى تفسير لم أعثر عليه بعد.
خلاصة القول، إن الغرب حين بدأ يشعر بأن الثوب (المعرفي) بدأ يضيق عليه، راح يبحث عما يتجاوز أنماطه المعرفية من معارف علمية وممارسات عقلية وجدها في المعارف عند العرب واليونانيين والهنود.
واخترع لتلك النهضة أصولاً يونانيةً نسبها إلى نفسه باعتباره ينتمي إلى تلك الأصول الثقافية، وذلك همٌّ أيديولوجي يقع فيه الجميع.
المهم في الموضوع، بعيداً عما تمثله اليونان للتاريخ الثقافي في الغرب، فإن "النهضة" صارت نهضةً بفضل التجاوز لما سبقها، وليس بفعل الاستئناف أو الاستمرارية أو الانتماء.
بالعودة إلى اليونان، فإن اليونانيين الذين (باستثناء تواصل ملحوظ مع إيطاليا) كانت وجهتهم طوال تاريخهم القديم نحو "الشرق". حروفهم أخذوها عن الفينيقيين الذين كانت تربطهم بهم علاقات التجارة والتواصل. (نذكر في هذا السياق بأن تلامذة المسيح حين فشلوا في نشر توجهاتهم في المجتمع اليهودي، فقد نجح بولس (شاوول) في نشر أفكاره في اليونان بالتحديد)، حروبهم كانت مع الشرق: مع بلاد فارس وتركيا (حرب طروادة)، فتوحات الإسكندر كانت نحو الشرق: مصر والعراق وبلاد فارس والهند. أوائل علمائهم وفلاسفتهم كانوا من الشرق (طاليس).
وكما فعل "الغرب" حين شعر أنه بحاجةٍ إلى النهوض، وحين شعر بأنه صار مؤهلاً لذلك النهوض، كذلك فعلت اليونان.
لقد بحث اليونان عن المعارف والعلوم الأكثر تطوراً في عصرهم، تعرّفوا عليها، والأهم من ذلك أنهم تجاوزوها بعد ذلك.
النهضة هي فعل تجاوز.
أخذ اليونان حروفهم عن الفينيقيين كما سبق القول. وأخذوا علومهم عن بلاد ما بين النهرين أولاً، وبالتحديد علم الفلك وربما الحساب.
من المعروف أن طاليس (القرن السابع ق.م) أول فلاسفة اليونان وأول علمائهم، حين تنبأ بالخسوف عام 529 ق م. فقد استند بذلك إلى جداول أخذها عن البابليين.
أما في الهندسة فقد يمموا شطر بلاد النيل، بدءاً من طاليس نفسه الذي درس الهندسة عن المصريين ثم توصل إلى طريقة لقياس ارتفاع الهرم لم يتوصل إليها المصريون أنفسهم؛ إلى فيثاعور، إلى أفلاطون الذي يخصص الكثير من صفحات آخر كتبه وهو كتاب "القوانين" للتعبير عن إعجابه الشديد بالحضارة المصرية وبمركزية النظام فيها وبالموسيقى والأهمية التي أولاها المصريون لها، لدرجة أنهم لم يكونوا يسمحون بسماع العامة لموسيقى معيّنة إلا بعد أن يستمع إليها نخبةٌ من القوم ويوافقون على انتشارها لما للموسيقى من دور في تربية الذوق العام.
أهمية اليونان كانت في تجاوز ما تعرفوا عليه: عندهم بدأت الفلسفة والعلوم، لأن ذلك يعود بحسب المؤرخين إلى أن هذه المعارف قد أصبحت مجردة ومستقلة عن الحاجات العملية كما كانت في مصر وبابل.
كل هذه المعطيات تعزّز الرأي القائل بـ "شرقية" اليونان، وتعزز القول بأن "النهضة" هي فعل تجاوز.
ما كانت "معجزةٌ" في اليونان لو بقُوا تلامذةً للمصريين.
وما كانت "نهضة" في الغرب لو بقي الغربيون تلامذة العرب أو تلامذة اليونانيين.
وتالياً، ما كان للعرب (أو لغيرهم) أن يصنع نهضته لو بقي تلميذاً لتاريخه أو لتاريخ سواه.
والسؤال الذي يمكن أن يُطرح هنا: ما حاجة العرب اليوم إلى تراثهم؟ أو أي شيء من تراثهم يمكن أن يكونوا بحاجة إليه؟ وأتحدث هنا عن أنماط التفكير أولاً ولا أقصد الحديث عن المعتقدات الدينية، فذاك أمر بحاجة إلى تأمل مستقل، فيه تقاطعات مع هذا الموضوع وفيه خصوصيات أو تمايزات.
أظن أن الكثير من ذلك التراث لم يعد مهماً إلا كتاريخ، أما الذي ما زال صالحاً منه في هذا العصر، فيجدر الاطلاع عليه كما الاطلاع على غيره أينما كان، بقصد الفهم والتجاوز.. ومن لم يجد في نفسه حاجة إلى التجاوز سيبقى طوال عمره تلميذاً. أكان فرداً أم شعوباً.


(محمد الحجيري؛ 16/5/2019)

ليست هناك تعليقات: