الأربعاء، 4 أبريل 2018

غداً يومٌ آخر؛ محطات من ذاكرة صديق.




من الآخر (من الذاكرة)

كان في إجازة.
في الرابع من حزيران عام 1982 بدأ القصف الإسرائيلي على أرنون وبقية المواقع العسكرية للقوات المشتركة الفلسطينية اللبنانية في الجنوب وبيروت.
قطع إجازته وعاد إلى مركزه العسكري الذي كان مسؤولاً عنه. هو موقع مدفعية يضم حوالي عشرين عسكرياً ومدفعاً من عيار 130 ملم، إضافة إلى مدفع آخر من عيار 76 ملم.
كان هذا المركز قد أنشئ قبل حوالي نصف سنة من تاريخه. موقع معزول في مرتفع مطل في منطقة إقليم الخروب، يسمى القريعة، وهو ربما الموقع الوحيد الذي لم يتعرض لقصف الطيران الإسرائيلي قبل ذلك بفضل التمويه الكبير الذي كان معتمداً، بسبب الحرص على عدم ترك أي أثر يمكن أن يصورة الطيران، من علبة السجائر إلى الأسلحة التي كانت مموهة بأشجار القندول، والخيم المنصوبة تحت أشجار الصنوبر المعمرة.
أول ما قام به هو تحضير الإحداثيات لأهداف محتملة. المدى الأقصى الذي يمكن أن تصله قذائف المدفع 130 كانت منطقة مرجعيون.
في النهار كان التدبير المعتمد هو انتشار العسكريين بعيداً عن الموقع تحسباً لاكتشاف المربض وقصفه من الطيران. وفي الليل كانت الحراسة تحسباً لإنزال ما..
على أجهزة اللاسلكي كان يتم رصد الكثير من المكالمات العبرية.
مرّ اليوم الأول واليوم الثاني. في ليل اليوم الثاني حضر إلى الموقع النقيب ع. ط. المسؤول عن قطعات المدفعية، وهو ضابط سابق في الجيش اللبناني.
تم إخباره بأن المدرعات الإسرائيلية في تلك الأثناء كانت على طريق عام مرجعيون، وهي طريق كان قد تم التحضير لها مسبقاً كهدف محتمل. وافق النقيب على ضرب تلك الطريق. وقبل أن تبتعد سيارته عن المكان، بدأ تنفيذ الأمر بإطلاق حوالي عشر قذائف من رصيد كان لا يتجاوز الخمس عشرة منها، ثم تم تمويه المدفع من جديد بشكل جيد.
في صباح اليوم التالي، تم تنفيذ الاجراءات المتبعة: الانتشار بعيداً عن المربض، مع توزيع بعض الذخائر الاحتياطية الإضافية. تم الانتشار في منطقة وسيطة بين المربض وموقع عسكري آخر يبعد بضعة كيلومترات من المكان.
الاندفاعة الإسرائيلية كانت سريعة ضمن خطة ما. كانت بعض الجيوب المقاوِمة تُترك ويتم تجاوزها والاندفاع نحو الأمام. بدأت أصوات طلقات تسمع في مكان يبعد حوالي الكيلومتر الواحد عن مكان انتشار المقاتلين. الخطوة التالية كانت في الانتقال إلى المركز العسكري التالي، وهي خطوة كانت ملحوظة مسبقاً بسبب وجود الموقع الأول في منطقةٍ حرجية معزولة دون وجود التموين الذي كان يتم إحضاره إلى المكان بشكل يومي. والسلاح الذي كان موجوداً في الموقع الأول يقتصر على مدفعين والأسلحة الفردية.
لكن الموقع البديل كان خالياً تماماً.
تم التوجه شمالاً عبر بساتين الزيتون، حيث كانت هناك مجموعة من بعض القوى الصديقة منتشرةً في المكان. شعر مسؤول المجموعة بخور في قواه، وتذكر أنه لم يذق الطعام منذ يومين. كان لدى المجموعة الصديقة في المكان بعض اللحوم المعلبة، فتح إحدى معلبات اللحم البقري وتناول بهضها قضماً لعدم وجود الخبز، مما سمح له باستعاد قدرته على السير، ثم قرر التوجه سيراً نحو المواقع المركزية في بيروت، مستعيناً بخارطة طبوغرافية وبوصلة لتحديد الاتجاه المناسب.
حوالي الخامسة عصراً، وصل الجميع إلى منطقة فيها موقع عسكري يضم بضعة مدافع من عيار 130 ملم، (ربما ثلاثة أو أربعة مدافع)، الموقع كان خالياً. وتحاشيه لم يكن ممكناً. يجب معرفة المنطقة ومعرفة الطرف صاحب الموقع العسكري. كان هناك احتمال أن يكون الموقع لإحدى قوى الخصوم. الحذر كان مطلوباً، والتعب والإنهاك لا يسمحان بالالتفاف والابتعاد عن الموقع لمتابعة المسير.
طلب من المجموعة المرافقة (وهي كانت قد انقسمت إلى مجموعتين في بداية الرحلة) الانتشار بشكل قتالي حول الموقع، ثم دخل هو إلى إحدى الخيم المنصوبة في المكان. كان يبحث عن نشرة سياسية أو أي أثر يدل على الهوية السياسية لأصحابه.. لكنه لم يجد شيئاً.
كانت هناك علبة من راحة الحلقوم تناول بعضاً منها على جوع.
الموقع كان قبالة قرية تبعد حوالي أقل من الكيلومتر الواحد، دخوله إلى المكان كان مراقباً، فحضرت سيارتان عسكريتان.
اقترب من السيارة الأولى وتفحص في مستقليها وشاهد شعارات أحد الأحزاب اليسارية على ملابسهم العسكرية، فأشار إلى المجموعة المتمركزة بالحضور. صعدت المجموع في السيارات وانطلق الجميع نحو القرية. طلب من المجموعة تأمين سلاحهم بعد أن كان مهيّأً للاستخدام. وبالرغم من حصول ذلك، فقد بدا الخوف على أفراد المجموعة الصديقة وتكرار الطلب بتأمين الأسلحة ..
عند الوصول إلى المركز الحزبي للقوة المذكورة، تبيّن أنها تعج بالقوات المنسحبة وكان ذلك المركز محطة في الطريق إلى بيروت.
كانت تلك القوة الصديقة تخبر الجميع بأن الإسرائيليين على مداخل البلدة، وبأن على الجميع تسليم سلاحهم وارتداء الثياب المدنية قبل متابعة طريقهم نحو بيروت من معبر جسر القاضي..
كان أمراً مفاجئاً إلى حد كبير، رغم أن أحوال من وصلوا إلى المكان لم تكن تسمح بالكثير من الأحاسيس، التي يمكن أن يفكروا فيها لاحقاً، أما في تلك اللحظة فكان الإرهاق والبحث عن التقاط النفس هو السيد.
مع الإشارة إلى أن مسؤول المجموعة "المهاجرة" كان قد اقترح على القوات الصديقة بعد وصول السيارتين العسكريتين إلى المكان بالبقاء معهم في الموقع، كون المجموعة "المهاجرة" متخصصة في هذا النوع من المدفعية، فكان الجواب أن لا حاجة إلى ذلك، وبأن الإسرائيليين يطوقون المكان.
تم تسليم الأسلحة في المركز المذكور بناءً على محضر تسلم وتسليم، باعتبار أن المسألة مؤقتة، أو هو ربما بسبب اعتياد هذه التدابير العسكرية. تسلم وتسليم السلاح بالأرقام وبالتفاصيل.
تمت المغادرة من جديد، ولم يكن هناك أسرائيليون على الطريق رغم طول المسير. هل هي خدعةٌ إذاً؟ لماذا تريد تلك القوة الصديقة الحصول على سلاح المقاتلين المنسحبين الفردي إذا لم يكن هناك قوات إسرائيلية على المداخل؟
ولماذا بقي هذا الموقع المكشوف بمدافعه المكشوفة أيضاً دون استهداف الطيران رغم استهداف كل المواقع المشابهة في أماكن أخرى؟ أسئلة بدأت تخطر في البال.
كانت أرتال المنسحبين على الطريق إلى جسر القاضي تشبه القطار الطويل الذي لا تبدو نهايته.
وفي منطقة جسر القاضي، في الحادية عشرة ليلاً تقريباً، كان أحدهم يسأل: هل يوجد أحدٌ من الفصيل الفلاني؟
كانت والدة أحد رفاق مسؤول المجموعة قد استقلت سيارة أحد أقاربه وجاءت للبحث عنه.
كانت جائزةً غير متوقعة. استقل صاحبنا ورفيقه السيارة وكانت وجهة سيرهم البقاع بدلاً من بيروت.
في البقاع كانت هناك أماكن تجمع تستقبل المنسحبين، يعودون أولاً إلى منازلهم للعودة إليها بعد استعادة النفس والقليل من الراحة والتحضير للمرحلة المقبلة.
وصل صاحبنا إلى منزله في الثانية بعد منتصف الليل. كان الجميع نياماً أو شبه نيام..
غداً سيكون يوماً آخر. ومرحلة أخرى. ومعطياتٍ أخرى. وإنساناً آخر. ومراجعاتٍ لا تنتهي.
خرجت قافلة النار من بيروت. وضع الأشقاء يدهم بشكل كامل على ما تبقى من البلاد، غاب هامش الخيارات عن الكثير من القوى التي كانت تتمتع به في مناطق كانت تسمح بمثل ذلك الهامش. كان عليها إما الذوبان بشكل كامل في بحر الأخوّة أو الذوبان، الذوبان فقط.

(من محطات من ذاكرة صديق)



ليست هناك تعليقات: