الثلاثاء، 20 فبراير 2018

عن ابن رشد؛ خورخي بورخيس؛ ترجمة صالح علماني.


بحث ابن رشد
خورخي لوي بورخيس
ترجمة: صالح علماني


وكان يتصور أن التراجيديا ليست سوى فن المديح
إرنست رينان، »ابن رشد«، 48 (1861)

أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (وسيحتاج هذا الاسم الطويل إلى قرن من الزمان، يتحول خلاله إلى «بن راست«Benraist و»آفين ريز« Avenryz، وكذلك »آبين راساد« Aben-Rassad و»فيليوس روساديس« Filius Rosadis، قبل أن يصير »آفيرّوس» Averroés)، كان يحرر الفصل الحادي عشر من مُؤلَّفه »تهافت التهافت« الذي يؤكد فيه، رداً على الزاهد الفارسي »الغزالي« صاحب كتاب »تهافت الفلاسفة«، بأن الذات الإلهية إنما تعلم قوانين الكون العامة، المتصلة بالأنواع لا بالفرد. كان يكتب بتمهل مطمئن، من اليمين إلى اليسار. ولم يكن انهماكه فـي صياغة الحدود المنطقية والربط بين الفقرات الطويلة ليمنعه من الشعور، كحالة من الرخاء، بالمنزل البارد والعميق الذي يحتضنه. ففي أعماق القيلولة تهدل حمائم متيمة، ومن بهو غير مرئي يعلو خرير ماء نافورة؛ وكان شيء ما فـي لحم ابن رشد، الذي ينحدر أسلافه من الصحارى العربية، يَمْتَنَّ لاستمرار تدفق الماء. وفـي الأسفل، كانت الحدائق.. البستان؛ وإلى أسفل، نهر الوادي الكبير المنهمك، وبعد ذلك مدينة قرطبة العزيزة، التي لا تقل ألقاً عن بغداد أو القاهرة، مثل آلة معقدة ودقيقة. وحولها (وهذا ما كان يشعر به ابن رشد أيضاً) تترامى حتى الأقاصي أرضُ إسبانيا التي ليس فيها إلا أشياء قليلة، ولكن كل شيء منها يبدو مستقراً وأبدياً.
كان القلم يجري على الورقة، والبراهين تترابط، غير قابلة للدحض، غير أن قلقاً خفيفاً شابَ سعادة ابن رشد. لم يكن »التهافت«، هو السبب، لأنه عمل عابر، وإنما هناك مشكلة من النوع اللغوي تواجهه فـي المؤلَّف العظيم الذي سيُرسِّخ مكانته بين الناس: إنه شرحه لأرسطو. فهذا اليوناني، ينبوع كل فلسفة، إنما مُنح للناس كي يعلمهم كل ما يمكن أن يُعرف؛ وشرح كتبه وتفسيرها، مثلما يشرح العلماء القرآن، هو الهدف الشاق الذي يسعى إليه ابن رشد. وقليلة هي الأشياء المؤثرة التي سيسجلها التاريخ وتبلغ مبلغ انكباب طبيب عربي على أفكار رجل يفصله عنه أربعة عشر قرناً؛ ولا بد لنا من أن نضيف إلى الصعوبات الكنهيّة أن ابن رشد، الذي لا يعرف اللغة السريانية أو اليونانية، كان يستعين فـي عمله بترجمة عن ترجمة. وكانت قد استوقفته فـي اليوم السابق كلمتان غامضتان فـي بداية كتاب »فن الشعر«. وهاتان الكلمتان هما: تراجيديا وكوميديا. لقد وجدهما قبل سنوات من ذلك، فـي الكتاب الثالث من »الخطابة«؛ ولم يستطع أن يخمن معناهما أحد فـي ديار الإسلام. وقد راجع حتى الإنهاك، دون جدوى، صفحات أليخاندرو دي أفروديسيا، ودون جدوى كذلك، قارن بين ترجمتي النسطوري حنين بن اسحق وأبو بشر متى. وهاتان الكلمتان اللّغزان تردان بكثرة فـي متن »فـن الشعر« بحيث صار من المستحيل تجنبهما.
وضع ابن رشد الريشة. وقال لنفسه (دون كثير من الثقة) إن ما نبحث عنه يكون قريباً منا عادة، وخبأ مخطوط »التهافت« واتجه إلى خزانة الكتب حيث تصطف عدة مجلدات من كتاب »المُحكم« لابن سيده الضرير، نسخها نساخون فُرس. وكان من السخرية الظن بأنه لم يبحث فيها من قبل، ولكن متعة الاسترخاء دفعته إلى تقليب صفحاتها من جديد. وصرفه عن هذه التسلية الدرسية نوع من الترنم. فأطل من الشرفة المُشبكة، وكان هناك فـي الأسفل، فـي الفناء الترابي الضيق، بضعة صبيان شبه عراة يلعبون. كان أحدهم يقف منتصباً فوق كتفي آخر، ويبدو واضحاً أنه يحاكي المؤذن؛ فهو يطبق عينيه بإحكام مرتلاً: »لا إله إلا الله«. بينما يقف الذي يحمله دون حراك ممثلاً المئذنة. وكان صبي آخر يجثو بتذلل على التراب، كما تفعل جماعة المؤمنين. لم يستمر لعبهم إلا قليلاً، لأن كل واحد منهم يريد أن يكون المؤذن، ولا يريد أي واحد أن يكون جماعة المصلين أو المئذنة. سمعهم ابن رشد يتجادلون بلهجة سوقية، يمكن القول إنها الإسبانية الأولية للمسلمين العوام فـي شبه الجزيرة. فتح »كتاب العين« للخليل، وفكر مزهواً بأنه لا يوجد فـي قرطبة كلها (وربما الأندلس كلها) نسخة أخرى من المُؤَّلف العظيم غير هذه النسخة التي أرسلها إليه الأمير يعقوب المنصور من طنجة. وذكّره اسم هذا الميناء بأن الرحالة أبا القاسم الأشعري، العائد من بلاد مراكش، سيتناول العشاء معه هذه الليلة فـي منزل شيخ العلوم القرآنية المدعو فَرَج. وأبو القاسم يقول إنه قد وصل إلى ممالك إمبراطورية الصين؛ لكن خصومه الساعين للحطّ من قدره، بذلك المنطق المتميز الذي يولده الحقد، يقسمون بأنه لم يطأ أرض الصين قط، وأنهم فـي معابد تلك البلاد يسبُّون الله. ولم يكن هنالك مفر من استمرار اللقاء عدة ساعات؛ ولهذا سارع ابن رشد إلى العودة للكتابة فـي »التهافت«. وواصل العمل حتى انتشار غسق الغروب.
وفـي منزل فرج، انتقل الحوار من الحديث عن فضائل الحاكم الفريدة، إلى الحديث عن فضائل أخيه الأمير؛ ثم تحدثوا بعد ذلك، وهم فـي الحديقة، عن الورود. وأقسم أبو القاسم، الذي لم ينظر إليها، بأنه لا وجود لورود مثل الورود التي تزيّن جنائن البيوت الأندلسية. ولم يستسلم فرَج للإغواء؛ ولاحظ أن العلامة ابن قتيبة يصف نوعاً بديعاً من الورود دائمة التفتح تنمو فـي حدائق هندستان، تظهر على بتلاتها الحمراء القانية، حروف تقول: »لا إله إلا الله، محمد رسول الله«. وأضاف بأن أبا القاسم يعرف، بكل تأكيد، تلك الورود. نظر إليه أبو القاسم بذعر. فإن هو أجاب بنعم، سيحكم عليه الجميع، وبحق، بأنه أشد المنافقين استعداداً وبُعداً عن المألوف فـي النفاق؛ وإن أجاب بلا، اتهموه بالكفر. فاختار أن يُغمغم »وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما فـي البر والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبة فـي ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابسٍ إلا فـي كتاب مبين«. ولأن هذه الكلمات من إحدى أوائل السّور، فقد قوبلت بتمتمة إجلال وتبجيل. امتلأ أبو القاسم زهواً بهذا النصر الجدلي، وكان على وشك أن يقول إن الله هو الكمال »لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير«، لكن ابن رشد قال عندئذ، مستبقاً بزمن طويل حجج شخص سيُدعى (هيوم) كان وجوده ما يزال مشكوكاً فيه آنذاك:
-
إن صعوبة تقبل أن يكون العالم الفقيه ابن قتيبة أو النُساخ، قد أخطأوا، هي أهون عندي من تقبل أن تطرح الأرض وروداً تجاهر بإيمانها.
-
صدقت. وإنها لكلمات عظيمة ومحقة - قال أبو القاسم:
وتذكر الشاعر عبد الملك:
-
يتحدث أحد الرحالة عن شجرة تثمر طيوراً خضراء. وأراني أجد قدراً أقل من المشقة فـي تصديق ذلك من التصديق بوجود ورود عليها كتابة وحروف.
فقال ابن رشد:
-
إن لون الطيور يُسهِّل كما يبدو تصديق المعجزة. أضف إلى ذلك أن الثمار والطيور تنتمي إلى العالم الطبيعي، بينما الكتابة صنعة. فتحول الأوراق إلى طيور أسهل من تحول الزهور إلى حروف.
أنكر ضيف آخر، بسخط، أن تكون الكتابة صنعة، ما دام القرآن – أم الكتاب – سابق على الخلق ومحفوظ فـي السماء. وتحدث آخر عن الجاحظ البصري الذي قال إن القرآن جوهر يمكن أن يتخذ صورة إنسان أو حيوان، وهو رأي يبدو متفقاً مع رأي من ينسبون إليه وجهين. ثم عرض فرج بإسهاب المذهب الحنيف. فالقرآن هو إحدى صفات الله، مثلما هي رحمته، يُنسخ فـي كتاب، ويُلفظ باللسان، ويُذكر بالقلب؛ أما اللغة والرموز والكتابة فهي من عمل البشر، لكن القرآن قطعي وخالد. وكان بإمكان ابن رشد، الذي شرح كتاب »الجمهورية« أن يقول إن أم الكتاب هو شيء من قبيل نموذجِه الأفلاطوني، ولكنه انتبه إلى أن اللاهوت كان على الدوام موضوعاً بعيداً عن مدارك أبي القاسم.
وانتبه آخرون إلى ذلك أيضاً، فألحوا على أبي القاسم أن يروي لهم إحدى العجائب. لقد كان العالم آنذاك، مثلما هو الآن، مريعاً. يمكن للجسورين أن يجوبوه، إنما يمكن أن يفعل ذلك أيضاً البؤساء، الذين يتكيفون مع أي شيء. وكانت ذاكرة أبي القاسم مرآة لحالات جُبن حميمة، فماذا يستطيع أن يروي لهم؟ وهم يطلبون منه فوق ذلك أعجوبة، والأعاجيب قد تكون غير ممكنة النقل؛ فقمر البنغال لا يشبه قمر اليمن، ولكن يمكن وصفه بالألفاظ نفسها. تردد أبو القاسم، ثم تكلم أخيراً:
-
إن من يتجول فـي المناخات والمدن – أعلن بمداهنة – يرى أموراً كثيرة جديرة بأن تُصدّق. وهذه القصة، التي يمكن القول إنني قد رويتها مرة لملك الترك، وقعت فـي صين كالان (كانتون)، حيث يصب نهر ماء الحياة فـي البحر.
وسأله فرَج عما إذا كانت المدينة على بُعد فراسخ كثيرة من السور الذي رفعه الإسكندر ذو القرنين (الاسكندر المقدوني) لصدّ يأجوج ومأجوج.
-
صحارى تفصل المدينة عنه – قال أبو القاسم بغطرسة غير متعمدة – فالقافلة تحتاج أربعين يوماً لكي تَلمح أبراجه، ومثلها من الأيام، كما يقال، لبلوغه. ولم أعرف فـي صين كالان إنساناً رأى ذلك السور أو رأى من رآه.
انتاب ابن رشد، للحظة، الخوف من اللامتناهي التام، من المكان المحض، والمادة المحضة. نظر إلى الحديقة المتناظرة هندسياً؛ وأدرك أنه قد شاخ،وصار دون نفع، ووهمياً. وكان أبو القاسم يقول:
-
ذات مساء،أخذني تجار صين كالان المسلمون إلى دار مشيدة من خشب مزين برسوم، يعيش فيها أناس كثيرون. لا يمكنني أن أحكي لكم كيف كانت تلك الدار، فهي أقرب لأن تكون حجرة واحدة، فيها صفوف من رفوف متدرجة أو شرفات بعضها فوق بعض. وفـي تلك المقصورات هناك أناس يأكلون ويشربون؛ ومثلهم على الأرض، وكذلك على منصة. وكان من هم على تلك المنصة يقرعون الطبل ويعزفون العود، عدا خمسة عشر أو عشرين منهم (بأقنعة قرمزية اللون) يُصلّون، ويغنون، ويتحاورون. يعانون الحبس، وليس هناك من يرى سجناً؛ ويمتطون الخيل دون أن يُلمح الحصان؛ ويقاتلون، إلا أن السيوف من قصب؛ ويموتون ثم ينهضون بعد ذلك واقفين.
فقال فرج:
-
أفعال الحمقى تتجاوز توقعات الإنسان العاقل.
وكان على أبي القاسم أن يوضّح:
-
لم يكونوا حمقى، بل كانوا يُشخِّصون قصة، كما قال لي أحد التجار.
لم يفهم أحد ما قاله، ولم يبدُ أن أحداً يريد أن يفهم. فانتقل أبو القاسم، مرتبكاً، من الحكاية المسموعة إلى الحجج المزدراة. فقال مستعيناً باليدين:
-
فلنتخيل أن هناك من يعرض قصة بدل أن يحكيها. ولتكن هذه القصة هي قصة أهل الكهف فـي أَفسوس. إننا نراهم ينسلون إلى الكهف، نراهم يُصلّون وينامون، نراهم ينامون بعيون مشرعة، نراهم يكبرون وهم نائمون، نراهم يستيقظون فـي الجنة، نراهم يستيقظون مع كلبهم. شيء من هذا القبيل عرضه علينا أناس المنصة فـي ذلك المساء.
وسأله فرج:
-
وهل كان أولئك الأشخاص يتكلمون؟
-
كانوا يتكلمون بالطبع – قال أبو القاسم، وقد تحول إلى مدافع عن عرض يكاد لا يتذكره، وكان قد أزعجه فـي حينه – إنهم يتكلمون، ويغنون، ويتبادلون الخُطب.
قال فرج:
-
الأمر لا يتطلب فـي هذه الحال، عشرين شخصاً. يمكن لمتحدث واحد أن يروي أي شيء، مهما بلغ من التعقيد.
أيد الجميع هذا الرأي. وأثنوا على محاسن اللغة العربية، التي يخاطب الله بها الملائكة؛ وبعد ذلك على محاسن شعر العرب. وبعد أن أشاد عبد الملك بهذا الشعر بما هو أهل له، وصف الشعراء الذين يتمسكون، سواء فـي دمشق أم فـي قرطبة، بالصور الرعوية، والمفردات البدوية، بأنهم قدماء عفا عليهم الزمن. وقال إنه من السخف أن يتغنى رجل بماء بئرٍ بينما نهر الوادي الكبير يمتد أمام ناظريه. وألح على وجوب تجديد الصور المجازية القديمة؛ وقال إنه عندما شبه زهير القدر بناقة عمياء تضرب خبط عشواء، فتنت هذه الصورة الناس، ولكن خمسة قرون من الإعجاب استنفدتها. وأيد الجميع هذا الرأي، الذي سمعوه مرات عديدة من قبل، ومن أفواه كثيرة. كان ابن رشد صامتاً. وفـي النهاية تحدث، وكان حديثه إلى نفسه أكثر مما هو إلى الآخرين.
-
لقد دافعتُ ذات مرة – قال ابن رشد – بقدر أقل من البلاغة، ولكن بحجج مجانسة، عن القضية التي يدافع عنها الآن عبد الملك. لقد قيل فـي الإسكندرية بأن الوحيد غير القادر على ارتكاب الخطأ هو من ارتكب الخطأ وندم عليه؛ ونضيف نحن، بأن الخلاص من الخطأ يتطلب الاعتراف به. وزهير يقول فـي معلقته إنه خلال ثمانين حولاً من المعاناة والمجد، رأى القدر فـي أحيان كثيرة يخبط البشر، مثل ناقة عمياء؛ ويرى عبد الملك أن هذه الصورة لم تعد تدهش أحداً. وهذا التحفظ يتسع لردود كثيرة. أولها، أنه إذا كان الهدف من القصيدة هو الإدهاش، فإن زمنها لا يقاس بالقرون وإنما بالأيام والساعات، وربما بالدقائق. والرد الثاني هو أن الشاعر المشهور يكون مبتكراً أقل مما هو مكتشف. ومن أجل امتداح ابن شرف البرجي(1)، قيل مراراً وتكراراً إنه الوحيد الذي استطاع أن يتخيل النجوم فـي الفجر تتساقط ببطء مثل أوراق الشجر؛ وإذا ما كان ذلك صحيحاً، فإنه يكشف أن الصورة مبتذلة. فالصورة التي يمكن لإنسان وحيد أن يشكّلها هي تلك التي لا تؤثر فـي أحد. هناك أشياء لا حصر لها على الأرض؛ ويمكن لأيّ منها أن يُشبّه بأي شيء آخر. فتشبيه النجوم بأوراق الشجر لا يقل اعتباطية عن تشبيهها بأسماكٍ أو طيور. ولكن ليس هناك بالمقابل من لم يشعر يوماً بأن القدر قوي وأهوج، وأنه بريء، ولكنه غير إنساني كذلك. من أجل هذه القناعة التي يمكن أن تكون عابرة أو متواصلة، إنما لا يمكن لأحد أن يتجنبها، كُتب بيت زهير. ولن يقال ما قيل هناك بأفضل مما قاله. أضف إلى ذلك (وربما كان هذا هو جوهر تأملاتي) أن الزمن، الذي يعري القصور، هو الذي يُثري الأشعار. لقد أفاد بيت زهير، عندما نظمه فـي جزيرة العرب، فـي مقارنة صورتين: صورة الناقة العجوز وصورة القدر؛ ويفيد ترديده الآن فـي حفظ ذكرى زهير والخلط بين همومنا وهموم ذلك العربي الميت. لقد كان للصورة البلاغية حدان، فصار لها اليوم أربعة حدود. فالزمن يوسع نطاق الأشعار، وأنا أعرف أن بعضها، جنباً إلى جنب مع الموسيقى، هو كل شيء فـي نظر الناس كافة. وهكذا، حين كنتُ أتعذب، قبل سنوات، فـي مراكش، وأنا أتذكر قرطبة، كنتُ أشعر بالرضى فـي ترديد بيت الشعر الذي توجه به عبد الرحمن إلى نخلة افريقية، وهو فـي بساتين الرصافة:
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي(2)
إنه انتفاع فريد بالشعر؛ فكلمات قالها ملك يحن إلى الشرق، تنفعني أنا، المُبعد فـي أفريقية، للتعبير عن حنيني إلى الأندلس.
ثم تحدث ابن رشد بعد ذلك عن الشعراء الأوائل، عن أولئك الذين قالوا، فـي عصر الجاهلية، السابق للإسلام، كلَّ شيء باللغة غير المتناهية للصحاري. ولأنه انزعج، وهو محق، من ترهات ابن شرف، فقد قال إن الشعر كله قد اختُصر فـي القدماء وفـي القرآن. واتهم كل تطلع إلى التجديد بالأمية وعدم الجدوى. واستمع إليه الآخرون بسرور، لأنه ينتصر للقديم.
كان المؤذنون ينادون لصلاة الفجر عندما عاد ابن رشد للدخول إلى مكتبته (وكانت الجاريات ذوات الشعر الأسود، فـي جناح الحريم، قد عاقبن جارية ذات شعر أحمر، ولكنه لن يعلم بذلك إلا فـي المساء). لقد كشف له شيءٌ ما معنى الكلمتين الغامضتين، فأضاف، بخط ثابت ودقيق، هذه الأسطر إلى المخطوط: يُطلق أرسطو تسمية تراجيديا على المدائح، وكوميديا على الأهاجي وكشف المثالب. وهناك وفرة وفيرة من التراجيديات والكوميديات العظيمة، تزخر بها صفحات القرآن الكريم والمعلقات على جدار الكعبة.
أحس بالنعاس، وأحس بقليل من البرودة. وبعد أن نزع العمامة، نظر إلى نفسه فـي مرآة معدنية. ولستُ أدري ما الذي رأته عيناه، لأن أحداً من المؤرخين لم يصف لنا ملامح وجهه. إنني أعرف أنه اختفى فجأة، كما لو أن ناراً دون ضوء قد صعقته، واختفت معه الدار والنافورة غير المرئية والكتب والمخطوطات والحَمائم والجواري الكثيرات ذوات الشعر الأسود والجارية المرتعدة ذات الشعر الأحمر وفرج وأبو القاسم والورود وربما نهر الوادي الكبير.
* * *
أردت فـي القصة السابقة أن أروي سيرورة هزيمة. وقد فكرت أولاًً بأسقف كانتربري، ذاك الذي عزم على البرهنة على وجود الإله؛ ثم فكرت بعد ذلك بالخيميائين الذين بحثوا عن حجر الفلاسفة؛ ثم ببطلان القطاعات الثلاثية للزاوية، وبمقومي الدائرة. وفكرتُ، بعد ذلك، بأن الحالة الأكثر شاعرية هي حالة رجل يروم هدفاً غير محظور على الآخرين، ولكنه محظور عليه. فتذكرت ابن رشد الذي لم يستطع قط، وهو منغلق فـي نطاق الإسلام، أن يدرك معنى كلمتي تراجيديا وكوميديا. رويتُ الحالة، وكلما تقدمتُ كنتُ أشعر بما لا بد أن يكون قد شعر به ذلك الإله الذي أتى على ذكره »بورتن«، والذي نوى أن يخلق ثوراً وإذا به يخلق جاموساً. شعرت بأن العمل يسخر مني، وأن ابن رشد، إذ أراد أن يتخيل ما هي الدراما دون أن تكون لديه أي فكرة عما هو المسرح، لم يكن أكثر عبثية مني، عندما أردت أن أتخيل ابن رشد دون أن تتوفر لي أي مادة عنه سوى نتف من »رينان« و»لين« و»آسين بلاثيوس«. لقد شعرت، وأنا فـي الصفحة الأخيرة، بأن قصتي هي رمز للرجل الذي كنته فـي أثناء كتابتها، وأنه كان عليّ، لكتابة هذه القصة، أن أكون ذلك الرجل، وأنه لكي أكون ذلك الرجل، عليّ أن أملي هذه القصة، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. (وفـي اللحظة التي أتوقف عن الإيمان به، يختفي »ابن رشد«).

جريدة “نيويورك تايمز” – 8 مايو 1971


ما يقوم بمقايضته الكاتب أو الشاعر دائمًا غريب. أتذكر اقتباسًا لتشيسترتون[1] يقول فيه: “هناك شيءٌ واحدٌ تبقى له الحاجة مستمرة: كل شيء!”. بالنسبة للكاتب، تعني كلمة “كل شيء” أكثر من كلمة شاملة، فهو يأخذها بشكل حرفي، وتعني له الشيء الأهم والأساسي، وهو التجربة البشرية بشموليّتها. على سبيل المثال، يحتاج الكاتب للعزلة، وينال حصّته منها. ويحتاج أيضًا للحب، ويجد من يشاطره الحب ومن لا يشاطره. وهو أيضًا يحتاج للصداقة.. بل يحتاج للكون بأكمله في واقع الأمر. يجب أن يكون الشخص شاردًا، يعيش حياتين بشكلٍ أو آخر، لكي يصبح كاتبًا.


منذ زمنٍ بعيد، نشرت كتابي الأول “[2]Fervor de Buenos Aires” سنة 1923. لم يكن هذا الكتاب مديحًا لبوينوس آيرس قدر ما كان محاولةً مني لوصف ما أشعر به تجاه هذه المدينة. عرفت لحظتها أن الكثير ينقصني، على الرغم من أنّي عشت في جوٍّ أدبي، فأبي كان كاتب رسائل، ومع ذلك لم يكن الأمر كافيًا. احتجت إلى ما هو أكثر من ذلك، ووجدته فعلًا على يد الصداقات وفي المحادثات الأدبية.


ما يجب أن تمنحه جامعةٌ عظيمةٌ لكاتبٍ شاب هو، وبشكلٍ دقيق، التالي: الحوار، فن النقاش، فن الموافقة، وفن الاختلاف؛ وربما يكون الأخير هو الأهم من بينها كلها. بعيدًا عن كل ذلك، نستطيع أن نقول بأن اللحظة باتت مؤاتية حينما يحس الكاتب الشاب بأنه يستطيع صياغة مشاعره من خلال القصائد. يجب عليه أن يبدأ ذلك من خلال تقليد الشعراء الذين يحبهم. هكذا، يجد الشاعر صوته الداخلي بينما يفقد ذاته أثناء التقليد، أي يعيش حياتين في ذات الوقت، حياته الواقعية بكل ما يمكنه، وحياةً أخرى يتقمص بها، هي حياة يحتاج لخلقها، ويصيغ بها أحلامه واقعًا.


هذا هو الهدف الأساسي في برنامج كلية الفنون بجامعة كولومبيا. أنا – في هذا المقام – أتحدث بالنيابة عن العديد من الشبان والفتيات الذين يناضلون في هذه الجامعة من أجل أن يصبحوا كتّابًا، ولم يجدوا صوتهم بعد. أمضيْتُ أسبوعين في هذا المكان وأنا أشرح لهؤلاء الطلاب التوّاقين للكتابة، وأستطيع أن أرى ما تعنيه هذه الدورات لهم، وأن أرى أهميتها – أي الدورات – للأدب. لا يحظى الشبان في بلادي بمثلها.


دعونا نفكر بكل الشعراء والكتّاب الذي لم يظهروا بعد، وعن احتمال جمعهم سويًا وتعليمهم في مكانٍ واحد. أؤمن بأن هذا هو واجبنا، مساعدة هذه الكفاءات المستقبليّة لتحقيق هدفهم النهائي بكشفهم لأنفسهم، والذي سيخدم الأدب العظيم لاحقًا. الأدب ليس مجرّد ضمٍ للكلمات، ما يهم فعلًا هو ما لم يقل، أو ما يمكن أن يُقرأ بين السطور. ما لم يكن مرتبطًا بالإحساس في دواخلنا، فليس الأدب إلا لعبة، وكلنا نعلم بالطبع أنه أكثر من ذلك.


كلّنا نملك متعة القارئ، ولكن الكاتب يملك تلك المتعة بالإضافة إلى مهمّة الكتابة؛ وتعدّ هذه التجربة مكافأة بالإضافة لغرابتها. نحن ندين لكل الكتّاب الشّباب بفرصة اجتماعنا سويًّا، وبفرصة الاتفاق والاختلاف، وأخيرًا ندين لهم بالوصول لحِرْفَةِ الكتابة.


ترجمة: محمد الضبع
في مارس من سنة ١٩٨٤، بدأ خورخي لويس بورخيس سلسلة حوارات على الراديو مع الشاعر والكاتب الأرجنتيني أوسڤالدو فيراري، والتي بدأ اهتمام قرّاء الأدب اللاتيني بها يظهر مؤخرًا. تجدون في المحادثة التالية المجموعة الثانية من هذه الحوارات، والتي سوف تصدر في كتاب كامل قريبًا.

أوسڤالدو فيراري: بورخيس، أحد مقالاتك يحمل عنوان "عن تقديس الكتب" يجعلني هذا العنوان أفكر في كتب وفي مؤلفين تذكرهم باستمرار.

خورخي لويس بورخيس: لا أتذكر أي شيء بهذا الخصوص… هل كنت أتحدث عن الكتب المقدسة؟ عن حقيقة أنه في كل بلد هنالك تفضيل ما لكتب معينة؟

فيراري: لقد ذكرت السابق، نعم، ولكنك أيضًا أشرت إلى الأشخاص الذين ينتقدون الكتب لصالح اللغة الشفهية. على سبيل المثال، هنالك مقطع لأفلاطون يتحدث فيه عن القراءة المفرطة التي تؤدي إلى إهمال الذاكرة والاعتماد على الرموز.

بورخيس: أظن أن شوبنهاور قال: “أن تقرأ يعني أن تفكر بعقل شخص آخر.” هذه هي الفكرة ذاتها، صحيح؟ حسنًا لا، إنها ليست الفكرة ذاتها ولكنها عدائية تجاه الكتب. هل تحدثتُ عن هذا؟


فيراري: لا.

بورخيس: ربما كنت أتحدث عن حقيقة أن كل بلد يختار، أو يفضل أن يقدّم بواسطة كتاب ما برغم أن هذا الكتاب لا يمثل بالعادة خصائص البلد ذاتها. على سبيل المثال، يعتبر البعض شكسبير ممثلًا للإنجليزية بالطبع، ولكننا لا نجد أي من الخصائص الإنجليزية التقليدية في شكسبير. يميل الإنجليز للتحفظ والتكتم، بينما يجري شكسبير كنهر عظيم، إنه يزخر بالمبالغة والمجاز، إنه المثال المعاكس تمامًا للرجل الإنجليزي. وفي مثال آخر نجد غوته، لدينا الألمان الذين يصلون بسرعة إلى التعصب، بينما نكتشف أن غوته على عكس هذا تمامًا، رجل متسامح، يحيي نابليون عندما يجتاح نابليون ألمانيا. غوته ليس رجلًا ألمانيًا تقليديًا. الآن يبدو هذا النمط واضحًا، أليس كذلك؟

فيراري: خاصة في حالة الكلاسيكيات.
بورخيس: خاصة في حالة الكلاسيكيات، نعم. وبالنسبة لفرنسا، فإنها بلد تملك تراثًا أدبيًا ضخمًا لدرجة أنها لا تستطيع اختيار اسم واحد، ولكن إن ذهبنا مع فيكتور هيوغو، نجد أن هوغو لا يشبه معظم الفرنسيين.

فيراري: في تلك المقالة أيضًا، أشرت إلى الكتاب الثامن من الأوديسة، حيث تسرد حديث الرب عندما أعطى المصائب وسوء الحظ للبشر، كي يجدوا شيئًا بإمكانهم أن يغنوا له.
بورخيس: نعم، هذا صحيح، كانت الفكرة أن يجد البشر لأجيال وأجيال سببًا مقنعًا للغناء.

فيراري: نعم.

بورخيس: حسنًا هذا سبب كافي لإثبات أن الأوديسة جاءت بعد الإلياذة، لأنه ليس بإمكان أحد تخيل انعكاس كهذا في الإلياذة.

فيراري: بالتأكيد، لأن هومر يعطي فكرة البدايات
بورخيس: نعم، وكما قال روبن داريو: هومر الواثق كان يملك هومر آخر في داخله. لأن الأدب يفترض دائمًا مقدمة، أو تقليدًا. قد يقول أحدهم إن اللغة بحد ذاتها تقليد، كل لغة تقدم مدى من الاحتمالات والمستحيلات أيضًا، أو الصعوبات. لا أتذكر تلك المقالة، "تقديس الكتب".

فيراري: إنها في محاكم تفتيش أخرى.

بورخيس: أنا متأكد من وجودها، لأنني لا أظن أنك قمت باختلاقها فقط لاختبار ذاكرتي.

فيراري: (يضحك) إنها موجودة، من كتابات سنة ١٩٥١.
بورخيس: آه جيد، حسنًا، في تلك الحالة لدي كل حق في نسيانها. سيكون أمرًا محزنًا تذكري لسنة ١٩٥١.

فيراري: ولكنك انتهيت عند تلك النقطة بواسطة ستيفان مالارميه.
بورخيس: آه نعم، أن كل الأشياء تؤدي إلى الكتب، صحيح؟

فيراري: بالطبع.


بورخيس: نعم، لأنني آخذ تلك الأسطر من هومر وأقول إنها تؤدي المعنى ذاته. ولكن هومر مازال يفكر بالأغاني، بالشعر الذي يصعد في إلهام. وعلى العكس تمامًا، مالارميه كان يفكر حينها بكتاب، وبطريقة ما، في كتاب مقدس. الحقيقة أنهما الشيء ذاته، كل شيء يوجد لينتهي أخيرًا في كتاب، أو كل شيء يؤدي إلى كتاب.


فيراري: هذا يجعلنا نقول إن الأحداث دائمًا تنتهي بأن تصبح أدبًا. ولكن الكتاب الذي طالما نصحت بقراءته، حتى أولئك الذين لا يهتمون بالأدب، كان الإنجيل.


بورخيس: لأن الإنجيل عبارة عن مكتبة. الآن، كم هي غريبة تلك الفكرة عن العبرانيين عندما نسبوا سفر التكوين، ونشيد الأناشيد، وسفر أيوب، إلى كاتب واحد، هو الروح القدس. من الواضح أن هذه الكتب تعكس عقولًا مختلفة وعقودًا وأزمنة مختلفة، وتنتمي إلى فترات متنوعة للأفكار.

ليست هناك تعليقات: