الأحد، 3 مايو 2020

زمن البعث؛ حازم صاغيّة.









زمن البعث السوري - تاريخ موجز - للكاتب حازم صاغية - 1 –
عفلق سمّى الإسلام معجزة العروبة والأكثرية السنيّة لم تهضم آراءه
  • 12-09-2011 | 00:01



الأرسوزي













حول عفلق والبيطار






الأرسوزي




عصبة العمل القومي





رأي الأرسوزي في عفلق

الجاهلية


الفيلولوجيا




سامي الجند، وهيب غانم،
ترك الأرسوزي والالتحاق بعفلق والبيطار

جمال الأتاسي

































موقف السنّة من دعوة عفلق









تأثيرات: نيتشه، فيخته، هيردر












حسني الزعيم









توزير عفلق في عهد سامي الحناوي












جلال السيّد











عفلق والحوراني

انقلاب الشيشكلي









الاندماج مع الحوراني










ضباط الجيش


انكفاء سنّي






الحوراني يدفع بالحزب نحو عبد الناصر


اعتكاف وخروج جلال السيّد



أطاحة الشيشكليي

مصطفى حمدون وعبد الغني قنّوت





اغتيال عدنان المالكي










شكري القوتلي

عفيف البزري
السرّاج
محمود رياض



























خالد بكداش

الأرسوزي اعتبر الجاهلية عصر العرب الذهبي... وحدَّتُه نفّرت الرفاق منه
تنشر «الجريدة» على حلقات كتاب «زمن البعث السوري: تاريخ موجز» للكاتب حازم صاغية قبل طباعته وتوزيعه قريباً، وتنبع أهمية الكتاب خصوصا من تزامنه مع «الربيع العربي» و«الثورة السورية» على نظام «حزب البعث» في نسخته النهائية المتمثلة بحكم الرئيس بشار الأسد.
يحتوي الكتاب بين دفتيه قصة «موجزة» لهذا الحزب الذي طبع الحياة السياسية العربية مدة نصف قرن؛ من خلال سيرة شخصياته الأساسية وتفاعلهم مع أحداث سورية والمنطقة منذ نشوء الفكرة البعثية مع «الأساتذة» الأولين، مروراً بحكم العسكر الحزبي، وخصوصاً فترة الأسد الأب التي امتدت ثلاثة عقود، وانتهاء بمرحلة الأسد الابن التي تكرر المشاهد الدموية لكل العهود البعثية.
عفلق والأرسوزي: البدايات الأولى
في 1947، بعد عام واحد على الجلاء الفرنسيّ عن سوريّة، ولد "حزب البعث العربيّ"، وكانت تلك هي الولادة الرسميّة، إذ سبقها تبشير بـ"البعث" في مقاهٍ دمشقيّة كان الطلاّب يتحلّقون فيها حول أستاذين عائدين من باريس، هما المسيحيّ الأرثوذكسيّ ميشيل عفلق والمسلم السنّيّ صلاح الدين البيطار، ومعهما دمشقيّ ثالث لم يعمّر طويلاً اسمه مدحت البيطار.
و"البعث" هذا كانت مقدّماته قد ظهرت في "الإحياء العربيّ"، ذاك العنوان الذي يستعيد "عصر النهضة" وعناوينه، والذي في ظلّه أطلق الثلاثة دعوتهم أوّلاً، قبل أن ينشطوا تبشيريّاً، لكنْ في أجواء مشابهة، كان أستاذ آخر درس أيضاً في باريس، يُدعى زكي الأرسوزي، يبشّر بـ"البعث العربيّ"، والأخير، وهو علويّ المذهب، لم يكن دمشقّياً، بل جاء لاجئاً من أنطاكية في لواء الإسكندرون بعد استيلاء الأتراك عليه في 1938، بموجب اتّفاق بينهم وبين الفرنسيّين.
والثلاثة ربطتهم صلة متفاوتة بتجربة سابقة هي "عصبة العمل القوميّ" التي أسّسها، في 1933، اللبنانيّ علي ناصر الدين ومعه بعض شبّان سوريّين وعراقيّين ولبنانيّين. بيد أنّ "العصبة" التي توقّف عملها بعد ستّ سنوات، كانت أشبه بمحفل ضمّ وجهاء متعلّمين بعضهم يمتّ بالنسب إلى الأرستقراطيّة القديمة، بينما يتّسم نشاطهم بخطابيّة وإنشائيّة موسميّتين لا تتجاوزان محيط المحفل المغلق.
عفلق والبيطار والأرسوزي
والثلاثة، عفلق والبيطار والأرسوزي، لم يُعرفوا بودّ متبادل، وقد نُقلت عن ثالثهم عبارة شهيرة في أوّلهم تقول إنّ "الأدب خسره فيما ابتُليت به السياسة"، لكنّ الأمر كان أكثر من عبارة شاردة، إذ الأرسوزي رأى في منافسه الدمشقيّ تجسيداً للفشل وانحطاط الهمّة والكسل الفكريّ، وبينهما قامت فوارق أعمق في عدادها أنّ المعلّم الأنطاكيّ اعتبر الجاهليّة، لا الإسلام، عصر العرب الذهبيّ، كما عوّل، متأثّراً بالأدبيّات العرقيّة الأوروبيّة، على "عنصر" عربيّ متفوّق، وهو ما لا أثر لمثله في كتابات الأستاذ المنافس.
وإذ اهتمّ الأستاذ الإسكندروني بفقه اللغة (الفيلولوجيا) ودوره المفترض في قيام الأمّة وتكوّن القوميّة، قصر الأستاذ الدمشقيّ تركيزه على "وحدة" اللغة والتاريخ والوجدان، إلاّ أنّ الطباع الشخصيّة الحادّة للأرسوزي كانت، على ما يبدو، ما نفّر الرفاق الصغار منه دافعاً بهم إلى أحضان الأستاذين الآخرين.
وكان ممّن ورثهم هذان الأخيران عنه شبّان لعبوا لاحقاً أدواراً مهمّة في تاريخ البعث، كسامي الجندي ووهيب الغانم، فأضيفوا إلى أوائل البعثيّين الذين كان منهم جلال السيّد، صاحب الملكيّات الزراعيّة في دير الزور والهاجس بتفوّق عرقيّ للعرب على سواهم، ومنصور الأطرش، نجل قائد الثورة الدرزيّة في العشرينيات، سلطان باشا الأطرش، وجمال الأتاسي، الطبيب النفسيّ وابن العائلة السياسيّة الحمصيّة العريقة.
«الأنبياء الصغار»
لكنّ كتلة البعثيّين الأوائل، ممّن أسماهم عفلق "الأنبياء الصغار"، ظلّت ضعيفة محدودة العدد، أقرب إلى الشَلل منها إلى الفعالية. وهي تميّزت، كذلك، بملامح سوسيولوجيّة لا تخطئها العين: فأكثريّتها شبّان صغار من الطلاّب والتلاميذ، يغلب عليها أبناء المناطق الريفيّة الصادرون عن طوائف أقليّة، درزيّة وعلويّة وإسماعيليّة، وهؤلاء وفدوا إلى دمشق للدراسة فواجهوا عالم الغربة فضلا عن صدّه لهم وتعاليه عليهم.
هكذا وفّر البعث تعويضاً إيديولوجيّاً مزدوجاً لهم يقاومون به تشاوُف "عاصمة الأمويّين": فهم، من جهة، صاروا أصحاب "رسالة خالدة" توارثوها جيلاً عن جيل، كما أنّهم، من جهة أخرى، مَن كُلّفوا الردّ على تفتّت الوطن وتقطّع الجماعات الأهليّة بطوبى "الأمّة العربيّة الواحدة" المتعالية والممتدّة "من المحيط إلى الخليج".
والأفكار الدائرة في الفلك البعثيّ كانت بسيطة، مصاغة بلغة عفلق الإنشائيّة والأنيقة التي احتوتها مقالات قصيرة نُشر معظمها افتتاحيّاتٍ في جريدة "البعث"، ووفقاً لتلك الأفكار، مثّل البعث "الانقلاب" العميق على النفس، والعودة إلى "الفطرة" التي شوّهها استعمار لا يقتصر على الأوروبيّين بل يضرب جذره في "الشعوبيّات" الفارسيّة والتركيّة التي لم تظهر في التاريخ الإسلاميّ إلاّ لتسويد صفحة ذاك التاريخ والإساءة إلى صنّاعه العرب. وإنّما عبر البعث والعودة إلى الفطرة يستعيد العرب وحدةً لم تبارحهم، في ظنّ عفلق، إلاّ مؤخّراً جدّاً، كما يحرزون حرّيتهم التي هي حريّة الأمّة العربيّة قبل أن تكون حرّية العرب الأفراد.
أمّا الاشتراكيّة، التي لم يُسمَّ بها الحزب في البداية ولا تكنّى، فلا تمتّ بصلة إلى الماركسيّة وصراعها الطبقيّ، إذ هي، مثل القوميّة، "حبّ قبل كلّ شيء"، حبٌّ لا تنقطع الوشائج بينه وبين أصالة العرب ونبلهم، وهذا جميعاً ما سوف يسوقهم بيده إلى حيث "ظفر الحياة على الموت".
وفي هذه المعاني الغامضة والجريحة، عُدّ البعث صيغة بسيطة أخرى من صيغ النزعة الخلاصيّة واقتراحاتها التي تأخذ بأيدي طالبيها من العتمة الشاملة إلى النور الساطع، ومن عوالم الخطأ والظلم والإجحاف والبعثرة إلى رحاب الصواب والعدالة والتمكّن في الأرض.
الإسلام معجزة العروبة
ولئن كان عفلق مدعوّاً لأن يدلي بدلوه في أمر الإسلام، لأنّه يحتلّ ما يحتلّه في الحياة العربيّة، ولأنّه هو نفسه مسيحيّ، فقد سمّى الإسلامَ معجزة العروبة وخير ما أنتجته العرب، كما اعتبر نبيّه بطلهم الأبرز الذي كان "كلّ العرب"، فما على العرب اليوم كي يظفروا إلاّ أن يكونوا "كلّهم" محمّداً، وقد حاول "الأستاذ"، جرياً على تقليد محافظ شائع آنذاك، أن يضع الدين العربيّ في مواجهة "الإلحاد" الشيوعيّ والمتغرّب، فضلاً عن تطويعه في الصراع ضدّ "الشعوبيّين" من أعداء القوميّة وكارهي العرب ووحدتهم.
بيد أنّ البيئة الإسلاميّة السنّيّة العريضة لم تعثر في عفلق على أستاذها، ولا في صورته عن الإسلام على صورتها، فمحمّد خاتم الأنبياء الذي أُرسل للعالمين، ومن ثمّ فإنّ سيامته بطل العرب والعروبة أقرب إلى كسر رتبة منها إلى إعلاء شأن. هكذا بدا "الأستاذ"، منذ البدايات، مهدّداً بالوقوع في فراغ: لا الأكثريّة السنّيّة تهضم آراءه التي تنقل التركيز من الإسلام إلى العروبة، ومن النبوّة إلى البطولة، ولا الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة تستسيغ عروبيّته الحادّة الكارهة لـ"الشعوبيّين" و"التجزيئيّين".

عموميّات ماركسيّة
وعفلق، الذي كتب قصائد رومنطيقيّة في شبابه، استقرّت فيه تأثّرات ألمانيّة عدّة لم تتجانس، مطرّزةً بقليل التأثّرات الفرنسيّة المبعثرة، لكنّ إعجابه بوحدتي إيطاليا وألمانيا في أواخر القرن التاسع عشر ظلّ يحفر عميقاً في نفسه، مثله في ذلك مثل كثيرين من أبناء جيله. وإلى تعريجه على نيتشه، ومن قبله فيخته، وربّما هيردر، اجتمعت له عموميّات ماركسيّة لا يبدو أنّها تركت فيه أثراً ملحوظاً، مع أنّه بُعيد عودته من باريس خالط أجواء الشيوعيّين السوريّين وساهم، بمقطوعات أدبيّة، في نشراتهم، لكنّ أكثر ما يدلّ على نقص الانسجام والتجانس في وعي عفلق أنّ العموميّات الليبراليّة وجدت، هي الأخرى، طريقاً إلى تفكيره، فقد نصّ، مثلاً، المبدأ الثاني من دستور الحزب على أن "حرّيّة الكلام والاجتماع والاعتقاد والفنّ مقدّسة لا يمكن لأيّة سلطة أن تنتقصها".

حسني الزعيم
يومذاك، في 1947، كانت سوريّة التي استقلّت لتوّها تبني دولة وتوسّع إدارة وجيشاً، وفيها تتبلور مصالح اجتماعيّة للطبقة الوسطى على اختلاف شرائحها، كما تبحث عن تعبير يكون خاصّاً بتلك الطبقة ويتولّى حمل مصالحها الصاعدة. وقد اقتطع البعثيّون لأنفسهم جزءاً صغيراً من هذا الطموح ومن لغته الجديدة، آملين أن يعمل المستقبل على توسيع رقعته، غير أنّ المستقبل سريعاً ما اصطفى الضبّاط الذين قفزوا، في 1949، إلى السلطة، بقيادة قائدهم الغريب الأطوار حسني الزعيم.
انقلابات
والانقلابات التي توالت بين 1949 وأواسط الخمسينيات كانت، من ناحية أخرى، وثيقة الصلة بـ"الصراع على سوريّة" بين الهاشميّين في العراق ونموذجهم الملكيّ وبين مصر الملكيّة ثمّ، منذ يوليو 1952، الجمهوريّة. ويبدو أنّ عفلق وحزبه كانا محيّرين في هذا الصراع، مع أنّ إشارات كثيرة ترجّح انحيازهما الأصليّ إلى العراق الهاشميّ، وقد كانت إحدى الإشارات توزير "الأستاذ" نفسه، إذ سُلّم حقيبة المعارف بعد انقلاب سامي الحنّاوي على حسني الزعيم، والذي اعتُبر انقلاباً عراقيّ الهوى على النفوذ المصريّ وأتباعه.
صحيح أنّ عفلق وحزبه كرها النموذج الملكيّ في بغداد، لكنّهما كرها أكثر الانقلاب العسكريّ المصريّ الذي قاده جمال عبدالناصر وخافا تعطيل الحياة الدستوريّة والحزبيّة، وفوق هذا، لم يغب العنصر العاطفيّ عن الخيار ذاك، فبعثيّو سوريّة الذين ارتبط شبابهم الأوّل بالحماسة لرشيد عالي الكيلاني في انقلابه على الإنكليز عام 1941، مساهمين في لجان "نصرة العراق" لهذا الغرض، امتلكوا هوى عراقيّاً لم يكنّوا مثله حيال مصر، فهذه الأخيرة إنّما بدت بعيدة وغريبة وناقصة العروبة في نظر عروبيّي المشرق الآسيويّ على عمومهم، وهم، من ناحيتهم، أوكلوا إلى أنفسهم مهمّة استكمال تعريبها حين تحين الفرصة.

وبعد كلّ حساب فإنّ العَلم الذي اختاره البعثيّون الأوائل لحزبهم لم يكن سوى علم "الثورة العربيّة الكبرى" في 1916، وهي "ثورة" الهاشميّين قبل أن تكون أيّ شيء آخر.

جلال السيد
كذلك لعب القطب البعثيّ جلال السيّد دوراً مميّزاً في دفع حزبه إلى الاندماج في هذا الهوى العراقيّ، فهو، فضلاً عن تعاطفه مع الهاشميّين العائد إلى خرافات الدم والنسب والأرومة، يصدر عن مناطق سوريّة الشرقيّة الشديدة التداخل مع العراق، لا بسبب التلاصق الجغرافيّ والمصاهرات فحسب، بل أيضاً بفعل توزّع ملكيّات الأراضي العشائريّة على أراضي البلدين، هناك، في تلك التخوم الحدوديّة، كانت الدعوة العروبيّة تعني أوّلاً، وقبل أيّ شيء آخر، إعادة جمع العشائر والملكيّات التي قسّمتها حدود الدول الوطنيّة الناشئة، وهذا ما وسم البعث مبكراً بميسم رجعيّ لم يستطع محوه كلّ الضجيج التقدّميّ اللاحق.

عفلق والحوراني: انقلابات المغامرين
في أواخر 1949 حدث الانقلاب العسكريّ الثالث في سورية المستقلّة، والذي قاده أديب الشيشكلي، وبالتدريج وطّد الزعيم الجديد دكتاتوريّة عسكريّة لم تُتح لسابقيه حسني الزعيم وسامي الحنّاوي اللذين اقتصر عهداهما على أشهر معدودة لا أكثر، ثمّ في خطوة تالية تعود إلى 1953، تولّى الشيشكلي مباشرة رئاسة الجمهوريّة فتخلّص بهذا من الواجهات التي كان يتلطّأ خلفها، أكانت مدنيّة كالرئيس هاشم الأتاسي، أو عسكريّة، كزميله فوزي سلو.
آنذاك، وفي مواجهة الدكتاتوريّة العسكريّة، طرأ التحوّل الأهمّ حتّى 1963 في تاريخ البعث السوريّ: إنّه الاندماج مع حزب جماهيريّ وفلاّحيّ الطابع أسّسه السياسيّ الحمويّ أكرم الحوراني وأطلق عليه اسم "الحزب العربيّ الاشتراكيّ"، وعن الاندماج هذا نشأ "حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ".
لكنّ الحوراني، الذي انضمّ في شبابه إلى السوريّين القوميّين، اختلف اختلافاً بيّناً عن عفلق والبيطار، لا سيّما عن الأوّل، فهو فضلاً عن كونه قائداً شعبيّاً كاريزميّاً وشجاعاً، سياسيّ برلمانيّ استطاع أن يقارع عائلات كبار الملاّكين في حماة، خصوصاً عائلتي العظم والبرازي، وأن ينتزع منها زعامة فقراء المدينة ومتعلّميها ومحيطها الريفيّ.
بيد أنّ صعود الحوراني كان يقتات على برلمانيّته ويُضعف التزامه بها، فقد آمن بالضغط على الحياة السياسيّة، التي يسيطر عليها ملاّكو الأراضي "الرجعيّون"، من خارجها، أي من المؤسّسة العسكريّة، ولمّا كانت اليد العليا في هذه الأخيرة لأبناء الأُسَر السنيّة والمدنيّة الثريّة، راهن الحوراني على دفع الشبّان الصغار من أرياف حماة إلى الجيش، وبين هؤلاء كانت نسبة الشبّان العلويّين مرتفعة نسبيّاً، إلاّ أنّ هذا التعديل في سلك الضبّاط وفي تركيبه ما كان ليُتاح لولا تجديد العهد الاستقلاليّ للكليّة العسكريّة التي ثُبّت موقعها في مدينة حمص، فقد تولّت الأخيرة توسيع نطاق المنتمين إليها، فاتحةً باب الانتساب أمام فئات طبقيّة ومذهبيّة ومناطقيّة لم تكن حصّتها في الجيش تتعدّى كثيراً الجنود العاديّين. وفي الوقت نفسه باشر أبناء المدن السنيّون انكفاءهم عن التطوّع فيه، يجذبهم القطاع الخاصّ النامي أو إكمال الدراسة والتخصّص العلميّ.

اندماج الحزبين
ولئن سعى عفلق والبيطار من وراء اندماج الحزبين إلى تأمين قاعدة شعبيّة أوسع، أراد الحوراني من ورائه الانفتاح على بيئة من المثقّفين الشبّان الذين يقيمون في دمشق من غير أن يكونوا بالضرورة دمشقيّين، لكنّ كلفة الاندماج هذا لم تكن، في أيّ حال، بسيطة. ذاك أنّ نزعة الحوراني الحاسمة في جمهوريّتها واشتراكيّته الشعبويّة وعداءه للهاشميّين في العراق والأردن، بدأت تدفع الحزب في اتّجاه مصر الناصريّة وشعبويّة نجمها الصاعد.
وفي السياق هذا خرج جلال السيّد ومَن يمثّل من حزب البعث، ناعياً عليه فلاحيّته وإيثاره العامّة على أبناء الأرومات والدماء الأصفى، ومن ثمّ تفضيله ضابطاً مصريّاً أبوه ساعي بريد على أحفاد رسول الله وذرّيّته من الهاشميّين.

الانقلاب على الشيشكلي
وفي شباط (فبراير) 1954 أطيح أديب الشيشكلي بانقلاب عسكريّ آخر لعب فيه الضبّاط البعثيّون، لا سيّما الحمويّين منهم الأقرب إلى الحوراني، مصطفى حمدون وعبدالغني قنّوت، دوراً محوريّاً. وبالفعل أعيد الاعتبار للحياة السياسيّة بعد الانقلاب، واعتُرف للأحزاب بشرعيّة عملها، بحيث اكتسب النظام ظاهراً ديمقراطيّاً برلمانيّاً، إلاّ أنّ التناقضات التي كانت تعصف بسورية، وضراوة التنافس الدائر حولها بين مصر الناصريّة وبين العراق والأردن الهاشميّين، حرمت الحياة السياسيّة المستعادة الاستقرار والإقلاع.

اغتيال المالكي
فقد اغتالت عناصر من الحزب السوريّ القوميّ، الملتحق يومها بالمحور العراقيّ الأردنيّ، الضابط البعثيّ عدنان المالكي، وما لبث الاغتيال أن شكّل فرصة مثلى للأحزاب المتعاطفة مع القاهرة، لا سيّما البعث والشيوعيّين، كي تباشر حملة استئصال للقوى المقرّبة من الهاشميّين دفع ثمنها غالياً السوريّون القوميّون و"حزب الشعب" الحلبيّ.
ولم يحل هرب الضابط السوريّ القوميّ غسّان جديد إلى لبنان، الذي كان يحكمه حليف الهاشميّين كميل شمعون، دون اغتياله في بيروت برصاص موظّف في "المكتب الثاني" السوريّ.

تصفيات
في هذه الغضون، وفي مناخ التصفيات الجسديّة، باتت قبضة من الضبّاط القوميّين العرب واليساريّين تمارس الحكم الفعليّ، من خلف الواجهة السياسيّة التي يقف على رأسها الرئيس شكري القوتلي. وكان أبرز هؤلاء رئيس أركان الجيش المقرّب من الشيوعيّين، عفيف البزري، وصديق البعثيّين حتّى ذاك الحين، رجل "المكتب الثاني"، عبدالحميد السرّاج.
وإذ تحوّل جمال عبدالناصر، بعد حرب السويس في 1956، بطل العرب المعبود، تحوّل سفيره في دمشق، ووزير خارجيّته اللاحق، محمود رياض، إلى ما يشبه المفوّض السامي، تتحلّق حوله القوى الصاعدة المناوئة للهاشميّين بمدنيّيها وعسكريّيها طالبةً رأيه ومشورته.
الوحدة المصرية السورية
وكان البعث الطرف الذي تولّى دفع الأمور، ودفع اللغة السياسيّة، أبعد كثيراً ممّا كان يمكن أن تستقرّ عنده، هكذا وُضعت الوحدة الفوريّة مع مصر الناصريّة على رأس جدول الأعمال الساخن، كما حُوّلت شعاراً تُسلّح به جماهير المدن التي وجدت في "الأسمر العربيّ" منقذها، وفي الوحدة معه إنقاذها. ولئن عُمّمت في وصف الوحدة المصريّة – السوريّة صورة الكمّاشة التي تطبق على إسرائيل من طرفيها الشماليّ والجنوبيّ، فواقع الأمر كان شيئاً آخر مختلفاً تمام الاختلاف.

كسر احتكار الغرب للتسلح
ذاك أنّ وضع سورية كان يومها [هو] ما يحتاج إلى إنقاذ فعليّ، فمنذ التوصّل إلى صفقة تسلّح مع تشيكوسلوفاكيا، في 1955، بدأ كسر الاحتكار الغربيّ لتسليح الجيوش في الشرق الأوسط، وهو ما لبث أن أكمله عبدالناصر بصفقة أكبر مع الطرف الشيوعيّ ذاته. وكان لهذا التطوّر الضخم، معطوفاً على ما أشيع عن سيطرة "الشيوعيّ" عفيف البزري على الجيش السوريّ، وتهيّؤ الشيوعيّين لـ"قضم" سورية، أن حوّل البلد قاعدة للراديكاليّة العاصية في أنظار الغربيّين المنخرطين في حرب باردة، إنّما حامية الوطيس، مع الاتّحاد السوفياتيّ والشيوعيّة، وبالفعل أقدمت تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسيّ، والتي سبق أنّ شاركت قبل بضع سنوات في الحرب الكوريّة، على حشد جيشها على الحدود الشماليّة لسورية، ما أثار رعباً فعليّاً لدى الكتلة العسكريّة الحزبيّة التي تمسك بزمام السلطة الفعليّة في دمشق.
خالد بكداش
لكنْ داخل الكتلة ذاتها، استولى رعب من نوع آخر على البعثيّين وعلى أصدقائهم القوميّين العرب المأخوذين بعبدالناصر وزعامته. ذاك أنّ الصعود "الأحمر"، معزّزاً بوصول أمين عام الحزب الشيوعيّ خالد بكداش إلى البرلمان، ليكون أوّل شيوعيّ يجلس في برلمان عربيّ، جعلهم يخلطون أوراق التحالف الجبهويّ، ومَن غيرُ جمال عبدالناصر، المكلّل بغاري "الحياد الإيجابيّ" و"عدم الانحياز"، فضلاً عن مواجهة الاستعمار الغربيّ وإسرائيل، يسعه الوقوف في وجه الشيوعيّة باسم القوميّة العربيّة؟.
على أنّ الأسباب الدافعة إلى الوحدة مع مصر كانت أكثر من ذلك وأعقد، فصراعات أواسط الخمسينيات كانت قد أقنعت البعثيّين والقوميّين العرب بأنّ أحداً لا يستطيع أن يحكم سورية، وأنّ بقاء الأمور على توازنها القلق هذا سيردّ البلاد إلى مسلسل الانقلابات العسكريّة التي استهلكت خمس سنوات من عمر دولة لم يكن حينذاك يتجاوز الأعوام السبعة. فالجمع بين دمشق وحلب، وبين المدن والأرياف، وبين المدنيّين والعسكريّين، وبين العرب السنّة والأقليّات الدينيّة أو المذهبيّة أو الإثنيّة، بدا من قبيل جمع الماء إلى النار. وكان يحفّ بالتناقضات هذه جميعاً ضغط العشائر الثقيل على الحياة المدينيّة الناشئة.
فوق هذا كان حزب البعث نفسه مسرحاً لصراع ضارٍ بين الأساتذة الثلاثة، عفلق والبيطار والحوراني، لا سيّما بين أوّلهم المتأمّل الذي كوفئ بلقب "فيلسوف القوميّة العربيّة"، والثالث المبادر الذي استعجل السياسة العمليّة بمبادئها كما بمناوراتها الخطرة، وقد أُريد من الوحدة مع مصر وعبدالناصر أن تفضّ هذا الاشتباك اليوميّ داخل حزب أملى الاضطرارُ العسكريّ في عهد الشيشكلي وحدتَه المصطنعة.





زمن البعث السوري - تاريخ موجز - للكاتب حازم صاغية
الوحدة مع مصر عبدالناصر أرغمت البعث على حل نفسه – 2







شروط ناصر


تحييد الجيش

حل الأحزاب

















موقف عبد الناصر من الأحزاب
















الحوراني نائباً للرئيس

البيطار وزيراً

















السرّاج




















حشر البعثيين في الاتحاد القومي













إبعاد الضباط























الانفصال







غير المتحمسين للوحدة











ارتباك البعث من الانفصال


عفلق

البيطار

الحوراني مشاركاً في حكومات الانفصال






جماعة عفلق
جماعة البيطار

المحيّرون




العسكر



القطريّون
نور الدين الأتاسي
يوسف زعيّن
ابراهيم ماخوس



محمد عمران. صلاح جديد، حافظ الأسد.

عبد الكريم الجندي،
 أحمد المير.









8 شباط 1963

إطاحة قاسم في العراق
أحمد حسن البكر
عارف

السعدي



8 آذار 1963

زياد الحريري


ضباط ناصريون
جاسم علوان

لؤي الأتاسي رئيساً لمجلس قيادة الثورة

البيطار يشكل الحكومة







وزراء بعثيون


أمين الحافظ




السرّاج كان أداة عبدالناصر لإنشاء سلطة أمنية في سورية

البعث والوحدة: تحدّي عبد الناصر
حين توجّه وفد من كبار الضبّاط السوريّين إلى القاهرة، لمطالبة جمال عبدالناصر بالوحدة الاندماجيّة والفوريّة، رفع الرئيس المصريّ في وجوههم شرطين اثنين كان كلٌّ منهما يمسّ حزب البعث ويطول مصيره على نحو مباشر:
ألاّ يتدخّل الجيش السوريّ بتاتاً في الحياة السياسيّة لدولة الوحدة، وأن يتعهّد ضبّاطه ذلك تالياً، وأن تُحلّ الأحزاب السياسيّة جميعاً في سورية، كائنةً ما كانت عقائدها أو توجّهاتها.
والشرطان هذان كانا، في نظر القاهرة، شرطين لقيام «جمهوريّة عربيّة متّحدة» تضمّ البلدين.
انقلاب عبدالناصر
فعبدالناصر، الضابط الذي نفّذ انقلاباً عسكريّاً في مصر أطاح من خلاله عهد فاروق الملكيّ وباشر العهد الجمهوريّ، كان يعرف الضبّاط كما يعرف نفسه، وكان يخشى طموحهم الضخم والمكتوم الذي لا بدّ أن يشابه طموحه يوم إقدامه على تنفيذ انقلابه.
وسورية، ما بين 1949 و1954، كانت قد اشتُهرت بانقلاباتها العسكريّة المتتالية وبضبّاطها المغامرين والطامحين، كالزعيم والحنّاوي والشيشكلي، الذين لا يدخلون حلبة التاريخ إلاّ مصحوبين بالبيان رقم (1) وبتعليق الدستور، لكنّ الضبّاط البعثيّين بدوا، ولو على مضض، مستعدّين لكبح اعتراضهم، جزئيّاً في سبيل مُحرّم «الوحدة» التي تبلور عليها شبابهم واستوعبت حماستهم آنذاك، وجزئيّاً لأنّ رُتَبهم الدنيا كانت تستبعد استعجال المغامرة كما تؤجّل تلبية الطموح المتورّم وتُسكّن الأنا الهائجة.

الأحزاب أداة خبيثة
أمّا الأحزاب السياسيّة على عمومها فكرهها عبدالناصر، تبعاً لتجربته المصريّة ولتكوينه الذي أغراه بأن ينوب بنفسه عن السياسة والاجتماع وعن قواهما، ولهذا رأى في الأحزاب أداة خبيثة لتجزئة الأمّة التي أراد لها أن تتوحّد من حوله، ولم يكن ليتخيّل وحدتها من دونه.
هكذا بات على أحزاب سورية أن تكرّر طوعاً ما فُرض قسراً على مثيلاتها في مصر، فإذا بدا ممكناً طرد «الوفد» و«جماعة الإخوان المسلمين» من جنّة الصراع على السلطة في القاهرة، بل من الوجود الشرعيّ أصلاً، فما الحائل دون تكرار الأمر ذاته مع أحزاب في دمشق وحلب تقلّ عنها قوّة وعراقة وامتداداً؟
غصة ومرارة للبعثيين
وبالفعل بادرت الأحزاب السوريّة إلى حلّ نفسها، بينما تُرك لحزب البعث، كونه حزباً «قوميّاً»، مكتبٌ لـ»القيادة القوميّة» يرتاده ميشيل عفلق وقلّة من معاونيه، ومنه يديرون الفروع في «أقطار الوطن العربيّ»، لكنْ حكماً ليس في «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة».
وشعر البعثيّون ضمناً بغصّة ومرارة، فبعضهم كان قد تراءى له أنّ عبدالناصر سوف يدين بقيام الوحدة إلى حزب البعث فيتقاسم الحكم معه ويعهد إليه بأمر سورية، ويقصر حكمه المباشر على مصر وحدها، وهذا السخاء ليس من طباع الزعيم المصريّ الذي شاء أن يتجاوز كلّ القوى السوريّة في علاقة مع «الجماهير» لا وسائط فيها ولا متوسّطين.
الحوراني نائبا للرئيس
صحيحٌ أنّ البعثيّين سُلّموا بعض المناصب الرفيعة في الدولة الجديدة، فعيّن أكرم الحوراني أحد نائبي رئيس الجمهوريّة عن «الإقليم الشماليّ»، وهو الاسم الجديد للوطن السوريّ، وسمّي بعثيّون، في عدادهم صلاح الدين البيطار، وزراء في الحكومتين الاتّحادية والإقليميّة، لكنّ الذين شاركوهم هذه المناصب الجديدة كانوا ممّن يعتبرهم البعثيّون «رجعيّين» مشكوكاً في ولائهم للوحدة ومطعوناً في اشتراكيّتهم.
يكفي القول مثلاً إنّ الزعيم الدمشقيّ التقليديّ صبري العسلي عُيّن، مثله مثل أكرم الحوراني، نائباً لرئيس الجمهوريّة، كما حظي بمناصب سياسيّة رفيعة ضبّاطٌ من بقايا حاشية أديب الشيشكلي، شأن أمين النفوري، وسياسيّون تقليديّون كانوا في «حزب الشعب» قبل أن ينحازوا إلى الناصريّة، كنهاد القاسم وعلي بوظو وعبدالوهاب حومد، وفوق هذا جيء بوجوه تقنيّة غير سياسيّة كالمهندس نور الدين كحّالة الذي كُلف بمديريّة «المجلس التنفيذيّ» للدولة وأعطيت له اسميّاً صلاحيّات موسّعة.
ثورة الوحدة
هكذا لم تأت «ثورة الوحدة»، بحسب تسمية معروفة لميشيل عفلق، مكافأة لمن هم أكثر ثوريّة وأشدّ وحدويّة، بل اختلط غثّها بسمينها وانتفى التمايز فيها بين الأخيار والأشرار، وفي هذا وُجد ما يكفي من أسباب الإحباط والقنوط.
وأسوأ من ذلك أنّ المناصب الرفيعة التي تولاّها سوريّون في دولة الوحدة كانت تفتقر إلى الصلاحيّات الفعليّة، بينما السوريّ الوحيد الذي حظي بثقة جمال عبدالناصر كان العقيد عبدالحميد السرّاج، وزير الداخليّة الذي صار الرجل الأقوى في «الإقليم الشماليّ» وأحد رموز القمع في تاريخ القمع السوريّ، فالسرّاج ما لبث أن أنشأ نظاماً أمنيّاً مُحكَماً لم ينج من اضطهاده بعثيّون بدا ولاؤهم لعبدالناصر ولدولته موضع شبهة.
أمّا الاضطهاد الذي أنزله بسواهم، لا سيّما الشيوعيّين منهم، ففاق التصوّر، خصوصاً أنّ الأخيرين عارضوا الوحدة علناً، وبسبب معارضتهم هذه انتقل أمينهم العامّ خالد بكداش للعيش في بلدان «الكتلة الاشتراكيّة»، كما أيّدوا رفاقهم العراقيّين المتحالفين مع دكتاتوريّة عبدالكريم قاسم ضدّ دكتاتوريّة عبدالناصر.
عروبة سورية ومصر
وتحت هذا التوتّر تململ إحساس بالغربة والتمايز، ذاك أنّ المصريّين، على عكس السوريّين، كانوا يتعرّفون على «العروبة» و»الوحدة» اللتين انتشرتا بين السوريّين انتشار داء فتّاك، ثمّ إنّ عروبتهم المستجدّة بدت دائماً أقرب إلى ترتيب جغرافيّ سياسيّ موصول بنفوذ مصر ودورها، على عكس العروبة السوريّة الضالعة في التغنّي بأصول العرب الخرافيّة في قحطان وعدنان وسواهما، لقد بدت عروبة مصر للبعثيّين أقرب إلى النثر، بينما عروبتهم هم شعرٌ خالص.
في هذه الغضون كان ما يوسّع شهيّة الزعيم المصريّ لاحتقار البعث والبعثيين أنّ كلّ واحد من قادتهم الثلاثة راح يوغر صدره على رفيقيه الآخرين، محاولاً إقناع السيّد الجديد بأنّه هو الأشدّ ولاء له والأكثر تأهيلاً لأن يكون لسانه وذراعه في سورية.
الاتحاد القومي
والحال أنّ الاحتقار هذا اتّخذ أشكالاً أخرى لا تقلّ إيلاماً، فالبعثيّون، وقد صاروا بعد حلّ الحزب بعثيّين سابقين، حُشروا حشراً في «الاتّحاد القوميّ» الذي هو التنظيم الشرعيّ الوحيد في «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة»، و»الاتّحاد القوميّ» هذا لم يؤسّس في المقاهي ولا في السجون، بل أسّسه عبدالناصر من منصّته السلطويّة ليكون وريثاً لـ»هيئة التحرير» التي أنشأها بعيد انقلاب يوليو 1952 ثمّ مدّه، في 1958، إلى «الإقليم الشماليّ».
وأهمّ من ذلك أنّ «الاتّحاد القوميّ»، الذي يتحرّك في مواكبة شفّافة للأجهزة الأمنيّة واحتياجاتها وتأطيرها للمواطنين، ضمّ على نحو عشوائيّ أعداداً من المنتفعين والانتهازيّين المستعدّين لأن يمحضوا الحاكم، أيّ حاكم، ولاءهم، وأن يحتشدوا للهتاف والتصفيق في المناسبات العامّة.

تشتيت الشياطين
بيد أنّ المأساة الأكبر ما لبثت أن نزلت بالضبّاط البعثيّين الذين نُقل أهمّهم وأكثرهم حيويّة ونشاطاً إلى مصر، وما بين القاهرة وطنطا والإسكندريّة والإسماعيليّة، لم يشعر هؤلاء بالغربة فحسب، بل شعروا أيضاً بالعطالة التامّة واللاجدوى، فهم لم يكن مطلوباً منهم، في آخر المطاف، سوى التمتّع بشمس مصر والبقاء بعيداً عن بلدهم سورية حيث يستطيعون التأثير، وقد بدا إجراءٌ كهذا، في عرف عبدالناصر البالغ الحذر من الضبّاط، ضرباً من تشتيت الشياطين ومن تعطيل قدرتهم على الشيطنة.
تهديد العروش الملكية
وعلى العموم أحسّ البعثيّون، قادةً وقاعدةً، مدنيّين وعسكريّين، أنّهم باتوا، في الزمن الوحدويّ الذي ناضلوا لأجل قدومه، لزوم ما لا يلزم، وأنّ حزبهم المنحلّ أكبر ضحايا الوحدة التي هي أقنومهم الإيديولوجيّ الأوّل، ولئن بدا مستحيلاً تحدّي عبدالناصر، وهو من «دحر العدوان الثلاثيّ» في 1956، فقد غدت الاستحالة من أضغاث الأحلام في 1957 -1958.
ففضلاً عن إقامة الوحدة التي نُسب الفضل فيها إليه وحده، جاعلةً منه صلاح الدين العصر الحديث، ساهم عبدالناصر في هزّ عرش الملك حسين في الأردن، وفي إسقاط عرش الملك فيصل الثاني في العراق، وفي إطلاق حرب أهليّة ضدّ كميل شمعون في لبنان. ولأجل مكافحة نفوذه الطاغي نزلت القوّات البريطانيّة في عمّان كما نزلت القوّات الأميركيّة في بيروت حمايةً لـ»عميليها» في البلدين.
هكذا لم يعد أمام الرسميّين البعثيّين في الدولة الجديدة إلاّ التقدّم باستقالاتهم، يعتصرهم شعور عارم بالعزلة والتهميش، وبندم على حلّ الحزب مشوب بندم على الدفع الطائش نحو وحدة بدّدت شملهم على نحو لم يأت مثله أديب الشيشكلي.

الضبّاط من دون أب: «اللجنة العسكريّة»
لم تعمّر طويلاً الوحدة مع مصر، التي أُعلنت رسميّاً في 22 شباط ( فبراير) 1958، ففي 28 أيلول (سبتمبر) 1961 انقضّ عليها كبار الضبّاط الدمشقيّين من أبناء الأُسر التقليديّة، الذين وثق جمال عبدالناصر ببعضهم أكثر ممّا وثق بالبعثيّين.
وكان الانقلاب شعبيّاً، خاطب مشاعر استقلاليّة عريضة وأخرى تتّصل بالحرّيّات العامّة، كما استقطب عواطف المتذمّرين ممّا سمّوه ابتلاع السلع المصريّة للسوق السوريّة، لكنّ العنصر الأهمّ في شعبيّته عاد إلى التآكل التدريجيّ الذي ألمّ بشعبيّة الناصريّة ونظامها الأمنيّ المحكم.
والحال أنّ الأقليّات الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة بدت، مع قيام الوحدة، على مسافة بعيدة نسبيّاً منها، كذلك وقف ضدّ عبدالناصر، منذ البداية، حزب الشعب الحلبيّ والحزب السوريّ القوميّ وباقي أصحاب الهوى الهاشميّ ممّن اكتسحهم الإعصار الناصريّ قبل حصول الوحدة، وإليهم انضاف لاحقاً جمهور الزعماء التقليديّين الرجراج في دمشق ثمّ بيئة حزب البعث، وهذا كلّه عطفاً على معارضة الإخوان المسلمين والحزب الشيوعيّ ممّن كبّدتهم الناصريّة أكلافاً دمويّة باهظة، في مصر أوّلاً ثمّ في سورية، وإلى البورجوازيّة الكبرى، وقد هالها تأميم مصالحها وشركاتها الذي صدر قُبيل الانفصال، جاء تنفير النظام الوحدويّ لقطاعات عريضة لم تحتمل الإحكام البوليسيّ الصارم، ليجعل الانقلاب واسع الشعبيّة واستقلاليّ الطابع.

حيرة وتردد
لكنْ حيال الانفصال عصفت بالبعثيّين الحيرة والتردّد: هل يسيرون وراء الانقلاب الذي أطاح الحلم القديم ويخونون ولاءهم الوحدويّ الذي يُفترض، نظريّاً، أنه علّة وجودهم السياسيّ والحزبيّ، أم يمضون في تأييد الوحدة والنضال لاستعادتها على حساب أنفسهم وحساب حزبهم.
والارتباك بدا جلّياً على صعيد القيادات كما على صعيد القواعد، فأمام تنازع الواقع والطوبى، لاذ بالصمت ميشيل عفلق، اللاجىء إلى بيروت، ليعلن بعد أشهر على انهيار «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة»، أنّ «أخطاء الوحدة لا تبرّر الانفصال»، أمّا صلاح الدين البيطار فوقّع على «وثيقة الانفصال» ثمّ سحب توقيعه لاحقاً، وكان أكرم الحوراني الوحيد الذي بارك فسخ «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» بلا تردّد ولا اعتذاريّة، مشاركاً في الحياة السياسيّة لعهد الانفصال وفي حكوماته، ومعتبراً إيّاه انتصاراً للوطنيّة والكرامة السوريّتين ودحراً لطغيان عبدالناصر واسترجاعاً للاستقلال.
لملمة الصفوف
هكذا بات الحوراني الذي رعى الدور البعثيّ في الجيش، وكان أباً لضبّاطه، خارج البعث تماماً، لكنّ الأخير وجد نفسه يلملم من الصفر أجزاءه التي سبق أن تناثرت بسبب حلّه، فحين أعيد توحيد الحزب، بدا الأمر أشبه بتجميع كتل تفرّقت وتناثرت وكادت تنهار القواسم المشتركة القليلة التي تجمع بينها.
فهناك «جماعة عفلق»، وفي عدادها شبلي العيسمي وعبدالله عبدالدائم وإلياس فرح، و»جماعة البيطار»، كمنصور الأطرش وخالد الحكيم،
وهناك المحيّرون بين البعث وعبدالناصر، كجمال الأتاسي وسامي الدروبي وعبدالكريم زهور وسامي الجندي وسامي صوفان، وكذلك المحيّرون بين البعث والحوراني كرياض المالكي ووهيب الغانم.
لكنّ أهمّ الكتل كانت بالتأكيد كتلة العسكريّين التي لم يفتر حقدها على الأساتذة الثلاثة، بمن فيهم أبوهم الحوراني، بسبب موافقتهم على حلّ الحزب وما استتبع الحلّ والوحدة من تشتيتهم بإبعادهم إلى مصر، ومن بؤرة الحقد هذه تطوّرت مواقف انقلابيّة ضدّ الأساتذة تأخذ عليهم تقليديّتهم وكونهم، هم أيضاً، من بقايا النظام القديم.
وكان الأقرب إلى عسكريّي البعث كتلة «القطريّين»، وهم مدنيّون تأثّروا بشعارات يساريّة وخلائط ماركسيّة وشعبويّة كانت رائجة في عموم «العالم الثالث» حينذاك، وقد تزعّم هؤلاء أطبّاء ثلاثة تطوّعوا للخدمة في الجزائر إبّان حربها الاستقلاليّة، هم نور الدين الأتاسي ويوسف زعيّن وإبراهيم ماخوس.
كتلة العسكريّين
لكنّ كتلة العسكريّين كانت الأرفع تنظيماً بلا قياس، ففي مصر، إبّان الوحدة، شكّل خمسة من الضبّاط البعثيّين ما عُرف بـ»اللجنة العسكريّة» لتكون ذراعهم في الإمساك بالحزب ومن ثمّ التدخّل في الشأن العامّ، ومن دون أن تكون الأمور مصمّمة على نحو تآمريّ مسبق، قضى تركيب الحزب أن يكون ثلاثة من قادة «اللجنة العسكريّة» علويّين، وهم أبرزهم محمّد عمران وثانيهم صلاح جديد، ثمّ حافظ الأسد، أمّا الاثنان الآخران، عبدالكريم الجندي وأحمد المير، فكانا إسماعيليّين. وبالطبع توسّعت تدريجاً اللجنة التي حافظت على سرّيّتها لتضمّ الضبّاط البعثيّين من سائر الطوائف، كأحمد سويداني ومصطفى طلاس من السنّة، وحمد عبيد وسليم حاطوم الدرزيّين، إلاّ أنّ قيادتها الفعليّة بقيت في أيدي المؤسّسين الخمسة.
تعاظم دور «اللجنة العسكريّة»
وتباعاً راح دور «اللجنة العسكريّة» يتعاظم حزبيّاً ووطنيّاً، فهي استفادت من تفتّت الحزب ومن تعدّد كتله مثلما استفادت من ضعف النظام «الانفصاليّ» الجديد الذي فتكت به صراعات كتله العسكريّة، ونزاعات عسكريّيه ومدنيّيه، ومن ثمّ الانقلابات والمحاولات الانقلابيّة التي تسارعت في سنتيه القصيرتين، وليس من المبالغة القول إنّ «اللجنة» كانت الوريث الفعليّ للحزب من داخله، تستخدم عضويّته لتبني إطارها داخل إطاره المنحلّ.
فوق هذا افتُتح العام 1963 بحدث عراقيّ كان شديد التأثير على سوريّا، مقصّراً عمر «نظامها الانفصاليّ»، ففي 8 شباط (فبراير) وصل إلى السلطة في بغداد حزب البعث من خلال انقلاب عسكريّ مدعوم أميركيّاً، أطاح بدكتاتوريّة عبدالكريم قاسم، وتسلّم بموجبه الضابط البعثيّ أحمد حسن البكر رئاسة الحكومة، ولئن عُهد برئاسة الجمهوريّة، التي جعلها البعثيّون منصباً احتفاليّاً، لعبدالسلام عارف، الحائر حتّى ذاك الحين بين صداقته للبعث وولائه لجمال عبدالناصر، فإنّ القادة الحزبيّين، كعلي صالح السعدي وحازم جواد، كانوا من تولّى بعض أهمّ المناصب التنفيذيّة.
ولادة عهد سلطوي
وما هو إلاّ شهر واحد على الانقلاب العراقيّ، حتّى شارك ضبّاط سورية البعثيّون في انقلاب عسكريّ آخر، هكذا ولد في 8 آذار (مارس) 1963 عهد سيكون أحد أطول العهود السلطويّة في التاريخ العربيّ الحديث، كما سيكون واحداً من أقساها.
بيد أنّ الضبّاط البعثيّين لم يكونوا من غير شركاء، فقد لعب زياد الحريري دوراً بارزاً في تنفيذ الانقلاب، وهو ضابط مغامر كان مقرّباً من أكرم الحوراني قبل أن يبدأ العمل لحسابه الخاصّ، كذلك كانت هناك إسهامات ملحوظة لضبّاط ناصريّين، كجاسم علوان وراشد القطيني ومحمّد الصوفي، قادتهم بساطتهم إلى الظنّ أنّ استعادة الوحدة مع مصر سوف تتمّ في أيّام قليلة مقبلة.
والتوازنات هذه انعكست على التركيبة السلطويّة الجديدة، فعيّن لؤي الأتاسي، الضابط القريب من البعثيّين والذي يكنّ في الوقت نفسه عواطف ناصريّة، رئيساً لمجلس قيادة الثورة، وسُميّ زياد الحريري رئيساً لأركان الجيش، بينما كُلّف صلاح الدين البيطار بتشكيل حكومة هي مرآة القوى المشاركة في الانقلاب، لكنّها أيضاً مرآة الكتل البعثيّة الكثيرة والمتنافرة.
فقد مُثّل الناصريّون فيها بنهاد القاسم وعبدالوهاب حومد، وبمحمّد الصوفي الذي سُلّم وزارة الدفاع، وبسامي صفوان الذي انشقّ عن البعث وأسّس حركة ناصريّة أسماها «الوحدويّين الاشتراكيّين»، فضلاً عن هاني الهندي وجهاد ضاحي القياديّين في «حركة القوميّين العرب» المستظلّة يومذاك بمظلّة الناصريّة.
أمين الحافظ
ووُزّر من البعثيّين جمال الأتاسي وسامي الدروبي وسامي الجندي وعبدالكريم زهور ومنصور الأطرش وشبلي العيسمي والوليد طالب وإبراهيم ماخوس وأحمد أبو صالح وغيرهم، وهم يتوزّعون على تكتّلات البعث العديدة. لكنّ ما فاق الأسماء والحقائب أهميّةً كان منح الضابط البعثيّ أمين الحافظ حقيبة الداخليّة، فالوزير الجديد الذي جيء به من الأرجنتين، بعدما أبعده «النظام الانفصاليّ» ملحقاً عسكريّاً في بوينس أيريس، عُرف بخليط من الخفّة والدمويّة بوّأه، بعد أشهر قليلة، أرفع المناصب في دولة البعث الوليدة.
وبالفعل كان الحافظ أوّل أدوات البعث في صبغ وجه سورية الجديدة بالدم، ساعده في ذلك الإنجاز الأكبر والأطول عمراً لـ»ثورة 8 آذار»: حالة الطوارئ والحكم العرفيّ.





زمن البعث السوري - تاريخ موجز - للكاتب حازم صاغية –
 انقلابيو البعث تخلصوا من الانفصاليين وأمموا الحياة السياسية - 3
  • 14-09-2011 | 00:01


















الثأر





























صدام ناصري بعثي


أمين الحافظ وأحكام الإعدام


استقالة لؤي الأتاسي (رئيس مجلس قيادة الثورة)















إبعاد البيطار عن رئاسة الحكومة




المؤتمر القومي السادس
إسقاط البيطار

منطلقات نظرية
محل أطروحات عفلق

سقوط سلطة البعث في العراق
جناح حازم جواد
وجناح على السعدي

شهاب في لبنان






علي صالح السعدي
ياسين الحافظ





انتفاضة إخوانية











تكتل
محمد عمران والعفلقيين
مقابل القطريين واللجنة العسكرية







1964 إبعاد محمد عمران


إبعاد عفلق
والإتيان بالرزّاز







حل القيادة القطرية

تكليف البيطار تشكيل حكومة جديدة









شباط 1966



تسريح 400 ضابط
الأسد وزيراً للدفاع







القطريون





عفلق إلى البرازيل






بعثان

استحضار الأرسوزي







الأسد














طلاس وحرب العصابات

الصاعقة

خصومة العراق













إطباق عبدالسلام عارف على السلطة في العراق أحكم عزلة «بعث» سورية

سورية مُلك البعث: التخلّص من الشركاء
لم يطل الوفاق بين صنّاع انقلاب 8 آذار 1963، وكان لكلّ واحد منهم أجندته الخاصّة: فالناصريّون أرادوا العودة بأسرع ما يمكن إلى الوحدة الاندماجيّة الكاملة مع مصر وعبدالناصر.
والبعثيّون، أقلّه عسكريّوهم، أرادوا كسب الوقت لتمكين قبضتهم على السلطة والتخلّص من شركائهم المزعجين تمهيداً لبناء سلطتهم الذاتيّة.
 أمّا زياد الحريري، وكان على رأس كتلة من الضبّاط، فكانت تداعبه شهوات الحكم التي داعبت ضبّاطاً سوريّين كثيرين منذ نشأة سورية الحديثة.
مع هذا كان القاسم المشترك الذي جمع بين الأطراف الثلاثة التخلّص من «الانفصاليّين» على أنواعهم، والقضاء تالياً على سلطة الأعيان التقليديّين لمدينتي دمشق وحلب الذين ظُنّ أنّ دولة الوحدة أزاحتهم، هكذا ما لبث أن أصدر الانقلابيّون لوائح مطوّلة بالعزل السياسيّ والحرمان من الحقوق المدنيّة طالت سياسيّي «الانفصال» والصحافيّين الذين دافعوا عنه ورجال الأعمال الذين داروا في فلكه، كما عطّلوا الصحف ونزعوا الشرعيّة عن أحزاب «العهد البائد». وكان الإجراء هذا بمنزلة عمل تأسيسيّ ينظّم الثأر والانتقام ويمأسسهما، ولم تقتصد إذاعة دمشق في الإفصاح عن هذه الوجهة، فقالت الأغنية الأولى التي راحت تُبثّ بعد الانقلاب من دون انقطاع:
«البعث قامت ثورته
والثأر دارت دورته»
تفاوض
ووسط الشكّ والحذر المتبادلين، استقرّ رأي الأطراف الممسكة بالوضع الجديد على التفاوض مع عبد الناصر لاستعادة الوحدة، أمّا في ما يخصّ البعثيّين تحديداً، فبدا اقتراح كهذا شراء للوقت وعنصر تهدئة وتسكين لشركائهم الناصريّين، وللقوى التي لا تزال تؤيّد القاهرة في شوارع المدن السوريّة.
 وكان ما أسبغ بعض الجدّيّة على نوايا البعثيّين إصرارهم على ألاّ تكون الوحدة الجديدة ثنائيّة تقتصر على مصر وسورية وحدهما، بل أن تكون ثلاثيّة هذه المرّة، تضمّ إليهما العراق أيضاً. ذاك أنّ الرفاق في دمشق وجدوا في الرفاق العراقيّين الوزن الإضافيّ الذي يوازنون به ثقل مصر وعبدالناصر، وهذا من أجل أن يبنوا لاحقاً دولة متوازنة قابلة للحياة.
لكنّ هذه الإضافة، وعلى ما اتّضح سريعاً، لم تكن مفيدة تماماً؛ ذاك أنّ الزعيم المصريّ الذي أكّد مراراً أنّه لا يثق بالبعث، كان مَن استفاد من تناقضات البعثيّين، ما بين عراقيّين وسوريّين، فضلاً عن نجاحه في كشف التهافت الفكريّ الذي يزعمه البعثيّون لأنفسهم بينما هم يتّهمون عبدالناصر بالافتقار إلى الأفكار والنظريّات المتماسكة.
تضييق الخناق
أهمّ من ذلك أنّ البعثيّين في سورية، وفي موازاة انتقادهم لدكتاتوريّة عبدالناصر ودعوتهم إلى «قيادة جماعيّة» تحلّ محلّ قيادته الفرديّة، و»تنظيم شعبيّ» يحلّ محلّ «الاتّحاد القوميّ»، مضوا في تضييق الخناق على شركائهم الناصريّين. هكذا حرموهم الصلاحيّات وحاصروا مواقعهم في السلطة الجديدة، غير عابئين بالتوصّل، في 17 نيسان (أبريل)، إلى توقيع ميثاق لوحدة ثلاثيّة تجمع مصر والعراق وسورية، وفي معزل عمّا اتُّفق عليه في القاهرة، بدت الأجواء أجواء حرب أهليّة في دمشق ما بين الطرفين «الوحدويّين». وبالفعل ففي 18 تمّوز ( يوليو) حاول الناصريّون، بقيادة ضابطهم المغامر جاسم علوان، تنفيذ عمليّة انقلابيّة سحقها البعثيون وأغرقوها في الدم.
تخوين البعث
وردّاً على أحكام الإعدام التي أصدرها أمين الحافظ، بوصفه وزير الداخليّة والحاكم العرفيّ، أعلن عبدالناصر إبطال العمل بمشروع الوحدة الثلاثيّة، مجدّداً تخوين البعث، ومذكّراً بموقفه المائع من الانفصال، ومحرّضاً عليه «الوحدويّين الشرفاء»، أمّا في سورية نفسها، فاستقال لؤيّ الأتاسي وبدأت تتجمّع السلطات الأمنيّة والدفاعيّة في يد الحافظ الذي سُمّي أيضاً رئيس المجلس الوطنيّ لقيادة الثورة.
وإذ حان حين زياد الحريري وضبّاطه «المستقلّين»، فقد بدَوْا هدفاً سهلاً، فهو ما إن توجّه في مهمّة عسكريّة إلى الجزائر، في حزيران، حتّى اعتُقل ضبّاطه وأُعلن تعيينه ملحقاً عسكريّاً في الخارج، ويبدو أنّ زياد الحريري عرف ألا مكان له في دولة البعث، فرفض المنصب وتقاعد في باريس.
وبالتخلّص من الناصريّين ومن الحريري، لم يعد للبعثيّين منافس فعليّ على السلطة. فـ»الانفصاليّون»، بمن فيهم مؤيّدو أكرم الحوراني ومحازبوه، مقصيّون عن الحياة السياسيّة، والشيوعيّون الذين يئنّون تحت ضربات دولة الوحدة، معيّرون بمواقفهم منها ومن النزاع العربيّ – الإسرائيليّ. أمّا العسكريّون المهنيّون من أبناء العائلات المدينيّة التقليديّة فاقتُلعوا تباعاً من الجيش. وإذا عطفنا هؤلاء على القوى الموالية للهاشميّين، كحزب الشعب والقوميّين السوريّين ممّن صُفّوا أواسط الخمسينيات، أمكن القول إنّ سورية غدت احتكاراً بعثيّاً.

التخلص من التقليديين اليمينيين
بيد أنّ الوجه الآخر لتأميم الحياة السياسيّة كان احتدام الصراع على السلطة داخل أجنحة البعث نفسها، فتحت عنوان التخلّص من «التقليديّين اليمينيّين»، لا سيّما «الأستاذين» عفلق والبيطار الذي أُبعد عن رئاسة الحكومة، نشأ حلف ما لبث أن تبيّن أنّه عابر بين كتل أربع: هكذا جذبت كتلتا «اللجنة العسكريّة» و»القطريّين» الضبّاط المتحلّقين حول الحافظ الذي تُرك له الموقع المتصدّر على رأس الدولة، كما جذبتا جماعة المثقّفين والناشطين المتأثّرين بتنويعات على الماركسيّة- اللينينيّة، وكان في عداد هؤلاء الأخيرين ياسين الحافظ الذي سبق أن انتقل من الحزب الشيوعيّ إلى البعث تحفّظاً منه على الخلاف الشيوعيّ مع عبدالناصر إبّان عهد الوحدة، وعلى العموم استطاعت المجموعات الأربع هذه أن تعقد، في أواخر 1963، المؤتمر القوميّ السادس للحزب حيث أُسقط البيطار من القيادة الحزبيّة، بينما تبنّى المؤتمرون أفكاراً «اشتراكيّة علميّة» و»منطلقات نظريّة» حلّت محلّ الأطروحات «القوميّة الصوفيّة» لعفلق.

عزلة عربية
وفي هذه الغضون سقطت سلطة البعث في العراق في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1963 بعد أشهر قليلة على قيامها؛ ذاك أنّ الصراع الحادّ بين جناح «يمينيّ» قاده حازم جواد وطالب حسين شبيب، وآخر «يساريّ» تزعّمه علي صالح السعدي، منح عبدالسلام عارف وضبّاطه فرصة الانقضاض على الطرفين وإطاحتهما معاً. وجاء التحوّل العراقيّ ليُحكم العزلة العربيّة على البعث في سورية: فإلى الحرب السياسيّة والإعلاميّة الشعواء مع مصر الناصريّة، التي قوّاها عارف بنقله الثقل العراقيّ إلى كفّة القاهرة، لم تكن البلدان الخليجيّة والأردن مطمئنة إلى النظام البعثيّ، بينما اعتُبر لبنان في عهد فؤاد شهاب شوكة مصريّة في الخاصرة السوريّة.
ووفّر الأداء الخطابيّ والعشائريّ لأمين الحافظ على رأس دولة البعث عنصراً إضافيّاً في الاستهانة بهذا الحكم وعدم حمله على محمل الجدّ.
وكان لتنامي العزلة أن عزّز الصراع حول السلطة، وإن عمل التحوّل العراقيّ على خلط بعض الأوراق والتحالفات، فقد التقت أجنحة البعث كلّها، بـ»اليمينيّ» فيها و»اليساريّ»، على استبعاد من اعتُبروا أقصى اليسار المتحالف مع علي صالح السعدي في العراق. ولأنّ هذا الأخير ومؤيّديه قد صُنّفوا مسؤولين رئيسيّين عن سقوط الحزب في بغداد، اعتُقل حليفهم السوريّ حمّود الشوفي بينما لجأ ياسين الحافظ إلى لبنان.

انتفاضة صغرى
كان هذا من جهة «اليسار»، أمّا من جهة «اليمين»، فكان على البعث، وسط أزمة اقتصاديّة خانقة، أن يواجه انتفاضة صغرى أعلنها الإخوان المسلمون وناصريّون وجماعات أهليّة في مدينة حماة، في نيسان (أبريل) 1964، انطلق ذاك التمرّد من جامع السلطان وارتكب منظّموه الإسلاميّون أعمالاً عنفيّة وطائفيّة عبّرت عن رفضهم حكم البعث، لكنّها نمّت، من ناحية أخرى، عن تعصّبهم ونزعتهم الدمويّة.
بيد أنّ النظام، ومن خلال أمين الحافظ، ردّ بدمويّة مضاعفة تأدّى عنها مقتل ما يقرب من مئة شخص، فضلاً عن قصف المسجد نفسه، وكان لهذا الحدث الأخير الذي شكّل لكثيرين سابقة غير معهودة، أن نبّه البيئات السنية والمدينيّة المحافظة إلى دور أبناء الأقليّات الريفيّة في السلطة الجديدة. وبالطبع شابت هذا التنبّهَ مشاعر لم تحمل إلى أصحابها الاطمئنان والثقة.

البعث من دون عفلق: العهد الثاني
لم يفض كبح الإسلاميّين في حماة إلاّ إلى تجدّد النزاع بين أجنحة البعث نفسه، فقد نشأ تكتّل ضم محمّد عمران والعفلقيّين الذين سُمّوا بـ»جماعة القيادة القوميّة»، تبعاً لسيطرتهم عليها، في مواجهة التحالف بين قيادات «اللجنة العسكريّة» و»القطريّين» ممن عزّزوا موقع أمين الحافظ بوصفه مجرّد واجهة لهم.
تنازع سياسي
والخلاف هذا، فضلاً عمّا شابَهُ من منافسات شخصيّة وأوجه تآمريّة مألوفة، انطوى على تنازع سياسيّ: ذاك أنّ الطرف الأوّل آثر اتّباع سياسة أكثر اعتدالاً في العلاقات العربيّة وأشدّ ميلاً إلى ترطيب العلاقة مع جمال عبدالناصر، فضلاً عن تخفيف الفئويّة والعصبويّة في الداخل، كما رأى ألاّ تذهب إجراءات التأميم إلى حيث أرادها صلاح جديد و»القطريّون» المتشدّدون [نور الدين الأتاسي وابراهيم ماخوس ويوسف زعيّن] أن تذهب، لكنّ الأخيرين [أي اللجنة العسكرية والقطريون]، من خلال مواقعهم المفصليّة في الجيش، تمكّنوا، في كانون الأوّل (ديسمبر) 1964، من إبعاد عمران إلى إسبانيا كي «يخدم الثورة» سفيراً لها في مدريد، هو الذي أفشى لعفلق سرّ «اللجنة العسكريّة» فاستحقّ معاملتهم له معاملة المؤمن للمرتدّ.
أهمّ من ذلك أنّ عفلق نفسه أُبعد عن الأمانة العامّة للحزب الذي أسّسه وأُعطي، في المقابل، لقباً تزيينيّاً، إذ غدا «القائد المعلّم»، وقد جيء بالبعثيّ الأردنيّ ذي الأصل السوريّ منيف الرزّاز ليتولّى الأمانة العامّة للحزب، ظنّاً من «القطريّين» أنّهم بهذا يستميلونه ويضعونه في مواجهة القيادة التاريخيّة، وهو ما لم يطاوعهم الرزّاز فيه.

رد اعتبار
بعد ذاك ردّت «القيادة القوميّة» فوطّدت صلاتها بالحافظ، مستفيدة من كيمياء العلاقة السيّئة بينه وبين صلاح جديد، ومن شعوره بالحرمان من الصلاحيّات الفعليّة. ثمّ استخدمت سلطاتها الحزبيّة، فحلّت «القيادة القطريّة» وعيّنت قيادة حزبيّة عليا تنوب منابها أفرادها كلّهم يدينون بالولاء لعفلق.
وفي السياق هذا أعيد تكليف صلاح الدين البيطار بتشكيل حكومة جديدة، كما سُمّي عمران، المُستدعى من مدريد، وزيراً للدفاع فيها، وكان في هذه الإجراءات والقرارات الآيلة إلى ردّ الاعتبار للتاريخيّين، قدر غير ضئيل من السذاجة، إذ افتقر أصحابها إلى مواقع مؤثّرة في القوّات المسلّحة، وظنّوا أنّ الحزبيّ، كائناً من كان، لا بدّ أن يمتثل لمن هو أعلى منه في الهرميّة الحزبيّة.

عهد بعثيّ جديد
وعلى عكس هذا التقدير توصّل صلاح جديد وحليفه حافظ الأسد إلى خلاصة أخرى مفادها أنّ الحلّ الوحيد المتبقّي تنفيذ انقلاب عسكريّ يطيح «القيادة القوميّة» ومناصريها، مُدخلاً سورية في عهد بعثيّ ثان.
وبالفعل ففي 23 شباط 1966 استولى ضبّاط «اللجنة العسكريّة» على السلطة بعد هجوم دامٍ شنّوه على منزل أمين الحافظ، وكان من السهل على كثيرين تأويل الحدث تأويلاً طائفيّاً، حيث إنّ الضبّاط الثلاثة الذين قادوا الهجوم على أبرز الوجوه السنيّة في النظام البعثيّ هما العلويّان عزت جديد ورفعت الأسد، يعاونهما الدرزيّ سليم حاطوم.
وللتوّ سرّح النظام الجديد 400 ضابط ورسميّ من الجيش والإدارة، مسمّياً حافظ الأسد وزيراً للدفاع، على أن يتولّى صلاح جديد الإمساك بالمنظّمات الحزبيّة وقيادتها، وكان يكفي أنّ نضيف هذه الدفعة من المسرّحين إلى الدفعات التي تتالت منذ 8 آذار (مارس) 1963، شاملةً الضبّاط المحترفين من أبناء العائلات التقليديّة ثمّ من الناصريّين و»القوميّين المستقلّين» والحريريّين، لنعرف كيف استعدّت سورية البعثيّة للحرب التي اندلعت في 5 حزيران (يونيو) 1967.

سورية المريضة
وكان من الإجراءات والقرارات الأخرى المجيء بالأقطاب المدنيّين الثلاثة، نور الدين الأتاسي ويوسف زعيّن وابراهيم ماخوس، وتسليمهم، على التوالي، رئاسة الجمهوريّة ورئاسة الحكومة ووزارة الخارجيّة. هكذا ذاع يومذاك تعليق لاذع للصحافيّ اللبنانيّ إدوار صعب الذي كتب عن تلك التطوّرات فرأى أن «سورية التي يحكمها أطبّاء ثلاثة لا بدّ أنّها مريضة جدّاً».
أمّا عفلق فانتقل إلى بيروت ومنها إلى البرازيل، معلناً، بسوداويّة وتشاؤم يشبهانه، أنّ «لا هذا البعث بعثي ولا هذا العسكر عسكري»، وفي البرازيل، وفي ما بدا هجرة نهائيّة وأخيرة، مكث عند أقارب له مهاجرين، إلّا أن عودة حزب البعث، عام 1968، إلى الحكم في العراق، خلطت أوراقه مجدّداً، بحيث انتقل إلى بغداد واستقرّ فيها، وأمّا الحافظ وعمران فأُودعا السجن ولم يُطلق سراحهما حتّى حرب حزيران 1967.

انقلاب 1966
لقد غدا البعث، بانقلاب شباط 1966، بعثَين، واحداً هو الذي يتربّع في سدّة السلطة ويتبع «القيادة القطريّة»، والآخر الذي استمرّ يدين بولائه لـ«القيادة القوميّة» وعلى رأسها عفلق، وإذ استبدل البعث الأوّل، الذي صار يُعرف منذ 1968 بـ»البعث السوريّ»، بأبوّة عفلق أبوّة زكي الأرسوزي المُستَحضَر من النسيان، تمسّك البعث الثاني، الذي غدا يُعرف بـ»البعث العراقيّ»، بمرجعيّة «الأستاذ ميشيل» المتكيّفة مع وطأة صدّام حسين وعُظامه.
وكان الانشطار هذا بمنزلة الاستكمال والتتويج لعمليّة الفرز بين نظامين في بلدين مستقلّين؛ ذاك أنّ وصول فئات اجتماعيّة معيّنة، في سورية والعراق، إلى السلطة، ألغى الحاجة إلى القاطرة الوحدويّة وإلى الزعم الإيديولوجيّ اللذين تولّيا إيصالها.

الانقلاب على الرفاق
لكنّ النظام البعثيّ تميّز، ما بين 1966 و1970، حين انقلب حافظ الأسد على رفاقه، بسمات خاصّة نسبيّاً، ففي الداخل، عُوّل على جهاز المخابرات العسكريّة تعويلاً غير مسبوق، كما اتُّبعت سياسة تأميم متطرّفة لم تراع بعض أصغر الملكيّات الخاصّة، مصحوبة بتعزيز الصداقة مع الاتّحاد السوفياتيّ والصين الشعبيّة، وبتوزير شيوعيّ هو سميح عطيّة للمواصلات، ليكون بهذا أوّل شيوعيّ يحتلّ منصباً وزاريّاً في العالم العربيّ كلّه.
لكنّ الكلام عن «علويّة النظام» حيناً، وعن «ريفيّته» حيناً آخر، بدأ يتردّد خارج سورية بدرجة ملحوظة من التوكيد؛ ذاك أنّ الطبيبين السنّيّين اللذين تولّيا رئاستي الجمهوريّة والحكومة، الأتاسي وزعيّن، والمسكونين بهمّ إيديولوجيّ صافٍ، اعتُبرا واجهة للعسكريّين العلويّين، لا سيّما أقواهم صلاح جديد.

سياسة متشددة
وتبنّى النظام الجديد سياسة متشدّدة فلسطينيّاً وعربيّاً، فقد دعا إلى اعتماد «الحرب الشعبيّة الطويلة الأمد» ومحاربة إسرائيل على الطريقة التي حارب بها الشيوعيّون الصينيّون والفيتناميّون اليابانيّين والأميركيّين. ولهذا الغرض نشر مصطفى طلاس، الضابط المقرّب من حافظ الأسد، كتاباً عن حرب العصابات بوصفها الأداة التي توصل وحدها إلى «تحرير فلسطين»، وقد قيل رسميّاً إنّ النظام أنشأ لهذا الغرض منظّمة «الصاعقة» التي عُهد إلى يوسف زعيّن أمر الإشراف عليها، كذلك اعتُمدت راديكاليّة قصوى حيال العراق، قبل استيلاء البعث على سلطته وبعده، وحيال السعوديّة والأردن وسائر «الأنظمة الرجعيّة العربيّة»، فضلاً عن اعتراض أنابيب النفط السعوديّ الذي تنقله شركة «أرامكو» الأميركيّة إلى جنوب لبنان، وتعبئة المنطقة بشعار «بترول العرب للعرب» والمطالبة تالياً بتأميمه، ولم تكن اللهجة المستخدَمة حيال تركيا، «مغتصبة لواء الإسكندرون»، وحيال إيران، «مغتصبة عربستان»، والبلدان حليفان للغرب، أقلّ حدّة وتوتّراً.

انفتاح على القاهرة
وقد حصل، في المقابل، انفتاح على القاهرة الناصريّة بوصفها قوّة تقدّميّة واشتراكيّة مناهضة للإمبرياليّة، تشارك دمشق الدوران في الفلك السوفياتيّ، غير أنّ التوكيد على الشراكة التقدميّة مع عبدالناصر صار يستبعد تماماً مسألة وحدة البلدين التي طوى النظام البعثيّ صفحتها بالكامل، منصرفاً إلى تعزيز سلطته «القطريّة».
لكنّ التوجّهات الطفوليّة هذه التي أحكمت العزلة على سورية، لم تكن بريئة تماماً، ففلسطينيّاً، حاصرت دمشق منظّمةَ «فتح» التي تُعتبر الأب الشرعيّ للوطنيّة الفلسطينيّة، كما اعتقلت زعيمها ياسر عرفات، فضلاً عن جورج حبش، مؤسّس «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين»، التنظيم الفلسطينيّ الثاني قوّةً وتأثيراً، أمّا «الصاعقة» التي ضمّت بعثيّين فلسطينيّين يقيمون في سورية، فكانت عين النظام وأذنه على النشاط الفدائيّ الفلسطينيّ، تماماً كما كانت «جبهة التحرير العربيّة» التي أنشأها البعث العراقيّ وتشكّلت نواتها من فلسطينيّين يعيشون في العراق، عينَ بغداد وأذنها على النشاط المذكور.
وكان أبعد من هذا أنّ المزاودة اللفظيّة التي اعتمدتها دمشق في الموضوع الفلسطينيّ قد نجحت في إحراج عبدالناصر وتوقيعه اتفاقيّة عسكريّة وأمنيّة مع سورية وجرّه، من ثمّ، إلى سحب القوّات الدوليّة من شرم الشيخ، وهو ما قضت به تسوية حرب 1956.
توريط عبدالناصر
هكذا انتشرت، في العالم العربيّ وفي العالم، نظريّة مفادها أنّ السياسة الدمشقيّة كانت وراء حرب 1967 التي وقعت وقعاً كارثيّاً على العرب كلّهم، لا سيّما على المعنيّين المباشرين بها، أي مصر وسورية والأردن، وقد استنتج أصحاب هذه النظريّة، معزّزين بقدر من الواقعيّة وقدر من النزعة التآمريّة، أنّ البعث السوريّ هدف، أوّلاً بأوّل، إلى توريط عبدالناصر، من يساره هذه المرّة.








ليست هناك تعليقات: