الاثنين، 18 مارس 2019

هوسّرل بين كانط وفريجه؛ كريستيان دو لا كامبانيْ.




[هوسرل بين كانط وفريجة]
(عن كريستيان دو لا كامبانيْ: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ترجمة حسن أحجيج)


من المنطق إلى الفينومينولوجيا:
شرع هوسرل في الاشتغال على مسألة أسس الرياضيات التي كانت موضوع نقاش مهم منذ مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر. وفي سنة 1887، حصل على الأهلية بفضل مقال حول مفهوم العدد، استخلص منه سنة 1891 الجزء الأول من كتابه "فلسفة علم الحساب".
يحمل هذا الكتاب عنواناً فرعياً هو "بحوث سيكولوجية ومنطقية"، وأهداه صاحبه إلى أستاذه برنتانو. وعلى الرغم من أن الكتاب يسهب في الاستشهاد بكتاب "الأسس" لفريجه، إلا إنه يعترض على طموح هذا الأخير إلى اختزال علم الحساب برمّته في المنطق. إذا يعتقد هوسرل بالفعل أن لا جدوى من ادعاء القدرة على تفسير المدلولات الأساسية للرياضيات (التكافؤ، التماثل، الكمية، الوحدة) بمدلولات منطقية بسيطة. ويستنتج أن يستحيل ألا نَعُدّ الحدسَ [الحسي] أحد أسس الرياضيات. [تأثراً بكانط].
كذلك نشر هوسرل سنة 1891 تقريراً عن كتاب "دروس في جبر المنطق" لشرودر. وبعد أن عبّر فيه هوسرل عن إعجابه المبدئي بالمنطق الصوري، عاب على شرودر أنه لا ينظر إلى المفاهيم إلا من زاوية الامتداد [الماصدق] وليس من زاوية الفهم [المفهوم]، أي اختزاله قوانين الفكر في قوانين الحساب الخالص.
لم يكن لتلك الأطروحات إلا أن تثير استياء فريجه لأن قطيعتها مع التقليد التجريبي لم تكن واضحة. فقد كان فريجة يعتقد آنذاك أن من الممكن، بل ومن الضروري، إعادة بناء مفهوم العدد الأصلي انطلاقاً من المنطق فقط. وبدت له المحاولة الهوسرلية، التي تهدف إلى أن تجعل من العدد نتاجاً لعملية تجريد ذهني، [انطلاقاً من الحدس الحسي]، مشوبه بنوعٍ من النفسانوية عديمة الجدوى. كان ذلك هو الاعتراض الذي ناقشه بتفصيل في مقال خصصه سنة 1894 لكتاب هوسرل الأول.
لذلك قرر هوسرل مراجعة مواقفه. مما لا شك فيه أن تطوره جاء نتييجةً لتضافر عدة عوامل وليس فقط لانتقادات فريجه التي ادعى هوسرل بعد عدة سنوات عدم تأثره بها. ومع ذلك، فإن تلك الانتقادات هي التي دفعته إلى التخلي عن إصدار الجزء الثاني من فلسفة علم الحساب، وإلى استئناف دراسة المنطق. وكان هذا "التحوّل" هو ما أدى العامين 1900 و 1901 إلى ظهور "بحوث منطقية" بجزأيه الذي يعُدّه بعض تلامذته أفضل كتبه. وقد أعلن هذا الكتاب عن ميلاد فرع معرفي جديد هو "الفينومينولوجيا" التي عرّفها هوسرل بأنها "أنطولوجيا خالصة للمعيش"، وهو تعريف سيتخلى عنه صاحبه في ما بعد.
يحمل الجزء الأول عنواناً فرعياً هو "مقدمات للمنطق الخالص". ويبدو أنه كُتِبَ لتوضيح كلمة غوته التي يستشهد بها هويرل في نهاية المقدمة: "ليس هناك ما يمكن إدانته بقسوة أكثر من الأخطاء التي تخلصنا منها". وبالفعل، ليس هناك أكثر قسوةً من الإدانة الموجهة إلى علم النفس القائم على التداعي الذي ينحدر من جون لوك ويجسدة كتاب "المنطق" لستيوارت مِلّ (1843).
ترتبط شهرة مِل، نصير المذهب التجريبي الدقيق، بكونه حاول إرجاع مبدأ عدم التناقض (المبدأ الرئيسي في المنطق) إلى مجرد "تعميم" يستخلصه عقلُ الملاحظ من تجربته. ولدحض مثل هذا التأكيد الذي لم يوافق عليه هوسرل أبداً، ولدحض كل أشكال المذهب التجريبي والمذهب النفسي، بما فيها تلك التي دافع عنها علماء مرموقون معاصرون له أمثال إرنست ماخ، حذا هوسرل حذو بولزانو وفريجه في المحافظة على الطبيعة الموضوعية للمفاهيم المنطقية، وهي الطبيعة التي تضمن وحدَها المصداقية الكونية للرياضيات والعلم برمّته. فضلاً عن ذلك، وجّه هوسرل في إحدى صفحات كتابه الرائعة تحية حارّة لأعمال بولزانو وأعلن فيها بصراحة عن أهميتها الفلسفية. (34)
أما بخصوص الجزء الثاني من كتاب "بحوث منطقية"، الذي خصصه أساساً لمبادئ نظرية المعرفة، فقد طوّر تصوراً للمنطق كان ما يزال يردد تصور فريجه، دون أن يذكر اسمه، لكنه يكشف أيضاً عن التأثيرات المتناقضة التي مارسها عليه كل من كانط وبولزانو. إذ سار هوسرل على خطى بولزانو في محاولة تأسيس المنطق ونظرية المعرفة على قواعد مستقلة. ويرى هوسرل وجوب استخدام هذين الفرعين المعرفيين كقاعدة لفلسفة جديدة صارمة "علمياً". لكنه، مثل كانط، جعل موضوعية المفاهيم المنطقية تابعة لما يسميه "تجربة" الوعي.
يتعلق الأمر، دون شك، بتجربة "متعالية" وبـ "بداهة" منزوعة من صورنا الذهنية المبعثرة. وموضوع هذه "الرؤية" الفكرية هو ولا شك الدلالات المثالية المستقلة عن المعيش الذاتي [ربما الأصح: الدلالت المثالية المستقلة للمعيش الذاتي]، وتدين هذه الرؤية لديكارت أكثر مما تدين لكانط (الذي كان يرفض إمكانية تحققها) وأكثر مما تدين للأطروحات التي عرضها هنري برغسون (1859ـ 1941) في كتابيه "مقال في معطيات الوعي المباشرة (1889) و"مواد وذاكرة" (1896) اللذين كان هوسرل يجهلهما في تلك الفترة. بالإضافة إلى ذلك، إذا كان برغسون يسند إلى الحدس مهمة إرباك الواقع في جوهره الأساسي، الذي لا يشكل في رأيه مع "الديمومة" الخالصة إلا شيئاً واحداً، فإن جعلَه قيمةَ الحدس فوق قيمة الذكاء (أو ملَكة المفاهيم)، الذي يضعه في مرتبة المعرفة "الدنيا"، لا يتطابق مع المطلب العلمي الذي يتحكم في المنهج الفينومينولوجي وأمام هذا المطلب والمواقف المناهضة للمذهب النفسي المعلَن عنها في البداية، يبدو من المفارق رؤية هوسرل وهو يعلق بناءه برمّته على مدلول "حدس الجواهر".
وبما أن مؤلّف بحوث منطقية بتموقع في إطار "البحث" المتبصّر، فإنه واعٍ بهذه التناقضات المرتبطة بطموح المشروع الذي يثيرها. لذلك كان لزاماً عليه محاولة حل تلك التناقضات. وللقيام بذلك، وبالتالي تحقيق رغبته في بلوغ وضوح الأصول وبداهتها التي ظلت تسكنه منذ مدة بعيدة، قرر تكريس عدة سنوات لتنقيح منهجه.
إن المنعطف الحاسم لوجهة النظر هذه يوجد في "الدروس" الخمسة التي ألقاها خلال شهريّ نيسان وأيار عام 1907 أمام طلابه في جامعة غوتنغن التي سيغادرها سنة 1916 ليلتحق بجامعة فريبورغ. وستنشر هذه الدروس بعد وفاته تحت عنوان: فكرة الفينومينولوجيا. اتخذ هوسرل في تلك الدروس الطريقة الديكارتية كأنموذج تفسيري، وأكد أن تأسيس الفلسفة على أرضية ثابتة مشروط بضرورة الشك في كل مصدر آخر للمعرفة. فالواقع الوحيد الذي يفرض نفسه بطريقة مطلقة هو واقع أفكارنا، أي "الظواهر" التي تظهر لعقلنا ـ شريطة أن يكون عقلنا محدداً ليس كـ "أنا" تجريب، وإنما كوعي "خالص" مزوّد بالقدرة على "رؤية" الجواهر في ذاتها وبمعزل عن كل رجوع إلى عالم "موضوع بين قوسين". سيلاحظ هايدغر بعد ذلك أن الانتقال من "الحياد" الميتافيزيقي لكتاب بحوث منطقية إلى فلسفة جديدة للذات سيتم في هذا النص الصعب. وبعبارة أخرى، سيتم الانتقال إلى مثالية متعالة جديدة.
سيحدد هوسرل لنفسه كهدف رئيسي تطوير الخطوط العريضة لهذا المشروع. إذ سيقدم له عرضاً منظماً في كتاب "الأفكار الموجّهة نحو فينومينولوجيا وفلسفة فينومينولوجية خالصتين" (1913). أما كتابه المنطق الصوري والمنطق المتعالي (1929)، فإنه يستأنف انتقاداته للمنطق الامتدادي الموروث من فريجه. وأخيراً، ينتهي هوسرل بكتابه "التأملات الديكارتية"، وهو مجموع المحاضرات التي ألقاها في باريس سنة 1929، إلى بيان الطرق التي عاد بها من كانط إلى الفيلسوف الفرنسي.
هل يمكن أن نستخلص الخطوط الأساسية للفينومينولوجيا الهوسرلية من مجموع هذه النصوص؟ من الواضح أولاً أن هذه الفينومينولوجيا لا علاقة لها بالمشروع الذي عرضه هيغل في فينومينولوجيا الروح (1807). بل إنها تقترب من الفانيروسكوبيا ـ أو "وصف بنية المظاهر" ـ التي تصورها بيرس، والتي، مع ذلك، لم يكن هوسرل على علم بها. (الفانيروسكوبيا تعني دراسة الظواهر، أي دراسة ما هو حاضر في الذهن، في هذه اللحظة وهذا المكان، سواءٌ تعلق الأمر بشيء واقعي أو غير واقعي. ويرجع المصطلح إلى تشارلز بيرس).
لكن يصعب جداً إرجاعها إلى خطاطة عامة لفرط ما تبدو متوقفة على ما يسميه هوسرل "بداهات" الوعي. يمكن القول في سبيل التبسيط إن من الممكن التمييز فيها بين ثلاث لحظات مرتبطة في ما بينها ارتباطاً وثيقاً.
اللحظة الأولى هي لحظة "الإيبوخي"، أي الشك المنهجي وتعليق الحكم وتعليق العالم التجريبي الذي يظل فيه الوعي الساذج مغموراً، بما في ذلك الوعي العلمي. عندما تنزعنا هذه الحركة الفكرية من السلبية التي تميز الحياة النفسية، فإنها تمكننا في الوقت ذاته من أن نلاحظ، ليس الوقائع الخام، وإنما "الظواهر" المكونة للوعي (هذا الأحمر)، ومن خلالها الجواهر المثالية (الأحمر) التي تجسدها هذه الظواهر. هكذا يفتح الإيبوخي الطريق أمام نوع من "الاختزال الجوهري" الذي يسمح بإجراء وصف ملموس لبنيات الكائن العامة (وصف يريد أن يكون أكثر من الوصف الذي تقدمع علوم الطبيعة عن هذا الكائن). كذلك يفتح الطريق أمام نوع من الاختزال "المتعالي" الذي يعرض أمامنا أنماط "الظهور" بما هي كذلك. إن الإيبوخي هو لحظة "العودة إلى الأشياء ذاته" (أي الظواهر)؛ هذه اللحظة ستكون السبب في نجاح المنهج الفينومينولوجي لدى بعض الفلاسفة (هايدغر، سارتر) الذين أضجرتهم التجريدات التي يحملها الكانطيون الجدد الألمان (كوهن) أو الفرنسيون (برانشفيغ).
اللحظة الثانية هي لحظة البناء ـ أي الفعل الذي تتحول به الذات المفكرة إلى عالم مدرك كـ "أفق للمعنى"، ذلك حتى تفلت من الأناوحدية. تأخذ الوظيفة "القصدية" كل مداها على هذا المستوى عندما نعيد خلق علاقة بين وعي وموضوعه. يستلهم هوسرل أفكاره هنا من كتاب "علم النفس من الزاوية التجريبية" (1847) لبرينتانو الذي يعترف له بكونه انتزع مدلول القصدية القديم منم التيار المدرسي القروسطوي وجعل منه مفهوماً مركزياً من مفاهيم علم النفس الحدث: وبالفعل، إن كل وعي هو وعي بـ "شيء ما"؛ لكن مع فارق أن علم النفس يظل بالنسبة إلى برنتانو وكانط علماً طبيعياً، بينما يضع هوسرل القصدية في منطقة "متعالية"، مستقلة وسابقة عن كل وصف سيكولوجي. يفسر هوسرل موقفه هذا بإسهاب في كتابه "الأفكار الموجهة" الذي أقحم فيه مفهوم "النوويم"، الوسيط الضروري بين الفعل الذهني (النوويز) وموضوعه الواقعي.
وفي اللحظة الأخيرة يكتشف الوعي بداخل ذاته، فضلاً عن المثاليات الثقافية التي أنتجها الفكر العلمي، "العالم العنش" الذي تشترك فيه بالضرورة الذوات، والذي يشكل شيئاً واحداً مع "الأرضية" الأصلية التي تتجذر فيها المثاليات. بل إن هذه الأخيرة نفسها تنبثق من الوعي، مدام أنها كانت عبارة عن حدوس قبل أن تتحول إلى مفاهيم: هذا ما يفسره أحد نصوص هوسرل الأخيرة الذي كتبه سنة 1936 حول أصل الهندسة، وهو نص يحمل ربما الآثار التي خلفتها الوجودية الهايدغرية على هوسرل. هذا النص الذي أعاد ربط صلته رمزياً بهوَس الأسس الذي ميّز ثمانينيات القرن التاسع عشر، أعلن عن التألق النهائي للمشروع الفينومينولوجي وعما سيعرفه هذا الأخير من انغلاق على ذاته.
***
(38)
سيتم الاحتراز من إصدار حكم متسرع حول ذلك المشروع. فلما كانت النظرية والممارسة الفينومينولوجيتان مرتبطتين في ما بينهما ارتباطاً وثيقاً، فإن نتائجهما تتوقف في جزء كبير منها على المهارة التي يطبقان بها في التحليل الملموس لـ"ظاهرة" معطاة. علاوة على ذلك، غالباً ما تعود أفضل التحاليل الفينومينولوجية إلى مفكرين ذوي فكر أصيل، أمثال سارتر. فهل يتعلق الأمر ـ كما أكد هوسرل عدة مرات ـ بمشروع ذي إصالة مطلقة، ربما سيأتي تحققه الموضوعي ليضع حداً نهائياً للتيهان النظري للفلسفة الغربية؟
إذا أنعمنا النظر جيداً في المشروع الفينومينولوجي، سيصعب علينا بالفعل إنكار كونه يتموضع في خط الكانطية والديكارتية على الرغم من الفرادة التي يتمتع بها. ألم يكن ديكارت أول من وضع أساس العلم في تجربة الوعي كفكر "خالص"؟ وماذا صنع كانط غير أنه أدخل شروط إمكان تحقق كل معرفة، أي أشكال الحساسية ومقولات الإدراك، في بنيات الذات المتعالية؟
لكن أصالة هوسرل تكمن آخر الأمر في إضفاء الطابع الجذري على هذه الخطاطة المزدوجة. لقد قرر تجذير المعرفة في الذات، مثلما فعل كانط وديكارت تماماً.
 كذلك حذا حذو ديكارت، لكن ضد كانط هذه المرة، ومنح سلطة قول الحقيقة للبداهة التي أطلق عليها صيغة "حدس الجواهر". وأخيراً، لم يرَ هوسرل طريقة لتأسيس العلوم أفضل من جعلها تابعة لفلسفة أكثر "علمية" من العلوم نفسها، مكملاً بذلك على طريقته الخاصة البرنامج الموجِّه للمثالية الألمانية. وحدث الأمرُ كما لو أن هذا البرنامج لم يلاقِ اعتراضاً أبداً من ماركس إلى نيتشه أو من بولزانو إلى فريجه.
إنها طريقة كلاسيكية جداً. بل سيقول هوسرل سنة 1927 إنها مفرطة في الكلاسيكية، لكنه يعدّها الطريقة الممكنة الوحيدة. ولفهم رهانات مثل هذا التأكيد، يتعيّن العودة إلى النص الذي يعرضه أفضل من أي نصٍ آخر، وهو "الفلسفة كعلمٍ صارم" (1911). إنه نصٌ مركزي، ولا سيما أن الأمر لا يتعلق بمجرد مقال بسيط، بل ببيانٍ حقيقي لفينومينولوجيا شعرت، إلى حدود الحرب العالمية الأولى على الأقل، أنها تحمل أعلام النصر.
أعلن هذا النص على الفور أن "الفلسفة كانت تطمح منذ بداياتها الأولى إلى أن تكون علماً صارماً" وأنها لن تتخلى أبداً عن رغبتها في تحقيق هذا المثل الأعلى مهما تكن العراقيل التي تعترض هذه الرغبة، ويسلّم هوسرل بأن هذه العراقيل خطيرة. فمن جهة، يبدو أن تقدم المعرفة الأكثر حداثة يرجع إلى التقدم الذي حققه التجريب أكثر مما يرجع إلى جدل الفلاسفة الفارغ. ومن جهة أخرى، إن الأهمية التي أسندت منذ هيغل إلى مدلول التاريخ أدت إلى تنسيب [نسبنة] (إضفاء الطابع النسبي] قيمة المعرفة وإلى اعتبارها مجرد واحدة من نتائج التطور. ففي سنة 1911، أصبحت علوم الطبيعة (المذهب الطبيعي) التي حظيت بالأولوية والتاريخ (التاريخانية) الذي حظي بالتفوق الشكللين المهيمنين لنوع من "المذهب الوضعي" الذي أدى إلى إفراغ فكرة الحقيقة من مضمونها، وبالتالي إلغاء كل دور خاص بالفلسفة.
لهذه الأسباب وقف هوسرل ضد ذلك "المذهب الوضعي". إذ كرّس الجزء الأول من بيانه لدحض المذهب الطبيعي، وخصص جزأه الثاني لدحض التاريخانية. وبذل جهده في الجزأين معاً لتوضيح الفكرة التالية: عندما تحقق مواقف الخصم تطوراً كبيراً إلى حدها المنطقي، فإنها تنتهي إلى عدم التماسك.
إن المذهب الطبيعي، الذي يمثّله عالِم الأحياء "هايكل" (1834ـ 1919) المدافع عن نوع من المادية الجذرية، عاد إلى "إضفاء السمة الطبيعية" على الأفكار ووقائع الوعي، بمعنى عاد إلى التعامل مع هذه الأخيرة كأشياء، وهو ما يخالف جوهرها. فعندما يُرجِع المذهب الطبيعي القوانين المنطقية إلى مجرد انتظامات نفسية، وعندما يرجِع هذه الأخيرة إلى عمليات فيزيائية وكيمياوية، فإنه يدمر بدون وعي منه قاعدة العرفة العلمية نفسها التي يدعي أنه يمنحها قيمة سامية. فليس المذهب الطبيعي إذاً هو الخطاب الموضوعي الذي يعتقد أنه يجسده. إنه مجرد فلسفة، بل وفلسفة مائعة.
أما في ما يخص التاريخانية، التي يمثلها هنا فيلهيلم دلتاي (1833ـ 1911)، نبي "علوم الروح" أو العلوم الاجتماعية التي يشغل فيها البعد التاريخي مكانة مركزية، فإنها تقوم أيضاً على مسلّمة ضمنية: وهي تأكيد أن لا وجود لحقيقة في ذاتها ومستقلة عن التطور، بل توجد فقط أفكار يعترف اجتماعياً بمصداقيتها في لحظة ومكان محدّدين. إن التناقض صارخ جداً هنا: إذا لم تكن توجد أي حقيقة في ذاتها، فإن حقيقة التاريخانية ليست أكثر يقينية من المذهب المعارض. وعموماً، إذا كان كل شيء نسبياً، فإن إمكانية قيام المعرفة تنهار. لنسجل في معرض حديثنا أن هذا البرهان نفسه سيكرره باستمرار بعد هوسرل خصوم النسبية، مثلاً: هابرماس وبتنام (هيلاري بتنام) في سجالهما مع رورتي.
وباختصار، إن "المذهب الوضعي" بشكليه يتسم بالخطورة. فقد أكد هوسرل مجدداً المكانة الرفيعة للفلسفة بهدف مكافحة ذلك الخطر (المذهب الوضعي) الذي عدّه السبب الحقيقي لـ "الضيق" الروحي لعصره، وهي كلمة ستعرف نجاحاً كبيراً، لكن على يد الهايدغريين هذهالمرة. ولإنقاذ المعرفة وتمكين العقل من الانفتاح في فعل المعرفة، يتعيّن تأصيل هذا الفعل في تربة ثابتة. والحال إن هذه التربة لا يمكن أن يوفرها غير الفلسفة الفينومينولوجية المدركة كـ "علم الجواهر" المترسخ بدوره في ذات متعالية.
لكن هوسرل، وفي اللحظة التي كان يدين فيها عجز أسلافه، بمن فيهم كانط، عن إقحام الفلسفة نهائياً [كلياً] في "الطريق الآمنة للعلم"، نجده يتبنى مشروعهم ويؤكد أنه الوحيد القادر على إنجازه. إذ ستصبح الفلسفة معه، ومعه وحدَه، "علماً صارماً. فضلاً عن ذلك، لن تكون علماً من بين علومٍ أخرى فقط، بل أول العلوم وأكثرها صرامةً ما دامت ستصبح "النظرية العلمية للعقل". يعلن نصّ 1911 عموماً انطلاقةً جديدة للفلسفة، ولكن أيضاً لكل الثقافة التي ليست الفلسفة سوى التعبير الروحي عنها. (40)
عندما كان هوسرل يحدس نهضة الفلسفة على أنقاضها، فإنه ولا شك لم يكن يفعل غير محاكاة مبادرة ديكارت وكانط التي قام بواسطتها الفكر المؤسس برمّته. وإذا انتمت هذه المحاكاة إلى تقليد الميتافيزيقا الكلاسيكية، فإنها ستساهم ولا شك في سجن الفينومينولوجيا في الأنموذج الذي أرادت تجاوزه. لكن التشبه بالقدامى الذي التزمته الفينومينولوجيا لم يظهر فوراً لهوسرل وتلامذته الأوائل. وسيفعل الشيء نفسه كل من سينضم إلى الفينومينولوجيا انطلاقاً من 1910، باستثناء هايدغر، معتقدين أنهم يساهمون بذلك في تقدم العقل، وبالتالي في التقدم بشكل عام. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف هوسرل أبداً عن السير قدماً في الطريق التي رسمها لنفسه، مقتنعاً بأن المستقبل، وليس الحاضر، هو ما سيثبت صواب مشروعه.
ويشهد على استمراره في الإيمان بهذه الفكرة تلك المحاضرة التي ألقاها في فيينا يوم 7 مايو أيار 1935، أي بعد مرور أربعة وعشرين عاماً على صدور نص 1911 الذي رددت صداه تلك المحاضرة التي تحمل عنوان أزمة البشرية الأوروبية والفلسفة تنطلق المحاضرة من فكرة أن البشر الأوروبيين يكوّنون "أسرة" من الأمم التي يوحد بينها رباط "أختوي" (نسبة إلى الأخت)، أي نوع من "الوطن" الروحي الذي يتميز، حسب هوسرل، بتفوق واضح على كل الثقافات الأخرى، سواءٌ تعلق الأمر بالهند أو بالصين أو بشعب "البابو" (كذا) الذي لا يفصله عن الحياة الحيوانية سوى أشياء قليلة.
على أي شيء يرتكز تفوق أوروبا؟ إنه يرتكز على ابتكاره العقل والفلسفة. بيد إن هذا الابتكار الرائع يعيش اليوم نوعاً من الأفول، إذ يعاني أكثر من أي وقت مضى سرطان "المذهب الوضعي" الذي يؤدي تدميرُه للمثاليات إلى مادية فكرية وأخلاقية. هذا السرطان الذي يؤدي إلى رفض الفلسفة يفتح الباب أمام كل الانحرافات اللاعقلانية. وباختصار، إن المذهب الوضعي هو المسؤول الأول عن "الضيق" الذي يعانيه العصر. ولن يتغير التحليل الذي خضعت له هذه النقطة منذ سنة 1911.
زد على ذلك أن التحليل الذي تم به البحث في طريقة العلاج لم يتغير بدوره. إذ يرى هوسرل أنه لا يوجد إلا دواءٌ واحد لهذا السرطان: أن نعيد للفلسفة مكانتها الأساسية باعتبارها أساساً للمعرفة، وأن تمكّن الفيلسوف من أن يصبح "الحاكم الأول" للبشرية. كذلك يجب في الوقت ذاته إرجاع الفلسفة إلى الطريق الصحيح، وهو طريق العلم الصارم، أي طريق العلم الفينومينولوجي للجواهر.
على الرغم من أن المحاضرة ألقيت بعد سنتين من وصول هتلر إلى الحكم، يمكن المرءَ أن يستغرب من كون هوسرل لم ينتقد بشدة مركزيته العرقية ولا كلمة "الحاكم الأول" ـ للهم إذا لم يكن يسعى عمداً إلى معارضة فوهرر خيّر بآخر سيّء، بحيث تصبح الكلمتان مترادفتين عملياً. ومن المثير للاستغراب أيضاً أن على الرغم من خطورة موقفه، فإنه لم ينجح في صياغته صياغة سياسية تكون أكثر إقناعاً. فهو يعتقد أن أصل كل همجية يكمن في "المذهب الوضعي"، وهو مفهوم يتصف على الأقل بالغموض؛ وللقضاء عليه يكفي إعادة كل الحقوق لـ "علم الجواهر". لكن يوجد في هذه النزعة العقلية شيء غامض.
هل كان بمقدور هوسرل أن يقلل من قيمة الطبيعة الحقيقية للخطر الذي كان يهدد العالم سنة 1935؟ لم يكن يستطيع ذلك بالطبع، لأن الخطاب حول أزمة القيم الأوروبية، الذي أذاعه منذ سنة ض9ض8 كل من فاليري وروزينتسفايغ وهايدغر وآخرون، لم يكن يأتي على لسان هوسرل لمجرد التدريب على الأسلوب. وللتأكد من هذا المعطى، يكفي أن نتذكر أنه فقد أحد أبنائه في معارك الحرب العالمية الأولى، وأن النازيين أقصَوْه سنة 1933 عن كل نشاط عمومي في ألمانيا بسبب أصوله اليهودية، مع أنه اعتنق المسيحية منذ عام 1886. ولم يكن هوسرل يعيش تمزقاته العميقة إلا بسبب هذين العاملين.
لكن إذا كان الفرد مجروحاً، فإن الفيلسوف، الذي يتصور مهمته كـ "موظف للبشرية"، ملزم الارتفاع فوق معاناته وفوق عوارض التاريخ، فلا شيء يمكن أن يلزمه أن يضع نفسه محط تساؤل، لا الحوادث الخارجية ولا اللامبالاة المتزايدة التي يعامله بها العلماء في الوسط الجامعي.
ذلك أن طموح الفينومينولوجيا إلى أن تصبح علم العلوم عرف فشلاً ذريعاً في أواسط الثلاثينيات. علماً أن هوسرل كان يعرف ذلك جيداً، بحيث كان يرى أن العلوم، الرياضية أو التجريبية، تتطور حوله بدون مراعاة "الاختزال الفينومينولوجي" الشهير. بل سيذهب إلى حد أن يسجل، بنوع من السوداوية، فقدان الأمل، كما يكشف عن ذلك نص استشهد به كثيراً، لكنه غالباً ما كان يتعرض لسوء الفهم، وهو التذييل xxviii للفقرة 73 من كتاب أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا المتعالية. يقول هوسرل في ذلك النص الذي حرره في صيف 1935: "تعد فكرة الفلسفة كعلم جدي وصارم، بل وصارم قطعاً، حلماً قد انتهي".
إلا أنه يجب ألا نخطئ فهم معنى هذه الملاحظة. أن ينتهي الحلم، فكرة كان يؤمن بها سنة 1935 العديد ممن آمنوا أولاً بالفينومينولوجيا. وإن كان هوسرل يسجل خيبة الأمل هذه، فهذا لا يعني أنه يقتسمها معهم. وإن كان يشكو التخلي عنه وهو ما يزال في منتصف الطريق، فإنه لا ينوي مع ذلك التخلي عن هذه الطريق، إذ ينبغي أن تستمر الفينومينولوجيا في الوجود.
وستستمر فعلاً، فهي ستعاود الظهور غداة الحرب العالمية الثانية بفضل أعمالٍ متنوعة. لكنها سوف تكون حاضرةًفي هذه الأعمال كمرجعية بعيدة إلى هذا الحد أو ذاك، مرجعية ستحجبها تدريجياً تيارات فكرية أخرى: الوجودية (كارل ياسبرز)، والهرمينوطيقا (غادامر، فاتيمو)، والماركسية (سارتر)، وعلم نفس الأشكال (مرلوـ بونتي). وستمتزج بها انشغالات دينية، أو روحية على الأقل، ذات أصل يهودي (مارتين بوبير، إمانويل ليفيناس) أو أصل مسيحي (بول ريكور). وعلى العموم، لن تستمر الفينومينولوجيا في شكلها الخالص بقدر ما ستعيش بداخل الخليط الذي ستميل فيه فرادتها وطموحاتها الأولى إلى التلاشي.
إن أسباب ذلك التلاشي واضحة للعيان: قدّم هوسرل خدمة كبيرة للفلسفة الأوروبية في كتابه "بحوث منطقية". فقد جاء هوسرل بعد فريجه وقبل راسل ليساعد الفلسفة الأوروبية في استشعار ضرورة إعادة التفكير بشكل عميق في علاقتها بالعلم وبنظرية المعرفة. فجنّبها بذلك السقوط في بحر المذهب النفسي، ووضعها مجدداً في طريقها الخاصة؛ طريق "التفكير بواسطة المفاهيم"، مع انتزاعها من فضاء التجريدات الكانطية الجديدة وتذكيرها بضرورة أخذ "العالم المعيش" من قبل الذات بعين الاعتبار.
لكن هوسرل قاد الفلسفة في الوقت نفسه إلى الطريق المسدود عندما سجنها تدريجياً منذ 1907 داخل إشكالية الكوجيتو الضيقة (ولو أن الأمر كان يتعلق بكوجيتو أكثر شمولية من كوجيتو ديكارت)، وعندما أشاح بوجهه عن تطور العلم، وخصوصاً عندما قر أن يتجاهل بمهارة الإكراه الذي يمارسه كل ما يمكن أن يلغم السيادة الوهمية للذات المتعالية، كالتاريخ واللغة والرغبة.
هكذا وجدت الفينومينولوجيا "الخالصة"، كما يتصورها هوسرل الشيخ، نفسها تنقاد تدريجياً إلى التخلي عن العالم الواقعي على الرغم من رغبتها الصائبة في "العودة إلى الأشياء ذتها". وهو الوجهة التي لم يكن بإمكان مؤيديه الشباب تجنبها إلا بإعلان تحررهم من الأرثوذوكسية الهوسرلية.
لنذهب أبعد من ذلك؛ إذا كانت الفينومينولوجيا عاجزةً عن تأمل الواقع في تعقد محدداته، ألا يكمن هذا العجز منذ البداية في "الحلم"، الكبير والطوباوي، لفلسفة مدركة في آن واحد كـ "علم صارم" وكـ "علم مؤسس لكل العلوم الأخرى"؟ ألم يكن محكوماً على هذا الحلم بالفشل منذ البداية؟
ليس مثال هوسرل هو الوحيد الذي أوحى بهذا الحلم. بل إن برتراند راسل، الذي عاش الحلم نفسه في تلك السنوات نفسها وبلغة مغايرة (منطق فريجه)، قاد مبدأ "ما كان يجب تغييره قد تم يغييره" إلى النتيجة نفسها. (44)

3ـ من المنطق إلى السياسة:








ليست هناك تعليقات: