الأربعاء، 14 أغسطس 2019

اقتباسات من كتاب "مبحث في الفاهمة البشرية؛ ديفيد هيوم. ترجمة موسى وهبه.




مبحث في الفاهمة البشرية؛ ديفيد هيوم؛
ترجمة موسى وهبه
دار الفارابي؛ الطبعة الأولى 2008

(هناك ترجمة أخرى صادرة عن "المنظمة العربية للترجمة" عام 2008 (تشرين الثاني)، ترجم الكتاب الدكتور محمد محجوب.

الأمبيرية تسميةٌ تُطلَقُ على مذهبٍ في المعرفة ينطلق من تقرير أنّ الخبرةَ الحسّية هي المصدرُ الوحيد لما نعلم، وذلك في مواجهة المذهب العقلاني القائل باستناد ما نعلم عن العالَم وعن أنفسنا إلى "الأفكار الفطرية" و"مبادئ الذهن" القبلية. (11)
إنّ عَدَّ الضرورة، وهي العلامة العقلانية الأوثق للحقيقة، مجردَ شعورٍ يرسّخه التكرار والتعوّد، كفل بزعزعةِ وثوقيّةِ البنيان العقلاني بأسره. ولعل ذلك ما قصده كنط عندما قال: "لقد أيقظني هيوم ن سباتي الدوغمائي".
إلا أنّ ردّ الضرورة إلى التعوّد لا يفتح الباب نهائياً على المجهول عند هيوم؛ فصحيح أنه لم يعد ثمّة من مطلقٍ نستند إليه؛ فلا حقيقةَ مطلقةً ولا أخلاقَ ولا ضرورةَ مطلقةً بل مجرد انطباعات وأحاسيسَ وأفكارٍ واعتقادات، إلا أنّ ثمّة قدرةً أصيلةً للططبيعة بحيث لا تتضمّن أيَّ مصادفةٍ على ما تعلمنا به التجربة، بل هي تُظهِر، على العكس، انتظاماً يجعلنا قادرين على التنبؤ بكثيرٍ من الآحداث باحتمال صدقٍ يكبر ويصغر تبعاً لحالات التكرار.
إن القول" :الشمس ستشرقُ غداً" هو مجرد فرضٍ ولا يمكننا الإتيان بأيّ إثباتٍ يقينيٍّ له. هذا صحيح، لكن من ذهاب العقل ألا نصدقه وأن لا نتصرّف بموجبه. وتصديقنا له هو لزمن بما يكفي لممارسة الحياة اليومية.
ذاك ما يسمّى بالريبية الملطّفة. فهيوم يجعلنا نرتاب بكلّ نظريةٍ وروايةٍ لا تثبتُها التجربة، ويدعونا إلى الإقرار بجهلِنا طبيعة الأِياء والاقتران الكامن بين الأحداث، وبعجزنا عن اختراق أسرار إوالية هذه الماكينة الكبرى التي تسمّى العالمين.
لكنّ هيوم يرى، في الوقت نفسه، أنّ هذه الشكوك الميتافيزيقية لا تطاول الحسّ العام، وأنّ ضرورات الحياة العملية تكنّس كلّ الشكوك المفرطة، وأنه ليس من الممكن الاستمرار في الشك المنهجي حيث يقتضي التصديق، بل المطلوب الأقصى هو عدم قبول التفسيرات التجريدية والخروج من الكسل الذهني الناجم عن الركون إلى ما تعوّدنا عليه. (15)

من السهل على الفيلسوف المتعمّق في لطيف تعليلاته أن يرتكب الخطأ، والخطأ يولّد بالضرورة خطأً آخر أثناء دفعه حتى نتائجه، فلا يتراجع هو عن اعتناق خلاصةٍ ما بسبب من مظهرها غير المألوف، أو بسبب من مناقضتها للرأي الشائغ. أما الفيلسوف الذي لا يطرح على نفسه سوى أن يصوّر الحسّ العام للبشر أجمل وأكثر لفتاً، فلن يذهب بعيداً فيما لو ارتكب الخطأ، بل سيعود ليستنجد بالحس العام وبمشاعر الذهن الطبيعية. (وبالأحاسيس الطبيعية للنفس. محجوب) (24)
الإنسان كائنٌ اجتماعيّ بما لا يقلّ عن كونه عاقلاً. لكن لا يمكنه دائماً أن يحظى بعِشْرةٍ ممتعة ومسلّية، ولا أن يحافظ على المزاج المطلوب لهذه العِشرة. والإنسان كائنٌ ناشط، أيضاً. وعليه جرّاء هذا الاستعداد وجرّاء مختلف حاجات الحياة البشرية، أن ينصرف إلى الشغل والوظيفة: لكن الذهن يلزمه بعضُ الاسترخاء ولا يمكنه أن يحبّذ دائماً مثل هذا الانهمام والعناء. وهكذا يبدو أن الطبيعة قد عيّنت نوعاً حياتياً مختلَطاً بوصفه أكثرَ الأنواع مناسبةً للعرق البشري، وأنها قد أسرّت إلى البشر بأن لا يسمحوا لأيٍّ من تلك الانحرافات بأن يجرّهم كثيراً إلى حدّ جعلِهم عاجزين أمام الاهتمامات والمتع الأخرى. فهي تقول: أطلِق عِنان هواك بالعلم، لكن دع علمك يكُن إنسانياً، ومن حيث يمكنه أن يكون على صلةٍ مباشرة بالنشاط والاجتماع، فأنا [أي الطبيعة البشرية] أمنع الفكر المغلق والأبحاث المعمّقة وأعاقبُها بقساوة: بالكآبة التأمليّة التي تجلبها، وبِحيْرةٍ لا تنتهي تلفّك بها، وبفتور الاستقبال الذي تلقاهُ أبحاثُك المزعومة حين تبلّغ. فكن فيلسوفاً، لكن وسط فلسفتك كلِّها، ابقَ إنساناً. (26)
إن عبقرية الفلسفة، إذا ما رعاها كثيرون واعتنَوْا بها، ستنتشر بالضرورة، تدريجياً في المجتمع بأسره، وستُضفي على كل الفنون والمهن دقّةً مماثلة. (28)
يؤخذ على غموض الفلسفة التجريدية المتعمّقة أنه ليس مزعجاً ومتعِباً وحسب، بل هو أيضاً منبعٌ للحيرة والغلط، لا مهرب منه. وبالفعل، هنا يكمن أصوبَ مأخذٍ على قسمٍ واسعٍ من الميتافيزيقا، وأكثرُه قَبولاً هو أنها ليست من العلم بصحيح معناه في شيء، بل هي وليدة عقمِ جهودِ الغرور البشريِّ الذي يريد الدخول في موضوعاتٍ لا يمكن للفاهمة أن تطالها البتّة، أو هي وليدةُ مكر الخرافات الشعبية التي، إذ تعجز عن أن تدفع عن نفسها في أرضٍ صالحة، تنبت في تلك الدغل الملتفّة، كي تستُرَ ضعفَها وتصونه. فحين يُطرَد اللصوصُ من الأرض المكشوفة يهربون إلى الغابة ويتربّصون بانتظار أن يعودوا إلى كلّ دربٍ لا يحرسها العقل فيملأونها بالمخاوف الدينية والتحكيمات (أي الأحكام المسبقة، كما ترجمها محمد محجوب). (29)
.. لكن هل يشكّل ذلك تعلّةً كافيةً كي يترك الفلاسفة أبحاثهم ويدَعوا الخرافةَ مطمئنّةً في حصنها؟
.. والطريقة الوحيدةُ لتخليص العلم دفعةً واحدةً من هذه المسائل الملتوية، هو أن نبحث بجِدّيةٍ في طبيعة الفاهمة البشرية وأن نُظهِر بالتحليل الدقيق لقدراتها وطاقاتِها أنه ليس بوسعها، بأيّ شكلٍ، أن تنخرط في مثل هذه المسائل البعيدة الشائكة. وعلينا أن نتحمّل هذه المشقة كي نعيش، بيسر، كل ما تبقى من الزمان. وعلينا أن نرعى الميتافيزيقا الحقّة ونُعنى بها كي نقوّض الميتافيزيقا المزوَّرة.
.. أما الدواء الناجح الوحيد الشافي لكل الأشخاص ولكل الأوضاع فهو التعليل السليم والدقيق. وهو وحدَه قادرٌ على تقويض الفلسفة الشائكة واللغو الميتافيزيقي اللذين إذا ما امتزجا بالخرافة الشعبية جعلاها مستعصيةً على المعلِّل غير اليقظ، وأضفيا عليها مظهراً من العلم والحكمة.  (30)
الفصل: في أصل الأفكار.
11.
كلُّ واحدٍ سيوافق بسهولةٍ على أنّ ثمّةَ فرقاً عظيماً بين إدراكات الذهن حين نحسّ ألماً من حرارةٍ زائدةٍ أو لذةٍ ن حرارةٍ ملطّفة، وحين نستعيد فيما بعد بالذاكرة ذلك الإحساس أو حين نتوقّعه بالمخيّلة. وبإمكان الملَكتَين هاتين (أي الذاكرة والمخيّلة) أن تحاكيا أو تنقلا إدراكاتِ الحواس لكن ليس بإمكانهما أن تبلغا قوّة الإحساس الأصلي وحيويّته. وجلَّ ما نقول عنهما حتى عندما تفعلان بأكبرِ نشاط، إنهما تصوِّران الموضوعَ على نحوٍ هو من الحيويّة بحيث نقدر أن نقول: إننا نلمسه ونراه أو نكاد. لكن باستثناء اضطراب الذهن من جرّاء المرض أو الجنون، ليس بإمكانهما أن تصلا البتّة إلى درجةٍ من الحيويّة تجعل هذه الإدراكات مختلطةً تماماً. ولا يمكن لكل ألوان الشعر مهما بلغ بهاؤها أن تصوّر الأشياء الطبيعية على نحوٍ يجعلنا نَعُدُّ الوصف منظراً حقيقياً. ويبقى الفكر الأكثرُ حياةً أبهتَ من أدنى إحساس. (37)

يقول هيوم: "عندما نفكّر في انفعالاتنا ومشاعرنا الماضية يكون فكرُنا مرآةً أمينةً وينقل موضوعاتِه بصدق، لكن الألوان التي يستعملها تكون شاحبةً وباهتةً بالمقارنة مع تلك التي ترتديها إدراكاتُنا الأصلية." (38)
12
أعني إذاً بلفظ انطباع كلّ ما هو أكثر حياةً في إدراكاتنا حين نسمع ونرى ونلمس ونحب ونكره ونرغب ونريد.
وتتميّز الانطباعات من الأفكار التي هي ما هو أقل حياةً في إدراكاتنا وما نعيه عندما نفكّر بأيٍّ من الإحساسات أو الحركات التي تمّ ذكرُها. (39)
13
لا شيء يبدو للوهلة الأولى أكثر حرّيةً من الفكر البشري الذي لا يفلت من كل مرجعيةٍ وكل سلطة بشرية وحسب، بل لا تحتويه حتى حدود الطبيعة والواقع.
.. ففي حين ينحصر الجسم في كوكبٍ واحدٍ يجرجر نفسه فوقه بعناءٍ وصعوبة، يمكن للفكر أن يحملَنا في لحظةٍ إلى أبعدِ الأماكن في العالم.. وما لم ترَه عينٌ ولم تسمع به أذنٌ قط يمكن أن يُتصوَّر مع ذلك. فليس هناك من شيءٍ فوق قدرة الفكر سوى ما ينطوي على تناقضٍ مطلق.
لكن على الرغم من أنّ فكرَنا يبدو مالكاً لهذه الحرية اللامحدودة، فإننا نجد عندما نفحصُه عن كثَب، أنه في الحقيقة محجورٌ عليه في حدودٍ ضيّقة وأنّ كلَّ قدرةِ الذهن الخلاّقة لا تتعدى ملَكة التركيب والنقل والزيادة والإنقاص للمواد التي تزوّدنا بها الخبرة والحواس. فعندما نفكر في جبلٍ من ذهب فإننا نجمع بين فكرتين متلائمتين نعرفهما سلفاً: الذهب والجبل. ويمكننا أن نتصوّر حصاناً فاضلاً لأن الشعور الذي لدينا عن أنفسنا يسمح لنا بتصوّر الفضيلة. ويمكننا أن نوحّد ما بين هذه وهيئة الحصان وشكله، وهو حيوان مألوفٌ لدينا. وباختصار، إن كل مواد التفكير مستمدَّة من الحواسّ الخارجية أو الباطنة، وما يخضع للذهن أو الإرادة إنما هو خلطُها وتركيبُها وحسب. أو ما أعبّر عنه بلغةٍ فلسفية: جميع أفكارنا، أو إدراكاتِنا الأضعف، هي نسخٌ عن انطباعاتنا أو إدراكاتِنا الأكثر حياة. (40)
14
[الانطباعات هي الأصل]
وكي أدلّل على ذلك يكفيني، على ما آمل، حجتان. الأولى: عندما نحلل أفكارنا أو أيْدياتِنا وأياً كان مبلغ تركيبها وسموّها، فإننا نرى أنها تتحلّل أبداً إلى أفكار بسيطة كانت قد نسخت عن سابق إحساسٍ أو شعور. وحتى الأفكارُ التي تبدو للوهلة الأولى أبعد الأفكار عن الأصل ذاك، نجد عند فحصها، عن كثب، أنها تشتَق منه. وفكرة الله، من حيث تعني كائناً عاقلاً وحكيماً ورحيماً بما لا يتناهي، تتولد من التفكير في عمليات ذهننا الخاص حين نزيد بلا حدود خاصيّات الرحمة والحكمة تلك. ويمكننا أن نتابع هذا البحث إلى أبعد ما يطيب لنا من البعد، فلسوف نجد أبداً أنّ كلّ فكرةٍ نتفحصّها هي نسخةٌ عن انطباع مماثل. وأولئك الذين يؤكدون أنّ هذه القضية ليست صادقةً كلياً وأنها ليست من دون استثناء، ليس لديهم سوى طريقةٍ واحدةٍ لدحضها، وهي طريقةٌ ميسورة: أن ينتجوا الفكرة التي، في رأيهم، لا تُشتَقّ عن هذا الأصل. وسيكون علنا عندها، إن شئنا أن نحفظ مذهبنا، أن نتتبع الانطباع، أي الإدراك الحيّ الذي يتناسب معها. (40)
15
[الحواس أساس الأفكار]
لا يمكن لأعمى أن يعطي أيَّ فكرةٍ عن اللون ولا الأصمّ أيَّ فكرةٍ عن الصوت. [لكن] أعِدْ للواحد والآخر الحسَّ الذي ينقصه وستفتح، بفتحك مسراً جديداً للإحساسات، مسرباً للأفكار أيضاً.
والأمر عينه إذا كان الشيْ المعدّ لإيقاظ إحساسٍ ما، لا يحضر البتّة أمام عضوٍ حاس.
.. ومن السهل التسليم بأن يكون لكائناتٍ أخرى كثيرٌ من الحواسّ التي لا يمكننا تصوّرُها بأيّ شكل، لأن أفكار الحواس هذه لم تدخل البتّة فينا بالطريقة الوحيدة التي بها يمكن لفكرةٍ أن تعبُر إلى الذهن، أعني بالشعور الراهن والإحساس.  (41)
(*) هامش:
من المرجّح أنّ أولئك الذين أنكروا الأفكار الفطرية أن يقولوا شيئاً أكثر من أنّ جميع الأفكار هي نسخٌ عن انطباعاتنا. لكن يجب الاعتراف بأنّ الألفاظ التي استعملوها لم تكن منتقاةً بما يكفي من الدراية، ولا معرَّفةً بما يكفي من الدقّة للاحتراز من الخطأ بصدد مذهبهم. إذ ما معنى فطري؟ إذا كان الفطري يرادف الطبيعي فيجب عندها أن نسلّم بأنّ جميع إدراكاتِ الذهن وجميعَ أفكارِه هي فطريةٌ أو طبيعية أياً كان معنى "الطبيعي" وسواءٌ عارضناه بالنادر أم بالمصطنع أم بالمعجز. إذا عنينا بالفطري ما هو معاصر لولادتِنا، فإن النقاش يبدو تافهاً ولا يستحقّ الأمرُ عناء التفتيش عن لحظة ابتداء الفكر، قبل ولادتنا أم معها أم بعدها. أضف أنّ لفظ "أيْديا" كان لوك والآخرون يأخذونه عادةً بمعنى يخلو كثيراً من الدقة. فهو يمثل على ما يبدو جميع إدراكاتِنا وإحساساتِنا وأهوائنا مثلما يمثّل أفكارَنا. وفي حال قبول هذا المعنى، أودّ أن أعلم ماذا يمكن أن نعني عندما نؤكد أن حبَّ الذات، أو الضغينة الناجمة عن المظالم، أو الحب بين الجنسين ليست فطرية.
لكن لو سلّمنا بلفظيّ الانطباعات والأيْديات بالمعنى المعروض أعلاه، وإذا فهمنا بفطري ما هو أصلي وما ليس نسخةً عن أيِّ انطباع سابق فإنه يمكننا أن نزعم أنّ جميع انطباعاتنا فطريةٌ وأنّ جميع أفكارِنا ليست فطرية.
ولكي أكون صريحاً عليّ القولُ إن كان لوك ذهب، في رأيي، ضحيةَ جماعةِ المدرسة الذين، في استخدامهم ألفاظاً من دون أن يعرّفوها، مطّوا في مجادلاتهم وأطالوها بلا طائلٍ ومن دون أن يلامسوا المسألة المطروحة. وهناك التباس مماثل ومراوغات مماثلة تخترق، على ما يبدو، كل تعليلات هذا الفيلسوف حول هذه المسألة كما حول معظم المسائل الأخرى. (44)
الفصل الثالث: في تداعي الأفكار.
18
نجد في كثيرٍ من مناماتنا، إذا ما تأملناها، أن المخيّلة لم تكن تجري على غير هدى بالمرة، بل كان هناك أبداً اقتران بين مختلف الأفكار التي يتلي بعضُها بعضاً. (45)
19
.. أما بالنسبة إليّ، فيبدو أنّ هناك ثلالاثة مبادئ وحسب، للاقتران بين الأفكار، وهي التشابه، والتجاور في الزمان والمكان، والسبب أو الأثر.
(هامش): .. إن التنافر أو التضاد هو أيضاً اقتران بين الأفكار. لكن قد يكون بالإمكان أن نحسبَه بمثابة مزيجٍ من السببية والتشابه. فعندما يتضاد شيئان يهدم أحدُهما الآخر، أي يكون سبباً في إعدامه، وفكرة إعدام الشيء تنطوي على فكرة وجوده السابق. (47)
الفصل الرابع: شكوك ريبيّة بصدد علميات الفاهمة
يمكن لجميع موضوعات العقل البشري أو البحث أن تنقسم، طبيعياً، إلى ضربين، هما: علاقات الأفكار، والوقائع. من الضرب الأول علوم الهندسة والجبر والحساب، وباختصار كل إثبات يكون يقينياً إما بالحدس أو بالبرهان. فـ "مربع الوتر يساوي مربع الضلعين" [في المثلث قائم الزاوية] قضية تعبّر عن علاقة بين هذه الخطوط. و"ثلاثةٌ ضرب خمسة تساوي نصف ثلاثين" تعبر عن علاقة بين هذه الأعداد. والقضايا التي من هذا الضرب يمكن اكتشافها بإعمال الفكر وحدَه من دون الخضوع في شيء لما يوجد في العالم. بل حتى لو لم يكن في الطبيعة أيُّ دائرةٍ أو مثلث، ستظل الحقائق التي برهنها إقليدس محتفظةً بيقينها وبداهتها. (49)

21: أما الوقائع، التي هي من الضرب الثاني من موضوعات العقل البشري، فلا يمكن التيقّن منها بالطريقة عينها. وليست بيّنتُنا على صدقها، مهما عظمت، من طبيعة مماثلةٍ للسابقة، فالضد من أيِّ واقعةٍ يظل ممكناً، لأنه لا ينطوي على أيِّ تناقض، والذهن يتصوّره بمثل السهولة والتميّز الذي سيتصوّره به لو كان مطابقاً تماماً للحقيقة. والقضية "الشمس لن تشرق غداً" ليست أقل معقولية ولا تنطوي على تنقض أكثر مما تنطوي عليه القضية "ستشرق". فباطلاً إذاً ما نجرّب البرهنة على خطئها. إذ حين تكون برهانياً خاطئةً ستنطوي على تناقض ولن يمكن للذهن قط أن يتصوّرها بتميّز. (50)
23:
[السبب والأثر]
إن القضية: "إن معرفة هذه العلاقة [أي العلاقة بين السبب والأثر] لا تتحصل، بأيّ حال، من تعليلاتٍ قبلية بل تتولّد بأسرها من الخبرة حيث نجد أنّ أشياء معيّنة تترافق بعضاً مع بعض بشكلٍ مستمر"، هي بمثابة قضية عامة لا تقبل أي استثناء.
لنقدّمْ شيئاً ما لامرئ على أتمّ ما يمكن من قوّة العقل والاستعدادات، فإن كان الشيء جديداً كل الجِدة بالنسبة إليه فإنه سيعجز عن اكتشاف أيِّ سببٍ من أسبابه أو أثرٍ من آثاره عن طريق تفحص خاصّياته الحسية بأكبرِ قدرٍ من الدقة.
.. ولا يمكن لعقلنا، البتة، من دون مساعدة الخبرة، أن يطلع بخلاصةٍ بصدد وجودٍ حقيقي أو واقعةٍ ما. (52)
24:
الأسباب والمسبَّبات لا تكتشف بالعقل بل بالخبرة (52)
29:
القضيتان التاليتان: "وجدتُ أن شيئاً من الأشياء يصحبه أبداً أثرٌ من الآثار" و"أتنبّأ أنّ أشياءَ أخرى مشابهة له في الظاهر سيصحبها آثارٌ مشابهة" ليستا قضية واحدة..
إن الاقتران بين هاتين القضيتين ليس حدسياً. (60)
31:
يمكن أن نوافق الفيلسوف على قدرٍ من الفضول يكفي على الأقل لفحص مبدأ الطبيعة البشرية الذي يعطي للخبرة تلك المرجعية القادرة، ويجعلنا نستفيد من ذلك التشابه الذي أجرته الطبيعة بين أشياءَ مختلفة. من أسباب تبدو متشابهة نتوقع مسبَّباتٍ متشابهة. ذاك هو مجموع جميع خلاصاتنا التجريبية. والحال، أنه يبدو من البيّن أن هذه الخلاصة، لو كان شكّلها العقل لكانت كاملةً منذ البداية، مثلها في حالة واحدة مثلها بعد أطول مراسٍ للخبرة.  (62)
32:
إذا قال واحدٌ: وجدتُ في جميع الحالات الماضية مثل هذه الخاصيّات الحسّية، مترافقةً مع مثل تلك القدرات الخفيّة، ثم قال: إن الخاصيّات الحسية المشابهة ستبقى أبداً متّصلة بالقوى الخفيّة المشابهة. فإنه لا ييقع في تحصيل الحاصل وليست هاتان القضيتان قضية واحدةً من أيّ وجه. وقد تقول: إن إحدى القضيتين مستدٌّ عليها من الأخرى. لكن يجب أن تقر بأن هذا الاستدلال ليس حدسياً وبأنه ليس برهانياً.
.. ومع الموافقة علىكمال انتظام مجرى الأشياء حتى الآن فإن هذا الانتظام لا يدلل لوحده، من دون جحةٍ جديدة أو تعليل جديد، على أنه سيتتابع في المستقبل. وباطلاً ما تدّعي أنك تعلّمت طبيعة الأجسام من خبرتك الماضية. إن طبيعتها لخفية وبالتالي نتائجَها كلَّها وتأثيرها كله يمكن أن تتبدّل من دون أن تتبدّل خاصيّاتِها الحسّية. (65)
الفصل الخامس: حلّ ريبي لتلك الشكوك
34: [الشغف السيّئ]
يبدو أنّ الشغف الفلسفي، شأنه شأن الشغف الديني، عرضةً للسيّئة الآتية: على الرغم من أنه يهدف إلى تقويم آدابنا واجتثاث عيوبنا، فإنه، إن لم نسُسْه بدراية، قد يصلح فقط لتشجيع ميلٍ ما طاغ، ولدفع الذهن، بعزيمة أكثر تصميماً، باتجاه ما يجرّه غليه سلفاً انحراف الطبع ونزوعه. ولا شك في أننا، حين نطمح إلى التمثّل بشجاعة الحكيم الفلسفي الصلبة، ونحاول حصر كامل ملذّاتِنا في حدود ذهننا، قد نتمكّن في النهاية من جعل فلسفتِنا على غرار فلسفة إبيقطيتس وسائر الرواقيّين، مجرد سستام للأنانية أكثر لطفاً، ومن تسويغ تبرُّئنا من كلّ فضيلةٍ ومن كل ملذة اجتماعية أيضاً. (67)
35:
.. وافرض أيضاً، أن هذا الإنسان اكتسب خبرةً أكبر، وأنه عاش في العالم ما يكفي من الوقت ليلاحظ الترافق الثابت لأشياء وحوادثَ مألوفةٍ، فما ستكون نتيجة هذه الخبرة؟ إنه سيستدلّ، على الفور، على وجود شيءٍ ما من ظهور الآخر. لكنه لن يكتسب، من كلِّ خبرتِه، أيَّ فكرةٍ أو أيَّ معرفةٍ عن القدرة الخفيّة التي بها يُحدِثُ شيءٌ شيئاً آخر. ولن تدفعه إلى أن يطلع بهذه الخلاصة أيُّ نقلةٍ تعليلية. لكن سيجد أنه يتعيّن عليه أبداً أن يطلع بها؛ وحتى لو أقنعناه بأن لا دخلَ لفاهمته في العملية فإنه سيظل يتابع مع ذلك مجرى التفكير عينه: هناك مبدأ ما يحتّم عليه أن يطلع بمثل هذه الخلاصة. (70)
36: [النزوع إلى التكرار فطرةٌ بشرية]
هذا المبدأ هو التعوّد أو العادة. لأنه في كل مرةٍ يُحدِث تكرارٌ أيَّ فعلٍ معين أو عملٍ نزوعاً إلى تكرار الفعل أو العمل عينه من دون أن يكون الداعي إلى ذلك أيّ تعليل أو نقلة فاهمية، نقول دائماً: إن هذا النزوع أثرٌ من آثار التعوّد. ولا ندّعي، إذ نستعمل هذا اللفظ، أننا أعطينا العلّة الأخيرة لذلك النزوع، بل نشير فقط إلى مبدإٍ من مبادئ الطبيعة البشرية معترفٍ به كلياً ومعروف جيداً من آثاره.  (70)
إذا ما فحصنا تلك الحجج التي يفترض أن تكون في كل علم من العلوم المذكورة أعلاه، مجرّد آثار للتعليل والتفكّر، نجد أنها تتوقف في النهاية عند مبدإٍ أو خلاصةٍ عامة لا يمكن أن تدل على سببٍ لها سوى المشاهدة والخبرة. إن الفرق الوحيد، بين هذا المبدأ وبين الحِكَم التي نعدّها في العادة بمثابة محصلات للخبرة وحدَها، هو أن الأولى لا يمكن أن تقوم من دون نقلة ما للفكر ومن دون بعض التفكير حول ما نشاهده من أجل أن نميّز ما بين ظروفه ونتتبّع نتائجها. في حين أنه، في الثانية، ينتسب الحادث المختبر، بالتمام والكمال، إلى الحادث الذي نستدل عليه كنتيجة لوضعٍ معيّن. (72 هامش)
39: الخيال والحس
لا شيء أكثر حرية من مخيلة الإنسان، فهي، على الرغم من أنهالا تقدر على تخطي المخزون الأصلي من الأفكار التي زودتنا بها الحواس الباطنة والخارجية، تتمتع بقدرةٍ غير محدودة على خلط هذه الأفكار وتركيبها وفصلها وتقسيمها إلى كل أنواع التوهم والرؤى. (76)
.. نستطيع، في تصوّرنا، أن نجمع رأس إنسان إلى جسم حصان، لكن ليس في مقدورنا بعد أن نعتقد بأن هذا الحيوان قد وُجِد حقاً ذات مرة. (76)
إن الفرق بين التوهم والاعتقاد يقوم في شعورٍ أو إحساسٍ ما، ملحق بالاعتقاد لا بالتوهم، وغير خاضع للإرادة ولا يمكن التحكم فيه حسب الرغبة. ويجب أن يثار بالطبيعة شأنه شأن المشاعر الأخرى؛ ويجب أن يتولد من جراء وضعٍ خاصٍ يوضع فيه الذهن في ظروفٍ خاصة. وفي كل مرة يمثل فيها شيءٌ للذاكرة أو للحواس يدفع المخيلة على الفور، بقوّة التعوّد، إلى تصوّر الشيء الذي يرافقه، في العادة. ويصاحب هذا التصور إحساسٌ أو شعور يختلف عن رؤى التوهم الغامضة. على هذا تقوم كل طبيعة الاعتقاد. إذ، حيث إنه ليس ثمّة من واقعة نعتقد بها بجزم كافٍ ليجعلنا عاجزين عن تصور ضدها، فإنه ليس ثمة من فرق بين التصور الذي نصدقه وذاك الذي ننكره حين لا يكون هناك شعور يميّز الواحد من الآخر. فلو رأيتُ كرة بليارد تتحرك نحو أخرى على طاولةٍ مستوية لأمكنني أن أتصور بسهولة أنها ستتوقف حين تلامسها. ولا ينطوي هذا التصور على تناقض. إلا إنني أحسه بشكل مختلف جداً عن التصور الذي به أتصور اندفاع الحركة وتواصلها من كرةٍ إلى أخرى. (77)
41: التداعي
إن الطبيعة أقامت اقتراناتٍ بين أفكارٍ معيّنة، وإن فكرةً ما، ما إن تسنح لتفكيرنا حتى تُدخِل قرينتَها وتلفت انتباهنا نحوها بحركة لطيفةٍ ولاشعورية. وإن مبادئ الاقتران أو التداعي هذه، قد حصرناها في ثلاثة: التشابه والتجاور والسببية. وإن هذه الأربطة هي الوحيدة التي توحّد ما بين أفكارِنا، وتولِّد، في تفكيرنا وفي حوارِنا، انتظام التتابع الذي يحتل مكاناً متفاوت الدرجة بين الناس. (79)
يمكننا أن نلاحظ، كتجربة أولى لمخططنا الراهن، أنه لو أحضر لنا رسم صديق غائب فإن الفكرة التي لدينا عنه ستستيقظ بالطبع بفعل التشابه..
.. نحن نجد لذةً في النظر إلى رسم صديقٍ عندما يوضع أمامنا، لكن عندما يُرفَع الرسم نفضّل أن نفكر في صديقنا مباشرةً بدل التفكير في خيْل بعيد مثله وغامض. (81)
[يترجمها محمد محجوب على الشكل التالي: إننا نبتهج بالنظر إلى صورة صديق لنا معلقة أمامنا، فإذا ما نُحِّيَت من أمامنا، كان النظر إليه مباشرةً أحبَّ إلينا من أيّ تمثيل له في صورة بعيدة بقدر ما هي غائمة. (81)
49:
يبدو أن القضية التي لا تثير نزاعاً كبيراً هي الآتية: جميع أفكارِنا ليست سوى نسخ عن انطباعاتنا، أو بتعبيرٍ آخر من الممتنع أن نفكر في أيّ شيء لم يسبق لنا أن أحسسناه بحواسّنا الخارجية أو الباطنة.
.. وربما كان بإمكاننا أن نعرّف الأفكار المركّبة معرفةً جيدة بتعريفٍ يقوم على مجرد تعداد الأجزاء أو الأفكار البيطة التي تركبها. لكن عندما ندفع تعريفاتِنا حتى بلوغ أبسط الأفكار، وننظل نجد اللبس والغموض، فأيّ حيلة تبقى في أيدينا؟ وأي اختراع يسمح لنا بأن نلقي ضوءاً على هذه الأفار ونجعلها أكثر دقةً وتعيّناً برؤيتنا العقلية؟ يجب علينا أن نحدث الانطباعات التي أحسسناها في الأصل والتي ليست الأفكار سوى نسخٍ عنها. هذه الانطباعات هي قويةٌ جداً ومحسوسة. ولا تقبل اللبس. وهي ليست في كامل ضوئها وحسب، بل تلقي ضوءاً على الأفكار المتناسبة معها القابعة في الظلمة. وربما تسمح لنا هذه الطريقة بالحصول على مجهر جديد أو على نوعٍ جديد من النظّارات التي تسمح لنا، في العلوم الخلقية، بتكبير أصغر الأفكار وأبسطها إلى حد جعلنا نلقفها بسهولة، وجعلها معروفةً مثل أكبر الأفكار التي يمكن أن تكون مزضوعاً لبحثنا، وأقبلها لأن تُحَسّ. (94)
الإرادةُ هي بالتأكيد فعلٌ للذهن نلمّ به كفاية. تفكّرْ فيها، انظر إليها من جميع الجهات. هل تجدُ فيها شيئاً مشابهاً لتلك القدرة الخالقة، يجعلها تولّد، من لا شيء، فكرةً جديدةً وبنوع من "كنْ فيكون"؟ (102)
54: السبب الوحيد
لا يجد عموم الناس أيَّ صعوبةٍ في تفسير أكثرِ أعمال الطبيعة اعتياداً وألفةً، مثال سقوط الأجسام الثقيلة ونموّ النباتات وتكاثر الحيوان وتغذية الأجسام بالطعام. بل يفترضون في هذه الحالاتِ كلِّها أنهم يدركون قوّةَ السبب أو طاقتَه تلك التي تقرنه مع أثره وأنها لا تخطئ أبداً في عملها. ويكتسبون بطول العادة، لفتةً في الذهن تجعلهم يتوقعون بثقةٍ ومباشرةً بعد ظهور السبب، الحادث الذي يصاحب السبب عادةً ويتصوّرون بصعوبةٍ أن يكون بالإمكان حصول حادثٍ آخر عنه. وهم فقط، عندما يكتشفون ظاهراتٍ خارجيةً عن المألوف، كالهزّات الأرضيّة والطاعون ومختلف صنوف الأعاجيب، يجدون أنفسَهم في حيرةٍ من تعيين سببٍ خاص لها وشرح الطريقة التي بها يُحدِث هذا السببُ أثرَه. والناس يلجأون عادةً في مثل هذه الصعوبات إلى مبدإٍ عاقل غير مرئيّ. بوصفه سبباً مباشراً للحادث الذي يفاجئهم والذي لا يمكن أن يفسَّر على ما يظنّون بقدرات الطبيعة المألوفة.
لكنّ الفلاسفة الذين يدفعون الفحص أبعدَ قليلاً يدركون مباشرةً أنّ طاقة السبب لا تُعقَل، شأنها في آلاف الأحداث شأنها في أكثرها غرابة. وإننا، إنما بالخبرة وحدَها نعلم ترافق الأشياء المتواتر من دون أن نكون قادرين ذات مرّة على فهم شيءٍ شبيه بالاقتران فيما بينها.
55:
لذا يرى كثيرٌ من الفلاسفة، أن العقل يلزمهم باللجوء في كل مناسبة إلى المبدأ عينه الذي لا يستدعيه العامي إلا في الحالات التي تظهر معجزةٌ وفائقةٌ للطبيعة. فهم يقرّون بأنْ يكون ذهنٌ وعقلٌ لا السبب الأصلي الأخير لكل شيء وحسب، بل أيضاً السبب الوحيد والسبب المباشر لكل حادثٍ يظهر في الطبيعة. وهم يزعمون أن هذه الأشياء المسمّاة في العادة أسباباً ليست في الحقيقة سوى "مناسبات"، وأنّ المبدأ الحقيقي المباشر لكل أثرٍ (نتيجةٍ) ليس قدرةٌ أو قوّةٌ في الطبيعة، بل إرادةٌ للكائن الأسمى الذي يريد لهذه الأشياء الجزئية أن تترافق بعضاً مع بعض. وبدلاً من القول إن كرةَ البليارد تحرِّك كرةً أخرى بقوّةٍ تصدر عن صانع الطبيعة، يقولون إن الله نفسه هو الذي حرّك بإرادةٍ معيّنة الكرة الثانية، [معتمداً] لهذا العمل دفعَ الكرةِ الأولى بنتيجة القوانين العامة التي [قدّرها] على نفسه في حكمه للعالم.
إلا أنّ الفلاسفة إذ يذهبون إلى أبعدَ من ذلك في أبحاثهم، يكتشفون أننا مثلما نجهل تماماً القدرة التي يخضع لها الفعل المتبادل للأجسام، كذلك نجهل القدرة التي يخضع لها عمل الذهن على الجسم أو الجسم على الذهن؛ ونعجز عن الإشارة، سواءٌ بحواسِّنا أم بوعينا، إلى المبدأ الأخير سواءٌ في الحالة الأولى أم في الحالة الثانية. فالجهل نفسه يحيلهم إذاً إلى الخلاصة عينها. وهم يزعمون أن الله هو السبب المباشر لاتحاد النفس في البدن وأن أعضاء الحسّ ليست هي التي تحدِث الإحساسات في الذهن، إذ تحرّكها الأشياء الخارجية؛ بل إن إرادةً خاصةً لخالقنا الكلي القدرة هي التي تثير إحساساً ما كنتيجة لحركةٍ ما في العضو. وعلى النحو عينه، ليست طاقة الإرادة هي ما يُحدِث الحركة الموضعية في أعضائنا، بل إن الله نفسه هو الذي يحلو له أن يساعد إرادتَنا العاجزة في ذاتها، وأن يأمر بالحركة التي تنسبها خطأً إلى قدرتنا الخاصة وفاعليتنا. ولا يتوقف الفلاسفة عند هذه الخلاصة، بل يمدّون أحياناً الاستدلال عينه على الذهن نفسه بصدد عملياته الباطنة. فلا تعود رؤيتنا العقلية ولا تصورنا للأفكار سوى إيحاءٍ يوحي به صانعُنا. وعندما نحوّل أفكارنا إرادياً نحو شيءٍ من الأشياء، ونجعل خيْله يتولّد في الواهمة، فإن الإرادة ليست هي التي تخلق هذه الفكرة، بل إن خالق الكل هو الذي يكشفها للذهن ويجعلها حاضرةً لنا. (103)
هامش: الجاذبية والعطالة
لست بحاجةٍ إلى أن أفحص مطوّلاً قوّة العطالة التي تتحدث عنها الفلسفة الجديدة كثيراً، والتي تُنسَب غلى المادة. فنحن نجد في الخبرة أن جسماً في سكون أو في حركة يبقى أبداً في حالته الحاضرة إلى أن يُطرَد منها بسببٍ جديد؛ وأن الجسم المتحرك يأخذ من الجسم المحرِّك مقداراً من الحركة مساوياً لما اكتسبه بنفسه. تلك هي الوقائع. وعندما نسمي هذا قوة عطالة، فإننا نشير فقط إلى هذه الوقائع من دون أن ندّعي  امتلاك فكرةٍ عن القدرة العطّالة؛ وعلى النحو عينه، عندما نتكلم على الجاذبية نقصد بعض الآثار من دون أن نفهم هذه القدرة النشطة. ولم يكن في قصد سيادة إسحق نيوتن أن يعرّي الأسباب الثانوية من كلِّ قوّةٍ ومن كل طاقة، إلا أنّ بعضاً من أتباعه حاول أن يقيّم هذه النظرية استناداً إلى مرجعيّته. وعلى العكس فقد لجأ هذا الفيلسوف الكبير إلى سائلٍ أثيري نشط كي يفسر تجاذبه الكوني؛ وكان مع ذلك على ما يكفي من الحكمة والتواضع لكيّ يقرّ بأن ذلك كان مجرد فرَضٍ يجب ألا نلحف كثيراً في التأكيد عليه من دون معونة التجارب. ويجب عليّ أن أقرّ أن ثمّة شيئاً غريب الأطوار في مصير الآراء، فقد أثار ديكارت نظريةَ فاعلية الله الكلّية والوحيدة إنما من دون أن يلحف فيها. أما مالبرانش وديكارتيون آخرون قد جعلوا منها أساس كل فلسفة، إلا أنه لا نفوذ لهذه النظرية في إنكلترا. [..] فبأيّ طريقةٍ صار هذا المذهب بمثل هذا الطغيان عند الميتافيزيقيين المحدثين. (107)
58: تفنيد أصناف السببية
لقد بحثنا عبثاً عن فكرة القدرة أو الاقتران الضروري في كل المصادر التي افترضنا أنه يمكن أن نستمدَّها منها. وظهر أنه، في الحالات المنفردة لعمل الأجسام، لا يمكننا البتة أن نكتشف، بأكثر الفحوص إيغالاً، سوى تتالي حادثتين، من دون أن نكون قادرين على فهم أيِّ قوةٍ أو قدرةٍ تجعل السبب يعمل، أو أيّ اقتران بينه وبين أثره المفترَض. وتواجهُنا الصعوبة عينُها عندما ننظر إلى مفاعيل الذهن على الجسم؛ فنشاهد أن حركة البدن تتبع إرادة الذهن، لكننا نعجز عن مشاهدة الرابط الذي يوحّد فيما بين الحركة والإرادة، أو عن تصوّره، ومشاهدة القوة، التي تسمح للذهن بإحداث هذا الأثر، وعن تصوّرها. وليست سلطة الإرادة على ملَكاتِها الخاصة وأفكارها أكثر قابليةً للفهم في شيء؛ إلى حدّ أنه لا يظهر في الطبيعة، في نهاية المر، أيُّ مثال على الاقتران يمكننا تصوّره. وكل الحوادث تظهر منفصلةً ومستقلّةً بعضها عن بعضٍ بالكامل. فالحادث يتلو الآخر، إنما من دون أن يكون بوسعنا مشاهدة أي رابط بينهما. ويبدو أنهما يترافقان إنما لا يقترنان قط.  (108)
لو كانت لديهم [لدى الفلاسفة] فكرةٌ عن القدرة، كما هي في ذاتها، فلماذا إذاً لم يمكنهم قياسُها في ذاتها؟ (112 هامش) .. لمّا كنا نحسّ اقتراناً معتاداً بين الأفكار فإننا نسقط هذا الإحساس على الأشياء.
61:
كل فكرةٍ هي نسخةٌ عما يسبقها من انطباع أو شعور؛ وحيث لا نعثر على أيّ انطباع يمكن لنا أن نتيقّن أن لا فكرة هناك. ولا يوجد في حالةٍ مفردة، من حالات عمل الأجسام أو الأذهان، ما يحدث انطباعاً، ولا يمكن له، بالتالي، أن يوحيَ بفكرة القدرة أو الاقتران الضروري. لكن حين تحضر عدة حالات متماثلة ويكون الشيء عينه متبوعاً بالحادث عينه، نبدأ بالتفكير بمفهوم السبب والاقتران. ونحس، عندئذٍ، بشعورٍ جديد أو انطباعٍ جديد، أي بالاقتران المعتاد، في الفكر والمخيّلة، بين الشيء والحادث الذي يصاحبه في العادة. وهذا الشعور هو الأصل، الذي نبحث عنه لتلك الفكرة. (113)
الفصل الثامن: في الحرية والضرورة.
62:
إن المتنازعين ينسبون أفكاراً مختلفة إلى الألفاظ المستعمَلة في النزاع. (115)
يمكن أن نحكم بأنّ ثمّة لبساً في الألفاظ وأنّ المتنازعين ينسبون أفكاراً مختلفةً إلى الألفاظ المستعمَلة في النزاع. إذ لمّا كان من المفترَض أن تكون ملَكات الذهن هي نفسَها، بالطبع، عند كل فرد ـ وإلا كان لا شيء أكثرُ عقماً من الحجاج أو النزاع مع الآخرين ـ فإنه من الممتنع أن يكوّن البشرُ آراءً مختلفةً طوال هذه المدّة كلِّها حول الموضوع عينه لو كانوا ينسبون الأفكار عينَها إلى الألفاظ عينها؛ وبخصة عندما كانوا يتبادلون نظراتِهم وكانوا يلتفتون إلى جميع النواحي، في كل مسألة، للبحث عن حججٍ تمكّنهم من النصر على خصومهم. وصحيح أن البشر حين يحاولون مناقشة المسائل التي تقع خارج منال القدرة البشرية، مثال تلك التي تتعلق بأصل العوالم أو باقتصاد السستام العقلي أو بمملكة الأرواح، قد يعبثون طويلاً في خصوماتهم العقيمة ممندون الوصول إلى أيّ خلاصةٍ معيّنة. لكن، حين تكون المسألة متعلّقةً بموضوعٍ من موضوعات الحياة والخبرة العادية، فلا شيء، على ما نظن، يمكن أن يبقي النقاش من دون حسمٍ هذه المدّة كلها، إلا إذا كان التباس الألفاظ لا يزال يبقي الأخصام على تباعد ويمنعهم من أن يعانق بعضهم بعضاً. (116)
ـ 64:
[عن الضرورة والاقتران]
يسلّم الناس جميعاً بأن المادة، تتحرك، في جميع عمليّاتها، بقوّة ضرورية، وأن كل أثرٍ طبيعي يتعيّن بطاقة سببه بدقة لا يمكن معها لأي أثر آخر أن يحصل عنه في الظروف الخاصة عينها. وإن كل حركة إنما تعيّن قوانين الطبيعةُ درجتَها واتجاهها تعييناً دقيقاً إلى حدّ أنه إن أمكن أن يتولّد مخلوقٌ حيّ عن اصطدام جسمين أمكن أن تولد حركةٌ مختلفةٌ في الدرجة والاتجاه، عمّا يحدثه هذا الاصطدام بالفعل. فإذا أردنا، إذاً، أن نكوّن فكرةً صحيحةً ودقيقةً عن الضرورة فإنه يجب أن ننظر من أين تتولّد هذه الفكرة عندما نطبّقها على عمل الأجسام.
ويبدو من البيّن أنه، لو كانت كل مشاهد الطبيعة في تبدّل متصل بحيث لا يكون لحادثين أيُّ شبه للواحد بالآخر، بل يكون كل شيء جديداً بالكامل من دون أيّ شبه مع أيِّ شيءٍ سبق أن شوهد، لما أمكننا البتّة، في هذه الحالة، أن نصل إلى أقلِّ فكرةٍ عن الضرورة أو عن الاقتران بين هذه الأشياء. ولأمكننا، بناءً على هذا الافتراض، أن نقول إن شيئاً أو حادثاً يتلي الآخر، لكن لا إنّ الواحد أحدثه الآخر. ولكانت علاقة السبب بالأثر مجهولةٌ من البشر جهلاً مطلقاً بالضرورة. ولكانت، عندها، نهاية كل استدلال أو تعليلٍ يتعلّق بأعمال الطبيعة؛ ولغدت الذاكرة والحواس القنوات الوحيدة التي يمكنها أن توصل الذهن إلى معرفة وجودٍ حقيقي. إن فكرتنا عن الضرورة والسببية تتولّد، إذاً بأسرها، عن الاطّراد الملاحَظ في أعمال الطبيعة حيث تترافق أشياؤها المتشابهة بعضاً مع بعض باستمرار، وحيث يكون الذهن متعيّنا بفعل التعوّد على أن يستدلَّ الواحدُ من ظهور الاخر. ويشكل هذان الظرفان كل الضرورة التي ننسبها إلى المادة. فباستثناء الترافق الثابت للأشياء المتشابهة وما ينتج عنه من استدلال الواحد من الآخر، ليس لدينا أي مفهومٍ عن أيّ ضرورة أو اقتران. (118)

[الطبيعة البشرية الواحدة،
يقرّ الجميع بأن هناك كثيراً من الاطّراد في الأفعال البشرية، في جميع الأمم والعصور، وأن الطبيعة البشرية تبقى ابداً هي نفسها في مبادئها وأعمالها. والدوافع عينهاتحدث دائماً الأعمال عينها؛ والأحداث عينها تلي الأسباب عينها. والطمع، والبخل، وحب الذات، والتكبّر، والصداقة، والكرم، والروح الجمعي: هذه الأهواء جميعها التي تمتزج على درجات مختلفة وتنتشر في المجتمع، قد كانت منذ بداية العالم ولا تزال مصدر جميع الأفعال والمشاريع التي تشاهد أبداً بين الناس. أتريد أن تعرف مشاعر اليونان والرومان، وميولَهم ونوعَ حياتِهم؟ ادرسْ إذاً طباع الفرنسيين والإنكليز وأفعالهم؛ ولن تكون على خطأٍ كبير لو أسقطتَ على الولين معظم المشاهدات التي جمعتَها عن الآخرين. فالبشر، في جميع العصور وجميع الأمكنة، هم هم إلى درجة أنّ التاريخ لا يخبرنا جديداً ولا غريباً في هذا الخصوص. ونفعُه الرئيسي هو أن يكشف لنا وحسب مبادئ الطبيعةِ البشرية الكلية الثابتة بتبيان الناس في كل اختلاف الظروف والأوضاع، وبتزويدنا بالمواد التي تمكّننا من تكوين ملاحظاتنا من التآلف مع منتظم نوابض الفعل والسلوك البشريين. (119)
.. من هنا، أيضاً فائدة تلك الخبرة المكتسبة من الحياة الطويلة، ومن تنويع "الأعمال" والصحبة، في تعليمنا مبادئ الطبيعة البشرية وتنظيم سلوكِنا المقبل، فائدتها في الاعتبار. فبواسطة هذا المرشد نصعد إلى معرفة ميول الناس ودوافعهم من أفعالهم وأقوالهم وإشاراتهم؛ ونعود لنهبط إلى تأويل أفعالهم من معرفتنا بدوافعهم وميولهم. (121)
66:
يجب مع ذلك ألا نتوقّع أن يكون اطّراد الأفعال الإنسانية قد بلغ درجةً تجعل كل الناس، في كل الظروف عينها، تتصرّف بالطريقة عينها بالضبط، من دون أي دخل لاختلاف الطباع والتحكيمات والآراء. (122)
67:
إن الفلاسفة يلاحظون أنّ في كل جزء من الطبيعة تقريباً عدداً واسعاً من النوابض والمبادئ الخفيّة بسببٍ من صغرها أو بعدها، ويجدون أنه من الممكن على الأقل أن يكون التناقض في الأحداث صادراً، لا عن عرض في السبب بل، عن عملٍ خفيٍّ من أسبابٍ مضادّة.
.. وينشئ الفلاسفة بناءً على ملاحظة حالات متوازية عدة، الشعار التالي: إن الاقتران بين الأسباب والآثار جميعاً هو أيضاً ضروري وإنّ تردّده الظاهر في بعض الحالات إنما يصدر عن المعاكسة الخفية لأسبابٍ مضادة. (123)
على الفيلسوف، إن كان متسقاً، أن يطبّق التعليل نفسه على أفعال الفعلة الأذكياء وإراداتهم. ويمكن غالباً تفسير أقلّ القرارات البشرية انتظاماً وتوقعاً لو كنا نعرف جميع الظروف الخاصة بالطباع والوضع. (124)
"إن المبادئ والدوافع الباطنة [للفعل والإرادة البشريين] قد تفعل بطريقة مطّردة على الرغم من هذه الفوضى الظاهرة: شأنها في ذلك شأن الرياح والمطر والغيوم وتقّبات الطقس الأخرى التي يُفترض أنها محكمةٌ بمبادئَ ثابتةٍ على الرغم من صعوبة اكتشافها بالذكاء والتقصي البشريَين." (ص 125)
هكذا يبدو أنّ ترافق الدوافع والأفعال الإرادية ليس بمثل انتظام ترافق السبب والأثر المصادَف في كل جزء من الطبيعة، ولا بمثل اطّرادِه وحسب، بل إن هذا الترافق المنتظم معترَفٌ به كلياً بين البشر، ولم يكن ذات مرةٍ موضوع نزاع لا في الفلسفةولا في الحية العادية. (125)
[يعطي هيوم أمثلة عن عمليات البيع والشراء وتوقعات حالة السوق]
.. يتوقّع السجين .. عندما يُقاد إلى المقصلة، يتوقع موته كنتيجة محتّمة سواءٌ لصلابة حرّاسه وأمانتهم أم لفعل الساطور والعجلة. ويمر ذهنه في سلسلة معيّنة من الأفكار: رفض الجنود أن يوافقوا على هربه؛ وفعل الجلاّد؛ وانفصال رأسه عن بدنه؛ وسلان الدم؛ والاختلاجات؛ والموت. ولدينا هنا سلسلةٌ متّصلة من الأسباب الطبيعية والأفعال الإرادية ترتبط الواحدة منها بالأخرى ولا يحسّ الذهن بالفرق عندما ينتقل من حلقةٍ إلى أخرى. فهو ليس أقلَّ يقيناً بالحادث المقبل مما لو كان هذا الحادث مقترناً بأشياء مماثلة للذاكرة والحواسّ عبر سلسلةٍ من الأسباب المتحدة واحدُها بالآخر بما يحلو لنا أن نسمّيَه الضرورة الفيزياضية. (128)
[الاعتراف الضمني بانطباق الضرورة على السلوك البشري]
لقد تأمّلتُ طويلاً في ما يمكن أن يكون السببَ الذي يدفع البشر ـ على الرغم من أنهم يقرّون، أبداً ومن دون تردد، بمذهب الضرورة في مراسهم كله وتعليلاتهم جميعاً ـ إلى أن يظهروا كل هذا النفور من الإقرار به في الكلام، أو إلى أن يُظهِروا، في كل الأعمار، ميلاً إلى التبشير بالرأي المضاد. (129)
.. عندما ندير .. تفكّرنا نحو عمليات أذهاننا نحن، ولا نشعر بمثل هذا الاقتران بين الدافع والفعل، نميل إلى افتراض فرقٍ بين الآثار الحاصلة عن القوة المادية وتلك المتولّدة من التفكير والعقل. لكن ما إن نقتنع بأننا لا نعرف، عن أي نوعٍ من السببية، شيئاً أكثر من مجرد الترافق الثابت للأشياء وما يلحق بذلك من استدلال الذهن على الواحد من الآخر. وما إن نجد هذين الأمرين متوافران، باعتراف الجميع، في الأفعال الإرادية، حتى نستسهل الإقرار بأن الضرورة عينها مشتركة بين الأسباب جميعها. (130)
72:
.. إنه من البيّن أن .. الأفعال [البشرية] هي على ترافق منتظم مع الدوافع والظروف والطباع. (131)


حرية الإرادة: هامش:
يمكن أن يفسَّر رواج مذهب الحرية بسببٍ آخر: إحساس مغلوطٌ أو شبه خبرةٍ تكون لدينا أو يمكن أن تكون عن حرية اللامبالاة في معظم أفعالنا. فضرورة أي فعلٍ من أفعال المادة أو الذهن ليست بصحيح العبارة، خاصّيةً للفاعل، بل هي في الكائن المفكر أو العاقل الذي قد يرى إلى الفعل. وهي تقوم أساساً على تعيين أفكاره ليستدل على وجود هذا الفعل من أشياءَ متقدمة. والحرية عندما تعارَض بالضرورة، ليست سوى غياب هذا التعيين، أو سوى ما تشعره من تراخٍ معيّن أو لا مبالاة في الانتقال أو عدم الانتقال من فكرة شيءٍ إلى فكرة الشيء الذي يتليه. والحال أنه بوسعنا ملاحظة أنه على الرغم من أننا نادراً ما نحسّ بهذا التراخي وهذه اللامبالاة عند التفكير في الأفعال الإنسانية إلا أننا في العادة قادرون على أن نستدل عليهما، بيقين كبير، من حوافزهما ومن استعدادات الفاعل؛ يبقى أنه غالباً ما يحصل، عند القيام بالأفعال نفسها أن ينتابنا إحساسٌ بشيء مشابه لذلك: ولما كنا في كل الأشياء المتشابهة نحسب بسهولة الواحد آخر، فإننا نستعمل هذا الإحساس كدليلٍ برهاني، بل حدسي على الحرية البشرية. ونحن نحس أن أفعالنا تخضع لإرادتنا في معظم الحالات و نتخيّل أننا نحسّ أن إرادتَنا لا تخضع لأيّ شيء.
.. [لكن] بإمكان مُشاهِدٍ أن يستخلص عادةً أفعالَنا من حوافزِنا وطبعنا؛ وحتى لو لم يمكنه ذلك فإنه يستخلص بصوةٍ عامةٍ، أنّ بإمكانه أن يفعل ذلك لو كان يعرف تماماً كلَّ ظروف وضعنا وطبعِنا والنوابض الخفية لقوامنا واستعدادِنا. والحال أن تلك هي ماهية الضرورة بالذات حسب المذهب السابق. (132)
73:
[خلافٌ لفظي]
من أجل السير في المشروع التوفيقي بصدد مسألة الحرية والضرورة وهي أكثر المسائل إثارةً للخلاف في الميتافيزيقا التي هي أكثر العلوم إثارة للخلاف، لن يلزمنا كلماتٌ كثيرةٌ لإثبات إنّ جميع البشر قد كانوا دائماً متفقين حول مذهب الحرية كما حول مذهب الضرورة، وأن كل الخصام كان في هذا الصدد مجرد نزاعٍ لفظي. إذ ماذا نعني بالحرية عندما تطبَّق على الأفعال الإرادية؟ لا يمكننا بالتأكيد أن نعني أن هذه الأفعال هي ضعيفة الاقتران بالحوافز والميول والظروف إلى حد أن بعضها لا يتبع الآخر بدرجةٍ معيّنة من الاطّراد وأن الواحد ممنها لا يقدّم أي استدلال يسمح لنا بأن نستنتج وجود الآخر؛ لأن مثل هذه مسائل واقعية واضحة ومعترف بها. فبالحرية يمكن أن نعني فقط القدرة على الفعل أو عدم الفعل بموجب تعيينات الإرادة. بمعنى أننا إذا اخترنا أن نبقى ساكنين، سيمكننا ذلك، لكن إن اخترنا أن نتحرك سيمكننا ذلك أيضاً: والحال أن هذه الحرية الشرطية يتمتع بها، باعتراف الجميع، كل واحدٍ غيرِ سجين ومقيد بالسلاسل. ليس ثمّة إذاً ما يُتَنازع في شأنه هنا. (133)
75:
في المنازعات الفلسفية، ليس ثمّة من طريقة في التعليل أكثر شيوعاً، ولا أكثر مذمّة مع ذلك، من محاولة دحض أيِّ فرضٍ بدعوى خطر نتائجِه على الدين والأخلاق. فعندما يؤدي رأيٌ ما إلى خُلف يكون مغلوطاً بالتأكيد، لكن ليس من المؤكد أن الرأي مغلوط لأنه ذو نتيجةٍ خطرة. يجب إذاً أن نتجنّب تجنّباً تاماً مثل هذه المواضع لأنها لا تصلح في شيءٍ لكشف الحقيقة؛ بل تصلح فقط لتقبيح شخص الخصم. (135)

[الحرية كمقابل للإكراه، وكمرادف للضرورة]
حين لا تترافق الأشياء بعضاً مع بعض بانتظام لن نتعهد قط أي مفهوم للسبب والأثر؛ إن الترافق المنتظم يحدث استدلال الفاهمة الذي هو الاقتران الوحيد الذي بوسعنا أن نفهممه بعض الفهم. وكل من يحاول أن يعرّف السبب مستثنياً هذه الأمور سيكون مرغماً على أن يستعمل إما ألفاظاً غير مفهومة وإما مرادفات للفظ الذي يحاول أن يعرّفه (*). فإن قُبل التعريف المذكور أعلاه، ستكون الحرية التي تقابل الضرورة لا الإكراه، هي المصادفة بعينها التي لا وجود لها، باعتراف الجميع. (134)
هامش:
.. إذا عرّفنا السببَ بأنه ما به يوجد شيءٌ ما، سيتعرّض التعريفُ للتجريح.. إذ ماذا نعني بالقول: ما به؟ ولو كنا قلنا إن السببَ هو ما بعدَه يوجدُ شيءٌ باستمرار لكنّا فهمنا مفردات التعريف. (134)
94:
إنَّ ما يشكّل دعوى قويّةً ضد كلِّ الروايات المعجِزة والخارقة هو أنها تُلاحَظُ بوفرةٍ عند الأمم الحوشية والجاهلة. (163)
وإذا ما وُدِدَت عند شعبٍ حضريّ، يكون هذا الشعب قد ورثها عن أسلافه الحوشيين الجهّال الذين نقلوها إليه مع الهيبة والتقديس الذي يصاحب دائماً الآراء الموروثة.
.. [إن] المعارك والثورات والطاعون والجوع والموت ليست قط آثاراً لأسبابٍ طبيعية نختبرها، فأنواع الأعاجيب والكهانة والوحي والدينونة تحجب بما يكفي الأحداث الطبيعية القليلة المتصلة بها.
.. كل شيءٍ يصدر عن ميل البشر الطبيعي إلى المدهش؛ وهذا الميل، على الرغم من الضربات التي يتلقاها من الحس السليم والعلم، لا يمكن قط أن يُجتَثّ تماماً من الطبيعة البشرية.
ويجب أن تكون.. قد سمعتَ بنفسِك، سردَ كثيرٍ من القصص المدهشة التي، بعد أن عاملها جميع أهل العقل والفطنة بازدراء، انتهت إلى أن يتركها العاميّ. (164)
الريبيّة
116:
هناك نوعٌ من الريبيّة سابقةٌ على كل دراسةٍ وفلسفة، طالما نادى بها ديكارت وآخرون، كواقٍ أسمى ضد الغلط والتسرّع في الحكم. وهي توصي بالشك الكلّي لا بالنظر إلى كل آرائنا وكل مبادئنا السابقة وحسب، بل أيضاً بالنظر إلى ملَكاتنا نفسها. فهم يقولون: يجب أن نتأكد بأنفسنا من صوابها بسلسلةٍ من التليلات مستنبطةٍ من مبدأٍ أوّليٍّ لا يمكن أن يكون خادعاً أو مدعاةً للشك. لكن، ليس هناك من مبدأٍ أوّليٍّ يتمتّع بامتيازٍ عن المبادئ البديهية المقنعة هي الأخرى. أو، إن كان يوجد مثل هذا المبدأ فهل بإمكاننا أن نتقدم خطوةً واحدةً أبعد منه إن لم يكن باستعمال هذه الملَكات نفسها التي افتررضناها سابقاً أنها غير موثوقة. فالشكل الديكارتي، إن كان بوسع مخلوقٍ بشريٍّ أن يبلغه (وهذا أمرٌ واضح الامتناع) سيكون شكاً لا شفاء منه البتّة، ولن يمكن لأي تعليلٍ أن يؤدي بنا إلى حالةٍ من الأمان والاقتناع بأيّ مسألة.
لكن، يجب الإقرار بأن هذا النوع من الريبية، حين يكون أكثر اعتدالاً، يمكن أن يُفهم بمعنى معقولٍ جداً، وأن يكون تمهيداً ضرورياً لدراسة الفلسفة من حيث تحفظ لأحكامِنا التجرد المناسب، وتفطم ذهننا عن كل تلك التحكيمات التي قد نكون اعتنقناها عن تريبةٍ أو تهوّر. أن نبدأ من مبادئَ واضحةٍ وبيّنة بذاتها، وأن نتقدم بخطواتٍ متأنيةٍ وواثقة، وأن نراجع باستمرار خلاصتَها ونفحص بعنايةٍ جميع نتائجها: تلك هي الطرق التي، مع كونها لا تجعلنا نتقدم إلا بطيئاً وقليلاً في سساتيمنا، تسمح لنا وحدَها أن نأمل ذات مرةٍ في الفوز بالحقيقة والوصول إلى الثبات واليقين المناسبين في تعييناتنا. (203)
118:
يبدو من البيّن أن يكون البشر مدفوعين، بفطرةٍ طبيعية أو بانحياز طبيعي، إلى الركون إلى حواسّهم، فنحن نفترض دائماً، من دون أي تفكير بل قبل أيّ استعمالٍ للعقل، عالماً خارجياً لا يخضع لإدراكِنا، بل نفترض أنه سيوجد حتى لو كنا، نحن وكل كائن حاسّ، غائبين عنه أو منعدمين. وحتى المخلوقات الحيوانية تتوجه بظنٍ مماثل، وتحافظ على اعتقادها بالأشياء الخارجية، في كل أفكارها ومقاصدها وأفعالِها.
ويبدو من البيّن أيضاً أن يسلّم البشر أبداً، حين يتبعون هذه الفطرة الطبيعية العمياء القوية، بأن الأخيلة عينها التي تقدمها الحواس، هي الأشياء الخارجية، وأن لا يراودهم أدنى شك في أنها ليست سوى تصورات عن الأشياء. فهذه الطاولة نفسها التي نراها بيضاء ونحسها صلبة، نعتقد أنها توجد بمعزل عن إدراكنا، نعتقد أنها شيء خارج عن ذهننا الذي يدركها. ولا يمنحها حضورنا الكينونة، ولا يجعلها غيابنا منعدمة. وهي تحافظ على وجودٍ مطّرد وتامٍ ومستقل عن وضع الكائنات العاقلة التي تردكها أو تتأملها.
لكن هذا الرأي البدائي والعام على جميع البشر، سرعان ما يتهاوى أمام أضعف فلسفة تعلمنا أنه لا يمكن أن يكون حاضراً في الذهن سوى خَيْلٍ أو إدراك، وأن الحواس هي مجرد كوى تدخل عبرها هذه الأخيلة، من دون أن تكون قادرةً على إحداث صلةٍ مباشرة بين الذهن والموضوع. فالطاولة التي نراها تبدو أنها تنقص عندما نبتعد عنها. أما الطاولة الحقيقية التي توجد، باستقلال عنا، فلا يطرأ عليها تبدل؛ لم يكن هناك شيء ماثل للذهن إذاً سوى خيلِها. [هذه يشبه رأي المدرسة العقلية] وتلك هي قراراتُ العقل الواضحة: لم يشكَّ أي إنسان يفكر، البتة، في أن الموجودات التي نرى إليها عندما نقول: هذا البيت وهذه الشجرة، ليست سوى إدراكاتٍ في الذهن، ونسخٍ عابرة أو تصورات عن موجوداتٍ أخرى تبقى ثابة ومستقلة. (205)
119:
عند هذه النقطة إذاً، يُلزِمنا العقلُ بمناقضة الفطر البدئية الطبيعية، إو بالانفصال عنها واعتناق مذهبٍ جديد بالنظر إلى بيّنة حواسنا. لكن الفلسفة تجد نفسَها، هنا، في ضيقٍ بالغ عندما تريد أن تسوّغ هذا المذهب الجديد وأن تجيب على تخرّصات الريبيين واعتراضاتِهم. ولا يعود بإمكانها أن تدافع طويلاً عن الفطرة الطبيعية التي لا تخطئ  ولا تقاوَم: لأن هذه الفطرة تقدّم سستاماً مختلفاً تماماً تبيّن أنه يخطئ، بل إنه مغلوط. ولا [يعود بإمكانها] أن تسوّغ هذا السستام الفلسفي المزعوم بسلسلةٍ من الحجج الواضحة والمقنعة، أو حتى بأيّ مظهرٍ من الحجاج، [لأن ذلك] يفوق طاقة كل قدرة بشرية.
فبأيّ حجةٍ يمكن أن نثبت أنه يجب أن تكون إدراكات الذهن مسبَّبة بالأشياء الخراجية المختلفة تماماً عنها، على الرغم من أنها تشبهها (إن كان ذلك ممكناً)، وأ،ها لا يمكن أن تتولد من طاقة الذهن وحده، أو من إيحاء ذهنٍ مجهول غير مري أو من سببٍ آخرَ نحن على جهل به أكبر أيضاً؟ فمن المسلّم به أنّ عدداً من هذه الإدراكات، بالفعل، لا يتولّد من أيّ شيءٍ خارجي في الأحلام مثلاً، أو في الجنون أو في أمراضٍ أخرى. وليس هناك من شيءٍ غير قابلٍ للتفسير أكثر من الطريقة التي يعمل فيها الجسم في الذهن لينقل صورةً عن ذاته إلى جوهرٍ يفترض أنه من طبيعةٍ بمثل ذاك الاختلاف بل التضاد أيضاً.
إنّ معرفةَ ما إذا كانت إدراكاتُ الحواس تحدثُها الأشياء الخارجية، على شبهها، هي مسألةٌ واقعية؛ فكيف نقرّر بشأن هذه المسألة؟ ـ بالخبرة، بالتأكيد، كما في كل المسائل الأخرى التي من طبيعةٍ مشابهة. لكن الخبرة هنا خرساء تماماً ويجب أن تكون كذلك. فليس لدى الذهن أيّ شيءٍ حاضرٍ سوى الإدراكات، ولا يمكنه الوصول إلى أيّ خبرةٍ عن اقترانها بالأشياء. فافتراض هذا الاقتران هو، إذاً، من دون أيِّ أساسٍ معلّل. 
120:
واللجوء إلى مصداقية الكائن الأسمى من أجل التدليل على مصداقية حواسِّنا هو بالتأكيد التفاف مفاجئ جداً. فلو كانت مصداقيته تهتم أدنى اهتمام بهذه المسألة لكانت حواسُّنا معصومةً عن الخطأ تماماً، إذ لا يمكن لله أن يخدَع قط. هذا، من دون ذكر أنه ما إن يوضع العالم الخارجي موضع الشك حتى يصعب علينا أن نجد حججاً تسمح لنا بالتدليل على وجود هذا الكائن أو على إحدى صفاته. (206)
121:
ذاك إذاً موقع ينتصر فيه دائماً أكثر الريبيين عمقاً وتفلسفاً، حين يجهدون لإدخال الشك العام في كل مسائل المعرفة والبحث البشريين. فقد يقولون: هل تتبع غرائزَك وميولَك الطبيعية عندما تؤكد مصداقية الحواس؟ لكن ذلك يؤدي بك إلى الاعتقاد بأن الإدراك نفسه، وأن الخيل نفسه هو الشيء الخارجي. وهل تتنكر لهذا المبدأ لتعتنق رأياً أكثر عقلانية يقول إن الإدراكات هي مجرد تصورات عن شيءٍ ما خارجي؟ فتبتعد عن ميولك الطبيعية وعن أوضح مشاعرك، وتكون مع ذلك غير قادرٍ على إشباع عقلك الذي لا يمكن أن يجد قط حجةً مقنعةً مستمدّة من الخبرة للتدليل على أن الإدراكات مقترنة مع الأشياء الخارجية. (207)
122:
 الصفات الأولية والثانوية: هيوم مناقشاً باركلي.
وهناك نقطة ريبية أخرى من الطبيعة نفسها، صادرة عن الفلسفة الأعمق. ويمكن أن تكون جديرةً بانتباهنا لو كان الأمرُ يتطلّب مثل هذا التعمّق في سبيل اكتشاف حجج وأدلّةٍ قلّما تصلح لغاياتٍ جِديّة. فمن المسلَّم به عند عموم البحّاثة المحدثين أن كل الخاصيّات الحسّية للأشياء، مثال الخشن والأملس، والحارّ والبارد، والأبيض والأسود إلخ.. هي خاصّيات محض ثانوية ولا توجد في الأشياء نفسها، بل هي مجرد إدراكات للذهن من دون أيّ نموذج أصلي أو موديل خارجي تمثّله هي. وإذا كنا نسلّم بذلك بالنسبة إلى الخاصّيات الثانوية، فيجب أن نسلّم أيضاً بالنسبة إلى الصفات المزعومة أوّلية، الامتداد والصلابة، وليست هاتان أكثر أهليّةً من تلك للفوز بهذا اللقب. ففكرة الامتداد تحصَّل بكاملها عن طريق حاستيّ النظر واللمس، وإذا كانت كلّ الخاصّيات المدرَكة في الحواس هي بالذهن وليس في الشيء فإن الخلاصة عينها يمكن أن تطاول فكرة الامتداد التي تخضع بكاملها للأفكار الحسّية أي لأفكار الخاصّيات الثانوية. ولا شيء يمكن أن ينقذَنا من هذه الخلاصة سوى القول: إن أفكار هذه الخاصيّات الأولية تحصّل بالتجريد، وهو رأيٌ يجعلنا الفحصُ الدقيق نتبيّن أنه غير معقول بل إنه أخرق. فامتداد لا يكون ملموساً أو مرئياً، ولا خشناً ولا أملس، ولا أسود ولا أبيض هو أيضاً خارج متناول التصوّر البشري. فلنحاول أن نتصوّر مثلّثاً بعامة، لا يكون لا متساوي الساقين ولا مختلفهما، وليس لأضلاعه طولٌ خاص أو علاقةٌ خاصة، وسنرى على الفور خُلفَ كل الآراء المدرسية حول التجريد والأفكار العامة. (208)

(* هامش لـ هيوم): هذه الحجّة مستمَدة من د. باركلي. وصحيح أن معظم كتابات هذا المؤلف الألمعي تشكل أفضل دروس الريبية التي يمكن أن نجدها عند الفلاسفة القدماء والمحدثين، بمن فيهم بايل (بايل 1647ـ 1706، فيلسوف فرنسي اشتهِر بمحاولة فصله الأخلاق عن الدين ودفاعه عن حرية الاعتقاد. (موسى وهبه)). إلا أنه يعلن في عنوانٍ له (وبكل صدق لا شك فيه) أنه ألّف كتابه ضد الريبيين كما ضد الملحدين الزنادقة. لكن جميع حججه في الواقع، محض ريبيّة على الرغم من أن نواياها مختلفة، ويظهر ذلك من أنها لا تقبل جواباً ولا تحدث قناعة. وأثرها الوحيد هو أن تسبب، في الحال، اندهاشاً وارتباكاً وغموضاً، وتلك هي حصيلة الريبيّة.
123:
وهكذا فإن أول اعتراض فلسفي على بداهة الحواس أو على الرأي القائل بالوجود الخارجي، يقوم على ما يلي: إن مثل هذا الرأي إن استند إلى الفطرة الطبيعية يكون مناقضاً للعقل، وإن أرجع إلى العقل يكونمناقضاً للفطرة الطبيعية، ولا يحمل معه في الوقت نفسه أيّ بيّنة عقلية من أجل إقناع الباحث المتجرّد. أما الاعتراض الثاني فيذهب إلى أبعدَ ويقدم هذا الرأي بوصفه مناقضاً للعقل، وعلى الأقل، إن كان القول، "إن جميع الخاصّيات الحسية هي في الذهن وليست في الشيء"، مبدأ من مبدئ العقل. فانزع عن المادة كل خاصّياتها العقولة، وخاصّياتها الأولية والثانوية فإنك تعدمها بمعنى من المعاني، وتترك فقط شيئاً ما مجهولاً وغير قابلٍ للتفسير بوصفه سبباً لإدراكاتنا، وذاك مفهوم ناقص إلى حدّ أن أيّ ريبيّ لا يرى من المجدي أن يجادل ضدّه. (209)
هيوم والريبيّة.
يخصص هيوم الفصل الأخير من كتابه "مبحث في الفاهمة البشرية" لتفنيد الريبيّة.
يفاجَأ القارئ بموقف هيوم هذا، وإن كان لم يوَفَّق كثيراً في مهمته، لكن كثيراً ما كان يُحسَب موقف هيوم في نقده مبدأ السببية لصالح شكلٍ ما من الريبية.
من مظاهر ضعف نقاش هيوم للريبية قوله: "إن المقوِّض الأكبر للبيرونيّة (الريبية المطلقة) وللمبادئ المغالية للريبية هو الفعل والاستعمال وانشغالات الحياة العادية. ويمكن لهذه المبادئ أن تزدهر وتنتصر في المدارس [الفلسفية]، حيث سيكون من الصعب، بالفعل، إن لم يكن من الممتنع، تقويضها.
127:
[هيوم البراغماتي]
من الأفضل للريبي إذاً، أن يبقى في فلكه الخاص ويتوسّع في تلك الاعتراضات الفلسفية التي تتولّد من أكثر الأبحاث تعمقاً. وهنا سيكون له، على ما يبدو، مادةٌ واسعةٌ للانتصار. وحين يشدّد بصوب، على أنّ كل بيِّنتِنا بصدد أيِّ واقعةٍ، تتعلّق بشهادة الحواس أو الذاكرة، إنما تصدر بأسرها عن علاقة السبب بالأثر؛ وأننا لا نملك عن هذه العلاقة أيَّ فكرةٍ سوى فكرة شيئين طالما رافق واحدهما الاخر؛ وأننا لا نملك أيّ حجةٍ تقنعنا بأنّ التي طالما ترافقت، في تجربتنا، سوف تترافق أيضاً، في حالاتٍ أخرى، بالطريقة عينها، وأن لا شيءَ يوصلنا إلى هذا التعليل سوى التعوّد أو فطرةٌ معيّنة في طبيعتنا، صحيح أنه من الصعب مقاومتها إلا أنها قد تكون، شأنها شأن فطَرٍ أخرى، مخادعة ومخيّبة. حين يشدّد الريبي على هذه النقاط، يظهر قوتّه، أو بالأحرى ضعفَه وضعفَنا، في الحقيقة؛ ويبدو، راهناً على الأقل، أنه يقوّض كل وثوقٍ واقتناع. ويمكن التوسع إلى أطول من ذلك بهذه الحجج لو كان من الممكن أن نتوقع منها، مرة، حصول خيرٍ وربحٍ يدومان للمجتمع.
128:
ذلك أن الاعتراض الرئيسي والأكثر إرباكاً للريبية المتطرفة، هو أنه لا خيرَ يدوم يمكن أن يحصل عنها ذات مرةٍ طالما تحتفظ بكامل قوّتها ونشاطها. ويكفي أن نسأل هذا الرَيبي، ما هو قصده؟ وإلى ماذا يرمي من وراء كل هذه الأبحاث المثيرة! حتى يرتبك على الفور ولا يعرف بماذا يجيب. يمكن لكوبرنيقي أو لبطليموسي يؤيد كل واحدٍ منهماسستاماً فلكياً مختلفاً، أن يأمل بإحداث قناعةٍ تدوم وتبقى ثابتة عند مستمعيه. ويمكن لرواقي أو لأبيقوري أن يطوّر مبادئ قد تكون غير دائمةٍ إنما ذات أثر على السلوك والتصرف. لكن لا يمكن لبيروني [شكاك] أن يتوقع لفلسفته أيَّ تأثيرٍ ثابت على الذهن، أو أن يكون تأثيرها، إن وُجِد، مفيداً للمجتمع؛ ويجب عليه، على العكس، أن يقر، إن كان يقرّ بشيء، بأن كل الحياة البشرية ستفنى إن سرت مبادئُه بصورة كلّية وثابتة. وسيتوقف كل حوار وكل فعلٍ على الفور، وسيبقى الناس في سُباتٍ إلى حين [يؤدي] عدم إشباع الحاجات الطبيعية، إلى نهاية حياتهم البائسة. والحقيقة أنه قلما يُخشى وقوع مثل هذا الحادث المهلك. فالطبيعة هي أبداً فائقة القوة من أجل مبادئها. وعلى الرغم من أنّ بإمكان البيروني وآخرين، الوقوع في ارتباك واندهاش مؤقتَين جرّاء تعليلاتهم المعمّقة، فإن أتفه حادثٍ في الحياة يطيّر شكوكَه كلَّها ووساوسَه كلَّها. ويتركه، شبيهاً، في كل شيء في الفعل وفي النظر، بفلاسفة الفرق الأخرى كلِّها وبكل الناس الذين لم يكونوا مرّةً معنيين بالأبحاث الفلسفية. وعندما يستفيق من حلمه سيكون أول من سينضم إلى الساخرين منه [أي من نفسه]، وأول من سيُقِرُّ بأن كل اعتراضاته كانت لمجرد التسلية، وأنه لم يكن يمكن أن يكون قصدَها سوى إظهار غرابةِ وضع البشر الذين عليهم أن يفعلوا ويعقلوا ويؤمنوا، على الرغم من أنهم عاجزون، عن طريق أكثر أبحاثهم ألمعية، عن أن يكونوا راضين في ما يخص تأسيس هذه الأعمال، أو عن أن يزيحوا الاعتراضات التي قد توجَّه ضدها. (215)
[الدوغمائية تنحو إلى إلغاء الخصم للحفاظ على الراحة]
إن الغالبية العظمى من البشر مهيّأةٌ طبعاً لأن تكون توكيدية ودوغمائية في آرائها؛ وبما أنهم يرَوْن الأشياء من جانبٍ واحد وليس لديهم أيُّ فكرةٍ عن الحجج من الجانب الآخر، فإنهم يتدافعون نحو المبادئ التي يميلون إليها، وليس لديهم أيُّ تسامح بالنسبة إلى أولئك الذين يعتنقون مبادئ مضادّة. والتردّد والحيرة تقلق فاهمتهم، وتكبح هواهم وتعلق فعلَهم، فهم يتعجّلون، إذاً، الخروجَ من حالةٍ مزعجة لهم إلى هذا الحد. (216)
.. [فائدة الرَيبيَّة المعتدلة]
إذا ما مال أيُّ متعلّمٍ، بدافع من طباعه، نحو الغطرسة والعناد، فإن تلويناً خفياً من البيرونية (الشكوكية) يمكن أن يُسقِط كبرياءه بإظهار أن بعض الامتيازات التي قد يكون امتاز بها عن زملائه ليسب بذات أهميةٍ بالمقارنة مع الارتباك والإبهام الملازم للطبيعة البشرية. وبعامةٍ، ثمّة درجةٌ من الشك والتأني والتواضع يجب أن تواكب أبداً الإنسان الذي يعقل بشكل سليم، في كل أنواع الاستقصاء والتقرير. (216)
130:
نوعٌ آخر من الريبيّة الملطَّفة قد يكون مفيداً للناس، وقد يتحصّل بصورة طبيعية عن الشكوك والوساوس البيرونية، وهو القائم على حصر مباحثنا في مواضيعَ أكثرَ تكيّفاً مع ضيق قدرة الفاهمة البشرية. فمخيلة الإنسان ساميةٌ بالطبع، يعجبها كل ما هو بعيد وخارج عن المالوف، وهي تحلّق، من دون رقيب، إلى أبعد أجزاء المكان والزمان لتتجنّب الأشياء التي جعلها التعوّد رتيبة. أما الحكم السليم فيتعهد منهجاً مضاداً، ويتجنّب كل الأبحاث البعيدة والعالية ليغرق في الحياة العادية وفي الأمور التي تخضع للممارسة والخبرة اليومية، تاركاً المسائل الأكثر سموّاً إلى تزيين الشعراء والخطباء أو إلى مهارات الكهنة والسياسيين.
ولكي نصل إلى مثل هذا القرار الصحي، لا شيء يمكن أن يفيدَنا أفضل من اقتناعنا الفعلي بقوّة الشك البيروني وبأن لا شيءَ يمكن أن يخلصنا منه إن لم تكن قوة الفطرة الطبيعية. إن أولئك الذين يميلون إلى الفلسفة [إذا ما التزموا بشيء من الريبية الملطَّفة] سيظلون يتابعون أبحاثهم لأنهم يفكرون أن القرارات الفلسفية، ليست سوى تأملاتِ الحياة العادية وقد مُنهِجت وصوِّبت. لكنهم لن يحاولوا قط أن يتخطوا الحياة العادية طالما أنهم ينظرون إلى نقص الملَكات التي يستخدمونها، وإلى طَوْلِها الضيّق، وعدم دقّة أعمالها. وإذا لم يكن بإمكاننا، بعد ألف خبرةٍ وخبرة أن نعطي حجةً مُرْضِيةً لما نعتقده من أن الحجر سيقع أو أنّ النار ستحرق، فهل يمكننا أن نرضى عن تعيينٍ يمكن أن نكوّنه عن أصل العوالم وحالة الطبيعة من الأزل إلى الأبد؟
إن هذا الحصر الضيّق لمباحثنا هو، من جميع الوجوه حصرٌ كافٍ إلى حدّ أن القيام بأقلِّ تفحّصٍ لقدرات الذهن البشري الطبيعية، ومقارنتها مع أغراضها يكفي لكي نوصي به، ونجد من ثمّ ماذا تكون المسائل الخاصة بالعلم والتقصي. [وهذا ما سيترك صداه لدى كانط] (218)
131:
يبدو لي أن المسائل الوحيدة للعلم التجريدي والبرهان هي الكم والعدد، وأن كل المحاولات التي تمّت من أجل توسيع هذا النوع الأكمل من المعرفة إلى ما وراء هذه الحدود، هي مجرد سفسطات وأوهام. (218)
.. حين نطوف في المكتبات مزوّدين بهذه المبادئ، ماذا علينا أن نتلف؟
إذا أخذنا بيدنا أيّ مجلد في اللاهوت أو في الميتافيزيقا المدرسية مثلاً، وتساءلنا: هل يتضمّن أيّ تعليلات تجريدية حول الكم والعدد؟ ـ كلا.
هل يتضمّن تعليلات تجربية حول وقائعَ ووجود؟ ـ كلا. إذاً ارمه في النار لأنه لا يمكن أن يتضمّن سوى سفسطات وأوهام. (221)


ليست هناك تعليقات: