الاثنين، 18 مارس 2019

بولزانو؛ المعارضة الأولى لكانط؛ كريستيان دو لا كامبانيْ.



بولزانو؛ المعارضة الأولى لكانط:
(عن كريستيان دو لا كامبانيْ: تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ترجمة حسن أحجيج)


تقتسم القضايا الرياضية والقضايا الفيزيائية خاصّية مشتركة: وهي كونها تفترض أن كل تجربة معطاة في الحدس. وسواءٌ كان الحدس خالصاً أو تجريبياً، فإنه ليس من الممكن أن تُعطَى فيه أيةُ معرفة بدون اللجوء إلى التجربة وبدون حدوث لقاء بين مفهوم وحدس. يقول كانط في هذا السياق: "إن الأفكار بدون محتوى تظل فارغة، والحدوس بدون مفهوم تظل عمياء".
يتعيّن على العقل إذاً ألا يتجاوز مجال التجربة بأي حال من الأحوال. إذ لا معرفة إلا بما هو معروض في هذا المجال؛ وبصيغةٍ أخرى، لا معرفة إلا بـ "الظواهر". فلا أحد يستطيع أن يعرف الأشياء "في ذاتها"، أي بمعزل عن الطريقة التي تظهر لنا بها: تلك هي أطروحة كانط الأولى.
ومع ذلك، ليست الكلمة الأخيرة للتجربة، ذلك أن شروط إمكانها نفسها ليست تجريبية. رأينا سابقاً أن حدوسنا تصاغ في أشكالٍ قبلية (المكان والزمان) وتنتمي إلى بنيتنا الإدراكية، كما أن كل مفاهيمنا تصدر عن اثنتيّ عشرة "مقولة" عامة تنتمي إلى بنية فهمنا. وباختصار، إن الذات العارفة ذاتٌ "متعالية" وسابقة على كل تجربة ممكنة، لأن موضوعية العلم تظل مستقلة عن الشروط التي تنتَج فيها: وتلك هي أطروحة كانط الثانية.
إن هاتين الأطروحتين متكاملتان؛ فالأولى تنقذنا من الوثوقية التي لا يمكن عقلاً مستسلماً لذاته أن يسقط فيها (لايبنز)، وتنقذنا الثانية من النزعة الشكية التي يمكن للمذهب التجريبي المعمّم أن يسقطنا فيها. هكذا أمكن لكانط أن يشعر بالرضى بعد أن وضع المعرفة في منأى من الخطرين اللذين يتهدداننا. لقد استطاع أن ينتزع الفلسفة من "ساحة المعركة" التي كانت تسجنها فيها الميتافيزيقيات المتصارعة. كذلك استطاع أن يضعها في "الطريق الآمنة للعلم". ومنذئذٍ، لم تعد مهمة الفلسفة تتمثل في استخدامها كأرضية للنظريات المتضاربة، العقيمة والاعتباطية، بل أصبحت تتمثّل في مصاحبة العمل العلمي من خلال تسليط الضوء على المفاهيم العلمية. وبعبارة أخرى، أصبحت مهمة الفلسفة هي التحقق مما إذا كان العمل العلمي يتمّ في الإطار الذي وضعه كتاب النقد.
إن النسق الكانطي، المتمثل في فلسفة العلم كفلسفة حذرة، يشكل بصورةٍ ما أوجَ الفكر الأنواري. فعندما نتفحص عن قرب نظريته في المعرفة، نلاحظ أنها تتضمن بعض الصعوبات. لكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن العقلانية الكانطية ستجسّد أنموذجاً سيتبنّاه، لأزيد من مائة سنة، كل من سيعتقد، مثل كانط، أن مهمة الفلسفة هي التأسيس للعلم، وأن هذه المهمة نفسها يمكنها أن تتم بطريقة علمية.
يعرف الجميع اليوم أن هذين المعتقدين وهميّان، لكن فتغنشتاين (1921) وهايدغر (1927) هما أول فيلسوفين سيؤكدان ذلك على نحوٍ جليّ. ذلك أن الحركة المناهضة للكانطية التي تفجرت انطلاقاً من سنة 1880 لم تكن موجة ضد هذه الأفكار العظيمة أكثر مما كانت موجهة ضد الدور الذي تسنده نظرية الرياضيات إلى الحدس. كان أكبر المناهضين لهذا التصور الكانطي بين العامين 1880 و1914 هما فريجة وهوسرل. فالأول رفض الحدس جملة وتفصيلاً، بينما احتفظ به الثاني ومنحه معنى ودوراً مختلفين. لكن الحقيقة أن الاعتراض ظهر قبلهما بشكل خفي، ذلك سنة 1810، أي بعد وفاة كانط بست سنوات..
(تاريخ الفلسفة في القرن العشرين؛ ص 19)
كان [كانط] .. يعُدّ المنطق عموماً مجرد تخصص معرفي لا جدوى منه، ولم يحقق أيَّ تقدم منذ أرسطو. وهذا هو السبب الذي دفع بولزانو اللايبنتسي [نسبةً إلى لايبنتز] إلى رفض كانط.
أما السبب الثاني، حسب بولزانو المؤمن بفضائل المنطق، فيتمثل في أن الاستعمال الجيد لهذا الأخير يمكنه أن يقدم لمشكلة أساس الرياضيات حلاً مرضياً أفضل من الحل الذي اقترحه كانط. هذه هي الأطروحة التي يناقشها بولزانو بتفصيل في كتابه "مساهمة في تأسيس الرياضيات على أفضل الأسس" (1810). وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مرّ خفية في عصره، فإنه أول كتاب عارض مدلول الحدس الخالص، الذي يعدّه بولزانو "صعباً" ومتناقضاً. فالحدس دوماً تجريبي، سواءٌ أكان مكانياً أم زمنياً. ويمكنه أن يقوم بدور تكميلي ذي سمة تربوية، شأنه شأن اللجوء إلى الشكل في البرهنات الهندسية. لكن لا يمكن المرءَ أن يستخرج منه أيّ نظرية جديرة بهذا الاسم. فإذا أراد الباحث، كما يريد كانط، أن يؤسس الرياضيات على أسس صلبة، فإنه يتغين عليه أن يدرك تلك الأسس بطريقة منطقية خالصة بعد تطهيرها من كل عنصر حدسي. (21)
كان تأثير بولزانو أكثر وضوحاً في النمسا وبولونيا. فقد ظهر هذا التأثير مثلاً لدى فراتنس برينتانو (1883ـ 1917) الذي ولد في ألمانيا ودرس في فيينا.. (22)




ليست هناك تعليقات: