الثلاثاء، 2 فبراير 2021

جورج قنواتي: تراث الإسلام في الغرب (في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف). (عن "تراث الإسلام")

 



تـراث الإســلام فـي الغــرب (في الفلسفة وعلم الكلام والتصوّف)

 

 

بقي علينا أن ننظر ما هو الجزء الذي انتقل إلى الحضارة الغربية من تراث المسلمين في الفلسفة وعلم الكلام والتصوف.

ولنبدأ بتذكير القارئ بواقعةٍ مهمّة، وهي أن العرب ظلوا فـي الأنـدلـس طوال سبعة قرون تقريبا (انظر ما سبق ذكره في الفصل الـثـانـي مـن هـذا الكتاب). وكانت قرطبة مركز حياة فكرية قوية حافلة، قامت فيها الفلسفة وعلم الكلام بدورهما بشكل واضح. ولم تقتصر الاتصالات بين المسلمين والنصارى على التجارة وحسب، بل إن الثقافة الإسلامية كان لها تأثير كاف جذب إليها أحسن العقول بين نصارى تلك البلاد. وعلاوة عـلـى ذلـك فـإن الأساقفة كانوا توّاقين إلى التعرف على كتب أولئك الناس (المسلمين) الذين كانوا يعتقدون أن رسالتهم هي تحويلهم إلى المسيحية. وبناء على تعليمات هؤلاء الأساقفة ترجمت الكتب العربية. وعندما استعاد المسيحيون طليطلة من المسلمين عام 478 هـ / 1085م، عمل الأسقف رايموندو على ترجمة الكتب العربية هناك. كما تمت ترجمات أخرى أيضاً في برغش، وكذلك في صقلية في ربط فريدريك الثاني (1215ـ 1250م)، حيث قام ميخائيل سكوتس (ت حوالي 1236م) بإسهام نشط في تعريف سيده بـ "علوم العرب". وقد تناول الفصل الثاني من هذا الكتاب بالتفصيل كل عملية التبادل الثقافي هذه.

والذي يستلفت النظر في هذه النقول من العربية، أنها قامت على أساس الاختيار، إذ تُرِكت بعض المؤلفات جانباً عن قصد، وبخاصة كتب الأدب، وذلك حتى تقتصر الترجمة على الكتب العلمية والفلسفية. ونتيجة لذلك بقيت كتب الحديث والمسائل التي تطرحها، وكتب الفقه الأساسية، وكل كتاب الإحياء للغزالي مجهولة من قبل الغرب. فالغزالي عند أهل العصور الوسطى اللاتينية في أوروبا كاد لا يكون معروفاً إلا باعتبار أنه صاحب "مقاصد الفلاسفة" دون غيره من المؤلفات، وهو ملخص واضح وبسيط للفلسفة في المشرق. ومن مذاهب المتكلمين لم يعرف الغرب سوى موضوعاتٍ قليلةٍ مثل المذهب الذري ومذهب المناسبات (Occasionalism). وقد رفضهما توما الأكويني بازدراء. لكن الإسهام العربي الإسلامي في مجال العلم (والفلسفة) لقي ترحيباً حاراً عندما أصبحت الوسيلة التي انتقلت بها الثروة العلمية والفلسفية لليونان القدماء إلى الغرب.

وقد زاد هذا الإسهام العلمي غنى وثراء نتيجة للجهد الشخصي الذي بذله العرب. فمنذ القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي فصاعداً كثرت الترجمات لكتب العرب في الفلك والتنجيم والطب والعلم التجريبي (والسحر). وأصبحت مدينة هيرفورد في القرن الحادي عشر الميلادي مركزاً إنجليزياً حقيقياً للدراسات العربية. وبعد ذلك بقليل يجوز أن تكون ترجمة القرآن، التي تمت بطلبٍ من بطرس الجليل (ت 1155م)، هي التي شجعت على المضيّ في الترجمة في مجال الفلسفة في مدينة طليطلة. لكن التفضيل كاد يقتصر على كتب الفلسفة.  (71)

وطوال قرونٍ كثيرة خلت، لم يكن قد عُرِف سوى كتاب أو كتابين من مؤلفات أرسطو نجَوَا من الضياع بعد سقوط الأمبراطورية الرومانية. ولكن منذ سنة 1125م فما بعدها، عثر على ترجمات لبعض مؤلفاته قام بها بويثيوس، وكانت مفقودة حتى ذلك الحين. كما كانت هناك أيضاً مصادرُ أخرى ساعدت على وضع "أورغانون" أرسطو كاملاً في متناول أهل الفكراللاتينيين. وبتأثر من هذا المنطق الجديد بدأت ثورة جدلية. وبعد ذلك بسنوات ظهرت أعمال أخرى لأرسطو في ترجماتٍ لاتينية. ولم تقتصر هذه الترجمات على المنطق، بل شملت أيضاً الطبيعيات (وبعد ذلك بقليل ظهرت الأخلاق والميتافيزيقا لأرسطو). وقد اختلطت بهذه المؤلفات نصوص من الأفلاطونية المحدثة. ومن ذلك الكتاب المنسوب لأرسطو المسمّى "أثولوجيا" أرسطوطاليس والذي يضم شذرات من تاسوعات أفلوطين وكتاب العلل (الذي يشمل أيضاً شذرات من كتاب "الأسطقسات الإلهية" لبرقلس.

وفي الوقت نفسه بدأت تظهر في الغرب الأعمال الأصلية للمؤلفين المسلمين مثل "في ماهية العقل والإبانة عنه" للكندي (ت 260هـ / 873م)، وكتاب أبي نصر الفارابي في العقل أيضاً، بالإضافة إلى كتابه في العلوم، وكتابه "إحصاء العلوم"، و"كتاب الشفاء" لابن سينا، وبخاصة قسم الإلهيات، وكتابه في النفس، وكتاب "مقاصد الفلاسفة" للغزالي، وكتاب "ينبوع الحياة" لابن جبرونل (الذي يعرف في الغرب باسم (أفيسبرون) (ت 450هـ / 1058م). ومن بين هذا الإسهام العربي في العلوم، يبرز لنا قبل كل شيء عالمان كان لهما أثرٌ كبير في الفكر الغربي المسيحي، هما ابن سينا وابن رشد.

استرعت انتباه علماء العقائد المسيحيين نزعات الأفلاطونية المحدثة بجوانبها الصوفية والدينية الموجودة عند ابن سينا، إذ كان أولئك اللاهوتيون توّاقين إلى الوصول إلى أساس فلسفي لما كانوا يأخذون به من المذهب الأوغسطيني، وكان من ثمرات ذلك المذهب الحسي الأوغسطيني السينوي كتاب "في النفس" لكبير أساقفة طليطلة يوحنا الطليطلي (القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي). وقد نُسِب هذا الكتاب بعض الوقت إلى جنديشلب [غونديسالفي]. وهذا الكتاب مؤلف شخصي لكنه متأثر كلية بابن سينا. والمؤلف يعلق في هذا الكتاب على الفلسفة الأفلاطونية المحدثة في صورتها المسيحية الموجودة عند القديس أوغسطين، وذلك في ضوء الفلسفة الأفلاطونية المحدثة في صورتها العربية الموجودة عند ابن سينا والفارابي. وفي ذلك يقول جيلسون "إن كتاب النفس المنسوب إلى جنديشلب يعين بدء دخول آراء ابن سينا في الفكرالمسيحي. وفي القرن السابع الهجري (الثالث عشر م)، نجد هذا الاتجاه ظاهراً إلى حدٍ كبير أو قليل في كتابات ويليام الأوفيرني Auvergne (ت 1249م)، وفي أعمال كبار الرهبان الفرنسسكان من أساتذة جامعة باريس من أمثال اسكندر الهاليسي (ت 1245م)، ويوحنا دو لاروشيل (ت 1245م)، والقديس بونافنتورا (ت 1274م)، بالإضافة إلى الفرنسسكان الإنجليز من أمثال روبرت جوسيتست (ت 1254م)، ويوحنا بيكهام (ت 1292م). وقدر لهذا الاتجاه الآتي من ابن سينا أن ينتشر ويزدهر إلى أقصى حد في فكر روجر بيكون المستنير الذي تأثر بابن سينا (والفارابي) إلى درجة أن نظريته عن قداسة البابا تتفق تمام الاتفاق مع النظريات التي قال بها ابن سينا عن الخلافة.

ولنضف إلى ما تقدم أن التأثير الضخم الذي كان لفكر ابن سينا في ذلك الوقت، تجاوز كثيراً الإطار الخاص للمذهب الأوغسطيني السينوي بمعناه الضيق، ونجد هذا التأثير حياً وقوياً في تعريف ألبرت الأكبر للنفس وفي نظريته في النبوة. وقد اقتبس توما الأكويني منه أيضاً كثيراً من عناصر عدته من الوسائل والمنهج والمصطلحات، كما أن دانس سكوتس اتخذ من فلسفة ابن سينا إلى حدٍ ما أساساً بنى عليه أقواله في ما وراء الطبيعة. وأخيراً حاول بعض العلماء أن يجدوا عند ابن سينا سوابق للكوجيتو الديكارتي.

أما ابن رشد، فلم تجرِ الأمور معه في الغرب على هذا النحو منم التوفيق، وفي بعض الفترات كان وضعه مؤسفاً بحق. وقد سبق أن قلنا إن تأثير أرسطو كان قد تسرّب (إلى الغرب) من قبل، وكان مذهبه الطبيعي ومذهبه في الحتمية قد جعلا السلطات على حذرٍ منه، فأصدرت عام 1210م قراراً يقضي بحظر تدريس كتبه في جامعة باريس. ولم تصل مؤلفات ابن رشد إلا بعد ذلك، حيث استقبلت أول الأمر استقبالاً حسناً، لأن أحداً لم يكن بعد قد فطن في ذلك الحين إلى الأخطار الكامنة في آرائه، والحق إن شهرة ابن رشد كشارح لأعمال أرسطو قد أكسبته في الغرب لقب "الشارح الأكبر"، لكن تلك الأخطار ما لبثت أن تكشفت. وقد سبق أن نوهنا بموقف هذا الفيلسوف القرطبي بالنسبة لصصلة الفلسفة بالشريعة. والواقع أن الدين كان عليه أن يدفع الثمن في هذا التوفيق، إذ إن الفلسفة هي التي كان عليها أن ترفض الحقائق القطعية، أما الشريعة (في نظر ابن رشد) فليس عليها أكثر من أن تقدم أنواع التمثيل والتشبيه القريبة إلى الواقع المحسوس على نحو يناسب أفهام الجمهور، وهذا يعلل لنا محاولة بعض المفكرين المسيحيين تفسير هذا الاتجاه على أنه قبول بـ "حقيقة مزدوجة" يظن أن الشارح الأكبر كان يؤمن بها، وكانوا هم مستعدين لقبولها واعتبارها موقفاً خاصاً بهم تجاه هذه المسألة. لكن هذا الاتجاه في الواقع معناه هدم الدين وعلومه، لأنه كان في تقدير أصحاب ذلك الاتجاه أن الدين وعلومه يمكن أن يكونا في النقاط الأساسية مناقضين للعقل.

غير أن الأمر الأخطر من ذلك هو أن ابن رشد اتبع في ما كتبه في علم النفس تفسيراً مادياً لكلام أستاذه أرسطو. فكان يرى أن الإنسان، في نهاية الأمر، حيوان راقٍ، يولد ويموت كغيره من الحيوانات. والذي يميّزه عن سائر الحيوان هو استعداد ذهنه للاتصال بالعقول المفارقة الممثلة في العقل الفعّال والعقل المنفعل passive في النوع البشري.

فهناك عقل واحد لجميع البشر، وهذا هو أساس القول بالنفس الواحدة عند ابن رشد. والعقل الفعال هو آخر العقول السماوية، وهو الذي يحرك فلك القمر. أما العقل المنفعل أو "المتقبل" receptive فيتلقى من العقل الفعّال صور المعقولات التي "جرّدها". وهذان العقلان يوجدان على حدود العالم الروحي، ولهما قدرة على التجريد يستطيعان بها الجمع بين المخلوقات لابشرية باستعمال خيالاتهم الذهنية، ومن ذلك يستخرجان المعقولات. وعلى وجه الدقة فإن وعينا بأننا نفكر لا يكون إلا بمقدار فاعلية العقل المنفعل. ومن ثم فإن ما يبقى منا بعد الموت قد لا يكون إلا ذكرى في العقل المنفعل والعقل الفعّال، وهذان الأخيران هما وحدهما الروحيان اللذان لا يفنيان. وهكذا فإن موقف ابن رشد هنا يعتبر موقفاً مادياً متطرفاً إلى حدٍ كبير.

بدأت هذه الإفكار تدخل كلية الآداب في باريس، وتبنّاها إلى حدٍ ما رجل يدعى سيجر البارابانتي (ت حوالي 1281م). وقد وجد القديس توما الأكويني أن عليه أن يدحض هذه الآراء في كتابه المسمى "في وحدة العقل رداً على الرشديين" وكان على السلطات الدينية أن تتحرك، فوجهت ضربةً قوية لهم من خلال قرار عام 1270م بإدانتهم، كما صدر قرار إدانةٍ على نحو أقوى عام 1277م. وقد هدأت الأزمة بعض الوقت، وبدا لحين أنه قد قضي على الرشدية اللاتينية التي يفضل فان شتينبرجن أن يطلق عليها اسم "الأرسطية المنحرفة"، ولكنها تشبثت بالبقاء وظهرت فمن جديد بعد ذلك بقليل واستمرت حتى عصر النهضة. والواقع أن وجود الرشدية في باريس في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) أدى إلى مهاجمة ريمون لوك (ت 1316م) لها مرة تلو أخرى، وكتب عدة رسائل صغيرة في الرد عليها. ولم يلبث اسم ابن رشد أن أصبح سبّة في أفواه البعض، ووصف بأنه "الملعون" وأنه "نابحٌ مسعور" و"عربيٌّ فاسق". ومع ذلك فإن الرشدية الباريسية انتعشت مرة أخرى على يد جان دي جاندون الذي كان يشغل عام 1316م منصب أستاذ الأدب في كلية نافار. وقد حاول أن يضع خلاصة للفلسفة المشّائية اعتمد فيها على ابن رشد وألبرت الأكبر.

ومن باريس انتقلت الرشدية إلى بادوا التي أصبحت على حد تعبير رينان بمنزلة "الحي اللاتيني للبندقية". وكان الذي نقل الرشدية إلى هناك منجّم فلكي في القرن الرابع عشر الميلادي يدعى بيترو دابانو (ت 1315م). وقد خلّف لنا بترارك الذي كان يبغض الرشدية في رسالته الساخرة "الجهل بالنفس وبأشياء كثيرة" تفاصيل لاذعة عن النصر الصاخب الذي أحرزه هذا المذهب الرشدي في بادوا.

وفي القرن الخامس عشر كان بومبونازي (ت 1525م) هو الذي انتصر، في حين حاول مؤلفون من أمثال نيفوس (ت 1546م)ن وزيمارا (ت 1532م) أن يوفقوا مرة أخرى بين آراء ابن رشد واللاهوت المسيحي.

وأدت الحاجة إلى معرفة أفضل لآراء الشارح الأكبر، إلى القيام بترجمات جديدة لأعماله عن العبرية والعربية في كل من بادوا وباريس. كما أنّ فنّ الطباعة الذي كان قد ظهر قبل ذلك بقليل أتاح لابن رشد آخر فرصة للنجاح في أوروبا المسيحية. وهكذا بينماكان ابن رشد قد أصبح مجهولاً تقريباً في بلاد الإسلام، فإن كتبه طبعت في البندقية في عام 1481، 1482، 1484، 1489، 1497، 1500م. كما تمت أيضاً طبعاتكاملة لأعماله في سنتي 1553، 1557م. وهناك بالإضافة إلى الطبعات الكثيرة لأعمال ابن رشد في البندقية، طبعات أخرى تمت في القرن السادس عشر في نابولي، وبولونيا، وباريس، وليون، وستراسبورغ. ومع ذلك، فبعد عام 1580م أخذ عدد قراء ابن رشد يتضاءل. وقد طبعت أعمالُه مرة أخرى في جنيف عام 1608م، وبعد ذلك نامت مؤلفاته تحت غبار المكتبات. والواقع أن الرشدية استمرت طوال عصر النهضة، ومن الممكن أن نرى في ذلك تأكيداص صارخاً لاستقلال العقل بنفسه بالنسبة إلى العقيدة الدينية، وهو أمرٌ دفع البعض إلى أن يجعل من العقل سلاحاً يوجهه ضد كل فكرة جينية. ولا شك في أنه لو قدر للشارح العربي في أن يشهد مصير مذهبه لَنبذ بقورة وعنف أولئك الذين كانوا يستندون إليه في محاربة الدين.

وإلى جانب أعمال ابن سينا وابن رشد التي كان لها تأثير كبير في مجال الفلسفة في العصورالوسطى في الغرب، لا بد أن نذكر كذلك رسالة "حي بن يقظان" التي ألّفها أبو بكر بن طفيل (ت 581هـ / 1185م). ففي هذا النوع من القصة الفلسفية التي عرفت في ترجمتهم اللاتينية باسم "الفيلسوف المعلم نفسه" أراد المؤلف أن يبيّن في صورة رمزية الاتفاق بين العقل والدين. وتدور القصة حول حي بن يقظان الذي هو طفل ترك دون أب أو أم فوق جزيرة غير مسكونة في المحيط الهندي، حيث أرضعته غزالة. وأصبح شيئاً فشيئاً يدرك الحياة ويكتشف بالتدريج ما حوله في العالم من أشياءَ كثرةٍ ومتنوّعة، ويتعرّف على قوانين الطبيعة إلى أن ينتهي إلى إثبات وجود الله تعالى خالق العالم ويتوصّل منجديد إلى كل حقائق الدين.

لقي هذا العمل الذي يعتبر درة في الأدب العربي نجاحاً كبيراً في الغرب غير الإسلامي. فترجمت تلك الرسالة إلى العبرية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، وإلى اللاتينية في النصف الثاني من القرن التاسع الهجري، (الخامس عشر الميلادي) على يد بيكوديللا ميراندولا (ت 1494م). وفي عام 1671 ظهرت ترجمة لاتينية أخرى لتلك الرسالة عن العربية بقلم إدوارد بوكوك الأصغر (وأعيد طبعها عام 1700م). وبعد ذلك ظهرت ترجمتان إلى الإنكليزية عن اللاتينية، إحداهما قام بها ج. كيث. (1674م) وهو رجل من جماعة الكوكريين، وقد اتبر "كيث" رسالة حي بن يقظان كتاب تثبيت للإيمان. ثم ظهرت ترجات هولندية لهذه القصة لم يعرف من قام بها وذلك بين عامي 1672، 1701، وترجمة ألمانية قام بها برتيوس عام 1726م، وقد نقلت الترجمات الأخيرة عن اللاتينية. وأخرج سيمون أوكلي ترجمة أخرى عن العربية (ظهرت في السنوات 1708، 1731، 1905م)، ثم راجعها وأصلحها أ. س. فولتون عام 1929. وهناك أيضاً ترجمة ألمانية أخرى قام بها إيكهورن (1783)، وتمت بعد ذلك ترجمة إنكليزية مختصرةبقلم بي برونلي (1904). وترجمت هذه في ما بعد إلى الألمانية (1907). وترجمه بونس بوجيس (1900) إلى الأسبانية، كما ظهرت ترجمة أسبانية أخرى لأنخل بالنثيا (1934)، وترجمة فرنسية بقلم غوتييه (1900، 1936) الذي أخرج في الوقت نفسه نشرة نقدية للأصلالعربي. وظهرت كذلك ترجمة روسية لقصة حي بن يقظان قام بها كوزمين (1920). وقد بيّن الباحثون أن دانيال ديفو صاحب قصة روبنسون كروزو قد استوحى قصته من كتاب "الفيلسوف المعلم نفسه" (وهو ترجمة لاتينية لرسالة حي بن يقظان).

وأخيراً لا بد أن نقول كلماتٍ قليلةً عن أثر التصوّف الإسلامي في الغرب، ويدخل في هذه الناحية موضوعان:

الأول، يتناول المصادر الإسلامية للكوميديا الإلهية التي بينها العلامة الإسباني الكبير المتخصص في الإسلاميات ميجيل آسين بلاثيوس، ثم ألفِيَ عليها ضوءٌ محدد عندما قام شيروللي بنشر كتاب المعراج، والموضوع الثاني، هو فكرة الحب الرفيع الذي يمكن أن يربط بالحب الأفلاطوني (وعند العرب ما يسمى الحب العذري) الذي عرف في القرون الإٍسلامية الأولى. ويمكن ربطه كذلك برسالة صغيرة كتبها ابن سينا عن الحب وأسماها رسالة في العشق، لكن هذه المسائل هي في الحقيقة مسائل تتعلق بتأثرات الأدب المقارن.

ولنذكر هنا باختصار مؤلف آسين بلاثيوس عن الصلات بين التصوّف الإسلامي والمسيحي. فقد ترجم بلاثيوس عدداً كبيراً من النصوص للغزالي وابن عربي وشرحها. كما وضع دراسة مطوّلة للصوفي الأندلسي ابن عباد الرندي (ت 792هـ / 1390م). وهو يرى في ابن عباد المثل الذي احتذاه يوحنا ذو الصليب. وقد انتهى آسين بلاثيوس إلى هذه النتيجة مستنداً قبل كل شيء إلى مصطلحات صوفية عند ابن عباد وما يقابلها عند يوحنا ذي الصليب، مثل: قبض، بسط. كما توصل إلى هذه النتيجة أيضاً عن طريق دراسة مذهب الشاذلي في الزهد في الكرامات. وقد نشأ ميل بلاثيوس إلى الربط بين نصوص متشابهة عن وجهة نظره الأساسية التي عبّر عنها بنفسه قائلاً: "ينبغي ألا ننسى أن التصوف الإسلامي بصفة عامة، والطريقة الشاذلية منه بصفة خاصة، هو الوريث للمسيحيةالشرقية والأفلاطونية المحدثة في الوقت نفسه". وقد طبق هذه الفكرة على القديس يوحنا ذي الصليب وقال: "إذا تأكد الافتراض القائل باتقال الآثار المكتوبة، فإن الأمر يكون مسألة حالة عادية من حالات إعادة نص أدبي إلى أصحابه. إذ إن أي فكرة من الإنجيل أو من القديس بولص، غرست في الفكر الإسلامي في العصورالوسطى، تكون قد اكتسبت في محيطها الجديد تطوراً كبيراً من ألوان الأفكار الجديدة، واتخذت صوراً وتعبيراتٍ متنوعة غير عادية، حتى إذا انتقلت هذه الفكرة إلى الأرض الأسبانية لم يجد متصوفونا في القرن السادس عشر غضاضةً في الاقتباس منها في مؤلفاتهم".

ولنا ملاحظتان في ختام هذا الفصل، فالفلسفة الإسلامية منجهة تعين مرحلة مهمة في تطور الفكر الإنساني في جملته. كما إن جهد الفلاسفة المسلمين يبدو محاولة نبيلة لكي يتجاوز الإنسان حدود نفسه، ويحقق رغبته في الاتحاد بالله، وينظم الدولةمن أجل إسعاد الإنسان. وهكذا فإن الروح التي كانت تحدوهم تستحق البقاء.

ومن جهةٍ أخرى فإن المؤلفات الكبرى لمتصوفي الإسلام العظام ستظل تستحوذ على إعجاب كل أولئك الذين تستجيب قلوبهم للجمال ويتعطشون إلى المطلق. فهم يستطيعون أن يجدوأ فيها عندما تتاح لهم الفرصة غذاءً لتشوقهم الروحي.

أفليس هذا أفضل دليل على خلود أعمالهم؟ (صفحة 79)

جورج شحاتة قنواتي


ليست هناك تعليقات: