الخميس، 9 أبريل 2020

أصل الأفكار عند جون لوك؛ وليم رايت.





وليم كلي رايت
تاريخ الفلسفة الحديثة
ترجمة محمود سيد أحمد
مراجعة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام
دار التنوير  الطبعة الأولى 2010


فترات الفلسفة الحديثة (من مقدمة الكتاب؛ ص28)

من الخطأ افتراض أن هناك أيَّ تاريخ دقيق لنهاية فلسفة العصور الوسطى، وبداية الفلسفة الحديثة، لأن فلسفة العصور الوسطى لم تنتهِ على الإطلاق؛ فهي لا تزال تعيش حتى يومنا الراهن. ولقد بدأ إحياء المذهب السكولائي على يد ليون الثالث عشر [1879]، والكردينال مرسييه وآخرين، واستمر الباحثون الكاثوليك المعتدلون في الترويج له بقوّة تحت اسم السكولائية الجديدة.
فقد اعتقد هؤلاء أن تعاليم القديس توما الأكويني في القرن الثالث عشر يمكن تعديلها لتلائم علم القرن العشرين وحياته الاجتماعية دون التخلي عن أي شيء جوهري في السكولائية، ولذلك لم يكونوا مستعدّين لأن يقبلوا سوى خصائص الفلسفة الحديثة التي تلائمها. ولقد تشكل معظم لاهوت الكنائس البروتستانتية القديمة إبّان القرن السادس عشر وقبل ظهور أعمال معظم الفلاسفة المحدثين العلمانيين، ومن ثَم فقد انطوت على قدْرٍ كبيرٍ من وجهة وجهة النظر السكولائية، وكانت النتيجة هي أنّ اللاهوتيين البروتستانت المحافظين بصورة كبيرة في العصر الحالي كانوا على اتفاق كبير مع القديس توما الأكويني، أو على الأقل مع القديس أوغسطين، بقدر اتفاقهم مع مفكري القرن السابع عشر من أمثال فرنسيس بيكون وديكارت أو مع فلاسفة علمانيين لاحقين.
لقد استبقت الفلسفة الحديثة إلى الظهور عندما وحيثما بدأ كل شخص في التفكير بصورة مستقلة عن المعتقدات التي قبلها الناس، ونظر في هذه الأمور بنفسه. ويصدق ذلك على روجر بيكون (1214ـ 1294م) رغم أنه لم يكن له سوى تأثير ضئيل على المفكرين اللاحقين، ولذلك فإننا لا نستطيع أن نؤرّخ لبداية الفلسفة الحديثة منه. فهناك كتّابٌ كثيرون في إيطاليا في القرن الخامس عشر استبقوا الفلسفة الحديثة في مسائلَ متعددةٍ، ويمكن أن ننظر إليهم على أنهم المبشرون بها. فإحياء دراسة الآداب اليونانية والرومانية في أكاديمية فلورنسا عام 1440، في محاولة لمحاكاة واعية لأكاديمية أفلاطون، تدل على رغبةٍ قوية لفهم الفلسفة القديمة بروح القدماء أنفسهم، والانفصال عن السكولائية. وربما يكون أفضل تاريخ يوضع لبداية الفلسفة الحديثة (مع أنه حكمٌ تعسّفي إلى حدٍ كبير) هو عام 1453م، عندما استولى الأتراك على القسطنطينية وقضوا على الأمبراطورية البيزنطية، وجاء معظم الباحثين اليونانيين إلى إيطاليا، وثات فيهم الرغبة لفهم الفلسفة اليونانية القديمة من وجهة نظر علمانية.
وتُسَمّى حقبة الفلسفة الحديثة التي بدأت عام 1453 باسم عصر النهضة Renaissance. وتقسم تقسيماً فرعياً إلى فترتين. الفترة الأولى هي الفترة الإنسانية، وأثناء هذه الفترة (التي تبدأ من 1453 حتى موت برونو عام 1600)، كانت قيادة الفلسفة في إيطاليا، وقد استمد بعث الروح في الفلسفة من دراسة الفلاسفة القدماء اليونان واللاتين (بدلاً من فلاسفة العصر الوسيط)، على الرغم من أنه كان هنااك أيضاً اهتمام كبير بما أنتجه العلم الحديث من قدر ضئيل . أما الفترة الثانية منعصر النهضة فيؤرَّخ لها ابتداءً من 1600 حتى 1690. وهذه الفترة هي القرن الذي لمع فيه فرنسيس بيكون، وتوماس هوبز، في أنجلترا، وديكارت واسبينوزا وليبنتس في قارة أوروبا. وقد قبل جميع فلاسفة تلك الفترة بوعي مناهجَ ووجهات نظر العلماء الطبيعيين المعاصرين لهم، وقد ساهموا هم بدورهم في بعض الأحيان في الرياضيات والعلوم الطبيعية. ولقد كانوا جميعاً على ثقةٍ من نجاح الفلسفة العظيم في الكشف عن طبيعة الواقع، ولم يتردد معظمُهم في تطوير مذاهب. وعلى الرغم من أن تلك الفترة انتهت رسمياً عام 1690، فإن بعض فلاسفتها ـ من أمثال ديكارت واسبينوزا ـ كان لهم تأثير كبير علىكثير من فلاسفة لاقرن العشرين.
ولقد افتتح عصر التنوير بنشر كتاب لوك "مقال في الفهم الإنساني" عام 1690. وكان من بين المفكرين العظام في تلك الفترة: لوك وباركلي وهيوم في بريطانيا العظمى، وفولتير وروسو في فرنسا. ولم يكن هؤلاء الفلاسفة بُناة مذاهب محكمة مثل فلاسفة الفترة السابقة؛ لأنهم اعتقدوا أن الموضوع المناسب لدراسة الجنس البشري هو الإنسان لا الكون؛ لقد كان هؤلاء الفلاسفة هادمين أقوياء للخرافة ومناصرين للحرية الفردية وحقوق الإنسان. وقد حرّكت الثورة الإنجليزية عام 1688 فكرَهم، وكان تأثيرهم سبباً جزئياً للثورة الأميركية عام 1776 والثورة الفرنسية عام 1789.
وعلى حين أنّ المؤرّخين اعتادوا أن يضعوا نهاية لتلك الفترة عام 1781 (عندما بدأت بالتاكيد حركةٌ جديدةٌ في ألمانيا)، فإنه يستحيل وضع تاريخ إيجابي لنهايتها. ويمكن أن تصنّف فلاسفة القرن التاسع عشر في بعض النواحي من أمثال: بنتام وجون ستيوارت مل وأوغست كونت على أهم استمرار لعصر التنوير. وقد عبّر فلاسفة القرن العشرين من جوانبَ كثيرةٍ عن روح عصر التنوير من أمثال: وليم جيمس وجون ديوي وجورج سنتيانا وبرتراند راسل.
وتبدأ الفترة المثالية عادةً من 1781 (العام الذي ظهر فيه كتاب كانط "نقد العقل المحض") حتى موت هيغل 1831. ولقد قاد الألمان العالم بأصالة تفكيرهم الفلسفي وعمقه. وقد اعتقد كل واحدٍ من الفلاسفة الألمان في هذه الفترة بشكلٍ أو بآخر أن العالم روحيٌّ في طبيعته ـ أعني أنهم عبّروا عن عقلٍ أو روحٍ كلّية. وقد ألهمت وجهة النظر هذه الشعر والدين، وكان ذلك هو العصر الرومانسي العظيم في الأدب الألماني (غوتيه، شيلر، وآخرون كثيرون). ولقد عبّر شعراء أنكليز من أمثال وردزورث، وشيلي، وكوليردج، وتينسون، وبراوننج، بالإضافة إلى أميرسون في أميركا، عن أفكار تشبه إلى حدٍ كبير أفكار الفلاسفة المثاليين الألمان. وليس من الضروري أن نفترض أنهم درسوا هؤلاء الفلاسفة في جميع الحالات دراسة دقيقة وشاملة. لقد ألهمت الحركة المثالية مجموعةً من أفضل الفلاسفة أواخر القرن التاسع عشر، وقد استمر لها أنصارٌ حتى اليوم، في بريطانيا العظمى وإيطاليا بصفةٍ خاصة.
لقد أصبح من المألوف أن نطلق على الأجيال في تاريخ الفلسفة الحديثة التي أعقبت موت هيغل اسم الفترة المعاصرة. في هذه الفترة واصلت مؤثرات آتية من فترات أخرى عملها، لم ينته قط تأثر أيٍ منها بالفعل. الجديد في الفترة المعاصرة هو تأثير فكرة التطور على الفلسفة، تلك الفكرة التي أصبحت مقبولةً قبولاً عاماً في علم الفلك، والجيولوجيا، والبيولوجيا، كما قدمت منهجاً مختلفاً في التفسير للتاريخ والعلوم الاجتماعية المختلفة. والمذهب الواقعي والبراغماتي هما اتجاهان مميّزان للقرن العشرين، خاصةً في بريطانيا العظمى وأميركا.

محطات في تاريخ الفلسفة الحديثة:

ومن ثَمّ يمكننا أن نصنّف قائمةً بفترات الفلسفة الحديثة، مع التحفظات التي ذكرناها، جنباً إلى جنب مع بعض الفلاسفة الذين سنناقش كلَّ واحدٍ منهم في هذا الكتاب على النحو التالي:
ـ عصر النهضة: الفترة الإنسانية: 1453ـ 1600 (1600 عام وفاة جيوردانو برونو)
فترة العلم الطبيعي: 1600ـ 1690 (بيكون، هوبز، ديكارت، اسبينوزا، ليبنتس) [1690 عام ظهور كتاب "مقالة في الفهم الإنساني" لجون لوك]
ـ عصر التنوير: 1690ـ 1781 (لوك، باركلي، هيوم) [1781 عام ظهور كتاب "نقد العقل المحض" لـ كانط]
ـ الفترة المثالية: 1781ـ 1831 (كانط، فشته، هيغل) [1831 عام وفاة هيغل]
ـ الفترة الحاليّة: منذ 1831 (شوبنهور، كونت، مل، سبنسر، نيتشه، رويس، جيمس، ديوي، برغسون، ألكسندر)

جون لوك (1632ـ 1704):

الأنوار: .. ولولا عصر التنوير، لكنّا لا نزال نحرق الساحرات والزنادقة، ولا نزال نبحث عن شفاء الأمراض وننال الحظ السعيد عن طريق استخدام الرقى والتعاويذ، ونخشى السحر، والعين الشريرة، ونرى الأشباح، ونستشير الدجالين، والمتنبّئين بالبخت، ومعرفة أحداث المستقبل. (ولم رايت؛ تاريخ الفلسفة الحديثة؛ ص 145)

رفض الأفكار الفطرية:

لقد أحيا مفكرون محافظون في أنكلترا .. التصوّر الرواقي القديم الخاص بالأفكار الفطرية، مفترضين أنها تولد مع العقل البشري وتقبلها جميع الأجناس البشرية قبولاً عاماً.. مثل قانون الهوّية وقانون [عدم] التناقض.. وقل مثل ذلك في معظم المبادئ الأخلاقية الأساسية، والضمير، والله.
ولمّا كان لوك يؤمن بالله، وبالأخلاق، والعلم؛ فإنه لم يشارك في النظرة الطبيعية عند رجال مثل هوبز، غير أنه لم يعتقد أنه يمكن تفنيد هوبز عن طريق تأكيد الأفكار الفطرية.
ويصرّ لوك على أن الأطفال لا يعون، في واقع الأمر، قوانين المنطق.. ويعيش الهمج بدون صياغة لقواعد المنطق تلك..(157)
ويثبت لوك أنه إذا كان الله قد أعطى الناس أية أفكار فطرية على الإطلاق، فلا بدّ أن يكون قد أعطاهم فكرةً فطريةً عن ذاته، لكنه لم يفعل ذلك.
ويصرّ لوك على أن المُدافِع عن الأفكار الفطرية لا يقول إن بعض الأفكار فطريةٌ بمعنى أنّ الناس لديهم ميلٌ فطريٌّ لاكتسابها حالما يجرّبون، ويتعلّمون استخدام عقولهم؛ لأنه بهذا المعنى تكون كل فكرةٍ فطريةً، ولا يكون هناك تمييز يقدم يقيناً أعلى وسلطةً أبعد لبعض الأفكار التي يمكن تفضيلها على أفكار أخرى. (158)
.. لماذا لم يذكر لوك ديكارت في هجومه على المذهب [الفطري]؟
لماذا وجّه انتقاداته ضد فلاسفة أقلَّ شهرةً..؟
قد لا تبدو الأفكار الفطرية.. للوك جزءاً جوهرياً من فلسفة ديكارت. ويتفق لوك مع ديكارت على أن أفكاراً معيّنة تُعرف بأنها صادقة عن طريق حدسٍ مباشر، وأنّ أفكاراً أخرى يمكن أن تُستَنبَط منها. وعلى هذا النحو، اعتقد لوك.. أنه من الممكن البرهنة على حقائق الرياضيات والأخلاق وأيضاً حقائق وجودنا الخاص، وحقائق وجود الله..
لكن خطأ ديكارت الوحيد يتمثّل في افتراضه أن هذه الأفكار تكون فطرية ولا ترجع في أصلها إلى التجربة. (159)

4ـ أصل الأفكار:

.. طالما أنه لا توجد أفكار فطرية، فإن لوك ينتقل في الكتاب الثاني من كتابه "مقال.." إلى تقديم تفسير سيكولوجي عظيم للطريقة التي نكتسب بها أفكاراً عن طريق التجربة،

إن عقل الطفل يكون خالياً تماماً من الأفكار، قبل أن يستقبل أيّ إحساساتٍ من حيث إنها نتيجة مثيرٍ لأعضائه الجسمية؛ فهو أشبه بخزانةٍ فارغةٍ من الأدراج، أو صفحة بيضاء لم يطبع عليها شيء، أو قطعة من الورق الأبيض لم يكتب عليها شيء. وقد أسيء فهم هذه الأشكال من الكلام أحياناً. فلوك لا يعني بها سوى أن العقل يكون في تلك المرحلة خالياً من المضامين، وهذه المضامين لا يمكن أن تأتي إلا من التجربة فقط. إن تفسير لوك يقرّ للعقل بقوى فطرية بصورة واضحة، تركب، وتقارن، وتربط، وتقوم بتجريدات من الأفكار البسيطة التي يستقبلها العقل من قبل بصورة سلبية في التجربة؛ ومجرد أن يكون لدى العقل مادةٌ يؤثر فيها، يقوم بدور فعال في عملية الحصول على معرفةٍ حقيقية. (159)



.."إن الذهن لا يستطيع أن يصنع ولا يحطّم فكرةً بسيطةً واحدة، لأننا نستقبل هذه الأفكار بصورةٍ سلبيّة".
[والأفكار البسيطة لها مصادر ثلاثة بحسب لوك، فمنها ما هو ناتج عن الحواس] "مثل الألوان، والأصوات، والطعوم، والنغمات، واللمس، والحرارة والصلابة، وهناك أفكارٌ بسيطة نستقبلها من أكثر من حاسة، مثل المكان والشكل والحركة والسكون.
وهناك أيضاً أفكار التأمل الذاتي البسيطة reflection، التي تنشأ من وعينا بعملياتنا العقلية وملاحظتها، ومن أمثلتها أفكارنا الخاصة بالإدراك والتفكير والشك والاعتقاد والمعرفة والإرادة.. وأخيراً هناك الأفكار البسيطة التي نستقبلها من كل من الإحساس والتأمل الذاتي، مثل الألم، واللذة، والوجود والوحدة والتتابع. وكل هذه الأفكار البسيطة واضحة بدرجةٍ كافية ما عدا فكرة "القوة"، التي نحصل عليها من "الملاحظة، إذ يمكننا أن نحرك أجزاء عديدةً من أجسامنا التي كانت في حالة سكون، والآثار التي تحدثها الأجسام الطبيعية بعضها في البعض الآخر أيضاً" (فأنا أدرك، مثلاً، أن لديّ القوةَ لأن أحرّك أصبعي إذا أردت، وأن اللهب لديه القوة لأن يصهر شمعة) [ربما هذا الأمر هو ما سيثيره هيوم لاحقاً تحت عنوان السببية] (160)

[يعتقد لوك أنّ أفكارَنا البسيطة عن أشياء العالم الخارجي تشبه الصفات الأوّلية (مثل الصلابة والشكل..) لهذه الأشياء، بينما هي لا تشبه الصفات الثانوية لها (مثل الألوان والطعوم)]
يقول وليم رايت بأن لوك "يعتقد .. أنّ أفكارنا البسيطة التي تأتي عن طريق الإحساس تشبه صفات الموضوعات التي توجد في العالم الخارجي في حالة الصفات الأولية من صلابة وامتداد وشكل وعدد وحركة وسكون، [فهي صفات] لا تنفصل مطلقاً عن الجسم في أية حالةٍ من حالاته" [بينما ليس هناك] وجود لشيء في موضوع خارجي يشبه تماماً الأفكار البسيطة الخاصة بالصفات الثانوية مثل الألوان والأصوات والأنغام والطعوم ودرجات الحرارة" (161)
[وهذا ما لن يوافق عليه باركلي، فهو سيعتبر كل الصفات ثانوية، بما فيها الشكل والامتداد، وبالتالي فلا وجود إلا لعالم الأفكار. وبذلك فإن باركلي سيجمع النقيضين، التجريبية والمثالية. ولطالما التبس عليّ أمر باركلي وتصنيفه].
"إن كتلةَ أجزاء .. الثلج، وعددها، وشكلها هي صفاتٌ موجودةٌ فيها بالفعل، سواءٌ أدركتها حواسُّ أيّ ِشخصٍ أو لم تدركها؛ لأنها توجد في هذه الأجسام بالفعل؛ لكن الضوء والحرارة، والبياض، أو البرودة، لا تكون صفاتٍ موجودةً فيها بالفعل، مثلما لا يكون المرض أو الألم موجوداً في الغذاء ذاته. جرّد هذه الصفات من الإحساس، فاجعل العين لا ترى الضوء أو الألوان، واجعل الأذن لا تسمع الأصوات، واجعل اللسان لا يتذوّق، واجعل الأنف لا يشمّ، وسوف تجد أن جميع الألوان، والطعوم، والأنغام، والأصوات، من حيث إنها أفكارٌ جزئية، تتلاشى وتختفي، وترتدّ إلى عللها؛ أعني إلى الحجم، والشكل، وحركة أجزائها". (161) [عن مقالة في الفهم البشري]
وقد يمكن بيان أن أفكارنا المتعلقة بالصفات الثانوية لا تشبه صفات الموضوعات الفيزيائية الحقيقية عن طريق تجاربَ بسيطة. "دقَّ أية لوزة أو اسحقها، فإنك ستجد أن اللون الأبيض الناصع سيتبدل إلى لونٍ قذر، وسيتحوّل الطعم الحلو إلى طعمٍ زيتي. فما عساه أن يكون التبدل الحقيقي الذي يمكن أن يصنعه دقّ يد الهاون في أي جسم، سوى أنها تبدل نسيجها؟. افرض أن إحدى يديك ساخنة والخرى باردة، وأنك وضعتهما معاً في الحال في إناءٍ من الماء المعتدل في درجة الحرارة كما يسجلها "ترمومتر"، فإن الماء سيبدو في هذه الحالة بارداً ليدٍ ودافئاً للأخرى. ولا يمكن ن تشبه حساسات اليدين في صفاتهما وهما موجودتان في الماء، فهما لا يمكن أن يكونا شيئاً سوى آثار زيادة أو قلّة حركة الأجزاء الصغيرة لأجسامنا تسببها جزيئات الماء.
وبناءً على ذلك هناك ثلاثة أنواع من الصفات والقوى في الأجسام: أولها ـ وهي االصفات الأولية وهي موجودةٌ بالفعل في الأجسام الفيزيائية سواءٌ أدركناها أم لم ندركها، ولديها قوة إحداث أفكار بسيطة في عقولنا تشبهها تماماً.
 وثانيها ـ الأجسام الفيزيائية التي تمتلك بسبب صفاتها غير المحسوسة قوة التأثير في حواسنا وإحداث أفكار عن الصفات الثانوية بداخلنا لا تشبه أي شيء في الأجسام الفيزيائية نفسها.
وثالثها (161) ـ تمتلك الأجسام الفيزيائية، بسبب من التركيب الخاص لصفاتها الأولية، قوة إحداث تغيرات في الحجم، والشكل، والنسيج، وحركة الأجسام الأخرى، لدرجة أن هذه الأجسام تؤثر في حواسنا بصورة تختلف عن تأثير الأجسام الأولى التي ذكرناها من قبل، فمثلاً، عندما تجعل الشمسُ الشمعَ أبيض، وتجعل النارُ الرصاصَ سائلاً، فإننا نتبيّن أن هاتين صفتان من الدرجة الثالثة.

[تكوين الأفكار المركّبة]:


ويكوّن الذهن أفكاراً مركّبة من أفكار بسيطة، بطرقٍ ثلاث أساسية.
فالذهن قد يربط أفكاراً بسيطة عديدة في فكرة مركبةٍ واحدة، مثل الجمال، العرفان بالجميل، الإنسان، الجيش، أو الكون. [ما الفرق بين فكرة "الإنسان" هنا وبين التجريد الذي سيتحدث عنه بعد قليل؟]
أو إنه يربط فكرتين، سواءٌ كانتا بسيطتين أو مركّبتين، معاً، ويضعهما بجانب بعضهما البعض لكي يكوّن وجهة نظر عنهما في الحال، دون أن يوحّدهما معاً في فكرة واحدة، يحصل العقل بواسطتها على جميع أفكاره عن العلاقات، "مثل الأب والابن، أكبر وأصغر، العلة والمعلول".
وقد يجرّد العقل فكرةً من الأفكار التي تلازمه، ويجعلها ممثلة لجميع الأفكار الأخرى من نفس النوع، "فالبياض" مثلاً يتم فصله عن الأفكار البسيطة الأخرى التي تظهر معاً معها في تجمعات مختلفة مثل الطباشير، والثلج، واللبن، ويجعلها كلّاً. ومن ثم فإن العمليات الثلاث الرئيسية التي يكوّن العقل عن طريقها أفكاراً مركّبةً هي الضم، والعلاقة، والتجريد. ولا يبدو أن تفكير لوك هو أن الذهن يكون أفكاراً مركبة بصورةٍ تعسّفية أو بصورةٍ متقلّبة. فعندما يقوم الذهن بوظيفته بصورةٍ صحيحة، ينتج أفكاراً تقابل العالم الخارجي على نحو ما يوجد بالفعل، بغض النظر عن العقل نفسه. وبمعنى آخر، كان لوك مبشراً بالمذهب الواقعي النقدي في القرن العشرين.[1] إذ إنه يعتقد أن العالم يوجد بصورةٍ مستقلة عن ذهننا. فالذهن يستقبل أفكاراً بسيطة تأتي من الإحساس نتيجة مثيرات تثيرها الموضوعات الخارجية. تقابل تلك الأفكار البسيطة حقيقة واقعية خارجية في حالة الصفات الأولية، بينما يستقبل الذهن أفكاراً لا تشبه العلل الخارجية للمثير في حالة الصفات الثانوية، لكن (162) داخل حدود مهمة، كثيراً ما لا يكون من الممكن تمييز طبيعة تلك الأفكار عن طريق التجربة والعقل.
ويشكل الذهن من خلال أنشطته ثلاثة أنواع مختلفة من الأفكار المركّبة؛ وهي الأعراض والجواهر والعلاقات. أما الأعراض فهي أفكار مركّبة لا نفترض أنها موجودة بذاتها من حيث أنها أشياءُ مستقلةٌ بذاتها. وبعض الأعراض بسيطة، ولا تعدو أن تكون تنوعات، أو روابط لنفس الفكرة البسيطة، دون خليط من أي فكرة أخرى، والمثال الأكثر وضوحاً لذلك: الأعداد، مثل فكرتيّ "الدستة" أو "العشرين"، اللتين تتكونان عن طريق تكرار الوحدة أو العدد واحد. والمكان فكرة بسيطة، يمكن تعديلها بطرق مختلفة، إما بسبب ملاحظات الأشياء الموجودة أو كنتيجة للاستدلال المجرد. ويسمى المكان الذي ننظر إليه على أنه خالص بوصفه طولاً "بالمسافة"؛ أما إذا وضعنا في الاعتبار الطول، والعرض، والارتفاع، فيصبح "سعة". وبأي طريقة نتصوره فإنه يكون "امتداداً". وقد اهتم لوك ـ عكس ديكارت ـ ببيان أن الامتداد فكرة تختلف عن الجسم (أو الكتلة، كما نقول في الغالب)، وأنه يمكن تصوّر المكان الفارغ أو الخواء. والتتابع فكرة بسيطة نعرفها عن طريق التأمل الذاتي، وهي مستمدة، كما يرى لوك، من ملاحظة تتابع افكار في أذهاننا؛ فعن طريق ملاحظة مسافة في أجزاء هذا التتابع، نحصل على فكرة الامتداد الزمني، ثم يبحث الذهن عن مقياس للديمومة، ولذلك يصل إلى فكرة الزمان، التي تحسب بالظهور الدوري للشمس والقمر، طالما أن ظهورهما ثابت، ومنتظم، ويمكن للبشر جميعاً ملاحظة ذلك، كما أننا نصل إلى فكرة الأزل عن طريق تخيل عمليات القياس التي تستمر بلا نهاية. ويناقش لوك أيضاً أعراضاً بسيطة من أنواع أخرى كثيرة. مثل أعراض الحركة، والصوت، واللون، وعمليات الفكر، واللذة والألم، والقوة، والخير والشر، وحرية الإرادة، والسعادة. ويبدو أنه ينظر إلى جميع هذه الأعراض على أنها أعراضٌ بسيطة، على الرغم من أن بعضها يبدو ـ بصورةٍ أكثر ملاءمةً ـ أعراضاً مركبة وفقاً لتعريفاته.
والأعراض المركبة هي أفكار مركبة تتكون من أفكار بسيطة من أنواعٍ مختلفة، يضعها نشاط الذهن في فكرةٍ مركبة: فالعرفان بالجميل، والجمال، والإلزام، هي نماذج لتلك الأعراض. ويتألف القانون والأخلاق من أعراضٍ مركّبة. وجميع هذه الأفكار هي أعراض، لأنها ليست موضوعات توجد بصورة مستقلة، مثل الجواهر. (163)
أما الجواهر، عندما يستخدم لوك هذا المصطلح بالإشارة إلى أفكار مركبة، فهي تجمعات لأفكار بسيطة، تؤخذ لتمثّل أشياءَ متميّزةً قائمةً بذاتها"، وبهذا المعنى تكون فكرتُنا عن قطعة من الرصاص جوهراً. ودعنا نحلل هذا المثال الجزئي. يخبرنا لوك بأن هذه القطعة من الرصاص تحتوي على الفكرة البسيطة عن اللون الأبيض الباهت، بدرجات معيّنة من الثقف، والصلابة، وقابلية الطرق، وقابلية الانصهار، مع أفكار نعٍ معيّن من الشكل وقوى الحركة. غير أن لوك يقول ـ أكثر من ذلك ـ إنها تتضمّن فكرة أخرى، والتي يسميها أحياناً فكرة الجوهر، والتي يجد أنه من المستحيل أن نفيض في شرحها؛ فهي "حامل substratum غير معروف" تلازمه صفاتٌ أخرى. وبدون هذا الحامل لا يمكن أن توجد صفات الرصاص الأخرى من حيث هي صفات لموضوع فيزيائي حقيقي، لأنها ستكون غير ملموسة مثل المكان، والديمومة، والجمال، أو العرفان بالجميل؛ أي إنها لا يمكن أن تؤلف بذاتها شيئاً فيزيائياً حقيقياً، مثل قطعةٍ من الرصاص. فكر في أي موضوع أياً كان من حيث أنه يوجد بذاته وليس بوصفه خاصيةً لشيء آخر، فإنك تدرك أن فكرتك المركبة هي تجميع لأفكار بسيطة مختلفة أو من صفات زائد الفكرة التي تقول بأن هناك حاملاً واقعياً تلازمه.
ويستخدم لوك كما نرى، كلمة "جوهر" على الأقل بثلاثة معانٍ مختلفة؛ فهو يستخدمها أحياناً لتعني أيّ موضوع موجود روحي، أو فيزيائي. بينما يستخدمها في أحيانٍ أخرى لتعني فكرتنا المركّبة عن هذا الموضوع. ويستخدمها أيضاً لتعني الحامل المجهول الذي تلازمه صفات الموضوع التي يمكن ملاحظتها. وكثيراً ما يخطئ لوك بسبب استخدامه نفس المصطلح بعدم اكتراث على أنه فكرة، وعلى أنه كيان مستقل تشير إليه الفكرة. وقد أدى ذلك إلى غموضٍ ملحوظٍ في تفسيراته، التي هاجمها نقاده أحياناً بشدة أكثر مما تستحق، غافلين أنه كتب قبل أن تنشأ المجادلات الإبستيمولوجية في القرن التاسع عشر، وأنه لم يكن من الممكن أن نتوقع منه أن يضع في ذهنه تمييزات بسبب هذه المجادلات. وسوف تُستخدم كلمة "جوهر" في هذا الفصل وفي ما بعد بالمعنى الأول من المعاني الثلاثة التي ذكرناها من قبل (أعني من حيث أنه موضوعٌ موجودٌ بصورةٍ مستقلة)، أما "الفكرة المركّبة عن الجوهر" أو العبارة المماثلة، فإنها تستخدم بالمعنى الثاني (أعني فكرة عن هذا الموضوع)، وتُستَخدَم كلمة "حامل" بالمعنى الثالث (أعني الشيء المجهول الذي تلازمه صفات يمكن ملاحظتها). (164)
ويلاحظ لوك أنه من اليسير كما أنه من الضروري الإيمان بوجود جواهر روحية على نحوٍ ما تؤمن بوجود جواهر مادية. لأن عملياتنا الذهنية المختلفة كالتفكير، والشعور، والإرادة، التي تؤلف الجوانب التي يمكن ملاحظتها في أذهاننا، لا يمكن أن تطوف في الهواء بذاتها؛ بل لا بد من وجود حامل، أيضاً، تلازمه، أي لا بدّ من وجود نفس دائمة أو ذات دائمة. ففكرتك المركبة عن ذاتك تستلزم أنك نوعٌ ما من الموجود الذي يفكر، ويتذكر، ويكره، ويحب، إنك لست تجمعاً فضفاضاً من أفكار طافية دون أن يكون هناك شيءٌ جوهري وراءها.
وقد كوّنت أذهاننا فكرتنا المركّبة عن الله عن طريق تضخيم فكرة اللاتناهي لتلك الأفكار الخاصة بالوجود، والديمومة، والقوة، والسعادة، والمتعة، وصفات أخرى خبرناها في ذواتنا، وشعرنا أن امتلاكها أفضل من أن نكون بدونها. وتلك هي الطريقة التي اكتسبنا بها فكرتنا عن الله، الذي ـ من حيث أنه يوجد بالفعل ـ يفوق بصورة لانهائية أي فكرة نستطيع أن نكوّنها عنه.
والنوع الثالث من الأفكار المركّبة التي يميّزها لوك هو العلاقات. وتلك الأفكار نحصل عليها عن طريق مقارنة أفكار بعضها ببعض وأي علاقة تستلزم أشياءَ مرتبطة. فإذا تحدثت عن "زيد" من الناس من حيث أنه إنسان، لا يرتبط بأشخاص آخرين، فإنني لا أفكر فيه إلا من حيث أنه مثال للنوع البشري، لكني إذا قلت إنه زوجٌ وأب، فإنني أقصد أشخاصاً آخرين يرتبط بهم. وقد لا يرتبط شخصٌ ما بعلاقة معيّنة دون أن يتغير في نواح أخرى؛ فـ "زيد" لا يكون أباً بفقدانه ابنه، لكنه قد لا يتغير في جوانب أخرى. (وذلك ما يعرف الآن بمذهب "تخارج العلاقات"، أي إن العلاقات لا تغير حدوداً مترابطة، لأنها خارجية عنها).
 والعلاقات الهامة هي علاقة العلة والمعلول، والهوية، والاختلاف. فعندما ندرك حدثاً يتبعه حدث آخر باستمرار، نسمي الحدث الأول العلّة، ونسمي الثاني المعلول؛ ونحن نفترض أن قوةً ما أو فاعلية تنتقل من العلة إلى المعلول. وعندما نخبر مجموعةً من أفكار [أي إحساسات، لأن لوك يعتبر الإحساسات من الأفكار البسيطة] في وقت معين ومجموعةً مشابهةً بصورة دقيقة في نفس المكان في وقت آخر، فإننا نفترض الوجود المستمر لموضوع واحد. ونحن نجد هوية معيّنة بين ثمرة البلوط وشجرة البلوط التي تنشأ منها، وبين الطفل والرجل العجوز الذي أصبح كذلك بمرور الزمن، ونحن نوحد ذواتنا بذكرياتِنا الخاصة بما قلناه وبما فعلناه منذ سنوات. وقد انتقد هيوم فيما بعد وجهات نظر الحس المشترك تلك عن علاقة العلّية، والهوية.
ويناقش لوك أيضاً العلاقات الزمانية، والمكانية، والأخلاقية، وعلاقات أخرى. وينظر إلى بعض تلك العلاقات على أنها توجد في الواقع ويكتشفها الذهن بصورة صحيحة، في حين أن هناك علاقات أخرى خلقها الذهن بصورة تعسفية وخيالية. وبعضٌ من أفكارنا واضح ومتميّز وبعضها غامض، وبعضها صادق، وبعضها كاذب، وكل ذلك يتوقف على الموضوعات (وتبعبير لوك "النموذج الأصلي") الموجودة في الواقع التي تمثلها. فأفكارنا عن الجوهر، على سبيل المثال، قد تكون صادقةً إلى أقصى حد، غير أنها لا تكفي بالتأكيد وليست واضحةً وضوحاً تاماً. ونحن أحياناً ننتقل، في التفكير، انتقالاً منطقياً من مسألةٍ إلى أخرى، بينما يكون تداعي فكرةٍ مع فكرةٍ أخرى اتفاقاً محضاً في بعض الأحيان. وتُعدّ معالجة لوك لتداعي الأفكار خطوةً هامةً في تطور المذهب، في تاريخ السيكولوجيا. (166)

اللغة:

يقدّم لوك ـ في الكتاب الثالث من "مقال" [في الفهم الإنساني] ـ تحليلاً لاستخدام الكلمات وسوء استخدامها، وهو بذلك يساهم في فلسفة اللغة.
لقد قدّم [فرنسيس] بيكون [1561ـ 1626] تحذيرات ضد "أوهام السوق"، ومغالطة افتراض أن تكون الكلماتُ أشياءَ موجودةً بالفعل (مغالطة التشخيص أو التشيّؤ، كما تسمى الآن). (166)

.. الكليّات عند لوك، على خلاف أفلاطون، ليست حقائق واقعية مستقلة تشارك فيها الأشياء الجزئية، أو تكون نسخاً منها. ولا يعتقد لوك مع أرسطو أن الكلّيات توجد أشياء جزئية. فهو على العكس، لأنه يبدأ بأفكار بسيطة خاصة بالإحساس والتأمل الذاتي من حيث إنها المصادر الأصلية لكل معرفة بشرية، فإنه يجد أنّ الكيانات الوحيدة التي توجد بذاتها بالفعل هي أشياء جزئية فردية أو هي جواهر.
ومن الملائم جداً بالنسبة لنا أن نسمي شيئاً جزئياً بكلمة أو نطلق عليه اسماً، لكي (166) يكون هناك تواصل بيننا وبين الآخرين، ولكي نفكر لأنفسنا، ومن المستحيل، على أية حال، بالنسبة لنا أن نطلق اسماً ملائماً منفصلاً لكل شخص أو شيئ جزئي. ولذا فإننا نطلق اسماً واحداً على مجموعةٍ من أشياءَ متشابهة. ونحن نستطيع أن نفعل ذلك بسبب قدراتنا الخاصة على المقارنة والتجريد. (167)




[1] [1] الواقعية النقدية مذهب فلسفي يدور حول معرفتنا بالعالم الخارجي. ازدهر في أواخر القرن التاسع عشر حتى أربعينيات القرن العشرين، وكان أعظم ممثليه د. هيكز (ت 1941) في جامعة كمبردج، وسيلرز في الولايات المتحدة، رفض المثالية كما رفض الواقعية الساذجة. (المراجِع)

ليست هناك تعليقات: