الاثنين، 31 أغسطس 2020

ولتر ستيس؛ بارمنيدس وزينون. (من تاريخ الفلسفة اليونانية)

 

الرياضيات بالمغرب Math Maroc: مفارقة "أخيل والسلحفاة" والإلهام بوجود مفهوم  النهاية في الرياضيات

ولتر ستيس؛ بارمنيدس وزينون. (من تاريخ الفلسفة اليونانية)


أكزينوفان

المؤسس المشهور للمدرسة الإيلية هو أكزينوفان، وهناك شكٌ فيما إذا كان قد ذهب إلى إيليا أصلاً. [إيليا منطقة في جنوب إيطاليا].

زيادةً على ذلك فإنه يمتّ لتاريخ الدين أكثر مما يمتّ لتاريخ الفلسفة. والمبدع الحقيقي للمدرسة الإيلية هو بارمنيدس، غير أنّ بارمنيدس وجد بذوراً معيّنة في تفكير أكزينوفان وحوّلها إلى مبادئ فلسفية. لهذا فإنّ عندنا ما نقوله أولاً عن أكزينوفان. لقد وُلِد حوالي 576 ق. م. في قولوفون في أيونيا. وانقضت حياتُه الطويلة في التجوال في المدن الهيللينية كشاعرٍ ومغنٍّ وهو ينشد الأغنيات في الموائد والاحتفالات. والقول إنه استقرّ في النهاية في إيليا أمرٌ يحاط بالشك، ولكننا نعلم علم اليقين أنه وهو في سنٍّ متقدم في الثانية والتسعين كان لا يزال يتجوّل في اليونان. وجرى التعبير عن فلسفته شعراً. وعلى أيّة حال لم يكتب قصائدَ فلسفيةً بل مراثيَ وهجائياتٍ عن الموضوعات المختلفة، وأحياناً ما يعبّر عن آرائه الدينية فيها. وقد انحدرت إلينا شذراتٌ من هذه القصائد.

ويعدّ أكزينوفان هو أصل النزاع بين الفلسفة والدين، فقد هاجم الأفكار الدينية الشعبية عند اليونان بهدف التوصّل إلى تصوّرٍ أكثرَ صفاءً ونبالةً عن الرب. ويقوم الدين اليوناني الشعبي على أساس الاعتقاد في عددس من الآلهة التي يجري تصوّرها على شكلِ كائناتٍ إنسانية.

ولقد هاجم أكزينوفان هذا التصوّر عن الله باعتباره يحتوي على شكلٍ إنساني. يقول إنه من العبث افتراض أنّ الآلهة تنتقل من مكانٍ إلى مكان على نحو ما تصوّرها الأساطير اليونانية. ومن العبث افتراض أن للآلهة بدايةً، ومما يحط من شأنهم أن نعزوَ إليهم قصصاً مليئةً بالخداع والاحتيال واللصوصيةِ والزنا.

وقد هاجم أكزينوفان كلاً من هومر وهزيود لأنهما رددا هذه التصورات الشائنة عن الأرباب. ولقد تجادل أيضاً ضدَّ فكرة تعدد الآلهة. فإن ما هو إلهي لا يمكن إلا أن يكون واحداً ولا يمكن إلا أن يوجد واحدٌ هو أفضلها، لهذا فإن الله يجب تصوره على أنه واحد وهذا الإله لا يشبه الفانين، سواءٌ في الصورة الجسدية أو الفهم. يقول: "إنه كله بصرٌ وكلُّه سمع وكله فكر". إنه "هو الذي دون مشقّةٍ وبفضل تفكيره يحكم الأشياء جميعاً". ولكن سيكون من الخطأ افتراض أن أكزينوفان يفكر في هذا الربّ على أنه كائنٌ خارجيّ عن العالم يحكمه من الخارج كما يحكم القائد قواتِه. بل بالعكس لقد وحد أكزينوفان بين الله والعالم.

إن العالم هو الله. إنه كائنٌ حسّاس وإن كان بلا أعضاءٍ حسّية. يقول تأمّل في السماوات الواسعة وسوف تجد أنّ "الواحد هو الله". ولهذا يمكن وصف تفكير أكزينوفان بأنه وحدة وجود وليس تفكيراً واحدياً.

والله لا يتغيّر ولا يتحرك ولا ينقسم ولا يحرّكه شيء وهو لا يضطرب ولا ينفعل. وهكذا يبدو أكزينوفان على أنه مصلحٌ ديني أكثر منه فيلسوفاً. ومع هذا لمّا كان هو أوّل من قال القضية: "الكل هو واحد" فإنه احتلّ مكانتَه في الفلسفة وحولَ هذه الفكرة بنى بارمنيدس أسس الفلسفة الإيلية. (ولتر ستيس؛ تاريخ الفلسفة اليونانية؛ 46)

بارمنيدس (514 ق. م؛ ..)

كل الأشياء تظهر وتنقضي، ولا شيءَ دائمٌ ولا شيءَ يظلّ، فالشيء في لحظةٍ لا يكون في اللحظة التالية، ويكون قولُنا صادقاً إذا قلنا عنه إنه ليس موجوداً بمثل ما يكون قولنا صادقاً إذا قلنا عنه إنه غير موجود، وحقيقة الأشياء ليست هنا، لأنه ما من معرفةٍ يمكن أن تتولّد مما يتغيّر دائماً. (47)

الحقيقي المطلق هو الوجود، واللاوجود هو غير الحقيقي، واللاوجود ليس شيئاً على الإطلاق. وهو [أي بارمنيدس] يوحّد بين هذا اللاوجود وبين الصيرورة وبين عالم التغير والأشياء المتغيّرة، أي العالم المعروف لنا عن طريق الحواسّ.

إن عالم الحسّ غير حقيقي، وهمي، مجرّد مظهر، إنه لاوجود. والوجود وحده هو الحقيقي. وكما اعتبر طاليس الماءَ هو الحقيقة الواحدة، وكما اعتبر الفيثاغوريون العدد هو الحقيقة الواحدة، فإن الحقيقة الواحدة عند بارمنيدس، أي المبدأ الأول للأشياء هو الوجود غير المختلط باللاوجود البتّة، وهو خالٍ كلّيةً من كلّ صيرورة. (48)

[بارمنيدس بين المادية والمثالية]:

كيف يمكن أن نوفّق بين الرأيين المتصارعين عند بارمنيدس [: المادية والمثالية]؟

أعتقد أن الحقيقة هي أنّ هذين التناقضين قائمان جنباً إلى جنب عند بارمنيدس دون تصالح، وكلٌّ منهما يناقض الآخر.

وبارمنيدس نفسُه لم يتبيّن التناقض. فإذا أكّدنا جانباً سيكون بارمنيدس مادياً، وإذا أكدنا الجانب الآخر فسيجري تفسيره على أنه مثاليّ. وفي الحقيقة، في تاريخ الفلسفة اليونانية تأكد هذان الجانبان عند بارمنيدس تباعاً. لقد أصبح أب المادية والمثالية كليهما. لقد تمسّك خليفتاه المباشران أمبيدوقليس وديموقريطس بالجانب المادي في تفكيره وطوّراه. إن الفكرة الجوهرية عند بارمنيدس هي أنّ الوجود لا يمكن أن يظهر من اللاوجود، وأن الوجود لا يظهر ولا ينقضي. فإذا طبقنا هذه الفكرة على المادة فإننا نحصل عى ما نسميه في الأزمنة الحديثة مذهب عدم فناء المادة. إن المادة ليس لها بداية ولا نهاية. والظهور المتدني والانقضاء المبتدى للأشياء هما بكل بساطة تجميع وانفصال جزئيات المادة [التي] هي نفسها لا تفنى. وهذا بالضبط هو موقف ديموقريطس. ومذهبه هو استخلاص مادي للفكرة الرئيسية لبارمنيدس من أنّ الوجود لا يمكن أن يصدر عن اللاوجود أو ينقضي إلى اللاوجود.

ولم يحدث إلا مع أفلاطون أن الجانب المثالي من المذهب البارمنيدي قد تطوّر وكانت عبقرية أفلاطون هي التي التقطت بذور المثالية في بارمنيدس وطوّرتها. لقد تأثّر أفلاطون تأثراً بالغاً ببارمنيدس وكان مذهبة الرئيسي هو أن حقيقة العالم موجودة في الفكر، في المفاهيم، في ما يسميه "المثال"، ولقد وحّد بين المثال وبين الوجود عند بارمنيدس.

ولكن لا يزال أمامنا أن نتساءل عن ماهية الرأي الحقيقي عند بارمنيدس، من هو بارمنيدس الحقيقي؟ أليس أفلاطون وهو يفسّره إنما يقرأ فكره هو في بارمنيدس؟ ألسنا إذا فسرناه مثالياً إنما نقرأ فيه أفكاراً متأخرة؟ بمعنى ما من المعاني يعد هذا صادقاً تماماً.. (52)

الفلسفة..

لقد ذكرتُ .. أنّ الفلسفة هي الحركة من الفكر الحسّي إلى الفكر غير الحسي، وقلتُ إن هذه الحركة تحدث بصعوبة ومشقّة كبرى، وقلتُ إنه حتى الفلاسفة الكبار قد فشلوا أحياناً بهذا الصدد. (53)

 

حجج زينون على امتناع الحركة والتغيّر

إن كلّ حجج زينون زينون تقوم على حجةٍ واحدة على النحو الذي وضعناه ويمكن تسميتها نقيضة القسمة المتناهية، فمثلاً قصة السهم الطائر: يقول زينون إن السهم الطائر في كل لحظةٍ من طيرانه يجب أن يكون في مكانٍ واحد لأنه لا يمكن أن يكون في مكانين مختلفَين في الوقت نفسه، وهذا يتوقف على تصور الزمن على أنه ينقسم إلى ما لانهاية، ففي الآن اللامتناهي فقط أي الآن المطلق الذي ليست له ديمومة يكون السهم في حالة سكون. (57)

[هدف زينون من نقائضه]

إذا رجعتَ إلى نقيضة القسمة اللامتناهية التي تقوم عليها معظم حجاج زينون فربما تتوقع في أن أقول شيئاً من الحلول المختلفة التي عرضت. أولاً لا يجب أن ننسى حل زينون، فهو لم يعرض لهذا التناقض لذات لاتناقض بل لتأييد أطروحة بارمنيدس. وحله هو أنه لمّا كانت الكثرة والحركة تحتويان على هذه التناقضات فإن الكثرة والحركة غير حقيقيتين، إذاً فلن يكون هناك سوى وجود واحد لا كثرة فيه وخالٍ من كل حركة وصيرورة كما قال بارمنيدس. (57)

وهذه التناقضات ـ كما قال الفيلسوف الألماني كانط ـ باطنية في تصوراتنا في المكان والزمان، ولمّا كان الزمان والمكان يتضمّنان هذه التناقضات فإنه يترتّب أنها ليست أشياءَ حقيقية بل مظاهر، مجرد ظواهر. إن المكان والزمان لا يخصان الأشياء في ذاتها بل يخصان بالأحرى طريقتنا في النظر إلى الأشياء، فهما صورتا إدراكنا الحسّي، وعقلُنا هو الذي يفرض المكان والزمان على الأشياء وليست الأشياء هي التي تفرض المكان والزمان على عقولنا. زيادةً على ذلك فإنّ كانط استخلص من هذه التناقضات نتيجةً هي أنّ استيعاب اللامتناهي ليس في مكنة العقل الإنساني. (58)

الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم قد أنكر القسمة اللامتناهية للمكان والزمان وأعلن أنهما مكوّنان من وحداتٍ لا تنقسم لها عِظَم. غير أنّ الصعوبة في أنه يستحيل تصوّر وحدات لها عظم ومع هذا لا تنقسم لا يفسرها هيوم تفسيراً مقنعاً. (58)

[قراءة هيغليه في تناقضات زينون (وبارمنيدس)]:

لم يخرج هيغل على طريقته لحل هذه النقائض [عند زينون الإيلي]، فهي تبدو كمجرد حوادث في تطوّر تفكيره، إنه لا ينظر إليها كحالات معزولة للتناقض الذي يحدث في الفكر وكاستثناءات لقاعدة عامة تحتاج إلى تفسير خاص. بل بالعكس، لقد نظر إليها لا كاستثناءات بل كأمثلة على الطابع الجوهري للعقل. فكل الفكر، كل العقل عند هيغل يحتوي على تناقضات باطنية حيث يطرحها أولاً ثم يوفّق بينها في وحدةٍ أرقى، وهذا التناقض الجزئي للقسمة اللامتناهية يتم حلّه في الفكرة الأرقى (للكم). إن فكرة الكمّ تحتوى على عاملين هما (الواحد) و(الكثير)؛ والكمّ يعني بالضبط كثرةً في واحد أو واحد في كثرة.

فإذا نظرنا على سبيل المثال إلى كمّ أيّ شيء وليكن كوماً من القمح، فإنها واحد. كلٌّ واحد ثم إن الكومَ كثرةٌ لأنه مكوّنٌ من أجزاءٍ عديدة، فهو كواحد متصل وهو ككثرةٍ منفصل.

إن الفكرة الحقيقية للكمّ ليست الواحد بمعزل عن الكثرة ولا الكثرة بمعزل عن الواحد، بل هي مركّب الاثنين، إنها الكثرة (في) الواحد. والنقيضة التي نبحثها تصدر من النظر إلى جانب الحقيقة في تجريد زائف عن الجانب الآخر. وإن تصور الوحدة على أنها ليست في ذاتها كثرة، أو الكثرة على أنها ليست في ذاتها وحدة، هو تجريد مزيّف.

إن فكرة الواحد تتضمّن فكرة الكثرة وفكرة الكثرة تتضمّن فكرة الواحد، وأنت لا يمكن أن تكون لديك [كثرةٌ] بدون واحد، كما أنه لا يكون هناك طرف للخيط بدون الطرف الآخر. والآن، إذا نظرنا إلى أيّ شيءٍ يقاس كمّياً مثل الخط المستقيم، فإنه يمكن تناوله أولاً كشيء واحد، وفي هذه الحالة هو وحدةٌ لا تنقسم متصلة؛ ثم يمكن أن نتناوله ككثرة، حيث إن فيه أجزاءً ومرةً أخرى يمكن اعتبار هذه الأجزاء على أنها واحد، ومن ثمّ فهي وحدة لا تنقسم، ومرةً ثانية كل جزءٍ يمكن أن يعدّ كثرةً حيث ينقسم إلى مزيد من الأجزاء، وهذه العملية المتبادلة يمكن أن تستمر إلى ما لانهاية. وهذه نظرة إلى المسألة أدّت إلى التناقضات التي نبحثها، لكنها نظرةٌ خاطئة فهي تتضمن التجريد الخاطئ للنظر أولاً للكثرة على أنها شيء له حقيقته بمعزل عن الواحد، ثم النظر إلى الواحد على أنه شيء له حقيقته بمعزل عن الكثرة.

فإذا أصررت على القول إن الخط هو ببساطة واحد وليس كثرة، إذاً ستنشأ نظرية الوحدات التي لا تنقسم، وإذا أصررت على القول إنها كثرة وليست واحداً إذاً فإنها تنقسم إلى ما لانهاية. لكن الحقيقة هي أنها ليست كثرة بسيطة وليست واحداً بسيطاً؛ إنها كثرة (في) واحد، أي إنها (كمّ). ولهذا فإن جانبيّ التناقض صادقان بمعنىً ما من المعاني، لأن كل جانب عامل في الحقيقة لكن الجانبين زائفان أيضاً إذا اعتبر كلٌ منهما نفسه هو الحقيقة كلّها. (59)

نقد المدرسة الإيلية:

إذا تطلّعنا إلى الطريق الذي قطعناه منذ بداية الفلسفة اليونانية فسوف نتمكّن من أن نحدّد الاتجاه الذي تحرّكنا فيه. لقد طرح الفلاسفة اليونانيون الأوّل: الأيونيون السؤال: "ما هو المبدأ المطلَق للأشياء؟" وردّوا بأن أعلنوا أنّ المبدأ الأول للأشياء هو المادة.

والمدرسة اليونانية الثانية وهي الفيثاغويون ردّوا على لاسؤال نفسه فأعلنوا أنّ الأعداد هي المبدأ الأول، وردّت المدرسة الثالثة وهي الإيليون على السؤال فأكّدت أن المبدأ الأول للأشياء هو الوجود.

إن الكون كما نعرفه كمّي وكيفيّ. والكم والكيف هما خاصيتان لكل موضوع حسّي. وليس الكمّ والكيف ت في الواقع ـ الصفتين الوحيدتين للعالَم ولكنهما الصفتان الوحيدتان البارزتان. وموقف الأيونيين هو أن الحقيقة المطلَقة كمّيةٌ وكيفيّة معاً. أي إنها المادة، فالمادة هي ما له كمٌّ وكيف.

ولقد جرّد الفيثاغوريون الكيف من الأشياء ونزعوا عنها الجانب الكيفي ولم يبقَ لديهم سوى الكمّ باعتباره الحقيقة القصوى والكمّ هو نفسه العدد، ومن ثَمّ فإن موقف الفيثاغوريين هو أن العالم مكوّن من أعداد.

ولقد خطت الفلسفة الإيليّة خطوةً أبعد في الاتجاه نفسه وحدث تجريد عن الكمّ كما حدث تجريد عن الكيف. فبينما ينفي الفيثاغوريون الجانب الكيفي للأشياء ولا يتركونها إر مع الجانب الكمّي ينفي الإيليون الكمّ والكيفَ معاً، [فهم] بإنكارهم للكثرة قد نفَوْا الكمّ، ومن ثَمّ لم يبقَ سوى التجريد الكلّي للوجود المحض وفيه لا يوجد انقسام (كمّ) ولا صفةٌ إيجابية (كيف). ولهذا فإن الانتقال من الفلسفة الإيونية إلى الفلسفة الإيلية هو أساساً انتقال من التفكير الحسّي إلى التفكير المحض الخالص. إن الوجود الإيلي [أي الوجود الذي قال به الإيليون] هو فكر تجريدي تام، أما موقف الفيثاغوريين فهو الفكر شبه الحسّي وهم يعدّون حجر الانتقال من الأيونيين إلى الإيليين.

(61)

الفلسفة واحديّة بالضرورة..

من الضروري بالنسبة إلينا أن نفهم أنّ الفلسفة الإيليّة هي أوّل نزعةٍ واحديّة [؟].

والفلسفة الواحديّة هي فلسفة تحاول أن تفسّر الكون كلّه من مبدإٍ واحد. وعكس النزعة الواحدية نزعة الكثرة، وهي ذلك النوع من الفلسفة الذي يسعى إلى تفسير الكون من مبادئَ عديدةٍ مطلقةٍ ونهائية.

ولكننا نتحدث أكثر وبصفةٍ خاصة على أنّ مقابل النزعة الواحدية النزعةُ الاثنينية، أي القول بأنّ هناك مبدأين مطلقَين للتفسير. فإذا قلنا مثلاً إن كلّ الخير في العالم ينشأ من مصدرٍ واحد هو الخير، وإن كل الشر في العالم يصدر من مصدرٍ واحد هو الشر، وأنّ هذين المصدرين للخير والشرّ لا يمكن أن يكون الواحد [منهما] تابعاً للآخر، بل هما متآزران وكلاهما على نفس الدرجة من الاستقلال والأولية فإن هذا الموقف هو موقف النزعة الاثنينية.

والفلسفة كلها الجديرة بهذا الاسم تسعى بمعنىً ما من المعاني إلى التفسير الواحدي للكون، وعندما نجد مذهباً في الفلسفة ينهار ويفشل فإننا نكاد نوقن دائماً أنّ عجزه سيتكشّف على أنه ثنائيةٌ لا تصالحَ فيها.

ومثل هذه الفلسفة تبدأ بمذهب واحدي وتحاول أن تستخلص أو تشتق الكون كله منه، ولكن يحدث أن تواجه بشيء في العالم لا تستطيع أن تدرجه تحت ذلك المبدأ وحينئذٍ يكون لديها وجودان مطلقان لا يمكن لأيٍّ منهما أن يُشتَقّ من الآخر، وينفجر المذهب إلى ثنائية. (62)

.. لقد كان الإيليون على حقٍ بقولهم إن الكلّ واحد وإن المبدأ المطلق للوجود وهو الوجود واحد. ولكن إذا بحثنا الطريقة التي طرحوا بها واحديّتهم فسوف نتبيّن أنها تنشطر إلى ثنائيّة باعثةٍ على اليأس، فكيف فسّروا وجود العالم؟

لقد عرضوا لمبدأ الوجود على أنه الحقيقة المطلقة. فكيف إذاً يستخلصون العالم العقلي من ذلك المبدأ؟ الجواب أنهم لم يستخلصوه ولم يُبدُوا محاولةً لاستخلاصه. وبدلاً من اشتقاق العالم من مبدئهم الأول، أنكروا ببساطة حقيقة العالم كلّيةً. لقد حاولاوا أن يحلّوا المشكلة بإنكار وجود المشكلة. يقولون إن العالم هو بكل بساطة لاوجود. إنه وهم. من المؤكد أنه شيء عظيم أن تعرف ما هو العالم الحقيقي، وما هو العالم المزيّف، ولكن هذا ليس تفسيراً على الإطلاق. إن اعتبار العال موهماً ليس تفسيراً له، فإذا كان العالم حقيقةً إذاً فإن مشكلة الفلسفة هي كيف تنشأ الحقيقة. وإذا كان العالم وهماً إذاً فستكون المشكلة هي كيف ينشأ هذا الوهم؟ سمّه وهماً إذا شئتَ ولكنّه لا يفسره، إن المسألة هي مجرد أسماءٍ تطلَق، وهذا هزيمة أخرى للفلسفة الهندية حيث يعدّ العالم "مايا" أي وهماً. ومن ثَمّ ففي الفلسفة الإ]لية هناك عالمان يتواجهان ويقومان جنباً إلى جنب دون تصالح: عالم الوجود الذي هو العالم الحقيقي، وعالم الوقائع الذي هو عالمٌ وهمي. وبالرغم من أنّ الإيليين ينفون العالم الحسّي ويعتبرونه وهماً، إلا أنهم لا يستطيعون أن يخلصوا أنفسهم من هذا الوهم. وبمعنى ما من المعاني، هذا العالم هو هنا، حاضر، وهو يعود إلى حواسنا ويطالب بتفسير. سمّه وهماً لكنه لا يزال قائماً جنباً إلى جنب العالم الحقيقي ويطالب بأن يُستمَدّ منه. إن لدى الإيليين مبدأين: العالم الزائف والعال مالحقيقي وهما قائمان جنباً إلى جنب دون رابطةٍ تربط بينهما ودون أيّ إظهارٍ كيف ينشأ الواحد من الآخر. وهذه ثنائية مطلقة لا تصالح فيها.

ومن السهل أن نتبيّن كيف تحطمت الفلسفة الإيلية إلى هذه الثنائية، الأمر يرجع إلى تجرد مبدئهم الأول نفسه. يقولون إن الوجود ليس فيه صيرورة، ومبدأ الحركة كله مستبعد تماماً منه. وهم بالمثل ينكرون عليه أية كثرة، فهو ببساطة واحد لا كثرة فيه. وإذا أنت استبعدتَ صراحةً الكثرة والصيرورة من مبدئك الأول، إذاً فأنت لن تحصل إطلاقاً على الكثرة والصيرورة من خارجه، إنك لا تستطيع أن تستخلص منه أيّ شيءٍ ليس فيه. فإذا أطلقت القول إنه لا توجد كثرة في المطلق، فإنه سيستحيل تفسير كيفية مجيء الكثرة إلى هذا العالم. والأمر بالمثل بصدد مسألة الكيف.

إن الوجود المحض بلا كيفية، إنه مجرد "كينونة". إنه بلا ملامحَ على الإطلاق. إنه وجود بلا خصائص. إنه خاوٍ ومجرّد تماماً.

إذاً كيف يمكن لكيف الأشياء أن يصدر منه؟

كيف يمكن لكل ثروات وتنوّع العالم أن تصدر من هذا الخواء؟

إن الإيليين أشبه بالمشعوذين الذين يحاولون أن يجعلوك تعتقد أنهم سيحصلون على الأرانب والخيوط والورق والشرائط من قبّعةٍ فارغةٍ تماماً.

إن الإنسان ليتبيّن مقدار تجرد وخواء مثل هذا المبدأ إذا ما حوله الإنسان إلى لغة كنايةٍ وتشبيه، أي إلى لغة الدين.

إن المبدأ الإيلي يتفق مع دين نقول فيه أن "الله موجود"، ولكن فيما عدا أن الله "كائن"، فإنه ليس له كفوٌ أحد.

ولكن هذا تصوّر مجرّد للرب، ونحن تعوّدنا في الدين المسيحي أن نسمع تعبيرات لا على أن "الله موجود" فحسب، بل أيضاً أن "الله محبة" و"الله قوة" و"الله خير" و"الله حكمة". ويمكن توجيه اعتراض بشأن هذه المحمولات [أي الصفات] على أساس أنها تشبيهية وإضفاء للطابع الإنساني. وهي في الحقيقة تكشف عن اتجاه للتفكير في الأشياء اللاحسية بطريقة حسية. (67)

وهذه المحمولات التقطت فحسب من العالم المتناهي وطبقت كيفما اتفق على الله، وهي محمولات ليست سديدة للتعبير عنه.

غير أنّ هذه التعبيرات تعلمنا على الأقل أنه من الفراغ المحض لا شيءَ يظهر، وأن العالم لا يمكن أن يصدر عن شيءٍ أدنى وأقل من ذاته. وهنا في العالم نجد مقياساً معيّناً ومحبة وحكمة وامتيازاً وقوة. وهذه الأشياء لا يمكن أن تظهر من مصدر يكون فقيراً حتى إنه لا يحتوى إلا "الكينونة". يمكن للأقل أن يصدر عن الأعظم ولكن الأعظم لا يصدر عن الأقل. ونستطيع أن نقابل الإيلية لا بالمسيحية فحسب، بل حتى باللاأدرية الحديثة. فهذه اللاأدرية ترى أن المطلق مجهولٌ، ولكن ما يقصده اللاأدريون هو أن العقل الإنساني غيرُ ملائم لالتقاط عظمة الوجود المطلق. غير أن المبدأ الإيلي هو أنه ليس في قولنا "الله محبة وقوة وحكمة" نقول شيئاً قليلاً عن الله وأن أفكارنا غير ملائمة للتعبير عن امتلاء وجود الله بل بالعكس، إنهم يعبرون عن فكرة عالية للغاية عن الله الذي لا يمكن أن يقال عنه شيءٌ سوى "أنه موجود" لأنه ليس هناك المزيد لنقوله، وهذا التصور لله هو تصوّر وجود فارغ خاوٍ تماماً. (67)

[ستيس يفلسف المسيحية]

لقد قلتُ إن الواحدية هي فكرة ضرورية في الفلسفة، فالمطلق يجب أن يكون واحداً، غير أنّ الواحدية المجردة للغاية مستحيلة. فإذا كان المطلق هو ببساطة الواحد الخالي تماماً من كل سيرورة وكثرة، فإنه من مثل هذا التجريد لا يمكن أن تصدر السيرورة والكثرة. إن المطلق ليس ببساطة واحداً أو ليس ببساطة كثرة. بل يجب أن يكون كثرةً في واحد بمثل الثالوث في المسيحية. لقد انتقل الدين من تعدد الآلهة المجرد (الله كثرة) إلى واحدية مجردة (الله واحد، اليهودية والهندوكية والإسلام)، ولكنه لم يتوقف هنا فقد انتقل إلى واحدية عينية (الله كثر في واحد: المسيحية). وهناك تصوران خاطئان شائعان بشأن عقيدة الثالوث..

الخطأ الأول هو العقلانية الشعبية، والخطأ الثاني اللاهوت الشعبي.

إن العقلانية الشعبية تؤكد أن عقيدة الثالوث منافيةٌ للعقل، واللاهوت الشعبي يؤكد أنه سرٌ يتجاوز العقل. غير أنّ الحقيقة هي أنه لا يناقض العقل ولا يتجاوزه، بل بالعكس، إنه في ذاته التجلي الأكبر للعقل. وما هو سرٌّ وما هو مناقض للعقل هي افتراض أن الله، المطلق، هو ببساطة واحد بدون كثرة. وهذا التناقض ناتج في الثنائية المميتة التي نشأت في الإيلية ونشأت في كل مذهبٍ فكري آخر مثل مذهب الهندوك أو اسبينوزا والذي يبدأ بتصوّر المطلق كواحد محض يستبعد الكثرة تماماً.

(68)

 

 


ليست هناك تعليقات: