الاثنين، 13 مارس 2017

برغسون في مناطق الالتباس؛ محمد الحجيري.




برغسون في مناطق الالتباس
محمد الحجيري.


الكثير من آراء برغسون يمكن القبول بها دون تحفّظ، لكنه في بعض محاضراته يدخل إلى طرح بعض الاحتمالات دون مسوّغ مقنع.
 الإشكاليّة التي يدخلنا برغسون في دوّامتها هي نظريّة الفكر المفارق، والتي هي إشكالية قديمة في تاريخ الفلسفة (والدين)، أعاد طرحها قبله ديكارت في القرن السابع عشر حين قال بأن المادة ممتدة وتوجد في المكان، بينما من خصائص الفكر أنه لا يوجد في مكان.. وهنا ندخل في متاهة طبيعة العلاقة بين هذا الذي لا يوجد في مكان وبين المادّة..

برغسون يرى بأن الذكريات كأفكار هي من طبيعة روحيّة ولا توجد في مكان.
هي لا توجد في الدماغ، لكن الدماغ يكلَّف بتنظيم استدعائها بحسب الحاجة..

 الوعي يقوم بتمرينه من خلال المادة ـ كما يرى برغسون ـ وبالتالي بإمكان هذا الوعي أن يستمر بعد مغادرة الحياة لهذا الجسد (لأن القول بفناء الجسد غير دقيق)..
 ربما يكون الرأي الأسهل إلى الفهم هو رأي المدرسة الظاهراتية التي ترفض الحديث عن وعي مفارق، وتقول بأن ما هو موجود في الواقع هو فعل وعي: لا توجد ذكريات جاهزة، هناك أفراد يتذكرون. لا توجد حركة، هناك جسم يتحرك.

الفقرة الواردة أدناه تنقل موقف برغسون بحرفيته، الذي لا يغيب عنه الطابع الأدبي
"إن النشاط العقلي عند الإنسان يتجاوز نشاطه الدماغي، وإن الدماغ يختزن عاداتٍ محرّكةً ولكنه لا يختزن الذكريات، وإن الوظائف الأخرى الفكريّة هي أيضاً أكثر استقلالاً، عن الدماغ، [من الذاكرة]، وإن الاحتفاظ بالشخصية، وحتى تزخيمَها، يصبحان بعد ذلك ممكنَين أو حتى محتملَين، بعد تفكّك الجسد، ألا نظن عندئذٍ أن الوعي، من خلال مروره عبر المادة الموجودة في هذه الدنيا، يُصقَلُ كما الفولاذ، وأنه يستعدّ ويتحضّر لعملٍ أكثر فعاليّة، ولحياةٍ أكثر زخماً؟"

(من محاضرة لـ برغسون تعود لعام 1911)

محمد الحجيري 
13 آذار 2016 

 روحانية برغسون
لا يعتبر برغسون بأن الدماغَ منتِجٌ للفكر وللوعي، إنما هو نقطة الاتصال بين الفكر والحياة، فهو "يستخرج من حياة الفكر كل ما هو قابل للتحوّل إلى حركة وكل ما يمكن تجسيده مادّياً".
 إنه (أي الدماغ) "يؤمّن في كلِّ لحظةٍ توافقَ الفكرِ مع الظروف، ويجعل الفكرَ على اتصال دائم بالوقائع.. إذاً ليس هو .. عضو التفكير ولا أداةَ الشعور ولا أداة الوعي؛ ولكنه يعمل على جعل الوعي والشعور والتفكير ممتدّة لتغطي الحياة الواقعية، وبالتالي لتكون قادرة على العمل الفعّال."
 لكن، هل من علاقة سببيّة بين هذا التواقت أو "الاقتران" في عمل الدماغ وبين الوعي. أم هي تشبه علاقة "الحاصل عنده" التي يتحدّث عنها الغزالي، الذي يعتبر بأن النار ليس هي من يتسبب بإحراق القطن: فقط عند حصول اقتراب القطن من النار يحترق القطن؟؟
هل نشاط الدماغ سببٌ لحصول الوعي، أم أنه نتيجة له؟ أم مجرد تواقت؟؟
 لا يبدو أن نشاط الدماغ نتيجةٌ للوعي، لأن برغسون يعتبر بأن الدماغ يساعد على تنظيم عمليات الوعي. "فالنشاط الدماغي يشكّل بالنسبة للنشاط الفكري ما تشكّله حركات العصا بيد رئس الأوركسترا، بالنسبة إلى السمفونيّة."
 لكنّ "السمفونيّة تتجاوز من كلّ الجوانب الحركات التي توجّهها وتضبطها، وحياة الفكر تتجاوز كذلك الحياة الدماغيّة".
الدماغُ إذاً، منظم لعمليات الوعي، لكنه ليس منتجاً لها، ولا هو نتيجةً لها أيضاً!!
وهذا يطرح إشكالياتٍ إضافيّة: من المسؤول عن إنتاج الوعي؟ وكيف؟
وكيف بإمكان الدماغ أن يتحكم في تنظيم عمليات الوعي الغامضة هذه؟؟
ما طبيعة العلاقة بين المادّة وبين هذا الوعي المفارق؟..
هذا الوعي الذي سيبقى بعد أن يفنى الدماغ أو المادة.
 كل ما في الأمر أننا لن نستطيع بعد ذلك التحكم في تنظيم عمليات الوعي الغامض الذي يتحدث عنه برغسون..
وعي لم تنتجه المادة، وسيبقى بعد فناء المادة.. ما علاقته بحياتنا المادّية إذاً؟؟
 للتفكر ومحاولة الفهم ليس إلا.
محمد الحجيري؛ 19/3/2015 

ليست هناك تعليقات: