الجمعة، 5 أبريل 2019

أوغست كونت؛ وليم كلي رايت؛ ترجمة محمود سيد أحمد.



أوغست كونت
عن كتاب "تاريخ الفلسفة الحديثة" لـ وليم كلي رايت؛ ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة إمام عبد الفتاح إمام.
الصادر عن دار التنوير. الطبعة الأولى عام 2010.

وليم كلي رايت:
 ولد عام 1877، وتوفيَ عام 1956.
له أربعة كتب: ـ المغزى الأخلاقي للشعور (1907). ـ فلسفة الدين للطالب. (1922). ـ مقدمة عامة في فلسفة الأخلاق (1929). ـ تاريخ الفلسفة الحديثة (1941).
(إمام عبد الفتاح إمام؛ ص 16).

كوندياك: هيمنت فلسفة كوندياك على الفكر العام أثناء الثورة [الفرنسية] (ص 390)
فكتور كوزان (1792ـ 1867): هو قائد تربوي عظيم، هو أكثر فلاسفة تلك الفترة شعبية وتأثيراً. لقد كان معلماً له تأثيره وكاتباً ممتعاً. وأدخل دراسة تاريخ الفلسفة إلى المقررات الثانوية في فرنسا، وقام بنشر ما ظلّ لمدة طويلة النشرة النموذجية لأعمال ديكارت، وترجم أفلاطون. وحاول أن يربط مناهج لوك، وريد، وكانط بطريقة "انتقائية" تحافظ على المزايا وتتغلب على نقائص كل منهج من تلك المناهج. ويدين في ميتافيزيقاه أيضاً لأفلاطون، وأفلوطين، وديكارت، وشلينج، وهيغل. وقد حاول بأمانة، في واقع الأمر، أن يستخرج ما هو ذا قيمة عند كل فيلسوف قبله وأن يصل إلى وجهة نظر مركبة. وكانت النتيجة هي وحدة وجود مثالية، أعمق من فلاسفة القرن الثامن عشر، وهي بوجه عام تأملية واقل مغالاة من مثالية مدارس ألمانيا التي جاءت بعد كانط. وترجمت محاضراته في "الصاجق، والجميل، والخير" إلى اللغة الإنجليزية وقرأها الناس في أنحاء واسعة لمدة طويلة. وكانت فلسفته فلسفةً بنّاءة، شرحها بصورة بلاغية. وأصبح فكره أكثر رصانة كلما تقدم في السن، وكان يتناسب تماماً مع احتياجات العصور. وأبقى هو وأتباعه ـ أعني أنصار المدرسة الانتقائية ـ على حلٍ وسط عملي بين روح عصر التنوير ورد الفعل المحافظ والكهنوتي، متجنبين ما في كل منهما من مغالاة ومبالغة. (391)
سان سيمون (1760ـ 1825):
 كلود هنري روفروي، أو كونت دي سان سيمون، هو أكثر المصلحين الاجتماعيين أصالة في تلك الفترة. وحاول سان سيمون (كما كان يطلق عليه باستمرار) بوصفه المحارب القديم في الثورتين الأميركية ووالفرنسية أن يحرر دائرة معارف جديدة تؤدي للقررن التاسع عشر ما كانت ترديه دائرة معارف "ديدرو" للقرن الثامن عشر، غير أنها تفي بالغرض بصورة أكبر.
لقد كان يرغب في تنظيم جديد للمجتمع تتحسن فيه ظروف الطبقات العامة الذهنية والاقتصادية. ولكي يتم ذلك، لا بد أن تكون هناك ألوان من التقدم في العلوم، التي يجب أن تصبح إيجابية [وضعيّة] في الطابع وتنظم في فلسفة إيجابية [وضعية]. ولا بد أن ينظم المجتمع من جديد تحت قيادة قوة زمنية وقوة روحية، تتميز كل منهما عن الأخرى، كما كان الحال في فترة العصور الوسطى. ولا بد أن تنتقل القوة الزمنية من النبلاء والعسكريين إل أيدي الصنّاع والمنتجين، في حين إن القوة الروحية يجب أن تخص العلماء والفنانين. ويجب على جميع الناس أن يعملوا، أي يجب ألا يكون هناك عاطلون. ولا بد أن توجد مسيحية جديدة، لا تهتم بالإعداد لحياة مستقبلية، بل تهتم بالتحسين الفيزيائي والأخلاقي للطبقات المتواضعة في هذا العالم. ولقد نجح هذا الرجل النبيل المتحمّس، الذي خسر ثروته، لكنه استمر في الإيمان بحلول نظام اجتماعي أفضل، في جذب كثير من الطلاب في مدرسة الهندسة. وكان من بينهم "أوغست كونت"، الذي أوحى له "سان سيمون"، في أول الأمر، بمعظم أفكاره المهمة في صورة غير تامة. ومن بين الفلاسفة الكلاسيكيين الذين تأثر بهم "كونت" و "بيكون"، الذي، ربما، وجه نظره إلى الاستقراء، وديكارت الذي وجه نظره إلى الاعتماد على المناهج الرياضية والتنظيم النسقي للتفكير، ورجال عصر النهضة الفرنسيين، الذين وجهوا نظره إلى حماسه للتقدم، وهيوم الذي وجه نظره إلى مذهبه الوضعي. (392)

أوغست كونت (1798ـ 1857)
كان أوغست كونت الابن الأكبر لموظف صغير يعمل في مكتب تحصيل الضرائب في "مونبلييه"، وكن ملكياً وكاثوليكياً ورعاً. وتفوّق أوغست على كل الطلاب الآخرين في المدرسة الثانوية المحلية، وكان الأول على كل الولاية في امتحان مسابقة للالتحاق بمدرسة الهندسة في باريس عندما كان في سن الخامسة عشرة، وكان صغيراً في السن حتى إنه لم يُسمَح له بالالتحاق بها حتى بلغ سن السادسة عشرة.. (392)
.. انتهزت السلطات ـ التي اعتبرت مدرسة الهندسة مكاناً للعصيان الجمهوري ـ الفرصة لكي تحافظ على النظام وتطرد المخالفين. وبذلك فَقَدَ كونت، عندما كان في سن الثامنة عشرة، الفرصة لكي يحصل على تعليم عن طريق مساعدة عامة..
تتلمذ كونت على يد "سان سيمون" لمدة ست سنوات، وساهم في ما ينشره ببعض المقالات، وكان يعول نفسه عن طريق التدريس الخصوصي، ويحضر المحاضرات التي يستطيع حضورها، ويعلّم نفسه بقدر كبير عن طريق القراءة الخاصة في الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، والبيولوجيا، وفلسفة "سان سيمون" وزملائه الاجتماعية. ونشر سان سيمون، في عام 1824 كتابه "مرشد سياسي للعمال"، الذي تضمن مقالاً كتبه كونت ولم يوافق عليه سيمون تماماً. فافترقا بعد ذلك. وأرسل كونت نسخاً من ذلك المقال ـ وكان بعنوان "خطة للعمل العلمي الضروري لتنظيم المجتمع من جديد" ـ إلى المفكرين المشهورين في ذلك الوقت.. وأصبح كونت مشهوراً في الحال. (393)
كتب كونت ونشر بين عاميّ 1830 و1842 عمله الرئيسي "الفلسفة الوضعية" (دروس في الفلسفة الوضعية)، في ستة مجلدات. استنبط مضامين كل مجلد في نزهات منعزلة، وألقاها في محاضرات عامة بدون ملاحظات، ثم كتبها على عجل كبير. وأخرج في عمل قصير، وهو "دروس في الروح الوضعية" في صورة أكثر شعبية مجمل فلسفته في ذلك الوقت؛ وغالباً ما يوصى بهذا الكتاب بوصفه أفضل الكتب بالنسبة للمبتدئين.
وبعد أن حُرِم من شغل منصب الأستاذية في مدرسة الهندسة، على الرغم من مؤهلاته المتألقة، أعال نفسه عن طريق وظائف مؤقتة؛ فقد عمل مدرساً في مدرسة الهندسة، وفي معهد "لافل"، وانتقل بضعة شهور كل عام في المقاطعات بوصفه مدرساً خصوصياً وممتحناً في مدرسة الهندسة، ويعطي توصيات لتلاميذ خصوصيين. وقدّم فلسفته الوضعية الخاصة في محاضرات عامة جعلته مشهوراً، غير أنه لم يأخذ أجراً مالياً. ومن سوء حظه أنه خالف موظفي مدرسة الهندسة بأن قلّل إلى حدٍ ما من شأن الرياضيات في مجلد من مجلدات كتابه "دروس في الفلسفة الوضعية"، فكانت نتيجة ذلك أن نضبت موارد دخله في الحال. فجاء "ليتري" معجب فرنسي، وجون ستيوارت مل، متعاطف إنجليزي، لإنقاذه، وجمعا أمولاً كل سنة لإعالته، تتراوح بين 120 إلى 300 جنيه استرليني. وقد مكّن ذلك كونت من أن يكرّس كل وقته بعد 1848 لدراساته الفلسفية.
تعرّف كونت، في عام 1844، على السيدة "كلوتيلد دي فو" وكانت زوجة مختلسٍ وكانت جميلة وصغيرة في السن، وقد اختفى ذلك المختلس من فرنسا لكي ينجو من جريمة مالية. وكان الطلاق امراً مستحيلاً بالنسبة لكونت أو كلوتيلد بسبب قوانين ذلك العصر، ولذلك لم يتمكنا من الزواج. وبينما قدرت كلوتيلد كونت بوصفه صديقاً، لم تحبه، وكانت امرأة فاضلة لم ترتبط معه بأية علاقة غير مشروعة على الإطلاق. وكان لها اهتمامات فكرية وبعض المواهب الأدبية، وكتبت رواية وبعض قصائد الشعر القصيرة نُشِرت قبل وفاتها بمرض السل وذلك في ربيع عام 1846. وكان كونت مخلصاً لها أثناء حياتها، وحافظ على ذكراها طوال حياته. وكان يقضي كل صباح ومساء وقتاً منتظماً في مناجاة خيالية معها، كان يعتبرها ضرباً من الصلاة. كان يزور قبرها كل أسبوع. وتغيرت رؤيته الفلسفية بصورة ملفتة للنظر بعد ذلك. فقد اعتقد الآن أن ديناً جديداً لا بد أن يوجد لكي يحافظ على قيم المذهب الكاثوليكي بدون مبادئه الدينية. ويجب على الإنسان أن يعبد البشرية من حيث إنها بديل لله؛ أي يجب عليه أن يتأمل البشرية عن طريق صورة المرأة التي كانت تعني الكثير بالنسبة له في حياته أمام عقله، في مكان "مريم العذراء". ولا يمكن أن تكون الفلسفة عقلية تماماً، إذ يجب أن نتأملها بالحب، والوجدان، والإخلاص. وأصبح ذلك الموقف المتغير ظاهراً في كتابه الرئيسي الثاني "السياسة الوضعية"، الذي ظهر في أربعة مجلدات بين عاميّ 1851 و 1854. ولم يحب كثيرٌ من مؤيديه تلك التجديدات الدينية، على الرغم من أنها لم تكن، بوجه عام، غير متسقة مع فلسفته السابقة، بل كانت تكملة لها.
وأصبح أوغست كونت، الذي كان يعيش في هدوء في شقة متواضعة، وتقوم حارسة المنزل "صوفي بلو" بخدمته بإخلاص، وكذلك زوجها "مارتن توماس" بعد زواجه، نقول أصبح قائداً لمجموعة صغيرة، ولكنها جادة، من الأتباع ـ وهم وضعيون ـ تطلعوا إلى انتشار الفلسفة الجديدة التي ستنظم المجتمع، وتصبح دين البشرية. وتم الحفاظ على شقة كونت بإخلاص عندما تركها حينما توفيّ، ولا يزال الوضعيون يقومون بزيارتها. (395)
المذهب الوضعي وقانون المراحل الثلاث:
كان كونت يطمح في حياته إلى تنظيم المجتمع من جديد بطريقة تكون ذات فائدة مستمرة بالنسبة لجميع طبقات الشعب، وتكفل السلام الكلّي بين الأمم، وتمنع الصراعات الاقتصادية داخل كل أمة.
.. يتفق كونت مع هيوم في القول بأنه يستحيل بالنسبة لنا أن نكتشف العلل أو الجواهر الأصلية. لأننا لا نستطيع أن نلاحظ سوى الوقائع التي تتجلى لحواسنا. (395)
علم الاجتماع:
يرى كونت.. بصورة أكثر وضوحاً مما رأى هيوم أن العلم يمكن أن يخبرنا عن أشياءَ كثيرة، فهو يمكن أن يخبرنا عما يحدث، ويمكن أن يصوغ قوانين تمكّننا من التنبؤ بما سيحدث. وعندما نعرف تلك القوانين، نستطيع أن نخطط للمستقبل، ونستطيع في بعض الحالات أن نغيّر مجرى الأحداث، ونتحكّم بصورة فعالة في حالاتٍ حولنا، ونخطط لمجتمع أفضل. وفي مقابل المذهب الشكي الذي يوجه الانتباه إلى ما لا نستطيع أن نعرفه، يأمرنا المذهب الوضعي بأن نجمع كل المعرفة التي تكون متاحةً لنا بالفعل، ونستخدمها من أجل تقدم البشرية. إن العقبات الأساسية للإصلاحات الاجتماعية هي: أولاً: لم تصل كل العلوم إلى أساس وضعي كامل. وثانياً: لا بد من ابتكار علم جديد، أسماه كونت في البداية "الفيزياء الاجتماعية"، ثم أسماه بعد ذلك "علم الاجتماع"، وهي كلمة من صكه الخاص.
قانون المراحل الثلاث:
من المعتقدات الأساسية عند كونت "قانون المراحل الثلاث"؛ المرحلة اللاهوتية، والمرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية.
في المرحلة الأولى من تلك المراحل، مال الناس الذين كانوا على وعي بقوة إرادتهم الخاصة إلى أن ينسبوا كل الأحداث الموجودة حولهم إلى إرادات لكائنات فعالة تشبههم بصورة كبيرة أو قليلة. وبدأت تلك لعملية بما يطلق عليه كونت "الفتشية" (وهي كلمة برتغالية الأصل، تعني التعويذة أو التميمة أو الحجاب، والمقصود ـ بصفة عامة ـ ضرب من العبادة الخرافية..) والتسمية الأكثر شيوعاً الآن هي المذهب الحيوي: أي افتراض أن كل شيءٍ حيّ، ويفعل وفقاً لإرادته الخاصة، ولا بد من استرضاء تلك الأرواح القوية. والخطوة الثانية في تطور المرحلة اللاهوتية هي "تعدد الآلهة" التي تُنسَب فيها الإرادة المسيطرة الموجودة في كل مجال من الطبيعة، مثل السماء والبحر أو الأرض، إلى إله مفرد. والخطوة الثالثة والأخيرة هي أن كل تلك الآلهة تُجمع في إله واحد، يسيطر على كل الأشياء، وذلك هو "مذهب التوحيد". وكانت المرحلة اللاهوتية تسود بين البدائيين، ولا يزال استمرارها عند القدماء والعصور الوسطى مهيمناً بصورة كبيرة. ومع ذلك، حتى الشعوب الأكثر بدائية ربما لا تكون تماماً في المرحلة اللاهوتية؛ لأنهم نظروا إلى بعض الأحداث على أنها تتبع أحداثاً أخرى بطريقة طبيعية دون تدخل أرواح، وهم، إلى هذا الحد، في المرحلة الميتافيزيقية أو المرحلة الوضعية. وعلى أية حال، تسود المرحلة اللاهوتية، في الغالب، بين الشعوب البدائية في صورة "الفتشية"، ثم حل محلها بالتدرج "مذهب تعدد الآلهة" في الحضارات المبكرة؛ ثم أفسحت المجال "لمذهب التوحيد" بتركيز السلطة في الأمبراطور الروماني، وتحت حكم البابا في العصور الوسطى. وكانت الحكومة السياسية في تلك المرحلة من التفكير هي حكومة الملكيات المطلقة؛ وكانت الحرب مستمرة. ويعتقد كونت أن هناك،  تقريباً، تلازماً بين التنظيم السياسي والاجتماعي لشعبٍ ما والطريقة التي تفسر بهما الطبيعة.
وقد حلّت المرحلة الميتافيزيقية بالتدريج محل المرحلة اللاهوتية. وهذه المرحلة الميتافيزيقية ليست منطقية تماماً، فهي لا تشير إلا إلى انتقال فحسب. في هذه المرحلة، نجد أن الأرواح السابقة أو الآلهة لا تكون أشخاصاً بل تصبح قوىً مجردة. وكان كثير من العلم الحديث المبكر من هذا الطابع: لأن الناس تصوروا بصورةٍ غامضة قوى "كيميائية" أو "حيوية" تسرى في الأشياء حولهم، وتجعل الأشياء تتغير في المظهر. وتميل تلك القوى الكثيرة في الوقت المناسب إلى أن تتوحد في قوةٍ واحدة، تسمى "الطبيعة". وتفعل "الطبيعة" هذا، وذاك؛ لأن قوانين الطبيعة خيّرة.. إلخ. ويعتقد كونت أن أناس عصر التنوير فكرواً تقريباً بتلك المصطلحات الميتافيزيقية. إذ إنهم نقلوها إلى فلسفتهم الاجتماعية، وآمنوا بأوهام مثل "العقد الاجتماعي"، و"الحقوق الطبيعية"، و"سيادة الشعب". لقد غالَوا في التأكيد على الأنانية والحقوق الفردية، ولم يعرفوا الغيرية وواجبات المجتمع معرفةً كافية. ومع ذلك حققوا تقدماً مهماً، كالإصرار على أن الحرب يجب أن تقتصر على الحرب الدفاعية، وتلك، على الأقل، خطوة في الاتجاه نحو استبعادها تماماً. وكانوا مؤمنين عظماء بالتسامح الديني، وبالإطاحة بكل سلطة تقليدية في الدولة والكنيسة عن طريق ثوراتٍ شعبية. وربما يكون ذلك الموقف له ما يبرره بالنسبة لفترة انتقالية، كان لا بد أن تتحطم فيها الدساتير الفاسدة، غير أنها لا يمكن أن تسفر عن أيِّ شيءٍ بنّاء على المدى البعيد. إن كونت لم تكن لديه ثقة بالديموقراطية والحكومة الشعبية، ولهذا يضع الإيمان بها في المرحلة الميتافيزيقية.
والمرحلة الثالثة والأخيرة هي، بالتأكيد، المرحلة الوضعية. في هذه المرحلة يكتفي العلماء بملاحظة قوانين الظواهر، دون أن ينسبوا إليها أرواحاً أو قوى مجردة غير مرئية ولا يمكن معرفتها. وقد  يفترض أن كل قوانين الظواهر تُرَدّ إلى قانون واحد، ربما يكون قانون الجاذبية، غير أن كونت يعتقد أن مثل هذا الرد سيكون مستحيلاً باستمرار؛ إنه سيكون كذلك بالتأكيد، في الوقت الحالي..
إن المجتمع الحالي مضطرب مشوّش، لأن الناس يفكرون جزءاً من الوقت عن طريف مرحلة من المراحل الثلاث، ويفكرون بقية الوقت عن طريق المرحلتين الأخيرتين؛ ويصدق ذلك في مجال العلوم الطبيعية، وفي مجال الموضوعات الاجتماعية على حدٍ سواء. أما النظام والتقدم، فلا يمكن أن يتحققا ويتم التوفيق بينهما على وجه مرضٍ حتى يصل التفكير والحياة إلى المرحلة الوضعية تماماً. (398)
تصنيف العلوم:
يؤكد كونت أنه من الممكن أن نرتب العلوم ترتيباً هرمياً في النظام الآتي: الرياضيات، الفلك، الفيزياء، البيولوجيا، وعلم الاجتماع.. ذلك هو النظام الذي ظهر فيه كل علم من الناحية التاريخية، والذي بلغ فيه أيضاً المرحلة الوضعية. إن كل علم هو من الناحية المنطقية أكثر بساطة وأقل تعقيداً من العلوم التي تليه. وعلاوةً على ذلك فإن كل علم هو أكثر عمومية في تطبيقه من العلوم التي تليه: فالرياضيات تنطبق على كل شيء، وعلم الفلك ينطبق على كل الأجسام؛ ولا نعرف إذا كانت الفيزياء والكيمياء تنطبقان على ظواهر غير الظواهر الأرضية، ولا تهتم البيولوجيا إلا بالكائنات الحيّة، وينحصر علم الاجتماع في دراسة البشر، وبقدر محدد في دراسة الحيوانات العيا. إن كل علم يكون أكثر دقةً، ويستخدم إلى حدٍ كبير الاستنباط، ويكون أقل اعتماداً على الملاحظة والاستقراء، من تلك العلوم التي تليه، على الرغم من أنها لا بد أن تبدأ كلها، بالتأكيد، من الملاحظة.
.. ويعارض كونت بشدة جميع المحاولات الموجودة في مذهب الرد [أو الاختزال]، أو كما يسميه "المذهب المادي": فمن المستحيل أن نرد باستمرار ظواهر الحياة إلى الكيمياء، أو أن نرد ظواهر الكيمياء إلى الفيزياء، أو أن نرد ظواهر الفيزياء إلى الرياضيات؛ لأن ظواهر كل علم تحكمها قوانين جديدة خاصة بهذا العلم، بالإضافة إلى قوانين العلوم الأبسط التي تسبقه. (399)
.. والفلسفة الوضعية نسبية، وليست مطلقة. فهي تدرك أن هناك تطوراً في العلم وفي المجتمع أيضاً. وتصف كيفية حدوث الظواهر، وكيفية إمكان التنبؤ بها؛ وهي ترفض السؤال عن طبيعتها البعيدة. إنها لا تزعم أنها تكتشف عللاً غائية أو أغراضاً في الطبيعة. (400)
علم الاجتماع:
يتضمّن علم الاجتماع ـ العلم الجديد الذي أعطى له كونت اسمه، والذي حاول تأسيسَه، كما يتصوره ـ كثيراً مما نسميه علم النفس الاجتماعي، والاقتصاد، والعلم السياسي، والأخلاق، وفلسفة التاريخ. وجميع هذه الموضوعات مترابطة بالتأكيد، ومن المفيد بالنسبة له أن يعالجها تحت عنوان واحد. وإذا اتبعنا مماثلة العلوم السابقة في قائمته، فإننا نستطيع أن نميّز في علم الاجتماع بين "علم الاجتماع الاستاتيكي"، و"علم الاجتماع الدينامي". وتمثل الهندسة الجانب السكوني من الرياضيات، في مقابل الميكانيكا، التي هي دينامية. ونيظر علم التشريح إلى الكائنات الحيّة من الناحية البنائية وبالتالي من الناحية الاستاتيكية، في حين أن علم الفسيولوجيا يدرس وظائفها من الناحية الدينامية. ويفحص علم الاجتماع الاستاتيكي الشروط الدائمة لوجود المجتمع، ويشدد على النظام، بينما يتعقب علم الاجتماع الدينامي تطور المجتمع ويؤكد التقدم. (401)
.. وتكشف دراسة علم الاجتماع الاستاتيكي عن الارتباط الوثيق الذي يوجد في أي وقت بين أفكار بلدٍ ما، وعاداته، ومؤسساته، وتفاعلها المتبادَل، وإذا بدا ذلك قولاً مبتذلاً الآن، فإن كونت يعدّ من أوائل الذين وجهوا الانتباه إليه. ويعتقد كونت، متأثراً في ذلك بهيوم وآدم سميث، أن المجتمع لا ينشأ من حسابات أنانية وفاترة، كما اعتقد هوبز مثلاً، بل ينشأ بالأحرى من غريزة التعاطف الاجتماعي، التي حدد لها "جال" مكاناً في المخ. إن أصل التعاطف يكون في تمييز الأجناس بين الحيوانات، واهتمامها بنسلها. صحيح إن الغرائز الأنانية هي عند البشر أقوى، في الأصل، من التعاطف الاجتماعي، إلا أن التعاطف الاجتماعي يقوى بصورة متزايدة مع تطور الذكاء وحياة الأسرة. لأن الأسرة، وليس الفرد، هي الوحدة الاجتماعية الحقيقية: إذ يتعلم الفرد بداخلها كيف يعيش، ويعمل من أجل الآخرين.
ومن الصعب جداً الإقرار باتحادات اجتماعية أوسع من الأسرة، لكن لا يمكن الاستغناء عنها. فعندما يدرك الفرد، في ضوء الفلسفة الوضعية، أنه عضوٌ وحيد في الجنس البشري، فإنه يقدر أهمية المجتمع بالنسبة له، ويرى أن التطور لا يكون ممكناً إلا بالتعاون المتبادل. إنه يبدأ يشعر بأنه زميل في العمل مع أناس آخرين داخل كلٍ اجتماعي كبير.
وحتى العمل الأكثر وضاعةً يكتسب كرامة، عندما يدرك العامل أنه يشارك عن طريق عمله في مهام مشتركة من أجل الرخاء العام. ويبدو أن كونت يعتقد أن المشكلة هي، أساساً، مشكلة عقلية وأخلاقية: فإذا استطاع كل شخص أن يتوصل عقلياً إلى أن يعرف الخير المشترك وضرورة التعاون الذي يحدثه، فإن الشعور ببشرية مشتركة ينبعث في نفسه بصورة أخلاقية. ومتى تمت البرهنة على صحة وجهة النظر هذه عن طريق أفكار يشارك فيها الجميع، وعن طريق عاداتٍ يلاحظها الجميع، ينتج عن ذلك تطور المؤسسات الملائمة في الحال.
ولا يمكن أن يكون هناك نظام في المجتمع طالما بقي جزءٌ من تفكيرنا وحياتنا في المستويَين اللاهوتي والميتافيزيقي، ولم يصل سوى جزءٌ من هذا التفكير إلى المرحلة الوضعية. ولا بد أن يقبل كل منا الموقف الوضعي من أوله إلى آخره. وعلاوةً على ذلك، لا يستطيع الإنسان العادي أن يستنبط تفاصيل العلوم الطبيعية لنفسه؛ لأنه يقبل توجيه الخبراء الموثوق به. ويصدق ذلك على علم الاجتماع؛ إذ ينبغي على الخبراء، في هذا العلم أيضاً، أن يوجهوه. وبالتالي، لكي يتم الانتقال إلى المرحلة الوضعية في المجتمع، قد تكون الدكتاتورية المتقدمة والقصيرة إلى حدٍ معقول ضرورية لتوجيه التفكير العام والتعاطف في الاتجاه الصحيح. وربما يفسر ذلك قبول كونت "للحركة الانقلابية" الحديثة التي قام بها لويس نابليون بونابرت في عام 1852، دون أن يدرك أن هذه "الحركة" لن يتبعها تنصيب المذهب الوضعي، بل يتبعها إحياء الحكم الأمبراطوري. وكان لديه في وقتٍ ما أملٌ في الأمبراطور الروسي، نيقولا الأول، الذي تخيل، أنه ينظم دخول الأسفار إلى ممتلكاته بحكمة. ولقد كان حكم كونت على مقاصد حكام عصره خاطئاً بالتأكيد. (فمنذ عصر كونت كان للعالم تجربةٌ ملحوظة بالديكتاتوريين. وربما تشكك المرء فيما إذا كان يمكن لأي ديكتاتور أن يحقق انتصار العلم الحقيقي، والغيرية، والعلم الاجتماعي في مملكته، أو يوجه أفكار شعبه ومشاعره بحكمة. ومع الفشل الواضح للديموقراطية في الثورة الفرنسية، يستطيع المرء، على أية حال، أن يفهم سبب اعتقاد كونت أن الديكتاتورية قد تكون مرغوبة في فترة انتقالية).
علم الاجتماع الدينامي:
أما علم الاجتماع الدينامي، فهو تفسيرٌ أبعد إلى حدٍ كبير لقانون المراحل الثلاث [أي المرحلة اللاهوتية ثم الميتافيزيقية ثم الوضعية]. فهناك صور مختلفة للتنظيم الاجتماعي والسياسي تناظر المستويات العقلية التي تعنيها المراحل الثلاث.
فالمرحلة اللاهوتية يلازممها التنظيم العسكري؛ فالحرب مستمرة، ويُفرض النظام وطاعة القانون؛ وهناك تقسيم فعّال للوظائف بين الجنود والعبيد الذين يدعمون الجندَ بعملهم. والمرحلة الميتافيزيقية مرحلةٌ انتقالية، تصبح فيها الصناعة أفضل طريقة لجلب الإنتاج وأكثر توفيراً له، وتقل أهمية الجندي مقارنةً بالعامل، على الرغم من أن الحاجة إليه لا تزال موجودة من أجل الحرب الدفاعية. وتثبت الطبقات المتوسطة وجودها وتطالب بحقوقها السياسية. ويجب أن يقوم فقهاءالقانون بوزن مطالب كل طبقة وعمل توافق بينها. وترى المرحلة الوضعية أن الصناعة هي المنتصرة؛ فسوف يدرك العمال أن مشكلاتهم لا يمكن أن تحل عن طريق ثورات، وينظرون إلى الفلسفة الوضعية على أنها تكفل لكل واحد الفرص للتطور العقلي وحق العمل. وسيكون ذلك عهد السلام، والتخلص من الثورات الداخلية والحروب الخارجية.
ويقدم كونت صورةًمجملة للتنظيم الاجتماعي الذي سيكون في المرحلة الوصعبة بصورة غامضة بعض الشيء. فالتجارة، والصناعة، والزراعة أي كل العمليات الإنتاجية الكبيرة ـ سيديرها المساهمون ـ أعني أصحاب البنوك، والمقاولين، وكبار ملاّك الأرض، وما شابههم. وللتجارة الكبيرة موارد كبيرة وتُدار بتنافس أكبر من التجارة الصغيرة. وسيبث المساهمون روح الشعور بالإنسانية المشتركة في النفوس، أي إنهم يعرفون مسؤولياتهم ويكونون خدماً مخلصين وأمناء للمجتمع. إن واجبهم سيكون تقديم العمل والإمكانات التعليمية للجميع.
إن القيادة الفكرية والأخلاقية ستكون في أيدي الكهنة، أعني العلماء، والفلاسفة، والأدباء، والفنانين، وقادة المجموعات الدينية الوضعية. وسيكون هؤلاء أشخاصاً ذوي دخل قليل، لكن ذوي مكانةٍ عظيمة بسبب علمهم وبصيرتهم الأخلاقية. وسيكون تأثيرهم عظيماً حتى إن معارضيهم سيمنعون المساهمين من إساءة استعمال قوّتهم، أو يمنعون العمال من أن يتحولوا إلى العنف والبطش. وستكون سلطة الكهنة أخلاقية خالصة، وسيدعمهم الرأي العام، ويجعلهم منتصرين متى استحقوا أن يكونوا كذلك.
وستمارس النساء تأثيراً روحياً هاماً. وكونت ليس من أنصار المرأة الذين يناصرون حقوقها. غير أنه يعتقد أنه ينبغي احترام النساء وتقديرهن، وأن صحبتهن وقدوتهن تجعلان الرجال أكثر وداً وتعاطفاً، وتقويان الغيريّة. (403)
إن أخلاق المرحلة الوضعية بسيطة. وهي تؤكد الغيريّة، حب البشرية العام. وسيدفع كل فرد في كل طبقة من طبقات المجتمع حبه للبشرية وإخلاصه لها، حتى إنه يشترك مع الآخرين في العمل على ترقية الخير العام. ولا يمكن أن تتبدل طبيعة الإنسان الأساسية تماماً، التي تكون، في الأصل، أنانية، لكن يستطيع الناس أن يصبحوا أكثر غيرية عن طريق الذكاء المتزايد، والتعاطف، ويكتسبوا المشاعر التي لا غنى عنها لنجاح المجتمع الجديد. (404)

الدين:
يضع كونت في كتابه "السياسة الوضعية" الأخلاق، التي يعني بها أساساً دينَه الجديد الخاص بالمذهب الوضعي، في قمة الترتيب الهرمي للعلوم. ولم يغفل، مثل كثير من معاصريه، الخصائص الكثيرة الممتازة الموجودة في ديانة والديه الكاثوليكية الرومانية، التي تربى عليها في طفولته، وأعجِب بالسلطة الأخلاقية والنظام اللذين تعهدت بهما الكنيسة في العصور الوسطى. ولا بد أن يحافظ المذهب الوضعي على القيم الحقيقية التي قامت عليها الكنيسة في الماضي.
ولما كان كونت يرفض كل ميتافيزيقا، كان من المستحيل بالنسبة له أن يقبل وجود الله من حيث إنه فاعلية موجودة وراء الظواهر التي تكون قوانينُها من مهمة العلوم الوضعية أن تصوغها، ومن مهمة الفلسفة الوضعية أن تفسرها وتوحّدها. واضطر الناس، من ناحية أخرى، إلى أن يجدوا بديلاً لله الذي أعطوا له ولاءهم الأسمى وإخلاصهم في الماضي. ووجد كونت البديل في "البشرية" ـ أي الموجود العظيم، الذي ينطوي على كل ما عُمِل في الماضي من أجل إصلاح البشر. إنه يجب علينا أن نتأمل البشرية، في أوقات منتظمة في لقءات عامة وفي خصوصية خلواتنا، بدلاً من الصلاة لله. والبشرية تجاوِزنا من حيث إننا أفراد؛ فهي تدوم من عصرٍ إلى عصر؛ وهي تشمل كل النفوس النبيلة التي تعيش من أجل البشرية وتعمل من أجلها؛ إنها يجب أن تكون موضوع إخلاصنا الأسمى. ولا بد أن ترتل الترانيم الدينية للبشرية، وأن تؤدي الخدمات الدينية العامة على شرفها.
وقلّد كونت صفات أخرى للمذهب الكاثوليكي في دينه الجديد، فيذهب إلى القول بأن البشرية تصبح عضواً منم مأعضاء الثالوث: أما العضوان الآخران فهما الطاغوت (الفتش) الأكبر (أي الأرض)، والوسيط الأكبر (أي المكان) الذي تتحرك فيه الأرض.
ويقترح كونت تقويماً وضعياً بديلاً للتقويم العام المسيحي، بأيامه التي تكرم قديسين مختلفين، مكوناً من ثلاثة عشر شهراً، ويسمي كل شهر باسم إنسان ما عظيم، ويسمي كل أسبوع في الشهر باسم إنسان عظيم آخر. ولا بد من استعادة الخدمات التي قدمها كل إنسان عظيم في تلك الأوقات، واستعادة بعثه لحياة أفضل تحققت. ويبدو، بوجه عام، أن اختيار كونت أسماء للتقويم أمرٌ حسن؛ ويعتقد الفلاسفة الوضعيون، على أية حال، أنهم شخصيات كانت حياتهم أكثر أهمية، وكانت قيمهم للبشرية أكثر دلالة من معظم القديسين في التقويم الكاثوليكي.
ولا يؤمن كونت إيماناً حرفياً بالخلود الشخصي. فلقد غالت الكنيسة الكاثوليكية في التركيز على الأنا، وجعلت كل فردٍ مهتماً بإفراط بخلاصه الخاص في حياة أخرى. إن الخلود الوحيد الذي نعرفه هو خلود الذكرى الموجودة في أذهان أولئك الذين سيأتون بعدنا، وستصبح حياتهم أفضل بسبب مجهوداتنا. هذا الخلود يعرفه الجميع؛ ومهما كان الشخص متواضعاً، فإنه إذا بذل إسهاماً متواضعاً في سبيل الخير العام، فإن تأثيرَه سيستمر، ويستحق أن يُنظر إليه على أنه أحد المساهمين في تقدم البشرية. إن تصوراً مثل هذا التصور للخلود يحث على الغيرية، لا على الأنانية؛ يحث على خدمة الآخرين، لا على خلودٍ أناني للمتعة الفردية. وقد عبرت القصيدة الشهيرة التي كتبها "جورج إليوت" عن ذلك في مطلعها، إذ يقول:
"ليتني أنضم إلى الجوقة غير المرئية،
الأموات الخالدين الذين يحيون من جديد،
في عقولٍ صارت أفضل بوجودهم."
وقد استمرت الجمعيات الوضعية في الوجود منذ عصر كونت، بصفةٍ خاصة في فرنسا وإنجلترا. وهي تلتقي من أجل خدماتٍ دينية، وتنفذ أنشطة تشبه أنشطة الكنيسة، وتهتم برغبةٍ شديدة باستمرار بحركات الإصلاح الاجتماعي. وعلى الرغم من أنها لم تكن كثيرة العدد، فإن بعض قادتها كانوا أشخاصاً ذوي أهمية ـ ومن بين هؤلاء في أنجلترا فريدريك هارسون، وريتشارد كونجريف، وإدوارد سبنسر بزل، وجون هنري بردجز. (405)
أهمّية كونت:
تكمن إسهامات كونت الأكثر أهميةً في قانون المراحل الثلاث وتصنيف العلوم. ويُسَلم كل واحد تقريباً بأن تلك الإسهامات تحتوي على قدْرٍ معيّن من الحقيقة. إنه على حق في تأكيده أن الجهد الصحيح لعلمٍ ما يجب أن يكون الكشفَ عن قوانين الظواهر وليس البحث عن جواهر ليست في المتناول، أو عن ماهيات وعلل. ويستحق الثناء أيضاً لأنه رأى أن من المهام الرئيسية للفيلسفوف، على الأقل، أن يكشف عن المناهج المشتركة بين العلوم المختلفة، وتنظيم نتائجها في نوعٍ ما من المركّب. وتصبح تلك المهمة صعبةً بصورة متزايدة مع تعقد العلوم الذي يزداد، غير أنها مهمةٌ مرغوبٌ فيها.
ويستحق كونت الثناء أيضاً لأنه أخذ الفلسفة بجدية، لأنه يتصور أن رسالتها تتمثل في بيان ما يمكن، وما يجب، القيام به، في ضوء العلم، في توجيه الإصلاح الاجتماعي. وهنا يكون المتخصصون في العلوم المختلفة أكثر مقدرة على البحث في التفاصيل، وتبقى مهمة الفيلسوف وهي أن يبحث عن رؤيةٍ أكثر تركيباً، من الرؤية التي يقدمها المتخصصون.
ويتفق كل واحد اليوم مع كونت على ضرورة استبعاد الميتافيزيقا من العلم الوضعي. وهناك مدرسة الوضعيين المناطقة في القرن العشرين التي تعتقد أنه يجب التخفي عن دراسة الميتافيزيقا تماماً. فلا تزال أكثرية الفلاسفة في الوقت الحالي يؤمنون بقيمة الميتافيزيقا من حيث أنها مهمةٌ فلسفية. فلا تزال المشكلات العظيمة الخاصة بطبيعة الكون النهائية، وعلاقة الذهن بالمادة، وإمكان معرفة العالم الخارجي، وحرية الإرادة، والدعاوى الخاصة بالآلية والغائية، ومسائل شبيهة ذات أهمية تستحوذ على أذهان المفكرين. وحتى على الرغم من أنه لم تُقترَح حلولٌ يمكن أن يُجمِع عليها الفلاسفة، فإن تلك المشكلات أصبحت، على الأقل، مفهومةً بصورة أفضل، كما أصبح كثيرٌ من الحلول المقترحة مضيئةً وموحية.
وبالنسبة لفلسفة الدين، فإن جميع أولئك الذين يرون قيماً معيّنة في الحياة الدينية والتجربة الدينية، سيقرون بأن دين البشرية يحافظ على بعض تلك القيم بصورة ناقصة، وأنها أفضل بكثير من انعدام الدين تماماً. ولذلك فإنها تستحق أن يُمعِن فيها النظر أولئك الذين يعتقدون أنه من المستحيل الوصول إلى نتائج أكثر إيجابية. ومع ذلك، يعتقد معظم الذين يشتغلون بفلسفة الدين أنه يمكن تقديم حجة معقولة ـ إن لم يكن دليلاً مطلقاً ـ على وجود الله وصورة ما من صور الخلود الشخصي أكثر ثراء في المضمون مما يريد كونت أن يسلّم به. ويعتقد كثير منا أن ثقل الدليل، على الأقل، يكمن في تلك الاتجاهات. ويُعتقد على الصعيد العملي أن الناس يكونون أكثر ثقة في مجهوداتهم التي يبذلونها من أجل الإصلاح الاجتماعي والإصلاح الشخصي أيضاً، إذا اعتقدوا أن مساعدةً من الله تؤيّد مجهوداتِهم، وأن توقعهم وجود مستقبلي حيث يناجونه ويتحدثون إليه يشجعهم على ذلك.
لقد قام كونت بخدمةٍ جليلة في إدخال علم الاجتماع الجديد. وربما يكونمن حق أيّ واحد أن ينظر إليه على أنه مؤسسه، وأن هناك مسائل ربما كان هو أول من وجّه إليها الانتباه أصبحت جزءاً من مخزون صنعه كل باحث في هذا المجال.




ليست هناك تعليقات: