الاثنين، 8 أبريل 2019

نهاية الميتافيزيقا؛ (عن كتاب: "تاريخ الفلسفة الغربية"؛ كريستيان دولاكامبانيْ؛ ترجمة حسن أحجيج



نهاية الميتافيزيقا:

عن كتاب "تاريخ الفلسفة الغربية" لـ كريستيان دولاكامنانيْ. ترجمة حسن أحجيج.

كان هوسرل وراسل قبل العام 1914 يحلمان بإقحام الفلسفة في "الطريق الآمنة للعلم". لكنّ هذا الحلم تلاشى بعد الحرب العالمية الأولى (فتغنشتاين). وترك مكانه لعقيدة جديدة: نهاية الفلسفة، أو على الأقل في "صورتها" الكلاسيكية.
هل ينبغي تعويضها بشيءٍ آخر؟ بماذا؟ هل بشكل فكري "أعمق"، "فكر الكينونة" (هايدغر)؟ أم بمشروع ثوري متجذّر هو ذاته في "تصور للعالم" واسع جداً (لينين)؟
تلقّى السؤال نفسه في النمسا في نهاية العشرينيات إجابةً أكثر حذراً وأكثر "إيجابية". إذ يرى العلماء الذين ينتسبون إلى دائرة فيينا الشهيرة أن على مجموع العلوم الموجودة، رياضية وتجريبية، أن تحل محل الميتافيزيقا وأن تطرح بلغةٍ خاصةٍ بها الأسئلة التي لن تستطيع الميتافيزيقا الإجابة عنها أبداّ ما دامت عاجزةً عن أن تصبح علماً.
أُطلِق على هذه الحركة اسم "الوضعية الجديدة"، على الرغم من أنها لا تقيم مع فكر أوغست كوت علاقات مباشرة وقوية؛ وأُطلِق عليها كذلك اسم "الوضعية المنطقية" أو اسم "التجريبية المنطقية". إن هذه الحركة، التي ارتبطت بها أسماء موريتس شليك ورودولف كارناب وهانس هان وأوتو نويرات، لا تشكل مدرسة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وعلى الرغم من نشر بيان جماعي (1929)، كان تنوعٌ كبير في الآراء يسود بين أتباع الدائرة، بل وبين الأئمة الثلاثة أو الأربعة الأساسيين.
لكن هناك سمتين عامتين يشترك فيهما كل أعضاء الجماعة. الأولى تتمثل في اهتمامهم بالمنطق. والثانية تتجسد في نزعتهم التجريبية الجذرية.
كان أعضاء دائرة فيينا أعداء ألدّاء للمثالية الألمانية، وخصوصاً لهيغل، وكانوا يحلمون، مثل لايبنتز وبولزانو، بلغةٍ كونية يكفي المرءَ أن يترجم فيها مسألةً محددة حتى يجد لها إجابةً نهائية أو يبرهن على أن الأمر يتعلق بقضية زائفة. ولمّا كانوا مقتنعين بأن تلك اللغة لا يمكن أن تكون غير لغة العلم الوضعي، خاضعةً للتحليل على ضوء المنطق الحديث، فإنهم انضموا إلى منظور "المنعطف اللغوي" في الفلسفة الذي دشنه فريجه ومور وراسل، مانحين ذلك المنظور في الوقت نفسه دلالة أشدّ مناهضة للميتافيزيقا من تلك التي منحها له سابقوهم. فضلاً عن ذلك، فإن وضعياً جديداً، هو غوستاف بيرغمان، هو من سيفرض عبارة "المنعطف اللغوي" (1935) التي شاعت انطلاقاً من عام 1967 بفضل عنوان شهير لمجموعةٍ من النصوص "التحليلية" التي أشرف على جمعها ريتشارد رورتي. (120)
ومن جهةٍ أخرى، ابتعد أعضاء دائرة فيينا عن كانط بفضل نزعتهم التجريبية المعلنة، على الرغم من أنهم استعادوا، بشكلٍ مغاير، المشروع الكانطي المتمثل في إقامة العلم على قاعدةٍ يقينية؛ وأدى بهم ذلك إلى الاقتراب من هيوم، وخصوصاً من تيار فكري.. وهو النزعة المنطقية التجريبية لدى ماغ، والتي ظهرت، كأعمال بولزانو، في قلي الأمبراطورية النمساوية ـ الهنغارية.
إن ماخ هو معلِّم الموضعيين الجدد بلا منازع. وقد درَّس الفيزياء التجريبية مدة ثمانية وعشرين عاماً في جامعة شارل بمدينة براغ، قبل أن يقبل شغل كرسي الفلسفة في جامعة فيينا (1895). وقد أطلق على ذلك الكرسي اسم "كرسي تاريخ ونظرية العلوم الاستقرائية". وسيحتفظ بذلك المنصب إلى أن يجبره المرض على التخلي عن التدريس (1901). كان ماخ يعادي كل ميتافيزيقا لأنه كان يناصر نوعاً من "المذهب الحسي" الراديكالي. فهو لا يرى في الموضوعات التي تتحدث عنها العلوم إلا تجريدات يبنيها العالِم انطلاقاً من مركّبات من الانطباعات الحسّية. زد على ذلك أنها تجريدات خطيرة ما دامت مهمة العالِم تتمثل حسب ماخ في وصف العالَم وليس في الطموح إلى تفسيره، وما دام العلم في رأيه ليس أكثر من "فينومينولوجيا". (121)
يرفض ماخ، الوفي لهذا المنطق، مدلول السببية الذي يقترح استبداله بمدلول العلاقة الوظيفية بين متغيرات. كذلك يرفض فكرتي المكان والزمان المطلقين كما تصورهما نيوتن وكانط، مهيّئاً الأرضية لتدميرها لاحقاً على يد أينشتاين. ورفض عموماً كل منطوق له معنى واضح يمكن أن يكون متضمناً حدوداً لا يمكن إلصاق أي دلالة تجريبية بها؛ لكنه يرفض أيضاً سجن نفسه في التعارض التقليدي بين المثالية والمادية. إن "نزعته الحسّية" تنتمي بالمقابل إلى الأطروحات التي يدافع عنها وليام جيمس، الذي زار براغ سنة 1882 قصد لقاء ماخ، واستلهم المذهب الذي سانده راسل عام 1914 تحت اسم المذهب الواحدي "المحايد"، وكذا فلسفة كارناب الأولى التي يتضمنها كتابه "البناء" (1928).
بما أن "المذهب الحسي" يمكّن من اعتبار مجموع مفاهيم العلوم التجريبية جميعها وكأنها متحدّرة من المصدر نفسه، فإنها تقرر أيضاً أطروحة وحدة العلم التي ستشبث بها الوضعيون الجدد المنشغلون بوضع "علوم الروح" كامتداد مباشر لعلوم الطبيعة. إن ما يدين به الوضعيون الجدد لأرنست ماخ كثير جداً، حتى وإن كنا لا نجد لديهم إيمانه الراسخ بالأصل الفيزيولوجي للقوانين المنطقية،وهو إيمان تعرّض سابقاً للنقد على يد هوسرل. (122)
.. وضع موريتس شليك (1882ـ 1946) كتابين هما "المكان والزمان في الفيزياء المعاصرة" (1917)، الذي طوّر المقتضيات الفلسفية لنظرية النسبية، و"النظرية العامة للمعرفة" (1918) الذي استعاد نقد بولزانو مدلولَ الحكم التركيبي القبلي. فهذه الأحكام لا يمكن أن توجد طالما لا تقاطُع بين القضايا المنطقية ـ الفلسفية من جهة، التي تُعدّ قضايا تحليلية قبلية، والقضايا التركيبية للعلوم التجريبية من جهة أخرى. وهذا ما يقصي في الوقت نفسه إمكانية وجود منطوقات ميتافيزيقية خالصة. (123)
.. لقد أراد [كارناب] أن ينفّذ بشكلٍ جيد المشروع الذي لم يكن راسل يتصوره أكثر من مجرد إمكانية، أي "اشتقاق تفسيرنا العلمي للعالم الفيزيقي من التجربة الحسية، وبواسطة بناء منطقي"، على حد تعبير كواين. وبعبارة أخرى، إن المسلّمة الفلسفية لمثل هذا الاشتقاق تطابق "المذهب الحسي" عند ماخ (أو تطابق "النزعة الفينومينولوجية" عند راسل)، بينما ترجع أدته الصورية إلى كتاب "مبادئ الرياضيات". وبقي لكارناب فضل الشجاعة. فقد كان يحتاج إلى كثير منها حتى يعبّر عن رغبته في أن يعيد، حسب قواعد بسيطة، بناء مجموع موضوعات العالم التي يمكن أن تتحول إلى موضوعات علمية، ذلك بهدف توحيد صرح المعرفة.
أعلن كارناب في مقدمة الطبعة الأولى لكتاب "البناء" أنّ مشروعه هو كفاح من أجل الوضوح، وبالتالي دفاع عن الأنوار ضد الفلسفات "اللاعقلانية" التي عادت مؤخراً لتصبح موضة العصر، ويقصد بها الوجودية الهايدغرية من جهة، وميتافيزيقا الحدْس البرغسونية من جهة أخرى. ويعتقد كارناب أن اللاعقلانية ستنهزم ما دامت تمثّل قوى الماضي.(125)
يوضح كارناب منذ بداية الكتاب، من خلال تحليله معرفتَنا لأبسط الموضوعات الفيزيقية، أن إعادة بناء هذه الأخيرة ممكنة انطلاقاً من "عناصر أساسية" مرتّبة في ما بينها تبعاً لقواعدَ محدَّدة بـ "علاقات أساسية". وحسب مذهب ماخ، فإن العناصر الأساسية" هي الخصائص المحسوسة ("هذا الأحمر") التي تؤثر في ذتيتنا عندما ندرك موضوعاً ما، وهي التجارب الشاملة والآنية التي يطلق عليها كارناب عبارة "التجارب المعيشة الأولية". إن قاعدة الهرم، المكوَّنة من الانطباعات الحسية، هي قاعدة "نفسية ذاتية".
أما في ما يتعلق بالعلاقة الأساسية، فقد فضّل كارناب إسناد تلك المهمة إلى ما أُطلِق عليه علاقة "التشابه التذكاري" أو "ذكرى التشابه" التي تستطيع أن تقيم بين المعيشات الأولية روابط بنيوية. ويضاف إلى تلك العلاقة اللغة الصورية للمنطق الحديث.
هكذا سيفرض تصميم كتاب "البناء" نفسه حتماً. إذ يعيد كارناب في البداية بناء الموضوعات "النفسية الذاتية" (التي تمثل الذاتية)، وبعد ذلك الموضوعات الفيزيقية الناتجة من التركيب المنطقي للمعطيات الملموسة، وكل ذلك انطلاقاً من المنطوقات الأولية التي تشمل محتوى تجاربنا الحسية. وتأتي في المرحلة الثالثة الموضوعات "النفسية الغيرية" (الأشخاص الآخرون، أي العالم التذاوتي)، وفي المرحلة الرابعة الموضوعات الثقافية (الأخرقية، الجمالية، السياسية، إلخ..).
إلا أن الطبقات العليا للهرم لا تكاد تكون ملخّصة في الممارسة [؟]. فأصعب ما يمكن القيام به بالفعل هو بناء القاعدة، أي مجموع الموضوعات النفسية الذاتية. وهذا هو السبب الذي جعل كارناب يكرّس مجمل جهوده في كتاب "البناء" لتوضيح أن بالإمكان تحديد بعض الخصائص، كالألوان، بطريقة منطقية خالصة انطلاقاً من العناصر المتوافرة في البداية فقط.
هل نجح في ذلك؟ إن الانتقادات المتعددة التي وجهت في السنوات اللاحقة إلى ماولته تسمح لنا بأن نشك في نجاحه. علاوةً على ذلك، فإن إمكانية إراء حمولة ثقيلة ومعقّدة كهذه فوق قاعدة حسية تماماً، حتى لا نقول أناواحدية مطلقة، بدت منذ البداية من أكثر الإمكانيات ضعفاً.
لكن المهم هو أن كتاب كارناب أعطى سنة 1928 أعضاء دائرة فيينا الانطباع بأن برنامج عمل واسع انفتح أمامهم، وأن ذلك البرنامج سيمكّن من القضاء على القضايا التي كانت تستند إليها الميتافيزيقا، ذلك بتوضيحها توضيحاً نهائياً؛ مثلاً كقضايا طبيعة الواقع أو حدود معرفتنا للعالم.
تولّد في السنة التالية 1929 عن الحماسة التي استحوذت على الوضعيين المناطقة نصٌ جماعي أصبح منذئذٍ مرجعاً للجميع، وهو بيان دائرة فيينا.
هذا النص المعروف أيضاً باسم "الكراسة الصفراء"، بسبب لون غلافه، لا يحمل اسم مؤلف معيّن، بل إن مقدمته تحمل توقيع هاهن ونويرات وكارناب فقط. وقد أهدى هؤلاء الكرّاسةَ إلى موريتس شليك، الذ كان غائباً في تلك اللحظة، إذ كان يقدم محاضرات في كاليفورنيا، كتعبيرٍ عن شكرهم له على أنه فضّل البقاء في فيينا، رافضاً الكرسي الذي عُر~ض عليه في بون. ومكّنت هذه الذريعة المرلفين من عرض الخطوط العريضة لمفهومهم للعالم، بل إن العنوان الحقيقي للكرّاسة هو "المفهوم العلمي للعالم: دائرة فيينا". (126)
لكن هذه المبادرة لم تكن هي الأولى في هذا المجال، فقد سبق لماخ، بمعيّة أينشتاين وفرويد وهيلبرت، أو وقعوا عام 1911 نصاً يدعو إلى تأسيس جمعية لنشر الفلسفة "الوضعية". إلا أن هذا البيان الأول، الذي بقي يتيماً، لم تشر إليه "الكراسة الصفراء" التي تشبث أصحابها بتوضيح أن برنامجهم هو عملٌ جديد تماماً.
يُستهَل البرنامج بإثبات لم يكن للينين أن ينكره: هناك صراع بين الميتافيزيقا، التي يقرّبها المؤلفون من اللاهوت، من جهة، وبين روح الأنوار من جهة أخرى. وقد ذُكِر باقتضاب من بين المدافعين عن الأنوار كل من راسل، وايتهد، جيمس والماركسيين. قُدِّمت فيينا بعد ذلك كمكان ملائم لبزوغ مفهوم علمي جديد للعالم. ومن بين الأسباب التي أدت إلى هذا الاختيار هناك إرث بولزانو (الذي نشر له هاهن سنة 1920 "مفارقات في اللانهائي")، والتأثير الذي مارسه ماخ، وأخيراً إحياء بعض أبعاد الفكر الماركسي على يد "الماركسيين النمساويين"، أدلر وباور. هكذا إذاً تجد العلوم الاجتماعية نفسها منذ البداية كامتداد للعلوم الطبيعية. أما في ما يخص مؤلفيّ الكرّاسة، فإنهم يعدّون أنفسهم كجماعة توحّها حول شليك إرادةُ القضاء على الميتافيزيقا، لكنها جماعة ترغب أيضاً في ألا تفصل بين القضايا العلمية والقضايا العملية. ذلك أن "الجهود المبذولة لإعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وتوحيد البشرية، وتجديد المدرسة والتربية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمفهوم العلمي للعالم".
يستهل المؤلفون المقطع الثاني بالمطالبة بأسلوب نظري قريب من الجمالية التي أرساها في المرحلة نفسها كل من أنصار دار البناء، وأنصار النزعة البنائية (تاتلين) وأنصار النزعة التشكيلية الجديدة (موندريان): "إن الصفاء والوضوح هما الهدف، أما الأماكن البعيدة المظلمة والأعماق التي يتعذر سبرها فإنها مرفوضة؛ إذ لا وجود في العلم لـ "الأعماق"، كل شيء سطحي. (127)
فالمفهوم العلمي للعالم الذي يرفض "الألغاز المتعذر حلها" لا يؤمن سوى بفضائل "التوضيح"، بمعنى التحليل المنطقي. إن اللجوء إلى هذا المنطق هو ما يميّز "التجريبية الجديدة" أو "الوضعية الجديدة" عن سابقتيها اللتين كان لهما توجه بيولوجي أكثر مما هو سيكولوجي.
عندما يؤكد أحدٌ مثلاً أن "الله موجود"، فإن الوضعية المنطقية لا تجيبه: "ما تقوله خاطئ"، بل تسأله: "ماذا تعني بهذا المنطوق؟". هنا يظهر بالفعل خط فاصل واضح بين نمطين من الجمل: جُمل العلم التي يمكن إرجاعها بواسطة التحليل إلى منطوقات تتعلق بمعطى تجريبي، وجُمل الميتافيزيقا واللاهوت والشعر التي لا تصف أيّ معطى، وبالتالي لا تكون "على نحوٍ ما سوى التعبير عن شعور بالحياة". كذلك ينبغي التمييز هنا بين الشعر، الشكل الأفضل ملاءمة للتعبير عن مثل ذلك الشعور، والميتافزيقا التي ليس لها في آخر الأمر لا قيمةٌ علميةٌ ولا المزايا الشعرية الواقعية.
كيف يمكن في هذه الظروف تفسير النجاح التاريخي الذي حققته الميتافيزيقا؟ يفترض مؤلِّفو "الكرّاسة الصفراء" أن ذلك يُعدّ قضية، فيحاولون توضيحها باللجوء إلى التحليل النفسي الفرويدي ونظرية "البنية الفوقية الأيديولوجية" (أي الماركسية)، ولكن أيضاً غلى مسالك منطقية. أليست "الهذيانات" التي يسقط فيها الميتافيزيقيون ناتجة من تبعيتهم القوية جداً للصورة المنطقية للغايات الطبيعية، أو من الطريقة التي يرفعون بها من قيمة قدرات الفكر "الخالص"؟ هكذا دينت نظرية التركيب القبلي الكانطية والمفهوم البرغسوني حول الحدْس كأعلى شكل للمعرفة. لذا يتعيّن القيام بعمل جبار بعيداً عن تلك "الهذيانات": توضيح وحدة العلم ن خلال تبيان كيف يمكن بناء مفاهيم العلم انطلاقاً من تجاربنا الحسية فقط. هكذا نلاحظ أن هذا البرنامج ليس سوى برنامج كتاب "البناء".
يعرض المقطع الثالث ويُصَنِّف إلى مجالاتٍ أهمَّ المشكلات "المنحدرة من مختلف الفروع العلمية" التي يأمل أعضاء الدائرة أن يتخذوا موقفاً بشأنها. فقد تبنَّوْا بخصوص القضايا الرياضية مثلاً موقفاً لمصلحة الأطروحة التي دافع عنها فتغنشتاين والقائلة بأن تلك القضايا مجرد تحصيلات حاصل.
يشير المقطع الرابع والأخير إلى أن هذه المواقف الفلسفية التي اتُّخِذت في مجال العلوم لا تمثل أبداً طريقة مقنعة لبعث الفلسفة من رمادها. ومهما يكن اللفظ (128) الذي يشار به إلى أبحاث الدائرة، فإنها لا تهدف إلى إعادة خلق نوع من الفلسفة يُدرَك "كعلم أساسي وكوني، بجانب أو فوق مختلف مجالات علم التجربة الذي يُعدّ العلم الوحيد". إن العلوم، خلافاً لما يؤكده هوسرل، تكفي ذاتها بذاتها. فهي لا تحتاج إلى أن تبرَّر ولا أن يُحكَم عليها، وإنما إلى أن "توضَّح" فقط، ويمكن توضيحها من الداخل بواسطة منهج التحليل المنطقي. وبذلك ينتهي المفهوم العلمي للعالم إلى فلسفة داخلية خاصة بالممارسة العلمية نفسها، وليس إلى "فلسفةٍ للعلوم" ستطمح إلى الإشراف على تلك الممارسة.
وختاماً، يُذكِّر المؤلفون بالبُعد الاجتماعي والسياسي لمقاصدهم. إذ إنهم يقدمون أنفسهم، خلافاً لأنصار الميتافيزيقا الذين يدافعون غالباً عن نظام اجتماعي زائل، كأنصار مذهبٍ تجريبي تقتسمه، حسب رأيهم، "الجماهير"، ويتماشى مع "نوعٍ من الموقف المناصر للاشتراكية". فالمفهوم العلمي للعالم يمكن أن يعبّر عن نفسه في جميع مجالات الحياة الخاصة والعامة التي يطمح إلى تنظيمها تنظيماً عقلانياً. وبعبارة أخرى، إن ذلك المفهوم "يخدم الحياةَ والحياةُ تحتضنه".
لكن سرعان ما نُسِيت "الكرّاسة الصفراء" التي وزِّعت على نطاق واسع لمناسبة انعقاد مؤتمر بمدينة براغ في شهر سبتمبر من عام 1929. ويرجع النسيان الذي تعرّضت له أولاً إلى أنها تعلن انتماءها إلى تأويل معيّن لكتاب "رسالة في المنطق والفلسفة" يرفضه فتغنشتاين نفسه، وثانياً إلى أن الأطروحات التي تدافع عنها لم تحقق إجماع أعضاء الدائرة. فهذا موريتس شليك مثلاً، الذي حظي بتكريم الكرّاسة إثر عودته من أميركا، أعلن عدم اتفاقه على نبرتها الجذرية؛ وستحتد التوترات بينه وبين نويرات في السنوات اللاحقة.
فظلاً عن ذلك، سيستمر نشاط الدائرة إلى سنة 1936. إذ ستُصدر الجماعة سنة 1930 مجلة "المعارف" التي سيديرها كل من كارناب ورايشنباخ. وستنشر المجلة أعمال العديد من العلماء والفلاسفة المقرّبين من الدائرة، أمثال تارسكل ومناطقة مدرسة فرصوفيا. (129)
 وستنشر بالخصوص في عددها الثاني (1931ـ 1932) نصاً مثيراً وقّعه هذه المرّة كارناب وحده، ويمكن عدّه البيان الثاني للدائرة. (130)
***
يحمل ذلك النص عنوان "تجاوز الميتافيزيقا بالتحليل المنطقي للغة"، وهو نصّ ضد هايدغري يمثّل إعلان حرب على الميتافيزيقا برمتها.
ليست الروح التي استلهمها جديدةً بالتأكيد. فقد سبق لبعض الفلاسفة أمثال بولزانو وبرينتانو وبيرس وماخ (من دون العودة إلى هوبس وباركلي) أن دانوا استعمال الميتافيزيقيين كلماتٍ خاليةً من الدلالة وغير سليمة وخادعة. كذلك فقد قرأ فتغنشتاين الفيلسوفَ ماخ وعمّق وجهات نظره بإضافة نعت "خالية من المعنى" إلى "معظم الافتراضات والقضايا" التي خلّفها التقليد الفلسفي ("الرسالة"، 4.003).
وقد سبق موريتس شليك زميلَه كارناب في نشر مقال يحمل عنوان "المعيش، المعرفة، الميتافيزيقا" (1926) ينتهي بإثبات أن هذه الأخيرة عندما تطمح إلى معرفة معنى متعال، فإنها تكون ببساطة مستحيلة لأن موضوعها يشمل تناقضاً من حيث الحدود. يقول شليك: "إذا لم يكن الميتافيزيقي يطمح إلا إلى المعيش، فيمكن للشعر أو الفن أو الحياة نفسها أن يستجيبوا له [..] لكنه عندما يريد أن يعيش تجربة المتعالي، فإنه يخلط بين العيش والمعرفة، وبالتالي يسقط في هذا التناقض المزدوج ويطارد الظلال الجوفاء". عندما تستحضر النصوص الميتافيزيقية المتعالي، فإنها تستطيع في أحسن الأحوال إغناء الحياة، وليس المعرفة. لذلك "ينبغي منحها قيمة أعمالٍ فنّية، وليس قيمة حقائق. إن أنساق الميتافيزيقيين تتضمن أحياناً علماً، وأحياناً شعراً؛ لكنها لا تتضمن ميتافيزيقا أبداً". (130)
وأخيراً، فإن ضرورة "تجاوز" نزاعات الميتافيزيقيين ظلت تشغل بال كارناب منذ زمن بعيد. فقد تحمس في شبابه لاختراع لغة إيسبيرانتو esperanti سنة 1887 (وهي لغة ابتكرها في نهاية القرن التاسع عشر لودفيك ليزر زامينهوف بهدف تسهيل التواصل بين أشخاص يتحدثون لغات مختلفة. وقد نشر زامينوف مشروعه سنة 1887 تحت عنوان "اللغة الدولية" باسم مستعار هو "الدكتور إيسبيرانتو"، بمعنى "الدكتور الذي يأمل". وهي اللغة التي شجعت بيانو على اختراع لغة لاتينو سيني فليكسيوني (1903) وكوتيرا على اختراع لغة إيدو، أي تحمس للحلم اللايبنتسي المتمثل في إرساء لغة كونية تمكن الجميع أخيراً من استخدام الكلمات بالمعنى نفسه، وهو حلم سلمي لن يستمر بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى إلا في الأوساط الفوضوية والبلدان التي تمجد الأممية البروليتارية. كذلك انتهى إلى اعتبار لغة العلم الموحَّدة، متأثراً بفريجه وراسل، التحقق الأكمل لذلك الحلم. إن كتاب "البناء"، الذي يعدّ أول محاولة تارخية لإعادة بناء كل معارفنا في هذه الإيسبيرانتو العلمية، وضع بذلك نهاية للميتافيزيقا: فما دامت هذه الأخيرة لا تقبل إعادة البناء على أساس تجريبي خالص، فإنها لا تستطيع إلا الميل إلى جهة "ما لا معنى له".
وقد فصّل كارناب الحديث عن هذه النقطة في كتيّب معاصر لكتاب "البناء" يحمل عنوان "أشباه القضايا في الفلسفة" (1928). إذ اعتمد فيه على الفينومينولوجيا التي كان يدافع عنها في تلك المرحلة، ووضّح على سبيل المثال كيف أن الخلاف بين الواقعية والمثالية، وهما موقفان لم يحكم لفائدة أيٍ منهما، لا يقوم إلا "أشباه منطوقات"، أي على منطوقات لا نستطيع إثباتها ولا دحضها انطلاقاً من معيشنا التجريبي وحده. يقول كارناب إن هذا الخلاف نفسه "شبه قضية"، وهي عبارةٌ تُرَدِّد فيها كلمةُ "شبه" صدى النقد الذي وجّهه كانط إلى "المظاهر" المتعالية للعقل.
أي جديد إذاً يحمله نصّ سنة 1931؟ إنه بالأساس صياغة للبراهين المنطقية التي باسمها يتم تجريد مجموع القضايا الميتافيزيقية من أهليتها. يبدأ كارناب نصَّه بتسليط الضوء على استعماله عبارة "خالية من المعنى". يوجد بالفعل نوعان من القضايا "الخالية من المعنى": القضايا التي تتضمن أخطاءً واضحةً ضد نحو اللغة، والتي تمثّل خطراً بسيطاً نظراً إلى أنه يسهل التعرّف إلها؛ وأشد القضايا خطراً التي تمثل انتظاماتٍ لكلمات سليمةٍ نحوياً، لكنها تخفي عيوباً منطقية.
هذه العيوب نفسها نوعان: عيوب دلالية وعيوب نظمية. يتمثل العيب الدلالي في إدخال حدٍّ في منطوق بدون مرجع تجريبي. فالكلمة، يقول كارناب، "لا تحمل دلالةً إلا إذا كان من الممكن اختزال المنطوقات التي تظهر فيها إلى منطوقات رسمية"، أي إلى منطوقات أولية مكلَّفة بالتعبير عن تجاربنا الحسية التي تعدّ أساس كتاب البناء. وبعبارة أخرى، تتحدد دلالة لفظ ما كلها "بالعلاقات الاستنباطية لمنطوقها الأولي، وبشروط حقيقتها، وبمنهجها في التحقق". هذه الأطروحة التي استشفّها بيرس وأنغلز، والتي عُرفت باسم "مبدأ قابلية التحقق"، سبقى وأن وجِدت في كتاب "رسالة في المنطق والفلسفة". لكنّ كارناب يقترح تطبيقها على النحو التالي: إذا أدرج أحد الميتافيزيقيين كلمة "شِقْنِي" وقال بوجود أشياء "شقنية" وأشياء غير "شقنية"، فيتعيّن علينا أن نطلب منه أن يقول لنا المعيار التجريبي لتلك الإثباتات. وإذا لم يقدم المعيار المطلوب، يجب رفض كلمة "شقني". ويضيف كارناب أن كثيراً من الألفاظ الميتافيزيقية تنتمي إلى حالة كلمة "شقني" نفسها: "الله"، "الفكرة"، "الأنا"، "المطلق"، "اللاوجود"ن "الشيء في ذاته".. وإن المنطوقات التي تندرج فيها تلك الألفاظ لا معنى لها. إنها أشباه منطوقات.
إن العيب النظمي أدق من سابقه. فهو يختفي في القضايا التي يكون لألفاظها معنى عندما يتم تناول كل واحدة منها على حدة، لكنها تكون متجاوزة بطريقة تخلّ بالتركيب المنطقي حتى وإن كانت تبدو سليمة من الناحية النحوية. والمنطوق التالي مثال جيد على هذا النوع من اللحن (الغلط في النحو): "قيصر عدد أوّلي"؛ إنه منطوق يثبت علاقة هوية بين أسماءٍ تنتمي إلى مقولات منطقية لا رباط بينها [لنسجل أن عكس هذا المنطوق سيكون صحيحاً بالنسبة إلى مفكر أفلاطوني مثل فريجه. (هامش)]. إن مثل تلك العبارات سيكون من المستحيل بناؤها في لغةٍ مثالية يكون نحوها مطابقاً للقواعد المنطقية، لكن نحو لغاتنا الطبيعية يكشف للأسف عن عجزه في الاستجابة لتكونها. وهذا هو سبب انتشارها في الخطابات الميتافيزيقية. (132)
ينبغي هنا تقديم مثال فلسفي. لذا يستعيره كارناب من عمل المفكر الذي كان آنذاك (1931) يمثل الموضة في ألمانيا: هايدغر، وخصوصاً في المحاضرة الافتتاحية التي ألقاها في فريبورغ عام 1928: "ما هي الميتافيزيقا؟. من السهل الإمساك في ذلك النص باستعمالات قابلة للاعتراض لكلمة "عدم"، عندما نفترض عند اللزوم أن لتلك الكلمة دلالة منطقية (أي دلالة قضية وجود سلبية)، فإننا لا نعرف بالمقابل كيف نجعل منها اسم موضوع مثلما هو الحال في المنطوقات الهايدغرية: "وماذا عن العدم؟"، أو "القلق يكشف عن العدم". كذلك لا يمكن قبول شبه قضية من نوع: "العدمُ نفسه يُعدِم". فضلاً عن ذلك، فكما أن هايدغر لا ينزعج من التأكيد أن لا يمكن طرح مسألة العدم "ذات الأولوية" بكل مداها إن لم نتخلَّ عن المنطق المشترك، أشار كارناب إلى أن مثل هذه الميتافيزيقا لها على الأقل الجرأة على احتقار كل طريقة علمية في التفكير.
صحيح أن تلك الجرأة يمكنها أن تؤدي بالقارئ إلى أن يمنح هايدغر فرصته. وماذا لو تمّ هنا، بعيداً عن العلم، ابتكار طريقة جديدة في التفكير؟ لا يثق كارناب لحظة بجدية هذا الافتراض. فهو لا يتحمل كثيراً من عناء الهجوم على بعض الميتافيزيقيين "الأشد" من هايدغر. فاللغة الهايدغرية لغةٌ أنموذجية بالنسبة إلى الميتافيزيقا الكلاسيكية، تبدو من الوهلة الأولى خالية برمتها من المعنى. ههنا بالتأكيد تعميم متسرع. لكنّ كارناب يبعد الاعتراض بتقديم برهانين. فمن جهة، لا يمكن الميتافيزيقا إلا أن تكون خاليةً من المعنى ما دامت تعبر عن نفسها بلغات طبيعية تتميز بنياتًها النحوية بالقصور المنطقي. ومن جهة أخرى، فإن الميتافيزيقيين جميعاً "متهمون" بالسعي عن قصد إلى هدف متناقض: "تقديم معرفة ليس للعلم التجريبي أي تأثير فيها".
وفي ختام هذه الإدانة الصريحة، يظل هناك سؤالان قائمان. الأول يهم مستقبل الفلسفة: ماذا سيكون حال هذه الأخيرة عندما يدرك الناس ضرورة "تجاوز" الميتافيزيقا؟ والغريب هو أن هذا السؤال هو ما طرحه هايدغر في محاضرة 1928. فقد دعا بطريقته إلى "تجاوز" الميتافيزيقا في اتجاه فكر أكثر "صدقاً"، "فكر الوجود". لكنّ الطريقة التي يفهم بها التجاوز تتمثل في إعادة تحيين سؤالٍ فلسفي قديم جداً، أي في الاحتفاظ، على الأقل جزئياً، بما ينبغي تجاوزه. وهذا ما يجعل موقف كارناب مختلفاً جداً. إن "التجاوز" بالنسبة إليه يعني: الرفض، الإقصاء بلا قيد ولا شرط. فالميتافيزيقا لا مستقبل لها. لقد انتهت، بكل معاني الكلمة. وفي ما يخص بديلها، أي منهج التحليل المنطقي الذي يمارسه كارناب نفسه، فإنه ليس نظرية فلسفية جديدة. إنه منهج علمي، ويمكن أن يُطلق عليه "التركيب المنطقي للغة العلم". المهم هو أن يعتقد الجميع أنه لم يعد يوجد بينها وبين العلم منذئذ أي اختلاف في الطبيعة.
السؤال الثاني: إذا كانت الميتافيزيقا مجرد متن من القضايا الخاطئة، كيف انخدعت بها كل هذه العقول المتميّزة؟ تتمثل إجابة كارناب، كإجابة شليك عام 1926، في رفض الميتافيزيقا من جهة الفن الذي تعطي عنه "بديلاً" بخس الثمن. إن دورها، الشبيه بدور الفن، يتجسد في تقديم شكل لـ "إحساس الحياة". لكنها للأسف لا تنجح في القيام بهذا الدور في غالب الأحيان إلا بطريقة "رديئة"، ولا سيما إذا قورنت إنجازاتُها بروائع الموسيقى والشعر. لذلك جاءت خلاصة كارناب قاسية: ليس الميتافيزيقيون في العمق سوى "موسيقيين بدون موهبة موسيقية".
أصاب ذلك النص التدميري على الفور نجاحاً أوروبياً. ففي سنة 1932، نشرت المجلة السوفياتية تحت لواء الماركسية تقريراً عنه، كان تقريراً نقدياً إزاء المقاربة الكارنابية التي عدّها "صورية" للغاية. وتُرجِم إلى الفرنسية عام 1934. وكرس هايدغر جهده في السنوات اللاحقة لدحض أطروحاته. إذ كتب بين 1936 و1946 ملاحظات حملت عنوان "تجاوز الميتافيزيقا"، لم يذكر فيها اسم كارناب أبداً، لكنه انتقد فيها الاختزال الوضعي المزدوج للفلسفة إلى نظرية للمعرفة واختزال هذه الأخيرة إلى نزعة تجريبية منطقية، ليستخلص: إذا كانت الميتافيزيقا، أو الفلسفة عموماً، قد انتهت بالفعل، فإن نهايتها لا تعني مطلقاً "نهاية الفكر".
أخيراً، يمكن تصور رد فعل فتغنشتاين. فمنذ أن عاد هذا الأخير ليستفر في كامبردج (1929)، لم يفتأ يبتعد عن دائرة فيينا. فالحوارات التي أجراها مع شليك وقايسمان بين ديسمبر 1929 ويوليو 1932 توضح أنه لم يعد يتبنى "مبدأ قابلية التحقق" بدون تحفظ، وهو المبدأ الذي نسب الوضعيون الجدد أبوته إليه. كذلك توضح أنه كفّ عن الاعتقاد بإمكانية تبديد المشكلات الفلسفية بتعديل "صورتها المنطقية". وبعد سنة 1932، على إثر إعلانه معارضته "النزعة العلمية" لكارناب، لم تعد له أي لقاءات مع أعضاء الدائرة. علاوة على ذلك، فإن هؤلاء لم يكونوا متفقين جميعاً مع كارناب، كما سيُظهر ذلك تطور النقاشات الجديدة داخل الدائرة في النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي. (135)
***
كان كتاب "البناء" حبيس نارين. فقد عدّ نويرات قاعدته "الفينومينولوجية، المنحدرة من "المذهب الحسي" لماخ وشليك، قليلة الصلابة واقترح استبدالها بقاعدة "فيزياوية". لكنّ هذا الاستبدال يفترض، من جهته، نوعاً من "النزعة الإصلاحية" التي استهجنها شليك.
اندلع الهجوم، الذي سيحتد على صفحات "المعارف"، العامين 1931 ـ 1932 عندما هاجم نويرات في مقال يحمل عنوان "علم الاجتماع في المذهب الفيزيقي"، الفكرة التي يمكن بمقتضاها بسهولة تمييز "المنطوقات البروتوكولية" عن باقي المنطوقات العلمية. إذ يصرّح نويرات بالفعل أن مقارنة بعض المنطوقات إلا بمنطوقات أخرى غير ممكنة، وليس بالواقع نفسه. فالنظرية العلمية لا تقوم على تجارب معيشة، وإنما على مجموعةٍ محددة من "الاتفاقات اللغوية". يمكن إذاً، حسب هذه الأطروحة التي استعادها بيار دوهيم، استبدال تلك الاتفاقات اللغوية التي تشكل أساس كتاب "البناء" باتفاقات "فيزياوية" أكثر ملاءمة للفكرة الرائجة القائلة بأن وجود موضوعات واقعية، مستقلة عن إدراكنا يمكن، أن يشكل أساس العلم التجريبي.
اعترف كارناب جزئياً بصحة تلك الملاحظات، وعقّب عليها بواسطة نصّين، "لغة المذهب الفيزيقي كلغة كونية للعلم"، و"علم النفس في لغة المذهب الفيزيقي". فقد أعلن تخليه عن استنباط المنطوقات البروتوكولية من التجارب الأولية، لكنه دافع مع ذلك عن الفكرة القائلة بأنه يمكن ربط تلك بهذه بواسطة إجراء "إثبات" أكثر حرية من "مبدأ قابلية التحقق" الذي طالب كتاب البناء بتطبيقه.
لم تكن هذه الأفكار كافيةً في رأي نويرات، لذلك انبرى للرد فوراً في مقال حول "المنطوقات البروتوكولية"، وصف فيه هذه الأخيرة بـ "الأوهام الميتافيزيقية"، ودان إغراء الأنا واحدية الذي يتستر، حسب رأيه، خلف الإيمان بإمكانات تلك المنطوقات.
انهزمن كارناب، أو اقتنع، وانتهى به الأمر إلى الاعتراف، في نصٍ أخير "حول المنطوقات البروتوكولية"، بأن إذا كان افتراض مثل تلك المنطوقات يعدّ وسيلة ملائمة للتذكير بأن على العلم عموماً أن يرتكز على معطيات للملاحظة، فإنه يمكن مع ذلك استبدالها بمنطوقات من نوع آخر بدون مساس كبير بالجوهر. هكذا قرر التخلي عن "الفينومينولوجيا" لمصلحة "المذهب الفيزيقي"، وعن "المذهب الحسي" الماخي لمصلحة "نزعة اصطلاحية" دوهامية. وباختصار، تخلى عن تصور يميز الحقيقة بمطابقتها للواقع لمصلحة نظرية تعدّ الحقيقة كامنة في التماسك الداخلي للمنطوقات في ما بينها.
يرى شليك أن هذا الانحراف نحو ما يعدّه شكلاً من النسبية انحراف خطير. هل يجب قبول أي خرافة تحت ذريعة أن تماسكها الداخلي لا تشوبه شائبة؟ كارناب ليس على استعداد للموافقة على ذلك، لكنه أيضاً لم يقرر العودة إلى الوراء، كما يشهد على ذلك آخر كتبه التي نُشرت في فيينا، "التركيب المنطقي للغة" (1923).
هذا العمل الذي يتسم بتعقيد فريد، يحاول أن يحقق الجزء الإيجابي من البرنامج الذي يوجد ملخّص له في "تجاوز الميتافيزيقا". فبعد إقصاء هذه الأخيرة، وبعد التخلص من كلمة "فلسفة" نفسها، كما كان يرغب في ذلك نويرات، سينبغي بناء "منطق العلم" المخصص لتعويض الفلسفة. وبما أن ذلك المنطق ليس شيئاً آخر غير تركيب اللغة العلمية، فإن الأمر يتعلق إذاً ببناء ذلك التركيب مع البقاء في الوقت نفسه داخل لغة العلم، أو إن شئنا بالتصرف كما لو أن قضايا التركيب، كقضايا المنطق نفسه، قضايا تحليلية. هذا على الأقل هو الطموح الذي حدده المؤلف في بداية الكتاب.
نكتشف، مروراً، أن تحقيق ذلك الطموح يثير مشكلات صعبة. ولحلها، استلهم كارناب في آن واحد "الرياضيات الواصفة" [جزء من المنطق يتمثل موضوعه الرئيسي في نظرية أسس الرياضيات (هامش)] التي أسسها هيلبرت للبرهنة على الطبيعة غير المتناقضة للرياضيات، واستلهم "المنطق الواصف" [تخصص معرفي موضوعه هو خصائص نظرية منطقية معينة ويهدف إلى ضمان صياغتها الصورية وصياغة مسلّماتها. (هامش)] الذي وضعه ألفريد تارسكي (1902ـ 1983) للبرهنة على سمة عدم التناقض التي تميز المنطق. كذلك استلهم بعضَ أعمال غودل حول إضفاء طابع الحساب على التركيب الحسابي. وهي استراتيجية قادته منذ البداية إلى الابتعاد ضمنياً، عن المذهب المنطقي الذي كان يدافع عنه أستاذه فريجه.
وأخيراً، ظهر كارناب بعد أن قطع مساراً ملغوماً بالفخاخ مكرَهاً على الاعتراف بأن تحليلية التركيب كمثل أعلى تعترضها بعض الحدود: بالنسبة إلى كل لغة س، لا يمكن صياغة التركيب س في س إلا إذا كان معجم س غنياً بما يكفي للسماح بذلك. وباختصار، إن الصياغة الصورية "تتطلب متوالية لا نهائية من اللغات التي تظل غنية جداً".
هذه النتيجة الأخيرة التي لم تكن كارثيرة بالنسبة إلى المنطق نفسه ساهمت، كما ساهمت نظريات غودل قبل ثلاث سنوات، في إثبات أنه يتعذر تحقيق جزء من أولى طموحات برنامج المذهب المنطقي. وكان من مفاعيل تلك النتيجة أن قادت كارناب إلى "التحرير" التدريجي لأكثر أبعاد المذهب الوضعي جذرية أو التخلي عنه ("قابلية الإثبات والدلالة"، 1936)؛ وقادته بموازاة ذلك إلى إتمام تركيب اللغة العلمية بواسطة علم للدلالة يتطور تدريجياً، لكنه يقل وفاء للمثَل الأعلى الفريجي المتمثل في قابلية المنطق للتمديد ("مدخل إلى علم الدلالة"، 1942؛ "الدلالة والضرورة"، 1947). هذا التطور لين يلاحظه تلامذته الأميركيون، ابتداء بكواين، بدون إبداء تحفظات قوية. (137)
***
كارل بوبر:
وفي غضون ذلك، وجد كارناب نفسه معرَّضاً لهجومٍ جديد، وهذه المرة من قِبل فيلسوف نمساوي شاب شبه مجهول، هو كارل بوبر (1902ـ 1994)
لم يكن بوبر عضواً في دائرة فيينا ولم يكن يساهم في اجتماعات مساء الخميس. وُلِد في فيينا، وأصبح منذ عام 1929 أستاذاً للرياضيات والفيزياء في مؤسسة للتعليم الثانوي، لكنه كان يتابع في الجامعة دروس الرياضيات التي كان يلقيها هانس هاهن. كذلك التقى نويرات في أحد الاجتماعات الاشتراكية. وكان يجري لقاءاتٍ وديةً مع كارناب وأعضاء آخرين من الدائرة الذين كان يقرأ لهم كتاباتِهم باستمرار. لكنه حتى وإن كان مفتوناً بالقضايا المتعلقة بـ "منطق العلم"، فلا أطروحات كارناب ولا أطروحات فتغنشتاين استطاعت أن تقنعه. لقد أعلن بوبر أنه كانطي النزعة ومناصرٌ لنوع من الواقعية التامة، وكان منشغلاً بـ "الأشياء" أكثر من انشغاله بـ "الكلمات"؛ لذلك رفض "المذهب الاصطلاحي" لنويرات و"المذهب الحسي" لماخ، اللذين لم يكن يرى فيهما سوى شكلين مختلفين للأناواحدية الأساسية نفسها.
لم تكن الميتافيزيقا بالنسبة إليه تشكل علماً، لكنها لم تكن مع ذلك خالية من الدلالة. فبدلاً من رفضها كلياً، يعتقد أن من الأفضل محاولة البرهنة عليها "قطعةً قطعة". فهو لم يثق مع ذلك بـ "مبدأ قابلية التحقق" الذي بدا له عبثياً مرتين. أولاً، نظراً إلى وجود علوم أكيدة كالميكانيكا الكوانطية، التي تواجه العناصر المتناهية الصغر، لا يمكن أن يطبَّق عليها. ثانياً، نظراً إلى أن هذا المبدأ يقوم على الفكرة القائلة بأن النظريات العلمية تؤسَّس انطلاقاً من تراكم تكراري لملاحظات متطابقة، أي يقوم على مفهوم استقرائي للاكتشاف، وهو مفهوم انتقده هيوم سابقاً بشدّة.
خلافاً للوضعيين الجدد، لا يعتقد بوبر أن مجموعة من الملاحظات يمكن أن تمنح المصداقية قانوناً كونيّاً، على افتراض أن العلم لامتناهٍ في المكان والزمان: فمهما تكن هذه المجموعة من الملاحظات كبيرة، فإنها ستظل دوماً محدودة. لذا فإن ما ينزع إلى البرهنة علىمصداقية قانونٍ ما، ليس عملية ذات طبيعة استقرائية، وإنما هو عدم التوصل إلى إنتاج مثال تكذيبي له على الرغم من القيام بمحاولات منظّمة في سبيل ذلك. إن للتجربة دوراً تقوم به بالفعل، لكن هذا الدور يتمثل في إقصاء الفرضيات السيئة بـ "تكذيبها"،  وليس في "إثبات" الفرضيات الصحيحة، لذلك يقترح بوبر استبدال "مبدأ قابلية التحقق" بـ "مبدأ قابلية التكذيب" الذي سيمكّن، من بين أشياءَ أخرى، من إعادة التوفيق بين المفهوم الوضعي الجديد للعلم وما ظل يطلق عليه الواقع "الموضوعي".
عرض كارل بوبر هذه الأطروحات في كتابه الأول، "منطق الاكتشاف العلمي"، الذي ظهر في فيينا أواخر سنة 1934، ضمن سلسلة كان يديرها شليك وفرانك (خبر ثانوي لكنه طريف). وفي السنة التالية، هاجم نويرات الكتاب في مجلة "المعارف" بينما دافع عنه كارناب. ربما كان كارناب يهدف من ذلك إلى أن يجعل من بوبر حليقاً، لكنه سرعان ما سيتخلى عن ذلك الأمل.
كان بوبر مصراً على الاحتفاظ باستقلاله. فمن جهة، لم تكن له النية في أن يبدو أكثر تساهلاً مع "مبدأ قابلية الإثبات" منه مع "مبدأ قابلية التحقق"، لأنهما يقومان معاً على الإيمان نفسه، الخاطئ حسب رأيه، بقدرات الاستقراء؛ وهو الإيمان الذي لن يتخلى عنه كارناب، كما توضح ذلك أعمالُه اللاحقة حول منطق الاحتمالات.
ومن جهة أخرى، نعت بوبر بالطوباوية طموحَ كتاب "التركيب المنطقي للغة" (أي إقحام التركب اللغوي في العالم)، وعموماً كل محاولة تهدف إلى إعادة بناء مجموع العلم الموحد في لغةٍ مصطنعة. أولاً، نظراً إلى أنه ظهر له أن نظريات غودل إذا كانت تثبت أن مثل تلك اللغة إن وُجِدت، فإنها لن تستطيع الاستجابة لحاجيات علم الحساب الأولي. ثانياً، نظراً إلى أنه بمجرد ما تعرّف بوبر إلى الترجمة الألمانية لأعمال تارسكي حول اشتغال الدلالة، رأى فيها الدليل النهائي على استحالة ترجمة كل اللغة الواصفة التي تعبّر عن منطق هذه الأخيرة إلى لغةٍ معطاة. وسيذهب بوبر إلى حد تهنئة تارسكي بأنه أعاد الاعتبار (في مقاله حول "مفهوم الحقيقة في اللغات المقعّدة" عام 1931) إلى التعريف الكلاسيكي للحقيقة كـ "مطابقة" بين منطوقاتنا والواقع.
سيدقق بوبر في الاختلافات التي يتعذر تبديدها بينه وبين كارناب في مقال 1955 (نشِر عام 1964) "الحدّ الفاصل بين العلم والميتافيزيقا". وانتهى به الأمر بعد عشرين عاماً، في سيرته الذاتية "البحث غير المكتمل" (1974)، إلى تقديم نفسه على أنه "القاتل" الحقيقي للوضعية المنطقية، التي كشف كتابُه لعام 1934 نقاط ضعفها الأساسية بطريقة دقيقة.
يوجد ولا شك في تلك الرؤية الارتجاعية قسط من المغالاة. فالوضعية الجديدة دخلت في أواسط الثلاثينيات مرحةً صعبة، حتى وإن لم تكن تلك الصعوبات ترتبط بالاختلافات القائمة بين أعضاء الدائرة فقط، ولا بهجومات بوبر، وإنما بقساوات الزمن.
كان أعضاء دائرة فيينا، الملحدون واليساريون وأحياناً اليهود، يمثّلون الهدف المفضل لهجومات تتزايد عنفاً في النمسا نهاية العشرينيات التي كانت تنمو فيها قوى اليمين المتطرّف.
لذلك اختار أحد هؤلاء، هو هيربرت فايغل، الإقامة في الولايات المتحدة منذ سنة 1931، وانتقل كارناب وشليك في السنة نفسها إلى براغ بدون أن يقطعا صلتهما بأصدقائهما، وجاءت انتخابات 1932 لتسجل تقدم النازيين في النمسا. وفي سنة 1933، أمسك هتلر بزمام السلطة في ألمانيا. وبعد ذلك بأسابيع، عمد المستشار النمساوي، دولفوس، إلى توقيف العمل بالبرلمان وأقام نظاماً فاشستياً. كذلك مُنع الحزب الشيوعي، وصدرت مذكرة اعتقال بحق نويرات سنة 1934: السنة التي توفي فيها هاهن. ولحسن حظه، كان في رحلة سفر إلى موسكو، لذلك بدلاً من العودة إلى النمسا، التحق بهولندا التي انتقل منها إلى إنكلترا.
وحلّت المأساة عام 1936. ذلك أن في 22 يونيو من السنة نفسها، اغتيل موريتس شليك على يد تلميذٍ مختل من تلامذته بعد أن أطلق عليه النار في درج جامعة فيينا. فاستغلت الصحافة الرجعية الحدث لتشير إلى أنه لم يكن لأفكار الفيلسوف إلا أن تكتب له ذلك المصير. لقد أصبح إذاً من الصعب على من يريد التفكير بحرية أن يتنفس داخل ذلك الجو النمساوي، وكثيرون هم أولئك الذين كانوا يستشعرون خطر حدوث حرب قادمة في أوروبا.
عُدَّت إذاً تلك السنة (1936) سنة الرحيل الكبير. فقد غادر كارناب مدينة براغ للإقامة في الولايات المتحدة التي سينتهي فيها مساره المهني. وسرعان ما لحق به كل من رايشنباخ وهيميل وغودل وتارسكي وبيرغمان وفرانك. وفي بداية عام 1937، اتخذ بوبر، ذو الأبوين اليهوديين اللذين اعتنقا البروتستانتية، سبيل المنفى، إذ أمضى فترة الحرب في نيوزيلندا قبل أن يقيم نهائياً في إنكلترا التي حصل فيها على منصب في معهد لندن للعلوم الاقتصادية بفضل دعم من صديقه عالِم الاقتصاد فريديرش فون هيك. وقرر فريديريش فايسمان الرحيل إلى أوكسفورد بعد بضعة شهور على رحيل بوبر. لذلك لم يكن أيّ عضوٍ من أعضاء دائرة فيينا موجوداً في النمسا في الوقت الذي اجتاحها هتلر (1938).
لكن إذا ماتت الدائرة، ضحية تناقضاتها الداخلية وصدمات التاريخ، فإن روح الوضعية المنطقية ظلت حية. إذ ستجعلها الحرب تنتقل إلى البلدان الناطقة بالإنكليزية، وستظل تمارس فيها تأثيراً كبيراً إلى اليوم. (141)

ليست هناك تعليقات: