الأحد، 10 سبتمبر 2017

ميشيل عفلق أديباً.. رأس سعيد أفندي





ميشيل عفلق أديباً..

رأس سعيد أفندي

خرج سعيد أفندي من بيته مستأنسا بالظلام، فكل نور يطفأ في الشارع كأنه عبء يسقط عنه، كان شديد الرغبة في العزلة فاستأنس بالطريق الموحشة والحوانيت المغلقة والبيوت النائمة.
لم يكن يقر لها بأي قيمة من قبل وهي الآن أشياء حية تؤنسه.
توقف وبصق، وذلك عنده علامة التفكير. إنه أمام مفصلة.. كانت كل حركة في الشارع تثيره وبصق مرة أخرى يفكر: كيف يهرب من فكره؟ لم تخطر له المشكلة من قبل ولكنها تبدو معقولة جدا!
وأطل القمر، فامتد لسعيد أفندي ظل بعيد في الشارع، أخذ يدلف معه، يتسلق الجدران تارة ويزحف على الأرض أخرى كأنما يهزأ منه.. وتضخم رأسه حتى بدا غريبا عنه، وتمنى لو يخلص منه، وهربت الحياة إلى قدميه فأخذ يسرع، ويتنقل من شارع إلى شارع لعله يهرب من ظله ورأسه... وكاد سعيد أفندي يجن، وأمسك رأسه بين يديه كأنما هو قنبلة تكاد تنفجر.. وخطرت له فكرة الخلاص: السكر! لم يكن قد ذاق الخمر بحياته، ولكن الخمر تنسي كما يقولون، ودخل الحانة فعل ثم نهل، وشرب مغمض العينين كمن يشرب الدواء، ولكن فكرته ظلت تنسجم في كل ما حوله... وحين خطر بباله أنه أتعس إنسان استراح قليلا.. ولكن حديث بعض السكارى حوله أهاج فيه الشوق للجريمة، فنظر إلى يديه يريد أن يتبين فيهما آثار الدماء... كان أحدهم- وهو البدين الضاحك- يقول:
- ..
وفتح الباب ووجد زوجه مع عشيقها! فماذا فعل؟
قتلها؟ قتله؟ قتلهما وانتحر؟.. لا بل صرخ ماذا يقول الناس لو عرفوا ذلك؟ وانتصب سعيد أفندي وسط حلقة السكارى يصرخ:
-
بأي حق تتكلم بهذه الوقاحة عن الآخرين؟
وأمسك بعنق المتحدث فأمسك رفاقه به وانهالوا عليه.. وحين أفاق سعيد أفندي من إغمائه كان أول ما عاد إليه رأسه، ومع الرأس الماضي، ومع الماضي... الفكرة، وشعر بلهفة إلى صفعة تثيره.. ويدخل الحانة اثنان في تلك الأثناء، يقول أولهما:
-
يشغلني الآن كتابي عن (الاسكندر)، إني أبحث فيما إذا دعي ذا القرنين لأن امرأته كانت تخونه أم...
واهتز سعيد أفندي ثم أسرع يدفع حسابه وانصرف... ورأسه ما تزال تؤلمه.. وتذكر كلمة البدين (قتلهما وانتحر...) وبما أنه لم يقتل أحدا فلم يبق إلا أن ينتحر... ولكن أين؟
مرّ الظل معه أمام نهر المدينة فقفز للضفة الأخرى ثم مرّ أمام صيدلية مفتوحة، فزحف على الأرض كي لا يدخلها، ثم وجد نفسه أمام حي المومسات.. وبين يدي إحداهن، في الظلام، استراح من ظله ولم يعد سعيد أفندي يشعر بوجود رأسه.

رابط المقالة:
Top of Form

Bottom of Form


ليست هناك تعليقات: