السبت، 7 أبريل 2018

من كيركيجور حتى نيتشه؛ هشام سامي عبده.





مـِن كيركجور حتّـى ... نيـتشـه!
هشام سامي عبدُه

لو امتك سقراط كل هذه الميكروفونات والشاشات..!

*وجوديّون: ما معنى الوجود الإنساني؟ ما هدفُ الحياة؟ وكيف نحياها؟ (عن كتاب "تأمّلات لساعات اللّــيل")*

  • يجب على الإنسان أن يتخلّى عن الفكرة الأحاديّة الجانب أنه هو (أو هي) موجود لوحده في العالم وعلى الآخرين أن يشكلوا له ديكورا وخلفيّة لهُ ولحياته الهامّة جدا جدا(!)، فهي فكرة خاطئة للغاية. يوجد في العالم أشخاص مثله تماما، يحاولون أن يجدوا مكانهم تحت هذه الشمس
  • عارض نيتشه وحارب كل حياته، ظاهرة الخضوع كالقطيع، التفكير النمطي والمتهادِن، إلغاء الذات العمياء أمام عادات مجتمعيّة أو أمامَ أصحاب السلطة والقوّة! وشجب نيتشه كل حياته -كما شجبه من قبله شوبنهاور- الإعتداد القومي بكل أشكاله! فلهذا من الإجرام الفكري حقا أن يقتنع أحد أن الحزب الألماني النازي اعتمد فعلا على أفكار نيتشه


انتهيت لتوّي من قراءِة كتابين: الأوّل فلسفي عميق، والثاني روائي "خيالي". (رواية جاسوسية حديثة، تتحدّث عن الربيع العربي وعن عمليّات المخابرات البريطانيّة الإجراميّة في منطقة الشرق الأوسط، في مستعمرة مضيق جبل طارق. A Delicate Truth).
الرواية مثيرة للغاية فالكاتب الإنجليزي جون لِي كاري يعرف عن ظهر قلب، كيف يكتبُ هذا اللون من القصص منذ 50 عاما. قرأتها أخيرا خلال عطلتي العائليّة السنوية، بداية على مقعد ضيّق أمام شبّاك طائرة نفّاثة حديثة صغير، ووسط هرَج مزعج وهرولة المسافرين الإسرائيليين داخل معبـَر الطائرة الضيّق، الأمر الذي يشكّل على ما أظنّ، أحجية غامضة لعلماء الاجتماع، ومن ثمّ أمام شواطئ البحر الأدرياتيكي الزرقاء الصافية والهادئة. ستستعرض مقالتي الكتابَ الأوّل فقط: "تأملاّت لساعات اللـيل" للكاتب: حاييم شابيرا  (عالم رياضيات متقاعد. جامعة تل-أبيب).





الفيلسوف الدانماركي كيركجور



*سورين كيركجور (كيرجارد): الفيلسوف الدانماركي المؤمن (كوبنهاجن: 1813- 1855)*


"شيء عفنٌ في مملكة الدانمارك!" جُملة أطلقها هامليت في مسرحيّة الكاتب الشهير شكسبير بنفس الإسم.
ولكن حياة الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجور كانت نقيّه تماما، عاشها  كلها وهو يبحث في علم الفلسفة، حتى نهايته الحزينة للغاية (وهو في بداية الأربعينيات  من عمره)، عندما انهار تماما على رصيف في شارع ببلدته بعد أن سئم الحياة، ومات في المستشفى دون أن يصيبه مرضٌ وفق ما وصفه الأطبّاء. إنّ أغلبيّة الكتب التي تستعرض فلسفة كيركجور الوجوديّة existentialism (وهو يـُعتبر بحقّ مؤسّس الفلسفة الوجوديّة، التي كان من أتباعها لاحقا وحديثا جان بول سارتر وبرتراند راسيل وغيرهما)  تأتي بالفقرة التالية من يوميّات كيركجور:
"
ما يتوجّب عليّ أن أتفحّصه وأجده هو ماذا عليّ أن أفعل في الحياة. يجبُ أن أجد ما يريده الله منّي، أن أجد حقيقتي الذاتيّة، أن أجد فكرة أو هدفا أكون مستعدا أن أحيا وأموت لأجلهما. لا لستُ مهتما باكتشاف حقيقة موضوعيّة أو طريقة فلسفيّة منظّمة. إنني أبحث فقط عن حقيقيتي الذاتيّة التي تكسبُ حياتي معنى عميقا. فما الفائدة التي سأجنيها لو وجدتُ الحقيقة تقفُ أمامي عارية، باردة ولا مبالية نحوي إن كنتُ قد شخصّتها أم لا؟ فبدون أن أجد معنى لأعمالي سأشبه ذلك الشخص الذي استأجر دارا وفرش فيها أثاثا، ولكنه لم يجد بعد تلك الواحدة التي ستشاركه أفراح الحياة وأحزانها!".
الفلسفة  الوجوديّة تيّار فلسفي حديث يضعُ الإنسان المجرّب في مركز أبحاثه. تبحث هذه الفلسفة في الإنسان المرتبك الذي يحاول أن يعيش أمام الموت. أي أنّ الإنسان هو في مركز العالَم الذي يظهر للوهلة الأولى كعالَم بارد، مشبع باليأس، وفارغ! فلنقرأ جمل كيركجور التالية لنتحقّق من ماهيّة الفلسفة الوجوديّة:
"
عندما تخترقُ أصابعك تربة ما تستطيع أن تحدّد وفق الرائحة المنبعثة من أصابعك، ماهية هذه التربة (رمليّة، وحليّة، كلسيّة، أو أخرى هـ.ع.). وها أصابعي تخترقُ الوجود البشري ولكنها تبقى معدومة الرائحة. أيـنَ أنا؟ مـَن أنا؟ كيف وصلتُ إلى ها هنا؟ ما هو هذا الشيء العالَم. ما هي ماهيّة العالَم وما معناهُ؟ من أغراني لكي أصل هنا وتركني؟ وإن حُكمَ عليّ أن أكونُ جزءاً من هذا العرض الحياتي الكبير أبلغوني لطفا أينَ هو المخرج؟ إنني أرغب بأن أعطيَـه بعض الملاحظات، وكما أطلبُ أن أضيف أسطرا جديدة للمشهد الذي سأقوم بتمثيله في حياتي. لا يوجد مـُخرج! لمن أستطيع أن أتقدّم بشكوى؟ لمــَن؟!".
انها أسئلة عميقة مشابهة تساءلها أيضا كل من إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة في كتاباتهما، كما أنّ إحدى قمم التأمـلات الوجودية، ظهرت في كتابات الفيلسوف العربي العظيم جبران خليل جبران في بداية القرن العشرين. ملخّص فلسفة كيركجور الوجوديّة كانت في المحصّلة، أن كل شخص يستطيع أن يعيش في حياته مرحلة (او طور) حياتية واحدة من ثلاثة مراحل ممكنة فقط:

1. المرحلة الجماليّة، الفنيّة
المرحلة الأولى في التحقيق الذاتي هي المرحلة الجماليّة، ولكن على القارئ\ة أن يحذر هنا من الخلط بين خصائص هذه المرحلة وبين حبّ الجمال أو حبّ الفنّ. يعتبر كيركجور هذه المرحلة أدنى مراحل الإنسان، فما يهمّ الإنسان فيها هو أن يحقّق احتياجاته الماديّة وشهواته مهما تكن. إنّ المبدأ الوحيد الذي يرشد الإنسان في المرحلة "الجمالية" هو تحقيق المتعة الذاتية، والركض وراء المتعة وتجنّب الألـَم بكل ثمن. يعتبر كيركجور هذه المرحلة الحياتيّة المتدنيّة بين الثلاث مراحل التي حدّدها وعرّفها. و ينقسم الجماليّون إلى قسمين: القسم الذي اختار بذاته وبنفسه أسلوب الحياة هذا ولا يرغب بتغييره، وأولئك الذين يعيشون هذه المرحلة دون أن يعوا ويعرفوا أنهم يستطيعون أن يختاروا مرحلة أخرى في حياتهم، ظانـّين أن هذا هو أسلوب الحياة الوحيد المتاح أمامهم! وهذا الصنف الأخير من الإنسان الذي يعيش فقط في المرحلة الجماليّة يصفه كيركجور "بالساكن في هذا العـالَم".
من مقولاته:
"
وفي مقدّمة مسيرة الأمور المضحكة للغاية يسير الأشخاص المشغولون جدا ورجال الأعمال!"
"
إنّ الذي يوجّه أرباب الأعمال هو "مبدأ المتعة". إنهم يجنون المتعة من صفقة موفّقة وناجحة، ويفرحون إن نجحوا بأن يزيدوا أموالهم من مئة مليون كرون إلى مائة وواحد ومليون!".
(
هل اطلـّع شيوخ النفط السعوديين والقطريين على جملة واحدة ممّا كتبه كيركجور؟)

2. المرحلة الأخلاقيّة:
المرحلة الثانية والأعلى هي مرحلة الحياة الأخلاقيّة. (يبدو لي أنّ الأفراد في مجتمعنا يعيشون هذه المرحلة بشكل مقتضب هذه الأيام أو معدوم نسبة لتصاعد العنف الكلامي والجسدي الشديد جدا وعلى مختلف الأصعدة!). اعتقد كيركجور أن كل الناس يعرفون الأخلاقي من غير الأخلاقي، المـُتاح والممنوع، ولكن في أغلب الحالات من المريح لهم إنكار هذه المعرفة! لأن اعتناق أسلوب الحياة الأخلاقي يحتّم علينا تغييرا جذريا وشديدا في حياتنا. ولكي يحدُث هذا التغيير الجذري يجب أن نصنع ثورة في أسلوب تفكيرنا وأن لا نتجاهل المعرفة الأخلاقيّة التي في داخلنا. يجب على الإنسان أن يتخلّى عن الفكرة الأحاديّة الجانب أنه هو (أو هي) موجود لوحده في العالم وعلى الآخرين أن يشكلوا له ديكورا وخلفيّة لهُ ولحياته الهامّة جدا جدا(!)، فهي فكرة خاطئة للغاية. (يبدو لي أن إسرائيل كدولة تفكّر منذ قيامها بهذا النمط تماما!). يوجد في العالم أشخاص مثله تماما، يحاولون أن يجدوا مكانهم تحت هذه الشمس. إنّ من يحاول أن يقفز من المرحلة الجماليّة إلى المرحلة الأخلاقيّة عليه أن يتخلّى عن الأنانيّة المرضيّة، النرجسيّة وحب المتعة المطلق!

3. المرحلة الثالثة والأخيرة، الدينيّة:
هذه هي المرحلة الأعلى وفق كيركجور. لكي يصل الإنسان إلى المرحلة الدينيّة عليه أن يقفز قفزة إيمان. لا يمكن مجرّد العبور إلى هذه المرحلة. ومن الأسهل أن  تقفز إليها وأنت في المرحلة الأخلاقيّة. الإيمان ليس بالإله بالذات، بل الإيمان بأنّ لحياة الإنسان ولوجوده على هذه الأرض يوجد معنى عميق. القفزة الإيمانيّة هي أن نتقـبَل أمرا ما لا يمكن أن تراه أو أن حتى أن تثبته. مثلا لكي نحدّد أنّ: "إثنين وإثنين تساوي أربعة" لسنا بحاجة إلى قفزة الإيمان أو إلى حتى إلى إيمان. فالأمور واضحة عقليا، ولكن لكي نقول "إنّني أومن أنّ لحياتي ولوجودي معنى عميقا" نحن نحتاج أن نقفز قفزة إيمان، إذ أنّ هذه المقولة العميقة لا يمكننا إثباتها بتاتا أو حتى لمسها والتحقّق منها.



الفيلسوف الألماني نيتشه

*فريديريك نيتشة:- الوجودي العــَلماني وفيلسوف الليل (روكين – ألمانيا 1844 - 1900)*


ومن معنى الوجود والحياة الدينيّة العليا عند كيركجور، نقفزُ معا إلى فلسفة الوجود العـَلمانية تماما والماديّة، عند نيتشه الذي عاش في فترة معاصرة نسبيا لكيركجور (ولكنه لم يقرأ أيا من كتاباته). من مقولاته:
"
يتمسّك الإنسان بمعانٍ فارغة في حياته، خوفا من أن يعيشَ حياة فارغة من أيّ معنى!"
"
هل الإنسان هو أكبر خطأ ارتكبه الإله، أم  أنّ الإله هو أكبر خطأ ارتكبه الإنسان؟"
تعرّف نيتشه في سنوات العشرين من حياته على كتابات الفيلسوف الألماني شوبنهاور، عندما وجد في مدينة لايبتسغ داخل مكتبة للكتب المستعملة، كتاب شوبنهاور "العالـَمُ  كإرادة وتصوّر". وكتب نيتشه في يومياته لاحقا أنه لم يستطع أن ينام لليال عدّة بعد أن قرأ هذا الإبداع العظيم لشوبنهاور! وعلى الرغم من أنّ نيتشه سيتحفّظ في ما بعد من تعاليم معلمه شوبنهاور ويدير لها ظهره، لكن فكرة أن العالـَم وفقا لشوبنهاور عالـَم معدوم القوّة العـٌليا تتحكّم به الإرادة العمياء، ستظلّ مع نيتشه في كل حياته القصيرة.
عارض نيتشه وحارب كل حياته، ظاهرة الخضوع كالقطيع، التفكير النمطي والمتهادِن، إلغاء الذات العمياء أمام عادات مجتمعيّة أو أمامَ أصحاب السلطة والقوّة! وشجب نيتشه كل حياته -كما شجبه من قبله شوبنهاور- الإعتداد القومي بكل أشكاله! فلهذا من الإجرام الفكري حقا أن يقتنع أحد أن الحزب الألماني النازي اعتمد فعلا على أفكار نيتشه الفلسفيّة في أيدولوجيا النازية العنصريّة! إنّ هؤلاء النازيين لم يفقهوا شيئا من كتابات نيتشه الفلسفيّة العميقة، مع أنّهم اعلنوا أنّهم اعتنقوها! (تماما كما لم يفقه هيتلر شيئا من مئات الكتب التي قرأها كلها، لا بل وضع ملاحظاته العديدة والمشدّدة عليها، كما أثبت ذلك المؤرخ الأمريكي الشهير تـيموثي رييباك في كتابه الشيّق: "مكتبة هيتلر الخاصة!" Hitler's Private Library، والتي وجدَ مئات الكتب فيها الجنود السوفييت الأبطال عندما اقتحموا الملجأ الذي انتحر فيه هيتلر في برلين).
في العام 1889 وصل نيتشه إلى قمة حياته الإبداعيّة. في الثلاث سنين التي مضت وصل إلى قمّة بحثه الفلسفي عندما نشر كتبا عديدة منها وأشهرها: "هكذا قال زارادِشت!" ويقال انّ جبران خليل جبران تأثر أيضا من أسلوب كتاب نيتشه الأدبي أعلاه عندما أصدر باكورة أعماله: "النبي". وفي ذات يوم عندما كان يتجوّل نيتشه في شوارع تورنتو (إيطاليا)، وعلى الرغم أنه كان يرفض كليا في فلسفته مبدأ الشفقة ومبادئ أخرى من الأخلاقيات المتداولة (بعكس مبدأ مساعدة الغير) رأى مشهدا هزّ كل أركان حياته! لقد شاهد سائق عربة خيل يجلدُ بسوطـِه الحصانَ بقسوة شديدة دون رأفة! فامتلأ قلب نيتشه شفقة بالحصان واهتزّت نفسُه كلها، وركض بقوّة وعانق الحصان بقوّة فتوقّف سائق العربة مذهولا، وأخذ نيتشه يلامس جسد الحصان المجلود بنعومة، وصار يجهش بالبكاء وانهار تحته. بعد هذا الحادث لزم نيتشه بقيّة حياته الفراش، وأصبح مشلولا يهذي بكلمات غير مفهومة حتى وفاته! فهل يا تـُرى اطّلع شاعرنا الكبير محمود درويش على قصّة حياة نيتشه عندما كتبَ ديوانه الشهير "لماذا تركتَ الحصان وحيدا؟". لم يترك نيتشه الحصان وحيدا تحت سوط الجلاّد! ودرويش انتظر وتمنّى عودة أصحاب الحصان الوحيد إليه لكي لا يبقى وحيدا.


*الإنسان وما بعده أو ما فوقه (Ubermensch)*


أخذت فلسفة نيتشه الوجوديّة عندما اكتملت تسعى وتتنبأ بصعود ما بعد الإنسان أو ما فوقه. (مرحلة أعلى من الإنسان العاديّ). لا ليس المقصود سوبرمان أو بات-مان أو بكل أبطال الأفلام الأميركية السخيفة! القصد هو أنّ على الإنسان، كل واحد منا (وليس فقط من شعب معيّن!) وعلى الرغم من الفروقات بين شخص وآخر، أن يطوّر نفسه ليتخطى حدوده إلى ما بعد الإنسان. وكتب نيتشه: توجد هوّة كبيرة بين الإنسان العادي وبين ما بعده، لكي يتخطّاها عليه أن يقفز لكي لا يقع في الهاوية!" (تذكرون قفزة الإيمان عند كيركجور).
ولكي يصل الشخص إلى هذه المرحلة العليا من تحقيق ذاته القصوى عليه أن يتغلّب على ثلاثة عوائق بشريّة أسماها نيتشه بأمراض إنسانيّة ونقاط ضعف تمنع الإنسان من الصعود والإرتقاء إلى مرحلة ما بعد الإنسان.




1. 
داء النفاق والرياء: أول وأصعب داء موجود عند الإنسان والإنسانيّة وفق نيتشه هو النفاق. إنّ قوانين الأخلاق المتوارثة هي في الواقع طريقة الضعفاء الذين توحّدوا معا لكي يفرضوا على المجتمع أخلاقيـّاتهم. المواعظ الأخلاقية كما أشار الكاتب البريطاني هـ. ويلز، هي في واقع الأمر شعور قوي بالحسد تحت زي تنكريّ: أشخاص صغار يحسدون من استطاع التحليق. لا توجد هناك ظواهر أخلاقيّة، بل تفسيرات وتعليلات أخلاقيّة لظواهر إجتماعيّة.
2. 
داء عدم المبالاة: الداء الثاني هو داء عدم المبالاة. عدم المبالاة لقضايا شعبك، أو لمجتمعك والتصرّف أنا لوحدي فقط في هذه الدنيا! إنّ عدم المبالاة تؤدي بالإنسان مباشرة إلى السخرية من أي عمل جيّد، وإلى إضعاف طاقة وروح الحياة، وإلى التوق إلى اللا شيء، والى العدميّة. ووفق الكاتب الروسي العظيم دوستويفسكي: "يجب علينا عشق الحياة قبل أن نفهم معناها. يجب أن نـُحبّ الحياة قبل المنطـِق، عندها فقط نستطيع ربما أن نفهم ماهيّتها!"
3. 
داء الرهبة والخوف: الداء الإنساني الثالث والأخير. شخّص نيتشه أن الإنسان هو بطبيعته كائن حي خائف حتى النخاع. الخوف هو الذي يدفعه في أفعاله غالبية الوقت وليس مصالحه أو حتى رغباته. الإنسان يخاف من كل شيء قد يؤذيه بشكل معيّن: إنّه كائنٌ حي مشلول ومطارَد.
الخوف من الفشل أو الخسارة. الخوف من قول كلمة حق أمام صديق أو قريب لئلا يزعل. الخوف من فقدان مكان العمل أو عدم تقدّمك فيه إن عارضت المدير، والخوف ممّا سيظنّه الناس عنك لو قمت بعمل ما، وهذا أسخف خوف موجود برأيي. وفي هذا المضمار يوجد كتاب رائع لفيزيائي أمريكي، ريتشارد فينمان: "مـَا يهمّك ما يظنّه الناس عنك؟".
نستطيع أن نقول في ملخّص فلسفة نيتشه انّ كل إنسان، يستطيع أن يتغلّب إن أراد بقواه الذاتيّة (أو بمساعدة أقربائه وأصدقائه ورفاقه) على داء واحد أو أكثر من الأمراض الإنسانية الثلاثة (ولم يسمّها نيتشه أمراضا نفسيّة، بل أسماها أمراضا إنسانية موجودة في كل إنسان). سيتحرّر من قيوده، ويقترب ويحلّق ليقفز أكثر وبسرعة إلى مرحلة ما بعد الإنسان التي هي المرحلة الأخيرة. واعتبر نيتشه ان كل من هرقليطيس، أفلاطون، بيتهوفين، دويستويفسكي، شوبنهاور، شيكسبير، ليوناردو دافينشي، وقلائل أخرين قد حقّقوا في حياتهم الوصول إلى مرحلة ما فوق الإنسان! وفي ختام هذه الجولة أذكر أن كل من كيركجور، نيتشه، وفيتنجشطاين كان ينعزل عن الناس مدة أسابيع طويلة ويقضي وقته وحيدا منعزلا يتجوّل في رحلات جبلية ليعود ليلا إلى قرية يبات فيها، حتى يصل إلى هذه التأملات. وأنا أتساءل هنا لو كان نيتشه يعيش الآن بيننا كيف له أن ينعزل مع كل هذه التلفونات الخليّوية "الذكيّة" والفيسبوك والمييلات، والتويتر التي ترن وترجّ وتصنّ باستمرار في كل مكان وزمان: في المدينة والقرية أو الجبل والسهل؟ كيف؟


*خاتمة*


لا أجدُ في نهاية عجالتي التي طالت كثيرا إلا أن أسوق هنا جملة تقلبُ تماما كل ما جاء في كتابات توراتيّة قديمة في سفر الجامعة:
"
يوجد جديد تحت الشمس \ كل شيء فيه تغيير \ الكل هو حريّة \ إنّهُ جديدٌ ممكن \ الآن!"
(
من كتاب "تأمُـلاّت أمسْتردامـِيّة. ظاهـِرتيّة الوعي والإدراك" للكاتب يهودا عيتاي). فلو نظرنا جيدا من حولنا نرى أن كل شيء تغيّر كأفراد وكمجتمع وكشعب، فهل لنا أن نمسكُ بزمام هذا التغيير لنروّضه ونوجّهه لمصلحتنا؟ أم سنهاب ونخاف منه، ولا نبالي ومن ثمّ نبكي على أطلال مضت؟ ما هو هدفكَ، قارئ هذه السطور في الحياة؟ وما هي أهدافنا نحن كجماهير ومجتمع وشعب على هذه الأرض الطيّبة "التي نستحق نحن عليها الحياة"؟


(حيفا)
السبت 24/8/2013

ملاحظة: قراءة مختلفة لنيتشه يقوم بها الكاتب. (م.ح)


ليست هناك تعليقات: