السبت، 9 ديسمبر 2017

حوار مع الدكتور جمال نعيم حول موسى وهبه وكانط. إعداد محمد الحجيري.




حوار مع الدكتور جمال نعيم حول موسى وهبه وكانط.
إعداد محمد الحجيري

نقد العقل المحض، بين نظرية المعرفة والقول الفلسفي.

تمثّل .. الانعطاف [الكانطي] بخاصّة في النظر إلى الذهن كفاعلٍ نشط في تأليف المعرفة، إنما كمحدودٍ بما يقدّمه الحدس الحسّي.
وكان معظم التفلسف اللاحق [قد] حَسِبَه مذهباً في الكوْن، بل في الإنسان، أو نظريّةً في المعرفة وعلماً في العلم. لكني أريد أن أصرف النظر عن كل ذلك، لأقرأ نقد العقل المحض، في طبعته الثانية حصراً، لأرى إليه ما جعله ممكناً كقولٍ فلسفيٍّ بامتياز، أحدث ذلك الانعطاف الرئيس.
(موسى وهبه)
سؤال: لماذا يرفض موسى وهبه اعتبار كتاب "نقد العقل المحض" نظريةً في المعرفة؟
وماذا يقصد باعتباره هذا الكتاب "قولاً فلسفياً بامتياز"؟ فهل يمنعه كونه نظريةً في المعرفة من ذلك؟
Top of Form


يجيب الدكتور جمال نعيم، المطلع على آراء موسى وهبه، عن ذلك بأن النظر إلى "نقد العقل المحض" بوصفه  نظريّة في المعرفة وحسب، يُغفل، في رأي وهبه، كنط الميتافيزيقي بوصفه راسمًا لسستامٍ ميتافيزيقي، بمعنى خاص يقوم على فروض معيّنة يُبنى عليها، ويتوسّع بالإجابة عن مشكلة رئيسة هي مشكلة النّقد التي تتناول السؤال التالي: ماذا يمكنني أن أعرف؟
ومن ثمّ يرتبط بمشكلة نقد العقل العملي، والتي تتلخّص بالسؤال التالي: ماذا عليّ أن أفعل؟ ومن ثم يتابع المشكلة في نقد الحاكمة ومن ثمّ في كتاب( الدين في حدود مجرّد العقل)، والتي تتلخّص بالسؤال التالي: ما المتاح لي أن آمله؟
هذه الأسئلة الثلاثة تُلخّص بسؤال واحد، هو : ما الإنسان؟
ويعتبر موسى وهبه أنّ النقد الذي كان مجرّد تمهيد لسستام العقل، صار هو السستام نفسه بعد أن تشعّب واكتمل. ويميّز عند كنط بين النّشاط الكنطي ومذهب كنط أو بالأحرى جملة قناعات كنط. فما يتميّز به كنط هو النّشاط الكنطي وليس قناعاته التي يشارك بها كثيرًا من فلاسفة عصره.
إنّ تقزيم نقد العقل المحض الى مجرّد نظرية في المعرفة، يهمل كنط الأخلاقي، وكنط الفنّي اذا جاز التعبير، ويهمل أصلًا ميتافيزيقا كنط في نقد العقل المحض. إنّ كنط هو صاحب ميتافيزيقا وحسب. اكتشف حقلًا جديدًا هو حقل شروط الإمكان وابتدع مشكلةً جديدة، هي كيف يمكن للأحكام التأليفية قبليًّا أن تكون؟ وابتكر الأفاهيم المناسبة لذلك. لذا، علينا أن لا نلخص كنط الى جملة أفكار ونقتل النّبض الأساسي في النّص الذي جعله نصًّا فلسفيًّا بامتياز، من حيث هو قول بدئي، يبتدىء به القول، ولا يستند الى سواه. إنّ الفلسفة تجيب عن أسئلة العقل التي يطرحها العقل بطبيعته. وعلينا تفهم الإجابات الضروريّة التي. يتقدّم بها الفيلسوف في محاولته الإجابة عن المشكلة الرئيسة والمشكلات الأخرى التي يطرحها. فلا يمكننا أن نلغي "الشيء في ذاته" مثلًا من دون أن يتأثر السستام بأكمله.

يقول موسى وهبه:"
بتعبير أوضح: لم يكن كنط النقدي فيلسوف أخلاق من جهة وفيلسوف معرفة من جهة أخرى وفيلسوف غائية من جهة ثالثة، بل كان صاحب ميتافيزيقا وحسب. قِوام هذه جملة من المزاعم المقترحة لإخراج العقل البشري من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الاسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل نفسه، لمعالجة انهمامه
 (die sorge)  إن جاز القول.
وأتدبر، بالمناسبة، فهمًا آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علمًا للكائن بما هو كائن، ولا سؤالًا عن الكون، ولا مبحثًا في الغيبيات، ولا تلك الشجرة الوارفة الظل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشجرة، وجذورها المخفية في الأرض، إن صح لنا استثمار الاستعارة الديكارتية مرة أخرى.
أقول: الميتافيزيقا هي سستام المزاعم اللازمة للعقل البشري في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعته.
وجملة هذه المزاعم قد تكون إما مضمرة وسرّية وإما مُعْلَنة ومصاغة. وما فعله كنط هو إعلان معظم هذه المزاعم، مثال: الشيء في ذاته، والمكان والزمان، ولوحة الأحكام ولوحة المقولات الخ.. وطرحها في كتب النقد مع امتداداتها المباشرة.".
من محاضرة لوهبه بعنوان: ماذا عسانا نصنع بكنط بالعربية اليوم؟


حول الأحكام التأليفية القبلية عند كانط
إن التأليف هو، على العكس من التحليل، ربطٌ لمختلفين إما بعدِيّاً أي مستفادٌ من التجربة، وإما قبلياً على نحوٍ ضروريّ (عكسه متناقض) وكلّيّ (يؤيده كل ذي عقل).
ومثلاً الحكم: "زوايا المثلث تساوي 180 درجة" يربط بين زوايا المثلث وأمرٍ آخر: 180 درجة.
والحكم: "المعادن تتمدد بالحرارة" يربط بين المعادن وأمرٍ آخر: التمدد بالحرارة، ربطاً ضرورياً وكليّاً يصدق في التجربة إنما لا يُستَمدُّ من التجربة لأنّ هذه تظلُّ جزئية، ولا يطلع الكلّي من الجزئي.
(موسى وهبه)

** يُفهَم من هذه الفقرة بأن الحكم التأليفي القبلي هو حكمٌ ضروريٌّ وكلِّيّ..
لكن بهذا المعنى، هل الحكم "المعادن تتمدد بالحرارة" هي فعلاً حكمٌ تأليفيٌ قبليّ؟
بمعنى: ما الدليل على أنها كلية وضرورية؟
إنها نوع من الاستقراء الذي يقوم على تعدد المشاهدات.. وهي بالتالي تشبه الحكم بأن كل البجع أبيض.
المشاهدات المتكررة أو الاستقراء يصدق على ما تم رصده سابقاً، لكن لا يمكن البرهان على ما لم نره بعد.
إن كان من المحتمل جداً أن نصادف في المستقبل بجعةً غير بيضاء، ومن المستبعد أن نصادف معدناً لا يتمدد بفعل الحرارة، إلا أن المنهج المعتمد في الحالتين هو الاستقراء.
والاستقراء هو منهج مفيد في العلوم، لكن من الناحية المنطقية لا يحمل صفة الضرورة.
صحيح أن الحكم بأن المعادن تتمدد بالحرارة لا يُستمّدُّ من التجربة (لأن التجربة تظل جزئية) . (وكذلك الحكم بأن كل السوائل تتبخر بفعل الحرارة، وكذلك القول بأن كل البجع أبيضٌ)، وكل أحكامنا الكلّية وتعميماتنا لا تُستمَد من التجربة. لكن ما الذي يسمح لنا بالقول بأن هذا الحكم ضروريٌّ وكلّي؟
وبالتالي إما أن يكون هذا الحكم (أي كل المعادن تتمدد بالحرارة) قبلياً، لكن شرط القبول بأن الحكم القبلي التأليفي ليس ضرورياً وكلياً. أو إذا كان الحكم القبلي التأليفي ضرورياً وكلياً، فلا يعود هذا الحكم قبلياً تأليفياً.

 إلا إذا كان المقصود إمكان إصدار أحكام ضرورية وكلية بشكل قبلي لكنها غير صادقة. لكن ماذا يبقى لكلمة ضرورية؟

قد يبدو هذا الكلام مستغرباً، فلا أحد يتوقع بأن نصادفَ يوماً معدناً لا يتمدد بفعل الحرارة. وقد يكون ذلك صحيحاً. (أقول قد..)، لكن في كل الأحوال فإن هذه الحكم هو استقراء من حالات جزئية، ولا يمكن القول بضرورته إلا على سبيل الترجيح..
استمر العلماء لقرونٍ طويلة يعتبرون بأن الماء (أو أي سائل) سيملأ الأنبوب الفارغ. (لأن الطبيعة تخاف الفراغ كما كان يرى اليونانيون).. لكن بعد ذلك تبيّنوا بأن ذلك مشروط بارتفاع الأنبوب الفارغ وبقيمة الضغط الخارجي (ضغط الهواء في الحالات الطبيعية.)


يجيب الدكتور جمال نعيم عن هذه التساؤلات بالقول:
لا أعتقد أنّ كنط، وهو الضليع بالمنطق، والذي كان يعتبر أنّ المنطق اكتمل مع أرسطو، أقول لا أعتقد أنّه يغفل عن هذا الأمر. فكنط، مرّة أخرى، وعطفًا على ما جرى من أحاديث سابقة، لا يهتمّ بمدى واقعيّة ما يقول من ناحية أمبيريّة، من ناحية واقعيّة. هو ينطلق من وجود الأحكام القبليّة، أي الكليّة والضروريّة، في العلوم. ويحاول أن يفهم الشروط التي تسمح بهذه الأحكام القبليّة من ناحية بنية الذهن القبليّة. فالقبليّ هو أفهوم لدى كنط. وأي فلسفة لا يمكن معارضتها بأمثلة واقعيّة، بالقول مثلًا إنّ الأشياء ليست هكذا. في كل فلسفة كبيرة، هناك إعادة تقسيم للمجاوز والأمبيري. ولا يمكن نقد دائرة المجاوز بأمثلة واقعيّة، بل علينا أن نقوم بنقد المجاوز ببنية مجاوزة أخرى. بإمكان كنط أن يقول لك: افترض أنّ الأشياء هي هكذا، ما الذي يسمح لي، قبليًّا، أن أقول إنّ المعادن تتمدّد بالحرارة، ومثل هذا القول شائع في علوم عصره التي يؤمن بها؟ أي ما الذي يسمح لي بقول ذلك وفقًا لبنية الذهن القبليّة؟

 ويتابع الدكتور نعيم بالقول بأن
هذه المشكلة نجدها عند غالبيّة النّقاد. وهناك كتب نقديّة، أو بالأحرى تدعي النّقد، وتقوم على مثل هذا النّوع من النقد. فيُقال لهيوم أو لكنط أو لهيغل...الخ، إنّ الأشياء ليست هكذا، ويضربون مثلًا على صحة قولهم. هذا النّقد هو الأسخف في الفلسفة. لذا، تجد كتُبًا في الفلسفة، يكون بنهايتها قائمة بعدد محدود جدًّا من الفلاسفة الذين علينا أن ندرسهم، والباقي علينا اهمالهم لأنّ فلسفاتهم خاطئة أو على الأقل زائفة. إنّ النّقد الممكن هو في القول مثلًا: إنّ الفيلسوف الفلاني لم يُحسن طرح المشكلة، كان بإمكانه أن يطرحها بطريقة أخرى وأفضل، أو أنّ هذه المشكلة لم تعد الأنسب، فالفضاء الثقافي تغيّر، وعلينا طرح مشكلة أخرى. وبالتالي، فإنّ "الإجابات" أو الأفاهيم يلزمها تعديل وتحوير..الخ. وعندئذٍ يتمّ رسم شخصيّات أفهوميّة جديدة، ويتم بناء سستام فلسفي جديد. بهذا المعنى، يبقى الفلاسفة خالدون، ويتمّ الرّجوع اليهم دائمًا، ويتمّ البناء عليهم، بالتوافق معهم أو بمعارضتهم، ويبقى القول الفلسفي بمثابة نهرٍ لا يتوقف عن الجريان.
إضافةً الى ما سبق، كل فيلسوف كبير يعيد تقسيم المجاوز والأمبيري من جديد، يعيد تقسيم ما يعود الى الفكر بما هو كذلك، وما يعود الى ما هو واقعي، يعيد الاهتمام بالشروط القبليّة الجوانيّة المجاوزة للفكر، ويهمل ما يقع في دائرة الأمبيري. مثلًا، الصداقة عند الإغريق باتت شرطًا جوّانيًّا، شرطًا قبليًّا، شرطًا مجاوزًا لإمكان الفكر ذاته، باتت شرطًا لإمكان الفكر ذاته، ولم تعد مثلًا أمبيريًّا. فالفلسفة صديقة للحكمة والفيلسوف صديق الحكمة. مثلًا آخر، كنط أدخل الأوهام الملازمة للعقل، والتي رآها بمثابة السلبي الأخطر الذي يعاني منه الفكر، بعدما كان الخطأ من أيام سقراط هو السلبيّ الذي يعاني منه الفكر. ومن ثمّ اعتبرت الحماقة، بمعنى عدم طرح أي مشكلة، وبالتالي عدم توليد الفكر بالاستناد الى مشكلة معيّنة بمثابة السلبي الذي يعاني منه الفكر في المبدأ. فالفكر، عند ديكارت، فطريٌّ بما هو كذلك، والفكر عند دولوز توالدي تناسلي بما هو كذلك. ولا يمكننا أن نعارضهما بالقول إنّ الأشياء ليست كذلك. نعم بإمكاننا أن نبني فلسفةً أخرى بناء على مفترضات أو كما يسمّيها وهبه فروضًا، ذاتيّة أو موضوعيّة، ضمنيّة أو علنيّة. بهذا الفهم يبقى للفلسفة معنًى. أمّا أن نعامل الفيلسوف كما نعامل العالِم، ونُخضع أفاهيمه ومنتجاته لمعيار الصّواب والخطأ، فهذا ممّا لا معنى له في التعامل مع الفلاسفة.


ويؤكد الدكتور  نعيم أهمية طرح هذا الموضوع رغم التلخيص الشديد، بالقول: "لا تغرّنّك كثرة الصفحات التي تُكتب عن هذا الفيلسوف أو ذاك لفهمه أو لتأويله، إذ يكفي أحيانًا كثيرة، التقاط طرف الخيط أو إنارة أوّل الطريق. ومن ثمّ يتابع القارىء اليقظ منفردًا."

ليست هناك تعليقات: