الجمعة، 28 فبراير 2020

نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية؛ يحيى محمد.








نظرية كارل بوبر والقضايا العلمية
يحيى محمد

لفيلسوف العلم المعاصر نظرية لتأسيس القضايا العلمية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الاستقرائي في بناء هذه القضايا. إذ وضع بوبر منهجاً عَدَّه ليس من الدليل الاستقرائي بشيء، وأطلق عليه المذهب الاستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللانهائي كما تقتضيه العملية الاستقرائية بوصفها عادةً نفسية تقوم على التشابه المستند بدوره إلى الاستقراء، وهكذا، معتبراً أن ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الاستقراء والاحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللانهائي1. الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت إلى العملية الاستقرائية.
فهو يبتدئ بوضع فرَض معين ذهنياً، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الاختبار، وهو في حالة الاختبار لا يلجأ إلى مبدأ التأييد بالشواهد كما تقتضيها العملية الاستقرائية، إذ أي عدد يمكن استقراؤه فإنه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية. فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي يظهر فيها البجع أبيض فإن ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع أبيض2، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الأبيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع أبيض، حتى اكتشفوا - في يوم ما - البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الاستدلال الاستقرائي إلى نتيجة زائفة3.
على هذا فقد لجأ بوبر إلى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الافتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع إلى تكذيبه فإنه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس. فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية المنطقية، كما يؤكد، هو ان الصورة المنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع الموضوعي، مع هذا فإنه يمكن مناقضة القضايا الأولى بالاخيرة (الشخصية)، أي انه من الممكن البرهنة من صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية، بفعل عملية الإختبار من التكذيب. في حين أن مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من القضايا الشخصية، وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير والأخذ بمسلك التأييد4. وعليه اعتبر بوبر ان النظريات العلمية لا تقبل التبرير أو التحقيق، وإنما تقبل الإختبار، فحيث أنها تصمد أمام الاختبارات الشاقة والتفصيلية فإنه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة5، وهو ما يفسر النمو العلمي وقلب النظريات. فمثلاً إن نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن عند معرفة ان الكواكب تتحرك اهليجياً وليس دائرياً. كما ان نظرية نيوتن استبدلت بنظرية أينشتاين للشذوذ الملاحظ في مدار كوكب عطارد6.
لقد كان أينشتاين ذاته يميل إلى المنهج الاستنباطي عوض الاستقرائي، إذ كان يعمل وفق الطريقة الافتراضية الاستنباطية في صياغة المبادئ النظرية والتصورات العقلية ليستخرج منها النتائج التجريبية. ويعتبر أن المفاهيم والقوانين الأساسية كما تحددها المبادئ النظرية هي ابتكارات حرة للفكر الإنساني، باعتبارها غير منتزعة عن التجربة والاستقراء. لكن هذه الابتكارات الحرة ليست مفصولة كلياً عن الإختبار والتجربة، فهي ليست كالرياضيات العقلية المحضة، كما أنها لا تشبه حرية كاتب الروايات الادبية أو تخيلاته، بل هي أقرب إلى حرية من يقوم بحل لغز من ألغاز الكلمات المتقاطعة. صحيح أنه يستطيع اقتراح أي كلمة لحل اللغز، لكن ليس هناك إلا كلمة واحدة فقط تحل اللغز في جميع اجزائه. ومن ثم فالطبيعة تتخذ مثل هذا الطابع للغز7.
ولسنا هنا بصدد نقد ما نصّ عليه أينشتاين، فقد فعلنا ذلك في (منهج العلم والفهم الديني)، فالمعنى الذي ذكره مبالغ في التعبير عن التفسير النظري لعلاقات الطبيعة، فمازالت التفسيرات مفتوحة على مصراعيها، ففي كل مرة يظن العلماء بأن الكلمة الأخيرة قد وجدت لحل اللغز في جميع أجزاء الكلمات المتقاطعة، إلا أنه يظهر بأن هذه الكلمة ليست هي المطلوبة على نحو الدقة، ومن ذلك أنه ثبت بأن النظرية النسبية لأينشتاين لم تكن الكلمة الأخيرة لحل اللغز، ولا توجد نظرية لحد الآن تقوم بهذا الدور العظيم. لكن ما يستفاد من تمثيل أينشتاين السابق هو أنه أراد أن يجعل الحدس العلمي الخلاق مهماً للغاية في التعبير عن الوصول إلى النظريات المناسبة، خلافاً للطريقة الاستقرائية التقليدية، لهذا وصف الحرية في هذا العمل العلمي بالتعبير (ضد الاستقرائية)، وهو ما يعني صياغة المبادئ النظرية غير المستخلصة من التجربة مباشرة وفق أرضية منطقية بحتة. وقد اعتمد في ذلك على لحاظ التعارض بين النظريات دون الاهتمام بالتجارب الفعلية.
لقد أصرّ العلم على ضرورة الأخذ بالتعميمات العلمية لأهميتها، حتى وان وجدت بعض الشواهد التي تكذبها أو تتنافى معها. فقد اظهر العلم انه يغض الطرف عن الشواهد السلبية للتعميمات، ويعتبرها وكأنها غير موجودة أو لا تعنيه ما لم تكن هناك نظرية تعميمية افضل. وبالتالي انه يعمل خلاف ما يتبناه كارل بوبر في نزعته التكذيبية. ففي المجال العلمي قد تحظى النظرية بالقبول رغم ما تحمله من شذوذ. ومن ذلك أن العلماء لم يرفضوا نظرية نيوتن في الجاذبية عندما وجدوا التقادير الأولية التي وضعها بشأن حالات خسوف القمر غير صحيحة. وأنهم لم يرفضوا هذه النظرية رغم فشلها في تفسير حركة عطارد وشذوذه، فقد انقضت (85 سنة) على قبول هذا الشذوذ ثم إعتبرت شاهداً مكذباً أو مستبعداً للنظرية8، وذلك عندما تمّ تفسير هذا الشذوذ تبعاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين.
لذا أصبح من المعروف أنه يمكن للنظرية العلمية أن تبقى مورداً للقبول حتى لو ظهر دليل يكذبها، طالما لديها قوة تفسيرية كافية في نواحٍ أخرى. وكما يرى أينشتاين ان المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات9. بل إن هذا الوضع قد يسمح بالأخذ بمبدأ الحفاظ على النظريات المفنّدة كالذي زعمه فيرابند10، فكل نظرية مفندة – أو لنقل مستبعدة - قد تعود مرة أخرى عندما يُكتشف من جديد أن هناك ما يؤيدها. بمعنى أن الاستبعاد ليس عاملاً حاسماً لإسقاط النظرية كلياً.
ومثل ذلك صرح توماس كون بأن كل نماذج العلم تتضمن حالات شاذة، كنظرية كوبرنيك حول الحجم الظاهري لكوكب الزهرة، ونظرية نيوتن حول مدار عطارد، ومع ذلك فقد كانت هذه النظريات مقبولة خلافاً لتصور النزعات التكذيبية كما لدى كارل بوبر11. وعلى رأي فيرابند لا يوجد شاهد واحد يؤيد نظرية بوبر التكذيبية12. لذلك كان أينشتاين يرى بأن المبرر الوحيد لوجود النظرية العلمية هو أنها مدعومة بعدد كبير من الوقائع والمشاهدات13. وكما يشاطره الفيزيائي والفيلسوف الوضعي فيليب فرانك فإن النظريات العلمية فروض ليست حتمية التصديق ولا يوجد معيار للحقيقة سوى التعزيز بالمشاهدات14. أو كما اتفق عليه العلماء اليوم بأن الفرضية العلمية لا تحتاج إلى الحسم التجريبي، بل هي بحاجة لأن تكون مثمرة وقابلة للتأييد فحسب15. وهو الحال الذي يجعل كل نظرية تحمل في أحشائها سرَّ فنائها كما يرى توماس كون16. أو هو أمر يجعل كل نظرية قابلة للموت المؤجل، فالعلم هو مقبرة للنظريات.. لكن في الوقت ذاته قد يُسمح للنظرية بالحياة من جديد، كالذي أشرنا إليه سلفاً، رغم أننا لم نسمع عن عودة نظرية تمّ تركها بتمامها، إنما قد تعاد صياغتها ضمن التكيف مع التطورات الجديدة. ومن ذلك ان النظرية الجسيمية للضوء كما لدى نيوتن قد تمّ التخلي عنها عندما ثبت بالتجارب الحاسمة بأن الضوء ذو طبيعة موجية، لكنها مع ذلك أُعيد لها الحياة من جديد، ولو بالتكيف مع النظرية الموجية المتينة، كالتي دشّنها أينشتاين (عام 1905).
ومع ان بوبر لا يعد مسلكه يرتد إلى المنهج الاستقرائي، إلا أنه ـ كما نعتقد ـ يمارس عملاً استقرائياً، سواء في البدء أو في المنتهى. ففي البدء إنه من العبث ان يضع الباحث فرضاً ذهنياً وهو معزول مطلقاً عن النظر إلى الواقع والقرائن المتعلقة به، بشهادة سيرة كل من الناس وعلماء الطبيعة. فليس هناك فرض يمكن عزله عن السوابق من الملاحظات الخاصة بالقرائن التي تؤيد الفرض، سواء بوعي أو بغير وعي.
أما في المنتهى فمن غير المعقول ان يقال بأن التأييد ليس له تأثير على قوة الفرض، فمن منطق الحساب الاحتمالي أن اعتبار القرينة التأييدية لا بد أن تقوي من قيمة احتمال الفرض. وبوبر لا ينكر هذا الأمر، لكنه اعتبر ذلك ليس بقوة ما تفعله القرينة التكذيبية، بل حسِب أن القرار المؤيد إنما يؤيد النظرية فقط من الناحية الزمنية، باعتبار أن أي قرار سلبي لاحق يمكنه ان يؤدي إلى طرح النظرية17، وأنه لا يوجد برهان حاسم لأي نظرية علمية ‹‹لأنه من الممكن دائماً أن نقول إن النتائج التجريبية لا يوثق بها››18، وبالتالي فهي قابلة للتكذيب. وقد يقال أليس هذا الحكم حكماً تعميمياً لا يجد تبريراً له من غير ملاحظة ما سبق أن تعرضت له النظريات، فكيف جاز هذا التعميم القائم بدوره على الإستقراء، وما هو مدى صدقه على أرض الواقع؟
مع هذا قد يقال ان حكم بوبر السابق يرتد إلى موقف ميتافيزيقي ليس بذي أثر على ما نحى إليه من تأسيس للمنهج العلمي، وذلك مثل موقفه من مبدأ السببية العامة واطّراد قوانين الطبيعة. إذ كان حريصاً كل الحرص أن يبعد هذه القضايا عن مجال العلم ويعتبرها ميتافيزيقية طالما أنها لا تقبل التكذيب. وبالتالي فإن القضية العلمية لديه هي تلك التي تقبل التكذيب فحسب. لكنه مع هذا يجعل تفكيك القضايا عائداً إلى اختياراتنا ومواضعاتنا الذاتية، بالرغم من أنها قضايا معرفية ترتد إلى الواقع الموضوعي. فإذا كان الأمر مجرد ترتيب إجرائي فله أن يفعل ما يشاء، لكنه حين ينطلق من منطلقات فلسفية ويُشْكل على الدليل الاستقرائي ومن ثم يتمسك بالشبهة الهيومية، ولم يقتنع بالحل الوضعي في معالجة الاستقراء؛ كل ذلك يجعلنا ندرك أن عمله التفكيكي ليس قائماً على مجرد الحمل الاجرائي، ويظل الإشكال وارداً: بأي حق نعتبر مثل تلك القضايا التعميمية قضايا ميتافيزيقية؟ وكيف يمكن التثبت من كونها لا تخطئ ولا تقبل التكذيب؟ وإذا كان من الواضح أنها لم تتأسس إلا بفعل الدليل الاستقرائي، فكيف يلجأ إليه بوبر وهو قد رفضه جملة؟!
[أظن أن مناقشة بوبر على هذا النحو لا تصح. فتعريف النظرية العلمية الصحيحة أن لا تشذ عنها أية حالة فردية. وتعميمه بأن الاستقراء لا يؤمّن هذه الخاصية، ليس استقرائياً، إنه من طبيعة تفنيدية، بمعنى أنه يكفي أن يجد نظرية علمية واحدة قامت على الاستقراء ثم ثبت خطؤها، لتكون نظرية بوبر صحيحة. وهذا قد حصل.]
[التفنيد البوبري كاحتمال]
أما بصدد مناقشة بوبر على صعيد المنهج العلمي فيلاحظ أن عملية التكذيب وإن كانت تعبر عن قضية مضادة للتأييد، إلا أنها أيضاً ـ مثلها مثل التأييد ـ تستند في تضادها مع الفرض انطلاقاً من العملية الاحتمالية وتقوم بدورها على مسند استقرائي يثبت كونها تكذيبية بالفعل. وأبرز مثال على ذلك ما يتعلق باكتشاف كوكب نبتون طبقاً لنظرية الجاذبية. ففي البداية عُد الانحراف في مدار كوكب (يورانوس) شاهداً سلبياً بالنسبة إلى الجاذبية، لكن ذلك لم يطرح النظرية كلياً، وإنما أضعف من مصداقيتها، طالما كان من الممكن توجيه الشاهد بشكل لا يخرج فيه عن فحوى النظرية، وهو ما حصل فعلاً من قبل بعض أتباعها، حيث وجهوا الشاهد بالشكل الذي لا يكون فيه مناقضاً لمبدأ الجاذبية، فافترضوا وجود كوكب آخر مجهولٍ هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار. وبالفعل إن أحد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما أطلق عليه كوكب نبتون، الأمر الذي قوّى من مصداقية النظرية أكثر.
على ان الذي يستفاد من هذا المثال هو ان شاهد انحراف (يورانوس) لا يمكن أن يعدّ - في بادئ الأمر - شاهداً تكذيبياً، بدلالة انه كان من الممكن توجيهه توجيهاً يتفق فيه مع نظرية الجاذبية، ويظل البحث فيما لو كان التوجيه سيجد تأييداً في الاكتشافات المقبلة أو انه سيلقى التكذيب، وهو الأمر الذي يجعل من التأييد والتكذيب كلاهما يعتمدان على ما تفضي إليه العملية الاستقرائية من كشف ميداني. ففي مثالنا السابق تحدد الاختبار بالبحث حول كوكب ما يحتمل أن يكون هو السبب في انحراف مدار (يورانوس). فلو ثبت وجود هذا الكوكب لكان تأييداً لها، أما لو ثبت عدم وجوده تماماً لكان تكذيباً للنظرية، وفي كلا الحالين ان المرجع في ذلك هو البحث الإستقرائي ودلالته الإحتمالية. كما أنه بكلا الحالين لا يمكن اعتبار التأييد والتكذيب تامين ومطلقين، إذ يظل احتمال وجود عناصر أخرى لم يُلتفت لها هي التي تؤثر على ظاهرة الانحراف في مدار (يورانوس)، فعدم وجود كوكب قريب مؤثر مثل نبتون لا يعني بالضرورة انه لا يوجد هناك شيء آخر مؤثر يمكن أن يتسق مع جاذبية نيوتن، كذلك فإن اكتشاف نبتون لا يعني بالضرورة انه يؤكد صحة النظرية صحة تامة ومطلقة.
لذا لا يكفي أن يقال بأن التكذيب إنما يحصل بما يمكن أن تطرحه النظرية من تنبؤات واستنتاجات لا يدل الكشف عنها. فقد تكون المشكلة لا تتعلق بالنظرية ذاتها، وإنما بما يستنتج عنها من تقريرات تنبؤية. ففي مثالنا السابق ان من الطبيعي بادئ الأمر ان يكون التنبؤ الذي ينبغي ان تتخذه نظرية الجاذبية هو ان المدارات التي تسير فيها الكواكب هي مدارات لا يلوحها انحراف، وذلك عند لحاظ عدد منها، فقد لا يرد في البال ان يحصل الانحراف لدى بعضها، ورغم أنه تمّ التأكد من وجود هذا الانحراف، إلا انه مع ذلك لم يعد شاهداً مكذباً للنظرية طالما أمكن توجيهه الوجهة المناسبة.
كذلك في حالات كثيرة يلاحظ ان النظريات العلمية تتنافس فيما بينها بحسب ما تستند إليه من مرجعيات متضادة؛ رغم أن الشواهد قابلة لأن تُفسر بأي من هذه المرجعيات بلا تأييد ولا تكذيب، ولعل أقرب صورة لهذا الشكل ما أكد عليه فلاسفة العلم الإصطلاحيون من أمثال بوانكاريه من أنه يستحيل معرفة شكل الهندسة الكونية إن كانت إقليدية أو غير إقليدية، فمن الممكن تفسير الظواهر الكونية طبقاً للفرضين باعتبارات مختلفة، وبالتالي فليس بإمكاننا أن نجعل من الشواهد مكذبة لأحد الفرضين، الأمر الذي لا يتسق مع المنهجة التي عليها نظرية بوبر، إذ سوف لا تكون هذه القضية من القضايا العلمية طالما أنها لا تخضع للتكذيب، أي ليس من القضايا العلمية أن يقال بأن الهندسة الكونية قد تكون إقليدية أو غير إقليدية، طالما ليس هناك قابلية على تكذيب أي من الفرضين، فمثلما يمكن تفسير انحناء الأشعة الضوئية طبقاً لانحناء الكون، وبالتالي فإن الهندسة ليست اقليدية، كذلك فإنه يمكن تفسيرها بإعتبار آخر قائم على أساس الجذب، استناداً إلى الهندسة الاقليدية وأن الفضاء ليس بمنحن، وبالتالي فمسار الأشعة يتصف بالاستقامة لولا ظاهرة الجذب التي تسببها الكتل المادية في الفضاء فتجعلها منحنية.
بل هناك قضايا كثيرة تعتبر علمية رغم أنها لا تخضع لقاعدة القابلية للتكذيب، وعلى رأسها القانون الأول لنظرية الجاذبية لنيوتن، وهو المتعلق بالعطالة أو القصور الذاتي. ومثل ذلك الكثير من النظريات التخمينية التي يتصف بها النظام الميتافيزيائي كالذي عرضناه في (منهج العلم والفهم الديني).
يضاف إلى أن هذه القاعدة لا تنطبق على التنبؤ بشذوذ القضايا الجزئية ضمن التعميمات الاستقرائية، فمثلاً لا يمكننا تكذيب قضية جزئية كالقول بوجود غراب أبيض مهما امتدت دائرة البحث الاستقرائي، في حين أنه يمكن إثباتها. فاثبات الجزئي ضمن العام ممكن، لكن تكذيبه غير ممكن. وهو على عكس الكلي، حيث إن إثباته غير ممكن في حين أن تكذيبه ممكن، وهو الذي تمسك به بوبر دون ما يقابله.
من جانب آخر قد يقال إن دلالة التكذيب تفوق دلالة التأييد، إذ إن التأييد لا يحتم صحة النظرية، حيث كل ما يمكن أن يقال هو أنها تتسق مع الشاهد التأييدي أكثر فأكثر، ولا يعني أنها صحيحة فعلاً، بدلالة انه قد تنافسها نظرية أخرى تتفق مع جميع الشواهد المؤيدة للنظرية الأولى، وبالتالي لا يتحتم صدق هذه النظرية بالتأييد. في حين أن الشاهد المكذب يمكنه ان يبطل النظرية ويسقطها من الحساب تماماً.
والجواب على ذلك هو ان الأمر يتوقف على الفروض المطروحة إن كانت تسمح بالتصديق بالنظرية عند الشاهد المؤيد، أو إبطالها عند الشاهد المكذب. فليس بالضرورة أن يكون الشاهد المكذب مبطلاً للنظرية إلا بالقدر الذي يثبت عدم قدرتها على إيجاد مخرج للتوجيه، مثلما ليس بالضرورة أن يثبت التأييد صحة النظرية إلا بالقدر الذي يثبت جدارتها من دون منافس. ويظل أن لطبيعة الشواهد من التأييد والتكذيب دخلاً كبيراً في تحديد القيم الموجهة للنظرية، فطبيعة الاختلاف في الشواهد يجعلها تختلف فيما تحمله من قيم احتمالية اتجاه صدق النظرية، فبعض الشواهد يحمل من القيمة ما يفوق البعض الآخر، وينطبق هذا الأمر؛ سواء على الشواهد التأييدية أو التكذيبية. ومثلما قد يكون الشاهد المكذب أقوى دلالة من الشاهد المؤيد؛ فإن العكس يحصل كذلك، إذ لو فرضنا أن هناك عدداً قوياً من الشواهد المؤيدة للنظرية في قبال شاهد يبدو عليه التكذيب؛ فإنه ليس من السهل التضحية بالشواهد المؤيدة لحساب ذلك المكذب، بل قد يقتضي الأمر تأويل الشاهد وتوجيهه بالشكل الذي لا يناقض النظرية؛ ما لم تكن هناك نظرية أخرى باستطاعتها ان تستوعب جميع تلك الشواهد وتفسرها.
وعلى العموم يمكن القول إن النظرية العلمية تقوم على قابلية كل من التأييد والتكذيب، وإن العلم لا يلتزم بواحد من هذين الطرفين، فضلاً عن وجود عناصر أخرى يستند إليها في قبول النظرية العلمية. ورغم أن بوبر كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 1934، لكنه بعد ثلاثين سنة تقريباً، أي بعد اعادة طباعة الكتاب (سنة 1963)، أعاد النظر في دفاعه عن ذلك الأساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر أخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الأشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر بأنه لا يمكن ارجاع مبدأ البساطة إلى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل19.
ونشير إلى أن بوبر يرى بأن القابلية على اختبارالقضايا العلمية لا تنتهي عند حد معين. فأنساق النظريات تُختبر عن طريق استنباط قضايا أخرى ذات مستوى أقل عمومية. وهذه يجب أن تكون قابلة للاختبار بنفس الأسلوب، وهكذا من غير حد ولا نهاية. مع هذا فإن بوبر لا يرى هذه العملية تفضي إلى الوقوع في دائرة الارتداد اللانهائي الذي سبق أن نقد فيه المنهج الإستقرائي. صحيح أنه يعتبر القضية العلمية يجب أن تكون قابلة للإختبار دون توقف، لكنه لا يطلب أن تكون كل قضية علمية قد اختبرت في الواقع قبل قبولها، فالاختبارات لا يمكن تنفيذها إلى ما لا نهاية، حيث لا بد من أن نتوقف آجلاً أو عاجلاً، إنما الذي يطالب به هو ان تكون القضية قابلة للاختبار لا غير. وبالتالي فهو يرفض وجهة النظر القائلة بوجود قضايا في العلم يجب علينا قبولها والموافقة على صدقها بحجة استحالة اختبارها لاسباب منطقية20.
لكن تأسيس القضايا العلمية كما طرحها بوبر يجعلها عاجزة عن التخلص من شبهة الوقوع في الارتداد الصفري، طالما إنه لا يعتقد بإمكانية بلوغ اليقين في الإطار العلمي21، أو إن القضايا العلمية عنده هي قضايا احتمالية. وبالتالي إذا كان بعضها يتوقف على البعض الآخر، فلا فرق عندئذ، سواء تعرضت كلها للإختبار - وهو أمر مستحيل للارتداد اللانهائي -، أو تعرض بعضها لذلك، فإنه في كلا الحالين ان أي قضية يراد تقدير قيمتها الإحتمالية فسوف تؤدي إلى الاقتراب من المستوى الصفري، مثلما لاحظنا الحال مع الوضعية المنطقية.
***
يبقى ان نلخص النتائج السابقة المتعلقة بموقف نظرية كارل بوبر من الاستقراء ونقدها، فقد كان هذا الفيلسوف يرى التالي:
1ـ انه يسلم بالشبهة الهيومية في معارضة الدليل الاستقرائي.
2ـ انه يعوّل على الفرض الاستنباطي، وقد كان أينشتاين يذهب إلى ذلك في معارضة الطريقة الاستقرائية كمنهج.
3ـ يعتبر بوبر أن حالات التأييد الاستقرائي لا تحسم نتائج القضايا العلمية، خلافاً لحالات التكذيب. رغم أنه يعتبر القضايا العلمية هي احتمالية على الدوام.
4ـ تعتمد نظريته على الاختبارات التي يمكن أن تكذب النظرية، دون البحث عما يؤيدها. فالنظريات العلمية لا تقبل التبرير والتحقيق، بل تقبل الاختبار من حيث صمودها أمام الإختبارات الشاقة والتفصيلية.
5ـ يقوم العلم على مبدأ القابلية على التكذيب. فالقضية العلمية هي من لها هذه القابلية، خلافاً للقضية غير العلمية، فقد تكون ميتافيزيقية كالسببية مثلاً.
أما إجمال نتائج النقد لهذه النظرية فكما يلي:
1.   ان العمل العلمي يمارس الطريقة الاستقرائية، سواء في البدء أو المنتهى. ففي البدء لا يمكن عزل الفرض العلمي عن السوابق من الخبرة والملاحظات التي يمكن توظيفها لدعم الفرض، بوعي وبغير وعي. أما في المنتهى فلا يعقل أن لا يكون للتأييد دور في دعم النظرية العلمية. وبوبر لا ينكر ذلك لكنه يخفف من أهميته قبال التكذيب.
2.   ليس الشاهد التكذيبي معوّل عليه في ابطال النظرية العلمية دائماً، بل قد يتحول إلى نوع من التأييد للنظرية مثلما هو الحال مع انحراف يورانوس واكتشاف نبتون.
3.   قد تتنافس نظريتان علميتان من دون علاقة بمبدأ التكذيب، كالتصور القائم على المذهب الاصطلاحي في تنافس النظريتين الاقليدية واللااقليدية.
4.   يفترض بوبر أن الطبيعة مطّردة كمبدأ ميتافيزيقي باعتباره لا يقبل التكذيب، مع انه مستنتج بالطريقة الاستقرائية.
5.   إن أهم مبدأ معول عليه اليوم في ترجيح النظرية العلمية هو مبدأ البساطة، وهو لا يتنافى مع الشواهد المناقضة أو الشاذة، خلافاً لمبدأ التكذيب.
6.   إن إعتبار القضايا العلمية احتمالية وإن بعضها يقوم على البعض الآخر يفضي بالنتيجة إلى القيمة الصفرية والارتداد اللانهائي.





1 كارل بوبر: منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، ص66ـ67.
2 منطق الكشف العلمي، ص64.
3 فلسفة العلم، ص388.
4 منطق الكشف العلمي، ص78.
5المصدر، ص70 و81.
6انظر:
Imre Lakatos, ‘Falsification and the Methodology of Scientific Research programmes’, 1969, in: The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers, volume 1. edited by Worrall and Currie, Cambridge University Press, reprinted 1984, p.13ـ14.
7 أينشتاين: الفيزياء والحقيقة، ضمن: أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م، ص78. كذلك: جولينوف: أينشتاين والنزعة الإجرائية لـ (بريجمان)، ضمن: أينشتاين والقضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين، لمجموعة من الباحثين، ترجمة ثامر الصفار، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1990م، ص40، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية: .www.al-mostafa.com
8انظر مثلاً:
L. Jonathan Cohen, An Introduction To The Philosophy of Induction And Probability, Oxford university press, New york, 1989, p. 142. Imre Lakatos, The methodology of scientific reserch programmes, philosiphical papers, volume1, editted by Jhon Worrall and Gregery Currie, first published 1978, reprinted 1984, cambridge university press, p. 30.
9أينشتاين: النسبية: النظرية الخاصة والعامة، تقديم محمود أحمد الشربيني، ترجمة رمسيس شحاته، نشر الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص188، عن مكتبة الموقع الإلكتروني ليبيا للجميع: www.libyaforall.com.
10بول فيرابند: ثلاث محاورات في المعرفة، ترجمة محمد أحمد السيد، نشر منشأة المعارف بالاسكندرية، ص43ـ44، مكتبة المصطفى الإلكترونية: www.al-mostafa.com.
11 الآن شالمرز: نظريات العلم، ترجمة الحسين سبحان وفؤاد الصفا، دار تويقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1991م، ص97، عن مكتبة المصطفى الإلكترونية.
12 بول فيرابند: ثلاث محاورات في المعرفة، ص141.
13 أينشتاين: النسبية: النظرية الخاصة والعامة، ص188.
14 فلسفة العلم، ص36.
15 انظر:
Madden, E. H., p. 7.
16نجيب الحصادي: الريبة في قدسية العلم، منشورات جامعة قاريونس، بنغازي، ليبيا، ص16، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
17 المصدر، ص70.
18 منطق الكشف العلمي، ص88.
19انظر:
Nicholas Maxwell, The Comprehensibility of the Universe, Clarendon Press, Oxford, 1998, p.37ـ38.
20 منطق الكشف العلمي، ص84.
21المصدر، ص119. 

ليست هناك تعليقات: