الجمعة، 13 ديسمبر 2019

بين كانط وديكارت، مفارقات؛ محمد الحجيري.



بين كانط وديكارت؛ مفارقات..
 محمد الحجيري
منشور حول ديكارت وكانط وتعليقات عليه.

كانط، فيلسوف النقد، وإن كان يحاور الأمبيريين والفلاسفة العقلانيين ليصل إلى توليفة ما، إلا أنه يعتبر أقربَ إلى الفلسفة العقلانية..
بعض ملاحظات يمكن أن تلفت قارئ كانط:
إنّ ديكارت، الذي انطلق من يقينه الأول، الذي هو وجود الفكر المختلف بشكل مطلق عن المادة، من خلال الكوجيتو الشهير: "أنا أفكر إذاً أنا موجود".
هذه الأنا/ الفكر لا توجد في مكان؛ بينما من صفات الجسم أو المادة الامتداد والانوجاد في مكان.
إشكالية العلاقة بين الفكر والمادة، وهما من طبيعتين مختلفتين، لم تكن الإشكالية الأولى التي يواجهها ديكارت. الإشكالية الأولى بعد برهانه على وجود الفكر كانت في محاولته إثبات وجود المادة نفسها.
وببساطة لم يستطع برهان ذلك.
لقد ذهب إلى السماء، فبرهن على وجود الله (كونه من طبيعة أقرب إلى النفس من المادة)، ثم اعتمد على ضمانة هذا الإله ليثبت وجود المادة.
كل هذا ليس جديداً.
الملاحظة الأولى أن كانط لم يلتفت إلى الإشكالية التي نغّصت هناء ديكارت بالكامل.
لقد انطلق كانط من وجود المادة كبديهية ولم يكلّف نفسه (على حد ما أعلم) عناء البحث في حقيقة وجودها.
نقاشه الأساسي كان مع لوك وهيوم.
وكان لديكارت أن يشعر بالمهانة لو أنه كان حياً، أو لو كانت نفسه خالدةً كما يظن، وتعْلمُ هذا التجاهل الكانطي له.
الأنكى من ذلك، ومن حسن حظ ديكارت أو ربما لسوء حظه أن يأتي قبل كانط بحوالي قرن ونصف القرن.. إذا لو جاء ديكارت بعد كانط أو لو كان معاصراً له لخاض معه حرب وجود لا هوادة فيها.
السبب أن كانط يرى بأن الإنسان أو العقل الإنساني بفطرته يطرح مسائل ولا يمكن إلا أن يهتم بها، وهي مسائل الميتافيزيقا: مثل الله والنفس والعالم. لكن هذا العقل الذي لا يستطيع إلا أن يهتم بهذه الموضوعات ليس أداةً صالحة للبحث فيها ولن يصل إلى مكان..

هو يستطيع أن يثبت الأمر ونقيضه. وكل تاريخ جهد العقل البشري في هذا المجال هو خبط عشواء وعبث لا طائل منه.
ما يهمنا هنا، أو ما يهم صاحبنا ديكارت هو أن ما يعتبره طريقاً وحيدة ضرورية لإثبات وجود المادة: أعني بها الارتكاز على وجود الله للبرهان على وجود المادة، تصبح غير قابلة للبرهان وهي جهد عبثي وحرث في الماء: أقصد البرهان على وجود الله.
إذا كان البرهان على وجود الله مستحيلاً، وديكارت قد جعل منه الطريق إلى البرهان على وجود المادة، فهذا يعني أن ديكارت سيخسر الله، أو القدرة على البرهان على وجوده، ومن ثم فقدان المتكأ الذي اعتمده للبرهان على وجود المادة.
وسيكون ديكارت، مؤسس الفلسفة الحديثة، وحيداً.. مع ذاته المقفلة على ذاتها والتي كان يرى أنها موجودة حتى لو كان العالم كله غير موجود.
لكن، يبقى أن نتساءل: ولماذا تجاهل كانط محاولة إثبات وجود المادة؟
هل يحق له كفيلسوف ناقد أن يعتبرها بديهية، بخاصة بعد أن نبّه ديكارت إلى هذه الإشكالية؟ أم أن الاعتراف بها كان سيقضي على إمكانية إقامة مشروعه النقدي بكامله؟

(محمد الحجيري؛ 13 ديسمبر 2018)

تعليقات على المنشور:
الدكتور جمال نعيم:
ديكارت أبو الفلسفة الحديثة، لكنّه، في الواقع، ليس أكثر من لاهوتيّ مستنير. ومع ذلك فإنّ اكتشافه للأنا أفكر ولحقل الذاتيّة، قد أثّرا أيّما تأثير في فيلسوف القرن العشرين بلا منازع، أعني به إدموند هوسرل، وإن رفض هذا الأخير الضمانة الميتافيزيقية.
إنّ المشكلة الديكارتيّة يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: كيف يمكن لما هو ذاتيّ أن يقوّم ما هو موضوعي؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن لي أن أصل الى الحقيقة، أن أصل الى اليقين، انطلاقًا من النّور الفطري، انطلاقًا من النور الطبيعي، الموجود في كلّ واحد فينا بما يكفي؟
من هنا كان عليه أن يشك في الحقائق المنزلة وعلوم عصره وما ورثه من آبائه وما يأتيه عن طريق الحواس...الخ حتى يتمكن من الوصول الى الحقيقة كيقين ذاتي. وكان من همّه إصلاح العلوم والفلسفة.
أمّا كنط فلم تكن لديه هذه المشكلة، وكان يؤمن بفيزياء عصره، لكنّه كان يتفكّر في علوم عصره: كيف يمكن تأسيس الموضوعيّة التي نؤمن بها من خلال فيزياء نيوتن؟ والمشكلة هي:
كيف يمكن للأحكام التأليفية التي نؤمن ونصدق بوجودها في العلوم، قبليًّا، أن تكون؟
نعم، هو انطلق من مسلّمات موضوعيّة، كإيمانه بالمادة وبالأحكام التأليفية القبليّة. لم يطرح الشّك فيها. بما أنّها موجودة في العلوم، هو حاول أن يدرس أو أن يحدد شروط إمكانها.
ديكارت كان دغمائيًّا في نظر كنط لأنّه انطلق من قدرة العقل على الوصول الى اليقين والى الحقيقة من دون أن يفحص الأداة التي يدعي أنّ لديها القدرة على ذلك، ألا وهي العقل.
وكنط، في نظر ديكارت، انطلق من مسلّمة وجود المادة ومن مسلّمة وجود الأحكام التأليفية القبليّة في علوم عصره، مع أنّ لا شيء يثبت ذلك. فالأنا البشري هي ما يتمتع بالثبات وهي ما يمكن إثباته لا المادة التي افترضها كنط بديهيّة، وإن قال بعدم إمكانية معرفة الأشياء في ذاتها، بل كما تبدو لنا.
هل الانطلاق من مفترضات ذاتيّة أفضل من الانطلاق من مفترضات موضوعيّة؟ لا شيء يثبت ذلك. ولا يهتمّ الفيلسوف بما هو أفضل، وإن كان يعتبر أنّه يشتغل من أجل الأفضل.
جمال نعيم:
هذا تعليق أوّل، لكن بالإمكان إجراء تعليقات أخرى.
أفضل النظر الى كل فيلسوف بوصفه يرسم مشهدًا فكريًّا مختلفًا، بوصفه يخلق فضاءً فكريًّا جديدًا، فيضيء على أشياء كنّا نجهلها. ونحكم، على إنجازاته بعبارات اللافت والمثير للإنتباه والهام. بهذا، يبقى الفلاسفة خالدين وينيرون بعد موتهم أكثر ممّا هو في حياتهم.

حسين عبّود:  تساؤل:
ديكارت بشكه المنهجي استطاع ان يثبت الانا بواسطة التفكير، ولكن الا يمكننا القول ان الانا قد تكون احدى معطيات هذا التفكير وهذا الوعي ؟ لكن ديكارت اهتم باثبات الانا التي تشابه واسطة الاثبات(التفكير)
وذلك لتجردها ، ثم بعد ذلك اتجه الى ما هو اكثر تجرداً اي الله ليثبت به المادة وليجد بذلك طريقاً بين الفكر و المادة و هو الخلق؟
بينما كنط انزل المادة منزلة الانا في كوجيتو ديكارت كون المادة كما الانا هي احدى معطيات وعينا و تفكيرنا و بذلك كانت المادة كما الانا بديهية؟

محمد الحجيري:
لا أعرف أن ديكارت قد ميز بوضوح بين الفكر وفعل التفكير. هو يقول بأني "شيء" يفكر. مع أن فعل التفكير كحركة في الزمان، لا أعرف إن كان يمكن أن ينطبق عليه عزله عن المادة. هل يمكن أن ينوجد أي شيء بإطلاق بشكل مستقل عن المادة. هل يمكن الحديث عن حركة الفكر في الزمن (الذي هو فعل التفكير) بمعزل عن المادة. ألا يجب أن يكون ما هو مستقل عن المادة ساكناً ثابتاً غير متغير، وبالتالي يستحيل أن يكون فعلاً أصلاً.. هو سكون مطلق وهو يشبه إله أرسطو (الذي أظنه الأكثر تماسكاً منطقياً)
لكن يبقى هذا الموضوع مستغلقاً ربما على الفهم. وهذا ما ذهب إليه كانط.
لكن حول خلق المادة، فلا علم لي بأن ديكارت قال بذلك. هو استدل على وجود المادة فقط.
ملاحظة أخيرة وهي أن هناك فرقاً كبيراً بين تعامل ديكارت مع الكوجيتو أو وجود الفكر، وهو نوع من الحدس اليقيني أي المعرفة المباشرة التي لا يمكن أن يخالطها الشك. لأن الشك بحد ذاته فكر.
بينما موقف كانط من وجود المادة فمختلف كلياً. هو لم يناقش الموضوع، تعامل معه كمعطى واقعي وحقيقي.

حسين عبّود: احسنتم التوضيح
بالنسبة لخلق المادة ما افهمه من اثبات وجودها من خلال البرهنة على على وجود الله هو ان العلاقة بين الاثنين ستكون اما خلق و اما ايجاد و الا فلن تثبت المادة بالبرهنة على الله

محمد الحجيري:
قد يكون ذلك. وهذه وجهة نظر قابلة للنقاش. وهي على ما فهمت نوعٌ من الاستنتاج. أنا لم أقل أن ديكارت لم يبرهن على خلق المادة، بل لا علم لي أنه قد فعل. وأرجح أنه لم يبرهن على ذلك (دون أن أجزم).
أرسطو انطلق من المادة ليصل إلى السبب الأول. ومع ذلك لم يقل بالخلق، بل قال بقدم العالم.
والأديان أيضاً تدعو إلى التأمل في العالم ونظامه للوصول إلى القول بإله (لكنه خالق، على عكس أرسطو، وإن كانت مسألة الخلق كمفردة قابلة لأكثر من فهم، فهي قد تعني نقل الموجود من حالة إلى حالة جديدة، دون أن تكون إيجاداً من عدم: مثل الخلق من تراب أو من نار..)
ديكارت ينطلق من نقطة معاكسة: ينطلق من وجود الله ليجعله ضمانة لعدم وقوعي في الوهم حول حقيقة وجود المادة.
لم أفهم تمييزك بين الخلق والإيجاد. إذا كنت تقصد أن القول بوجود إله ينتج عنه منطقياً خلقه العالم من عدم.. كانط يرى بأن العقل لا يمكن أن يبت في هذه المسألة. وأنا أتبنى هذا الموقف.

محمد الحجيري:  يمكن مراجعة السياق الذي جاءت فيه كلمة "خلق" في القرآن.

حسين عبّود:
قصدت بالايجاد ان تستمد هذه المادة وجودها من الاله لا ماهيتها وهكذا يمكن ان يكون العالم قديماً قدم الاله و لكن لا يقوم بذاته

جمال نعيم:
يتمثّل الكوجيتو الديكارتي دائمًا بأفعال:
أتخيّل، أشك، أفكر، أكون...الخ.
لا يهمّ ديكارت وجود المادة أوّلًا. هو يؤمن بوجودها عمليًّا، ويتصرّف على هذا الأساس، لكنّها لا تفيد اليقين.
الكوجيتو الديكارتي لا يتضمّن مكوّن الزمان كما هو الحال لدى كنط. فالأفكار الفطريّة موجودة في النّفس ما إن تعيها النّفس، وليست بحاجة الى الزمان. وهي ليست تذكرًا على الطريقة الأفلاطونية
صحيح الكوجيتو هو بمثابة حدس أصليّ وليس ناتجًا عن استدلال.
وصحيح أيضًا أنّ كنط انطلق من معطيات العلوم القائمة وحاول التفكر فيها .

Bottom of Form
جمال نعيم:
علينا أن لا ننسى أنّ شك ديكارت هو شك منهجي مؤقّت، وأنّ شخصيته كانت شخصيّة قلقة، وأرادت أن تبحث عن اليقين في جوانيّتها، في ذاتها، لا في بطون الكتب المقدسة، ولا في ما يقوله علماء عصره... وهذا مختلف تمامًا عمّا نجده في الفضاء الفكري للقرون الوسطى، حيث كان التشديد عند علماء اللاهوت على أنّ الحقيقة موجودة في الكتاب المقدس، وأنّ النّاس العاديين عليهم الوصول اليها عن طريق رجال الدين.
وإنّ ديكارت وافقهم على أنّ الحقائق المنزلة هي حقائق لكنّها تحتمل الشك. والحقيقة التي لا تحتمل الشك هي الحقيقة التي يصل اليها الانسان عن طريق النّور الطبيعي الموجود بالضرورة في كل واحد فينا. وهذا إن دل على شيء فإنّه يدل على ثقة كبيرة بالانسان وبالعقل البشري. لذا، استحق ديكارت أن يكون رائد العقلانية في العصور الحديثة، لا سيّما اذا تذكرنا مسلّمته التي تقول إنّ ملكة تمييز الصواب من الخطأ هي الأعدل قسمةً بين النّاس.

جمال نعيم:
علينا أن لا ننسى التمييز الأساسي الذي أقامه كنط بين الأشياء فيَّاها، أي الأشياء في ذاتها، والأشياء كما تبدو لنا، أي الأشياء كظاهرات. هذا يعني أنّه ليس بعيدًا، في رأيي، عن إيمان ديكارت بالعالم الخارجي والجسد قبل أن يبرهن على وجودهما، بشكل قاطع، بوجود الضمانة الإلهية. يعني لو سألنا ديكارت قبل استدلاله عبر الضمانة الإلهيّة على وجود العالم الخارجي: هل تؤمن بوجود المادة؟ لأجاب نعم، لكن ليس بشكلٍ قاطع. وأنا أسعى الى اليقين.
أليس هذا قريبًا من إيمان كنط بالمادة كظاهرات؟ يعني، في النهاية، ومن دون الضمانة الإلهيّة، يبقى وجود المادة كظاهرات، وحتى كوهم. تفكّر أوّلي


ليست هناك تعليقات: